عطر الذكري وسلامة الوطن

بقلم: د. فوزي فهمي
...............................

'هي علاقة فريدة بين استاذ وتلميذ، استاذ اكتشف منذ البداية ان هذا التلميذ ماهو الا استاذ المستقبل، بهذه الروح تعاملا، ومن هنا سارع د. فوزي فهمي باهداء كتابه الأول الي روح استاذه محمد مندور، بكلمات تنطق بأستاذية الاثنين معا، إذ قال: 'الي روح استاذي الدكتور محمد مندور.. بعض من اثره.. أوراق ذابلة لاتقارن بأوراقه الوارفة'، وبهذا المنطق كتب د. فوزي مقالا كاشفا عن روح وجهود استاذه النقدية، نشرها في كتابه هموم مصرية، وبمناسبة مرور اربعين عاما علي وفاة مندور، استأذنا د. فوزي باعادة نشر هذا المقال، الذي يعد تحية لواحد من أهم جيل الأساتذة الذي كرم مصر بعطاء لايحد.
ومض ضوء في ذاكرتي، فوجدتني منقوعا في الذكري، وإذ بي أراه منحوتا في الفراغ، يحدق بي ويسألني بغتة: 'هل قرروا حقا منعي؟'. قالها ببطئه الذي حكي لي يوما سببه الطبي، وأصبح يشكل سمة واضحة في حركته، نتيجة استئصال غدته النخامية حفاظا علي بصره، وذلك في أواخر عام 1950 بعد محنة سجنه.
طفرت تلك اللحظة، بعد خمسة وثلاثين عاما مرت علي رحيله، لم أستطع خلالها أن أتغلب علي استمرار مشاعر الوحشة لرؤيته، ورغم أني كنت أستعين عليها عقليا بالتكرار لنفسي: إن شيئين لايمكن لهما الإعادة هما: الموت والولادة، كما تعودت عاطفيا أن أتصوره عطرا انتشر في سماء هذا الوطن، كي أحس به حاضرا دوما حضور العطر، لايختفي ولايختبيء، وأيضا كنوع من مقاومة النسيان البشري، وكتدريب للنفس علي تحمل الخسارة المبكرة بفقدانه، فقد رحل عنا وهو لم يتجاوز الثامنة والخمسين عاما، ووقتها كنت شابا في السابعة والعشرين من عمري، تتلمذت منها لثماني سنوات علي يديه، أطل خلالها * حكيا منه * ماضيه الوطني الخصب، ليؤكد الجسر الذي يربط الثقافة ومشكلات الوطن، وقضايا العصر.
أكتمل مشهد الذكري المستعادة، فإذ بي جالس علي طرف سرير مرضه في أمسية أحد الأيام من شهر مايو، قبيل رحيله عام 1965، وسؤاله يجرب في داخلي كحمم البركان، فارتجفت وعضضت شفتي، وأنا أتخيل ذلك الموقف الجنوني: محمد مندور، هذا الوجه المتألق المضيء، أحد الرموز المتفردة للثقافة المصرية تنويرا وعلما وعطاء وشجاعة وتاريخا، يمنع من أن يقول رأيه، وتشابكت في ذاكرتي * فور طرحه سؤاله، وحتي لحظة إجابتي عنه * معطيات تلك اللحظة، مع امتدادات تاريخه المغسول بالوجع الدائم، علي وطنه المضروب وقتذاك بسياط الاستعمار، والمنكوب باحتكارات الأجانب، والمحاصر بتسلط طبقة المصالح الضيقة، وانبثقت من ذلك التشابك لحظة اختارتها عدسة التذكر، لحظة التحام محمد مندور مع جماهير وطنه عام 1946، في مواجهة إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء * حينذاك * وقائد طبقة المصالح الضيقة، والذي استهدف جموع طليعة المثقفين الذين يعارضون اتفاقية ' صدقي * بيفن'، فإذ بقائمة السجناء تزدهي باسم محمد مندور في المقدمة، وتركز عدسة التذكر علي لحظة متابعتي له وهو يحكي، فإذ به يتفحصني، ساعتها أحسست به في داخلي يكشف اللامرئي، فعندما لمح رعبا مفاجئا علي ملامحي، ومشروع سؤال يزحف علي شفتي، أدرك من التعبيرات المرتجفة أني أستحضر تصورا لمعاناة تجربة السجن التي تعددت معه، ولأن كبرياءه كان شرطا كافيا لحماية مسيرته، لذا كان يكره أي إسراف في التعبير، أو طرطشة العاطفة كما كان يسميها، وعلي الفور قاطعني، ومزهوا قال: اندفعت روح مصر في جماهيرها، لتهزم المخطط الاستعماري لضم مصر للأحلاف العسكرية، وقضت علي مشروع صدقي بيفن، ثم استكمل إجابة سؤالي، الذي لم يسمح لي أن أجسد صياغته لغة، فقال: حين تري وطنك يعاني، فلابد أن تعاني معه وتقاتل: لتنهي معاناته عندئذ استرجعت عدسة الذكري المستعادة مشهد المساومة، حين أرسل إليه إسماعيل صدقي باشا مبعوثه عبد الرحمن البيلي، يعرض عليه منصب سفير مصر في سويسرا مقابل سكوته، فرفض محمد مندور الرشوة التي هي ثمن للخيانة، فقد كان يؤمن * مثل كل الشرفاء المصريين * أن سلامة الوطن خارج، وفوق كل حسابات المصالح، وأن الوطنية لا تنزلق أو تنحرف، ولا تسترخي وتتكوم أمام المساومة، وخرج من سجنه لتبدأ معاناته.
تتوقف * للحظات * عدسة الذكري المستعادة، لتبدأ عدسة الراهن تدخلاتها في السباق، لتتجلي المفارقات فتكشف عمن يستبيحون جسد الوطن ليقطع شذرات، بالدفع والتحريض إلي حرب الصراعات، والتوسل بآليات الاحتشاد ضغطا علي العصب العاري لدي الناس، وتكشف عمن ينساقون إلي خطاب الإثارة، بدلا من الأخذ بروية التحري، عمن يمارسون مسلسلات التحريض المصطنع، بدلا من الانتقاد الراشد، سعيا إلي حريق اجتماعي يقوم علي حسابات لئيمة، لاتراعي اجتهاد الموازنة في حق الوطن بين المصالح والمفاسد، وسلامة الوطن فوق وخارج كل حسابات الرهانات والمناورات، ولا تحتمل الطرح المغلوط توترا وانغلاقا، ولا التشهير الذي يمتد به الجموح، فيسفر عن احتكاكات تحقن العلاقات بين الناس بمخاطر تكتسح الأمان، في مغامرة غير مأمونة لكل الأطراف نعم إن العمل الحزبي المعارض يتطلب تعقبا لممارسات المسئول بالمحاسبة والمساءلة، لكن بقيد مراعاة وسيلة المساءلة، تحسسا وانتباها، تحسبا للنتائج عند التعرض للقضايا التي تمس سلامة الوطن، وخاصة في ثوابته الجماعية المقدسة والتي لا تستوجب * ولا يصح * المزايدة عليها، إذ هي أكبر وأقدس من المساومة بها، فالعمل الحزبي في جوهره مدرسة للأفكار والسلوك والنضال، ودلالة شرعيته أنه ائتمن علي سلامة الوطن، استنادا إلي برامجه التي تطرح لهذا الوطن * وفقا لثوابته * تصورا لحياة آمنة اجتماعيا، وفكريا، واقتصاديا، وسياسيا في إطار مؤسساته الشرعية.
وليس تغذية مشاريع فتنة تقوم علي توظيف المباديء والقيم المقدسة في التحريض، وتغليب المجهول علي المعلوم، بما يشكل عدوانا اجتماعيا مدمرا علي سلامة الوطن، وهو مايعني الجنون السياسي بعينه.
وتعود عدسة الذكري المستعادة لترصد محمد مندور يواجه الأحاجي المغلوطة في الحياة الثقافية،وأصحاب ثنائية الفصم الحدي بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب، دعاة الأنكفاء علي الذات، واستبقاء المجتمع المصري
علي حاله، ليكرر ذاته بعيدا عن التجدد والاستضاءة بامتدادات ثمار حوار الثقافات المختلفة، فيبادر عام 1944 إلي طرح العلاقة التي لابد لها أن تكون بيننا وبين الآخرين بمناقشته للفرضيات والمسلمات التي تحكم مناحي الحياة، إذ ' الأمر في حياتنا الثقافية مثله مثل حياتنا السياسية والاجتماعية سواء بسواء، فمن الناس نفر كثير لايزال يزج بالنعرات القومية والدينية في مجال الثقافة، ليتلف علينا حياتنا عن جهل، فنسمع مقابلات عجيبة بين روحية الشرق، ومادية الغرب، وكأن الغرب لا روح فيه، والشرق لا مادة به، والمشكلة الحقيقية ليست مشكلة ثقافة الشرق وثقافة الغرب، وإنما هي مشكلة الثقافة والجهل، وهذه أيضا فكرة مذهبية يجب أن يستقر عندها ضمير الأمة، حتي تستقيم لنا الحياة. هنالك ثقافة إنسانية موحدة نشأت في الشرق، ثم انتقلت إلي الغرب الذي احتضنها دون أن يستنكف من صدورها عن غيره، ثم نأتي اليوم * نحن الحمقي * فنحاول جدلا عميقا في وجوب استردادها منه أو رفضها. ومن عجب أن ترانا جميعا آخذين في هذا الاسترداد بالفعل، ومع ذلك نجادل في هل نحن علي حق أم علي باطل، إن كنا علي باطل، فلنتخل إذن عن جميع مظاهر الحياة المادية التي تحبطنا من جميع النواحي، فكلها غريبة، بل لنتخل عن مدارسنا، وجامعاتنا، ومناهج بحثنا، ولنرجع إلي 'الكتاب'، والحفظ عن ظهر قلب.
بهذا الأسلوب المباشر يدعو مندور إلي خروج الإنسان المصري من قصوره، الذي هو نفسه مسئول عنه، 'فما بالنا نتقاعد الكسالي الذين يحتجبون خلف نعرة باطلة، ليخفوا ماهم فيه من عجز عن اللحاق بقافلة العالم.. إن الوطن ومصائره اليوم معلقة في الخارج وفي الداخل، وأهول ما نخشاه أن ننصرف عن أهدافنا الحقيقية إلي صغائر الأمور' كما رفض * بصلابة * الخطاب المضاد لثقافة الحوار: لإدراكه حقيقة مايروج له هذا الخطاب من تكريس للمجتمع المغلق المؤسس علي احتكار الإقناع، وممارسة العنف الذي يشكل الاستبداد المشروع، 'إذ تري النفوس متعصبة، وشهوة الفكر لاتقل عنفا عن شهوة الحس، ويأتي الواقع فيستعصي، وإذا بالتنافر في العمل، وتبلبل الحياة العامة'.
وتتقاطر أمام عدسة الذكري المستعادة مواقف عديدة، تؤكد دفاعه عن المجتمع المنفتح الذي يوائم بين المتنافرات، ويتأسس علي عقل تنويري، أي عقل نقدي بنائي تأسيسي، يرفض التعصب ويرتكز علي التسامح، ويستنهض مندور العقل المصري، وهو يرصد آلياته، حين يري أن 'العقلية المصرية سلبية قابلة، بينما عقلية الغربيين إيجابية فعالة، فنحن نستطيع أن نحصل ما يلقي إلينا، ولسنا * بلا ريب * دون أحد في قوة الذاكرة، ولكننا لا نكاد نتخطي دور التقبل والتحصيل حتي يتبلد حمارنا، ولقد ينجح بعضنا في الجدل، ولكن مجهوده قلما يعدو فك الأفكار الأساسية.. ولايقف تأثير تلك العقلية القابلة عند ميدان المعرفة، بل يمتد إلي الحياة العملية ذاتها' ويلامس مندور الحس الجماعي كسبيل لعلاج تلك الظاهرة، بإجراء 'إصلاحات لابد أن يسوق إليها رأي عام قوي، وهذا الرأي لن يتكون إلا باستنارة العقول، والسبيل إلي تلك الاستنارة هو أن نسكت عن نفوسنا النعرات الباطلة، وألا نستنكف عن الأخذ عمن سبقونا في الحضارة'.
كانت 'الاستنارة' هي قضيته لاسترداد الضائع والوصول إلي المرتجي، والتي شكلت موقع الصدارة في كل معاركه وخصوماته علي مدار تاريخ نضاله السياسي، وكعبور لبوابة التحرر الاجتماعي والفكري والتربوي والسياسي، وكأن مفهومه للاستنارة قائم علي أن 'الثقافة، ضوء ولابد للضوء أن يبدد الظلمات، وأن الكوارث تأتي عندما نتخبط في فهم معني الثقافة ومدي انتشارها'، ومن خلال استقرائه للواقع، خرجت دعوته إلي أنه 'حان الحين لأن يلقي النفر المثقف منا ثقافة حقيقية بنفسه في المعركة، فبئس مواطن يستحوذ علي قلبه اليأس'.
تجمدت عدسة الذكري المستعادة علي تلك الصورة الحلم، للفارس المثقف المناضل محمد مندور حليف التفاؤل، والمجاهر بخطابه التنويري بحسم اليقين، لا يهادن ولايطرح آراء مطاطية سعيا للمكاسب في كل عصر.
هكذا كانت أمامي صورته المستعادة، وأيضا الأصل الحي يجلس علي سرير مرض ماقبل الموت، وظننت * وأنا أتطلع إليه * أنه ينتظر مني الإجابة، فهممت بالكلام، فإذ بي أري يده تمتد، وقد استجمع كفه فتجسدت قبضته، وراح يلوح بها في الهواء، وهو يدمدم مبتهجا 'والله زمان ياسلاحي' * وتلك كانت عادته عندما تبدأ معاركه 0 عندئذ أدركت أنه لاينتظر مني إجابة بالإيجاب أوالسلب، فكبرياء مندور المناضل كان دائما يقاوم.
سلام عليك أيها الأستاذ والأب في ذكراك الخامسة والثلاثين، التي تحين في التاسع عشر من هذا الشهر، وسيظل باقيا فضلك وأترك علي، وكذلك علي كل جيلي، كما ستبقي زاهرة وارفة كل قيم نضالك وعلمك، وكل ما لهذا الوطن قدمت.