قراءة في أوراق مؤتمر شيخ النقاد محمد مندور (2 من 2)

بقلم: شريف الشافعي:
................................

تعددت الأبحاث والأوراق والمداخلات التي قدمها نقاد وأكاديميون ومبدعون من مصر وعدد من الدول العربية في المؤتمر الدولي «مندور بعد أربعين عاماً على رحيله» الذي انعقد مؤخراً في مقر المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة بمناسبة مرور أربعين عاماً على رحيل شيخ النقاد الدكتور محمد مندور (1907-1965). وقد سعى المشاركون في جلسات المؤتمر؛ عبر عدد من الموائد البحثية المكثّفة خلال ثلاثة أيام؛ إلى إعادة اكتشاف شيخ النقاد الدكتور محمد مندور من خلال تحليل ومناقشة قضايا تتعلق بفكره وحياته وكتاباته، وعلاقته بالتراث النقدي العربي، والشعر المعاصر، والنقد المسرحي والقصصي، وتأصيل المناهج النقدية، والفكر السياسي، بالإضافة إلى معاركه الأدبية المتعددة.
مرحلتان نقديتان
الناقد الدكتور محمد عبد المطلب يرى أن الدكتور محمد مندور هو أحد القراء الثقافيين الأوائل، وأحد أبرز تلامذة الدكتور طه حسين، ويقول د.عبد المطلب: إن الدكتور محمد مندور في مرحلته الأولى تبنى (النقد الجمالي)، وبخاصة في كتابه (في الميزان الجديد)، وقد حدد أفق هذه المرحلة بأنها تربط الجمال بالتأثر، لأن القارئ يعتمد على مجموع انطباعاته التي تخلقها الأعمال الأدبية على صفحات روحه. ولا يغيب عن الدكتور محمد مندور ارتباط هذا الوعي الجمالي بالوعي اللغوي، ومن ثم أطلق مقولته: «اللغة هي المادة الأولية للأدب، وذلك لأن الفكرة أو الإحساس لا يعتبران موجودين حتى يسكنا إلى اللفظ». أما المرحلة الثانية في مسيرة الدكتور محمد مندور؛ فهي التي أطلق عليها (النقد الوصفي التحليلي)، وفي هذا المرحلة أضاف الدكتور مندور بعض التوجهات الأسلوبية، فضلاً عن الاحتكام إلى العقل الذي يقود ضرورة الثقافة، والاعتقاد بأن الخلل النقي إنما يكون من ضيق الأفق وفقر الثقافة.
ويشير الناقد الدكتور فتحي عبد الفتاح في دراسته «بطل إلياذة الديموقراطية في مصر» إلى أن الدكتور محمد مندور يشكل مع كل من الدكتور لويس عوض وعبد الرحمن الشرقاوي هرم التنوير الثاني مصر، أما هرم التنوير الأول فإنه يضم كلاً من محمد عبده وطه حسين وأحمد لطفي لسيد، ويقول د.عبد الفتاح: كان الدكتور مندور دائماً هو البطل الأسطوري - أجاكس - المدافع عن مصر الديموقراطية، مصر العدالة الاجتماعية، مصر الحضارة الثقافية وحرية الإبداع. وقد تجلت مواقفه هذه في أكثر من عهد، سواء في مرحلة الازدهار الليبرالي والثقافي والزخم الرائع الذي جاءت به ثورة 1919 الجماهيرية، أو بعد ثورة يوليو 1952 التي رفعت شعارات رائعة؛ لكنها في الوقت نفسه أجهضت كل الأحلام التي كانت قابلة للتحقيق أيامها.
التراث والمعاصرة
أما الناقد الدكتور عبد الرحمن أبو عوف فإنه يشير في دراسته «سمات المنهج النقدي عند محمد مندور» إلى أن الناقد البارز الدكتور محمد مندور كان من أكثر النقاد العرب اهتماماً بالبحث عن (منهج نقدي) قائم على التراث والمعاصرة، وجسد بذلك استمراراً حياً للتقاليد التي أرساها طه حسين في محاكمة الأوهام في ثقافتنا، ونزع النقاب عن الأنظمة اللاعقلية الموروثة، وإيقاظ الرغبة في قيام قانون يصبح المفكر فيه هو حقيقته دون تنازل أو تبرير، ويقول د.أبو عوف: قدم الدكتور محمد مندور منذ أربعينيات القرن العشرين الكثير إلى فكرنا الاجتماعي والنقدي والسياسي، وعاش حياة خصبة نحياها من جديد حين نقرأه، قدم لنا في مستهلها كتبه المضيئة «في الميزان الجيد»، و«النقد المنهجي عند العرب»، و«نماذج بشرية»، و«الأدب ومذاهبه»..، إلى جانب دراسات في الشعر ومحاضرات في المسرح والنثر، بالإضافة إلى دراساته عن المسرح المصري والعربي ونشأته وتحولاته وتياراته. والبحث في رحلة الدكتور محمد مندور النقدية يستلزم فهم مكوناته الثقافية وعلامات التفاعل بين تحولات فكره وعطائه مع تحولات الثورة الوطنية وصعودها لثورة ذات بعد تقدمي؛ هي ثورة يوليو 1952.
وفي دراسته «فن الأدب بين الالتزام الاجتماعي والوظيفة الجمالية» يقول الناقد الدكتور ماهر شفيق فريد: حين ننظر بعد أكثر من أربعين عاماً إلى حصاد معركة الدكتور محمد مندور والدكتور رشاد رشدي الشهيرة حول طبيعة الأدب ووظيفته؛ نجدنا منتهين إلى نتيجة مؤداها أنها لم تكن بعمق معارك الدكتور محمد مندور مع زكي نجيب محمود ومحمد خلف الله وغيرهما، حيث إن طرف الخصومة رشدي لم يكن من قامة هؤلاء الرجال، ولا يملك جديتهم وتنزههم عن الغرض، وإنما كان يسعى إلى توطيد مكانته في الحياة الأدبية وخلق معارك لافتة للنظر. ومع ذلك، آتت المعركة بعض ثمار نافعة، كتوضيح بعض مفهومات النقد، ووضعه في بؤرة أشد سطوعاً تلك المعضلة الأبدية: معضلة التوفيق بين استغلال الأدب من حيث هو فن جميل، ووظائفه الاجتماعية، ودوره في خدمة المجتمع.
كنوز تنمو وتتنفس!
ويوضح الباحث محمد خليل نصر الله في دراسته «محمد مندور وجهوده النقدية» أن للدكتور محمد مندور موقفه الواضح من قضايا اللغة والأدب والنقد ومناهج البحث، فهو يرى ضرورة الاستفادة من تجارب الباحثين الأوروبيين لما حققوه من تقدم كبير ومفيد، وفي الوقت نفسه يذهب إلى أن كتب التراث العربي تزخر بكنوز كبيرة وحقائق مهمة، لا تزال قائمة تنمو وتتنفس، ولن تكون الاستفادة صحيحة وعميقة إلا بعد دراسة هذا التراث واستخراج ما فيه من كنوز في ضوء المناهج الحديثة، ويقول نصر الله: بهذا الجمع الواعي بين ما عربي أصيل، وما هو غربي نافع، راح الدكتور محمد مندور يتابع نشأة النقد العربي وتياراته؛ وهي تنمو وتنتقل من مرحلة إلى مرحلة، ومن طور إلى طور، وتبعاً لذلك قسّمه إلى قسمين كبيرين: نقد مرتجل يقوم به الشعراء ومحكمو الأسواق، ونقد منهجي تدعمه أسس ونظريات وتطبيقات عملية.