وكان عبد الملك بن مراون إلى جانب صفاته النفسية القوية ,شديد الحفظ للكتاب والسنة, جيد الفقه لمعانيها, بعيد النظر في التشريع ومعرفة الأحكام.
ولكنه فوق ذلك كله كان محباً للأدب راوية للجيد من الشعر , كثير النقد له , ذكر المسعودي في تاريخه أن عبد الملك كان يحب الشعر والفخر والتقريظ والمدح.
-وكان الشعراء يفدون عليه مادحين متملقين , وربما كان هذا المدح وملقه ما يرضى فيه غرور الملك والسلطان, ولكنه قلما لمس فيه ما يلبي حاجته كإنسان.
ولهذا كان يجد في مجالسه الأدبية متنفساً لهذا الجانب حيث يستمع ويشارك في أحاديث الشعر ونقده. ولعل ذلك الجانب هو ما حفزه إلى استدعاء الشعبي من العراق واتخاذه سميراً وجليساً وخليلاً , وذلك لما كان يتمتع به من ثقافة منوعة وحضور بديهة وصلابة منطق.
ومن أخبار عبد الملك بن مروان الأدبية ما يدل على سعة إحاطته بالشعر . كتب إليه الحجاج مرة يعظم أمر قطري بن الفجاءة المازني , فكتب إليه عبد الملك ,أوصيك به البكريّ زيداً.
فقال الحجاج لحاجبه : ناد في الناس : من أخبر الأمير بما أوصى به البكريً زيداً فله عشرة آلاف دراهم , فقال رجل للحاجب : أنا أخبره , فأدخله عليه فقال له الحجاج ما قال البكريً لزيد ؟ قال : قال لابن عمه زيد : والشعر لموسى بن جابر الحنفي:

أقول لزيد لا تثرثر فإنهم........... يرون المنايا دون قتلك أو قتلي
فإن وصفوا حرباً فصفها وإن آبوا....فشب وقود الحرب بالحطب الجزل
فإن عضت الحرب الضروس بنانها...فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلي


فقال الحجاج : صدق أمير المؤمنين ,عرضة نار الحرب مثلي أو مثله.
-وفد عليه العجير السلوليّ , وهو شاعر إسلامي مقلّ من شعراء الدولة الأموية , فأقام ببابه شهراً لا يصل إليه لشغل عرض لعبد الملك , ثم وصل إليه , فلما مثل بين يديه أنشده فقال عبد الملك : يا عجير ما مدحت إلا نفسك ! ولمنا نعطيك لطول مقامك وأمر له بمائة من الإبل وهذا يظهر أنه كان يفضل الشاعر الذي يتملق مشاعره ويشبع نهمه في المدح والثناء.
-وكان عطاء بن أبي رباح مع ابن الزبير وكان أملح الناس جواباً , فلما قتل ابن الزبير أمنه عبد الملك بن مروان , فقدم عليه فسأل الأذن فقال عبد الملك : لا أريده فلينصرف, قال أصحابه: فنحن نتقدم أن لا يفعل , فأذن له عبد الملك , فدخل وسلم عليه وبايعه ثم ولى, فلم يصبر عبد الملك أن صاح به: يا عطاء أما وجدت أمك اسماً إلا عطاء ؟ قال : قد والله استنكرت من ذلك ما استنكرته يا أمير المؤمنين , لو كانت سمتني بأمي المباركة صلوات الله عليها مريم , فضحك عبد الملك وقال : اخرج.
-ويحدثنا الأغاني في خبرين ما نفهم منها أن تفضيله للأخطل كان على أساس جودة كدحه له, وخلاصة هذين الخبرين أن الأخطل دخل عبد الملك فاستنشده فقال : قد يبس حلقي, فمر من يسقيني فقال: اسقوه ماء , فقال : شراب الحمار , وهو عندنا كثير , قال فاسقوه لبناً , فقال : عن اللبن فطمت . قال : فاسقوه عسلاً. قال : شراب لم يعن.قال : فتريد ماذا؟. قال : خمراً يا أمير المؤمنين قال : أوعهدتني أسقي الخمر ؟لا أم لك لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت ثم ذهب الأخطل فشرب الخمر وعاد وقال: " خف القطين فراحوا منك أو بكروا , سنةً فما بلغت كل ما أردت . فقال عبد الملك . ما سمعناها يا أخطل , فافتتح الأخطل مدحته المزمّرة بقوله:
-خف القطين فراحوا " اليوم"أو بكروا......... وأزعجتهم نوىً في صرفها غير
وفي خبر أخر أنه لما انتهى الأخطل في قصيدته هذه إلى قوله:
وقد نصرت أمير المؤمنين بنا........ لما أتاك ببطن الغوطة الخبر
قال عبد الملك : بل الله أيدني.
فبعد أن انتهى الأخطل قال له : ويحك يا أخطل أتريد أن أكتب إلى الآفاق أنك أشعر العرب؟
فقال . اكتفي بقول أمير المؤمنين . وقيل أن عبد الملك قال بعد سماعه المدحة: إن لكل قوم شاعراً وإن شاعر بني أمية الأخطل.
-فالأخطل كما نرى يحكم له عبد الملك بأنه شاعر أمير المؤمنين ,أو أشعر العرب أو شاعر بني أمية على أساس ما تضمنته قصيدته من معاني المدح التي أسبغها على عبد الملك خاصة والأمويين عامة.
-وفي خبر ثالث جاء في الأغاني أن الحجاج بن يوسف أوفد وفداً إلى عبد الملك وفيهم جرير فجلس ثم أمر بالأخطل فدعي له فلما دخل عليه قال له : هذا سبك – يعني جريراً – فقال جرير : أين تركت خنازير أمك ؟ قال : راعيةً مع أعيار امك , وأن أتيتنا قريناك منها . فأقبل جرير على عبد الملك بن مروان فقال : يا أمير المؤمنين , إن رائحة الخمر تفوح منه فقال الأخطل : صدق يا أمير المؤمنين وما اعتذاري من ذلك؟
-تعيب الخمر وهي شراب كسرى ........ ويشرب قومك العجب العجيبا
فقال عبد الملك دعوا هذا وأنشدني يا جرير , فأنشدني يا جرير , فأنشد ثلاث قصائد كلها في مدح الحجاج يمدحه بها , فأحفظ عبد الملك وقال له: يا جرير إن الله لم ينصر الحجاج وإنما نصر خليفته ودينه ثم أقبل على الأخطل فقال:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ...... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا


فقال عبد الملك هذه المزمرة والله لو وضعت على زبر الحديد لأذابتها
لقد كان عبد الملك حقاً يطرب لشعر المدح الذي يلبي عنده نزعة الغرور والملق والامتلاء بالذات .
-ويكاد عبد الملك يتفق مع معاوية في موقفه من البيان واللّسن ,إذا كان يرى فيه حاجةً تقتضيها التربية ويستدعيها التأديب الذي يحتاج المرء إلى أن يأخذ به نفسه وقد أثر عنه قوله " وما الناس إلى شيء من الأدب أحوج منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعاودون الكلام , ويتعاطون البيان , ويتهادون الحكمة , ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها , ويجمعون ما تفرق , فإن الكلام قاض يحكم بين الخصوم وضياء يجلو الظلم , حاجة الناس إلى مواده حاجتهم إلى مواد الأغذية"
-وعلى غرار معاوية كان عبد الملك بن مروان يرى في الشعر أداة مهمة من أدوات التربية وتوجيه النفوس لتحبّ معالي الأخلاق وتكره سفاسفها , ويبدو أنه أدرك في بعض الأشعار خلابة خاصة تحبب المضامين الشعرية إلى النفوس , وتحمل الأخلاق العالية من العقول ,ومن ثم قال لمؤدب أولاده : أدبهم برواية أشعار الأعشى , فإن لها عذوبة
قاتله الله ما أغزر بحره وأصلب صخره"
وقال : تعلموا الشعر ففيه محاسن تبتغى ومساوئ تتقى.


موقفه مع جلسائه :