محمد مندور فى ذكراه المئوية
جلباب الريفى وقبعة السوربون فى حياة شيخ النقاد

بقلم: نبيل فرج
...................

يكتمل فى منتصف العام القادم قرن على ميلاد الناقد الكبير محمد مندور (1907 - 1965).
وكما احتفلت وزارة الثقافة والجامعات المصرية فى السنوات الماضية بالذكرى المئوية لميلاد أعلام الثقافة المصرية الحديثة، مثل طه حسين والعقاد والمازنى وعلى أدهم وتوفيق الحكيم، أرجو أن يحتفل بمئوية مندور، على أن يصحب هذا الاحتفال جمع مقالاته المتفرقة، وإعادة طبع كتبه التى نفدت من سوق الكتاب، ولم يعد من السهل العثور عليها، خاصة ما صدر منها فى بيروت ولم تطبع فى القاهرة، وإصدارها فى أعمال كاملة ويمكن أن نضيف إليها فى مجلد مستقل المقالات والدراسات العديدة التى كتبت عن مندور فى حياته وبعد رحيله بأقلام: لويس عوض، محمود أمين العالم، عبدالقادر القط، رجاء النقاش، صلاح عبدالصبور، فؤاد دوارة، ألفريد فرج، أحمد محمد عطية، جابر عصفور، كامل زهيرى، وغيرهم.
وأعمال مندور تغطى النقد العربى القديم برؤية حديثة كما تغطى بنفس هذه الرؤية الأدب المصرى منذ أواخر القرن التاسع عشر، والآداب الغربية فى عصورها المختلفة.. ويتضمن هذا الإنتاج أهم القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية التى شغلت الأمة فى المرحلة الليبرالية، مرحلة التجديد والتحديث مع بدايات القرن العشرين، وبالتحديد منذ ثورة 1919 إلى ثورة 1952 فى أبعادها المختلفة،
وتأخذ الفنون المسرحية نصيبا كبيرا من هذا الإنتاج النقدى، استعرض فيه مندور تاريخنا المسرحى النثرى والشعرى والغنائى، وتناول فيه الكثير من المسرحيات التى صنعت النهضة المسرحية فى الخمسينيات والستينيات.
ومع هذا فإن احتفال مندور بالشعر والنقد الأدبى لم يكن يقل عن احتفاله بالمسرح.
فى الشعر كان يمكن أن يتقبل شعراء الإحياء والبعث التقليديين، كما يتقبل شعراء الوجدان الفردى والجماعى الذين خرجوا على التقليد، ويقدر الشعر العمودى الرفيع كما يقدر شعر التفعيلة الحر، بل وقصيدة النثر التى لا تتقيد بالأوزان، طالما توافرت فيها كل مقومات الشعر الأخرى.
وبذلك أسقط مندور الوزن العروضى كمقياس وحيد للشعر، وهو مقياس ضعيف، يجرد تراث النثر العربى من الروح الشعرية التى تسرى فيه، وما ينطوى عليه من إيحاءات وخيال.
ولم يكن اهتمام مندور بالنقاد العرب القدماء، مثل الجرجانى والآمدى والصولى، يصرفه عن الاهتمام بالنقاد المحدثين ودراسة آثارهم، مثل طه حسين ويحيى حقى وميخائيل نعيمة.
وإلى جانب المعارك التى خاضها مندور، قدم بترجماته وبما كتبه من مقدمات للكتب صفحات هامة، تشكل مع نقده ومعاركه وحدة متماسكة، لا يستطيع باحث أن يستغنى عنها، وفى مقدمتها كتاباته النضرة عن آداب اليونان واللاتين والآداب الأوروبية الحديثة.. ذلك أنه كان يؤمن بوحدة الحضارة، هذه الوحدة التى لا تتعارض مع تنوع القوميات.
وتعتبر كتب مندور: النقد المنهجى عند العرب، وفى الميزان الجديد، والنقد والنقاد المعارضون، من معالم الثقافة المصرية المعاصرة، المعبرة عن قيمها الفكرية والفنية الرفيعة، وعن رسالتها الأصيلة المتجددة، كما يعد كتاب حديث الأربعاء لطه حسين، والموازنة بين الشعراء لزكى مبارك، والغربال لميخائيل نعيمة، وفى الثقافة المصرية لمحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس، من معالم النقد الأدبى الحديث أن الاحتفال بذكرى مندور يستحضر مراحل هامة من تاريخنا وإنتاجنا الأدبى، لأنه جمع فى نقده بين أعمق ما فى التراث القومى وأنضج ما فى التراث الإنسانى، كما جمع فى حياته بين الجلباب الريفى الأبيض، وقبعة السوربون السوداء.. أما منهجه النقدى فتتضافر فيه المعرفة الجمالية والمعرفة الأيديولوجية، دون أن يطغى جانب على الآخر، ذلك أنه لم يكن من النقاد الذين يسمحون للجمال أن يستأثر بملكات الإبداع، أو بالعملية النقدية كلها، رغم تقديره البالغ للجمال وتقديمه له، حتى لا يتحول العمل الفنى إلى شكلانية بحتة، بلا وظيفة وبلا هدف.
ويذكر مندور فى نقده أن المغالاة فى العناية بالشكل من سمات الانحدار الفنى والإفلاس الفكرى، فى حين أن الاهتمام بالمضمون يدل عادة على الصحة والقوة والنهضة.
ومع تسليم مندور بأن الأدب ظاهرة اجتماعية ووظيفة اجتماعية، فلم يكن يسمح للأيديولوجية التى يتمسك بها دفاعا عن حرية الإنسان وكرامته أن تُفقد الإبداع أصوله وخصائصه الجمالية التى لا تتحقق إلا بالموهبة والأناة، لأنه لا قيمة للفن بدون هذه الأصول الجمالية، كما أنه لا قيمة للجمال إذا خلا من المضمون الإنسانى.
وظل مندور حتى آخر يوم فى حياته يعتبر الذوق أساس النقد، على ألا يتأثر هذا الذوق بالعلاقات الشخصية، وعلى أن يكون مسلحا بالعلم ومدربا بالمعرفة، وظل يعتبر الثقافة أهم تجليات الأبنية الوطنية والوحدة القومية والتواصل الإنسانى، ويعتبر التجديد غاية كل فكر وكل إبداع.
وفى ضوء هذه المعرفة الكلية، كان مندور يعرف جيدا من هم أعداء الفكر الإنسانى وأعداء ثقافة العصر، وما هى القيم التى تفسخت وانحلت، وما هى القيم التى يجب أن تصان بالمقابل، أو تحل محلها؟.
ورغم أن مندور كان فى بلادنا ممثلا لتيار عريض فى الثقافة المصرية المعاصرة، فقد كان يلتقى فى هذا الاتجاه، بحكم التشابه التاريخى، مع عدد من النقاد العرب، أذكر منهم من لبنان عمر فاخورى، وحسين مروة، ورئيف خورى.
وتضم الأوراق الخاصة التى تركها مندور مجموعة كبيرة من الرسائل الشخصية، تلقاها فى حياته النقدية من الكتاب والمبدعين والباحثين فى مصر وأنحاء العالم، وهى مكدسة فى كراتين منذ رحيله، فلعلها تجد فى هذه المناسبة أيضا من يرتبها ويحققها ويعدها للنشر فى كتاب، يطلعنا على علاقة شيخ النقاد بالأدباء والمثقفين.