مائة عام على مولد الناقد الكبير محمد مندور
مكتبة الأسرة تحتفي بذكرى شيخ النقاد محمد مندور

حلت هذا العام ذكري مئوية ميلاد د‏.‏ محمد مندور حيث ولد عام ‏1907,‏ لذا قررت اللجنة العلمية لمكتبة الأسرة الاحتفاء بها‏,‏ بإصدار بعض من أعماله تعيد إلي أذهان هذا الجيل تألق قامته‏,‏ كما أوصت اللجنة بإمكانية نشر ما لم ينشر من إنتاجه‏,‏ فقد خاض الرجل تاريخا حافلا بمعارك سياسية‏,‏ وفكرية‏,‏ واجتماعية مؤثرة‏,‏ ثم رحل عام ‏1965,‏ ولم يتجاوز الثامنة والخمسين‏.
يقول عنه د.فوزي فهمي - وفق جريدة "الأهرام" المصرية - أن محاضراته التي كان يلقيها علينا كانت قد خرجت إلي الناس تحت إلحاحنا عليه بنشرها‏,‏ حتى إنني كنت أجلس إليه‏,‏ وأعاود قراءة محاضراته عليه‏,‏ ليصوب‏,‏ ويضيف‏,‏ ويعدل حتى تكتمل المحاضرات كتابا‏.‏
علي أن الأمر المثير للانتباه في هذا السياق أنه حتى وهو في قمة انشغاله بالمراجعة كان يتوقف ليستوثق‏,‏ فيسأل عن المسكوت عنه‏,‏ ويعاود الشرح‏,‏ والتفسير‏,‏ والمناقشة‏,‏ لحظتها تتوقف جلسة مراجعة المخطوط لتبدأ محاضرة متوهجة بالرغبة في تثبيت الاستيعاب‏,‏ وكشف الالتباسات‏,‏ استهدافا إلي الاطمئنان لبلوغ متلقيه صحيح الفهم الذي ـ وفق رأيه ـ يبني الوعي الحر‏,‏ لذا كان دوما شديد الاهتمام بالتحريض علي الفهم حتي في ظل الاختلاف‏.‏
ولد محمد مندور في الخامس من شهر يوليو 1907 في قرية كفر مندور، بالقرب من منيا القمح بالشرقية، حصل على الليسانس في الآداب سنة 1929، كما حصل كذلك على ليسانس الحقوق سنة 1930، وفضل السفر في بعثة دراسية إلى باريس على التعيين وكيلاً للنيابة.
وهناك التحق محمد مندور بمعهد الأصوات الشهير بباريس، حيث درس أصوات اللغة دراسة ملية، وقدم بحثاً هاماً عن موسيقى الشعر العربي وأوزانه.
وعاد الى مصر في 1939، وكان أحمد أمين عميداً لكلية الآداب، ورفض طه حسين تعيينه في قسم اللغة العربية، فطلب منه أحمد أمين أن يدرّس الترجمة، وفي سنة 1942 تقرر إنشاء جامعة الإسكندرية، فاتخذ مديرها طه حسين قراراً بتعيينه فيها.
وقد تأثر محمد مندور - كما يقول عنه الناقد الأردني محمود السمرة بكتابه "محمد مندور: شيخ النقاد العرب " - بعدد من النقاد العرب والأجانب، حيث يقول: "من العرب القدماء أُعجبت بابن سلام الجمحي، والآمدي صاحب الموازنة بين الطائيين، وعلي بن عبد العزيز الجرجاني في "الوساطة بين المتنبي وخصومه".
وهؤلاء النقاد الثلاثة أعتبرهم أعمدة النقد الجمالي السليم في تراثنا النقدي كله، كما تأثرت بعبدالقادر الجرجاني في اهتمامه البالغ بنقد أساليب التعبير اللغوي وتراكيبه.
وفي رأيي أنه اهتدى إلى علْمَي التراكيب والأساليب بمفهومهما الأوروبي الحديث. ومن المحدثين أخذت عن طه حسين تذوق النصوص الشعرية، وتأثرت بالعقاد في اهتمامه بالنواحي الفكرية، وتأثرت بميخائيل نعيمة في كتابه "الغربال". وإن كان تأثري الأكبر في الحقيقة هو بأساتذة السوربون، وبالنقاد الغربيين، خصوصاً الفرنسيين منهم".
ويرى الدكتور محمود السمرة أن مندور خاض في حياته ثلاث معارك أدبية هامة: الأولى في عام 1942، وهي معركة لغوية مع الأب أنستاس الكرملي، والمعركة الثانية مع عباس محمود العقاد، والمعركة الثالثة حول الشعر الجديد.
وفي جانب الشعر يرى محمود السمرة أن مندور كان يرى أن خير الشعر هو الشعر الذي نظم في حياة الأمم قبل أن تتطوّر فكرياً، ويسيطر المنطق على فكرها، ومثال ذلك هوميروس عند الإغريق، والشعر الجاهلي والأموي عند العرب؛ فهذا الشعر هو الذي حاز إعجاب الناس عند الإغريق والعرب.
وعليه استنتج مندور درساً من رائعة غوته "فاوست" يتلخص في أن طريقنا الى الخلاص إنما يكون بأن نعيش بعواطفنا، وأن نقصر فكرنا على أمور محددة ومحدودة جداً في حياتنا.
ويعتبر مندور أن انحطاط راستينياك الخلقي، إحدى شخصيات بلزاك في "الأب غوريو" يعود الى نتيجة الصراع بين حياته الأولى البسيطة الشريفة في الريف ومغريات حياة الطبقة المترفة في باريس، وما صحبها من آثام.
وقد ألف الدكتور مندور أكثر من 30 كتاباً في شتى قضايا الفكر والأدب وترجم 8 كتب والمدهش انه لم يصدر الكثير من المقالات والدراسات التي كان قد أعدها قبل وفاته عام 1965، والكثير من مقدمات المسرحيات العالمية التي نشرها مصاحبة لسلسلة المسرح العالمي.
ولم يقتصر جهد مندور النقدي - كما جاء بكتاب "محمد مندور شيخ النقاد" للكاتب المصري فؤاد قنديل - على متابعة الأعمال الشعرية والروائية والقصصية والمسرحية والكتابة النقدية عنها، لكنه تجاوز ذلك الي كتابة دراسات نقدية تابع فيها التراث النقدي الذي تركه "ابن قتيبة" و"ابن المعتز" و"قدامة بن جعفر" و"الآمدي"و"ابن جني" و"الجرجاني" و"الثعالبي" وغيرهم من نقاد العربية الكبار.
ولم تتوقف كتاباته عند النقاد القدامى لكنه تابعها وكتب العديد من المقالات منها ما هو عن طه حسين وحول كتابه في نقد أبي العلاء، واختلف مندور مع العقاد وهاجمه بجرأة، كما انتقد المازني، ووصف منهجه بأنه أضيق من أن يتسع لألوان من الشعر الصوفي والدرامي، كما خاض من خلال مقالاته معركة ضد رشاد رشدي الذي كان يتبنى نظرية الفن للفن في حين كان يرى مندور أن الفن يرتبط بالحياة ويعبر عن غالبية أبناء الشعب.
وكان الناقد المصري الراحل محمد مندور يعتبر التقدم والأصالة وجهين للعمل الادبي كي يرتقي إلى مستوى الإبداع، وقد وصفه جابر عصفور قائلا: "كان الراحل كعاصفة مرت وتركت اثارها العميقة في النقد الأدبي فهو أول من عرفنا على الأصالة كونه وعى بحدود الذات والحضور النوعي للمثقف بشكل خاص والأمة بشكل عام ورفض التبعية للتراث العربي القديم بقدر رفضه للتبعية للفكر الغربي".