الدكتورة
سلمى الخضراء الجيوسي


سلمى الجيوسي
أصالة الحداثة والصوت الخفيض
23/12/2006
*أحمد جميل عزم

سلمى الخضرا الجيوسي، قامة أدبية وفكرية وبحثية سامقة، بدأت إسهاماتها تؤثر في مسار الفكر العربي، منذ خمسينيات القرن العشرين، ولا زالت، بحمد الله. وفي هذا المقال سأعرض لجانب واحد من فكرها أعتقد أنّه يساهم بحل مشكلة فكريّة ووجدانية مهمة في مرحلتنا العربية الراهنة.
وقبل نقاش هذه الأفكار، ربما لا بد من التذكير، أن سلمى الخضرا، المولودة في السلط، والتي عاشت طفولتها في عكا، وأنهت الثانوية في القدس، وحصلت على الشهادة الجامعية الأولى في الأدب من الجامعة الأميركية في بيروت، والدكتوراه من جامعة لندن، وعملت بالتدريس الجامعي في السودان، والجزائر، والولايات المتحدة، أنشأت عام 1980 مشروعها بروتا (مشروع الترجمة من العربيةThe Project of Translation from Arabic)، واستطاعت أن تنشر بالإنجليزية أكثر من 40 مجلدا وكتابا ورواية وديوان شعر، بعضها دراسات موسوعية، كالكتاب الذي شارك به 42 باحثا وباحثة عن تراث إسبانيا الإسلامية، وطبع في الغرب، عدة مرات، وترجم للعربية في 1559 صفحة.
لا يمكن اليوم لأي شخص يدرس فكر وأدب الشرق الأوسط باللغة الإنجليزية أن يستغني عن نتاج سلمى، كاتبة، ومؤلفة، وباحثة، ومترجمة، ومحررة، وهو ما جعل الأكاديمي والكاتب العراقي عبد الواحد لؤلؤة، يقول "لا أعرف وزارة ثقافة بين الماء والماء خدمت الثقافة العربية، وقدمت الأدب العربي إلى الناطقين بالإنجليزية، مثلما فعلت الدكتورة سلمى الخضرا الجيوسي"، وقول روجر ألن، أستاذ الأدب العربي في جامعة بنسلفانيا، إن الأدب العالمي "كان إلى عهد قريب مغلقا في وجه إسهامات من الأدب العربي"، ويضيف "والحق أنّ من المناسب أن نشير هنا إلى أن التغير الذي طرأ على المواقف من هذا الأدب، مدين إلى حد كبير لأعمال "بروتا" ومديرته".
إلى جانب كل ذلك، فإن فكر سلمى الخضرا، يقدّم إسهاما مهما في نقاش واقعنا الراهن، وعلى سبيل المثال يتعامل هذا الفكر، مع أزمة فقدان المعنى، وفقدان الإعجاب، في الكثير من منتجاتنا الحضارية والفكرية والثقافية، التي كان بعضها أقرب "للقدسية" حتى وقت قريب، وهذا "الفقدان"، قد يتعلق بقضايا، قد تبدو بسيطة، كالموسيقى، مثل تراجع الإعجاب والقدرة على الاستمتاع بأعمال بمستوى، غناء وموسيقى، أمثال عبد الحليم حافظ، وأم كلثوم، فالبعض مثلا، وأنا منهم، لم تعد لهم "القدرة على الاستمتاع" بهذه الأعمال بذات القدر، وذلك لأسباب بعضها مفهوم، وبعضها غامض، وكمثال آخر، من الأدب والفن، يمكن الحديث عن محمود درويش، ومارسيل خليفة.
فمن المعروف أنّ درويش يتبرم الآن من إصرار الجمهور على التوقف طويلا عند قصائده الأولى، مثل "سجل أنا عربي"، إذ من الواضح أنّ درويش يرى أنّ نتاجه الجديد يجب أن يأخذ حقه أيضا، أو كما يقول في أحد لقاءاته الصحافية، إن هناك مشكلة هي أنّ يتعامل الجمهور مع تلك القصيدة، "على أنها بطاقة هويتي الشعرية"، وقوله "وأينما أذهب يطلب مني إلقاء هذه القصيدة، وهذا المطلب يتجاهل أنني مررت بتجربة جديدة...".
هذا ما يواجهه الموسيقي مارسيل خليفة، ففي بعض حفلات مارسيل الجديدة، يقوم بحشد عشرات العازفين العالميين، من فرنسا وغيرها، لعزف موسيقاه، ورغم الاستماع والتقدير، فإنّ الجمهور في نهاية الحفل، يبدأ وحده غناء الأغاني الحماسية، من مثل "منتصب القامة أمشي"، ويضطر مارسيل كما لو أن واجبه لجمهوره، يفرض ذلك، يضطر للغناء مع الجمهور، في جو أشبه بالمظاهرة "الجميلة"، منه للعمل الفني الذي يرى فيه مارسيل إضافة نوعية ترضيه شعوريا وعقليا.
ووصولا للسياسة، والفكر أذكر ما قاله لي سياسي عريق، من جيل سلمى، قبل نحو عقد من الزمن. لقد شكا لي بنوع أقرب للبوح، بأنّه يستغرب من الجيل الجديد الذي "ترك" أفكارهم القومية، ويفتقد لحماستهم السابقة، ولا يحترم "القادة الكبار"، ولا يسير في دربهم.
هذه الأمثلة تؤكد أنّ الشيء مهما كان ناجحا في وقت ما، قد يصبح قديما، وغير مناسب للمرحلة، وحتى إن لم يشعر كثير من "الجمهور" بذلك سريعا، ولكن يتوقع أن يشعر به لاحقا، ودرويش وخليفة، يدركان ذلك، ويتطوران أو يتغيران، ولا يكرران نفسيهما، فالفكر والثقافة والموسيقى والأدب والسياسية، كلها تعبيرات عن أبعاد اجتماعية وسياسية وسلوكية متغيرة.
وهذا ما أدركته سلمى مبكرا في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما انخرطت بالنقاش والجدل الدائرين آنذاك، بين مدرستين أدبيتين وفكريتين متنافستين، عبّر عنهما، مجلة "الآداب"، التي مثلت تيار الالتزام في الشعر والأدب العربي، وتؤيد التجديد في سياق ضوابط وقواعد معينة، مع تأكيد خاص على الالتزام بالقضايا العربية القومية؛ بينما كانت مجلة "شعر" تمثل منبرا وكانت رافعة لأدب وشعر وفكر الحداثة، وصل الأمر في بعض كتابها إلى الدعوة إلى الكتابة باللهجات المحلية.
في البداية تبنت سلمى منهجا منفتحا، وسطيا، وديمقراطيا عمليّا، فشاركت المجموعتين، وكتبت بالمجلتين، ولكنها عادت وافترقت عن مجموعة "شعر"، ليس برفضها أدبهم، بل لرفضها فرضيات فكرية وأيديولوجية تبنتها المجموعة.
فسلمى ترى أن الفكر والأدب يتسعان لأشكال مختلفة من التعبير، دون رفض شكل ما، أو اعتباره قديما وغير صالح، ورفضت سلمى، ادّعاء مجموعة "شعر" التي كان من رموزها يوسف الخال، وأدونيس، وأنسي الحاج، ومحمد الماغوط، ورياض نجيب الريس، وغيرهم، وخاضت معهم جدلا على
صفحات "شعر" ذاتها، وفي الصفحة الأدبية في صحيفة "الأنوار" اللبنانية التي كانت سلمى محررتها، ورفضت أن ما توصلوا له هو آخر أشكال التطور، ورفضت رفضهم للقصيدة العمودية، دون أن ترفض قصيدة النثر، وأشارت كيف أن أصحاب الأيديولوجيات الحداثية، كأي منهج ثوري آخر، قد يتحولون بذاتهم لقوى محافظة تمنع التغيير، عندما يرفضون خصومهم ويرفضون الرأي المخالف. وقالت إنّ قصيدة النثر والشعر المنثور، ستصبح يوما شكلا أدبيا قديما، "لأن كل شيء يتغير"، وقالت إنّه "لا حل نهائيا في الشعر، لا حل نهائيا في الفن، كل شيء يتغير، كل شيء يصبح عتيقا، كل شيء يتجمد".
هذا ما أسميه "أصالة الحداثة"، القائمة على أساسين، الأول أنّ لا شيء يمثل الحداثة المطلقة، فالحداثي الحقيقي يدرك أنّ ما هو حديث اليوم، سيصبح "كلاسيكيا" في يوم آخر، وثانيا، أنّ الحداثة، تعني عدم الوقوع في أسر الماضي، ولكن لا تعني التنكر له، أو عدم إمكانية الإيمان تطويره، والبناء عليه. وقالت سلمى إنّ كل شيء يعاني "استنفاذ الذات"، وتقول "ثمة في الفن ما يسمى الإرهاق الجمالي"، وهو إرهاق ضروري لحصول التغيير، فالأزياء تتغير، وتروج الأغنية فترة من الزمن، ثم تنساها الناس "لأن إرهاقا جماليا" قد حصل.
ترفض سلمى، بالمقابل، اللجوء إلى الصوت العالي، والخطابية، دفاعا عن شعارات ومبادئ قد لا تكون صالحة للمرحلة، والهروب من جوهر القضايا إلى "الحماسة" والاختفاء خلف العبارات الرنانة، والصور الأدبية المبالغة، وذلك عندما تتحدث عن "الصوت الخفيض"، أو "اللهجة الخفيضة"، وترمي بذلك للقول، بحسب فهمي، إلى ضرورة التزام الكاتب والأديب، بالواقعية، أو ربما(البطولة الواقعية)، فهي تقول في حوار صحافي عام 1994 "الشاعر الحديث هو إنسان ضحية. ليس إنسانا بطلا. وأرجو أن لا يفهم من حديثي القول بقتل البطولة، لكن البطولة).."، وتقول "الأوضاع السياسية تحتم أحيانا على الشعراء أن يتناولوا موضوع البطولة على نحو تقديسي أو احتفالي يقول بالبطولة وبضرورتها، لكن في الوقت نفسه هذا ، إذا كان الغاية والمقصد يجيء مناقضا للرؤية الحديثة للإنسان".
بكلمات أخرى أرى أن سلمى تصر على أنّ الحداثة والمعاصرة لا تتوقف، وترفض التعصب لحداثة ما باعتبارها الحداثة المطلقة، وترفض التنكر للأصول، وترفض اللجوء للصوت العالي في الدفاع عن المبدأ السياسي أو الفكري، لمجرد الدفاع، وإغفال حقائق جديدة وإغفال جوهر الأمور، وهو ما أراه شخصيا رؤيا مهمة لفهم واقعنا الحالي الذي يحتاج للكثير من التفكير الهادئ، فلا بد في حالتنا العربية الراهنة، في السياسة، والاجتماع، والمقاومة، من التخلص من النبرة العالية المبالغة في التشبيهات الأدبية المجازية التي تنتج فكرا لا واقعيا، دفاعا عن شعارات ومبادئ لأسباب سياسية تخدم مجموعة أو جماعة معينة، وتخدم الانتصار للذات، وأخذ البعد الإنساني، والشخصي، في القضايا السياسية والوطنية بما تستحق من اهتمام واحترام. وبالتالي التوقف عن إلغاء الواقع في الحياة والسياسة، والتعامي عن تشخيص الألم والمعاناة الإنسانية، لصالح لغة الخطابة، والمغامرة البطولية، المتهورة، في كثير من الأحيان، التي ميّزت الخطاب السياسي والأدبي بما فيه الوطني والقومي وحتى العاطفي الرومانسي الشخصي طوال عقود، دون بطولة الفكر الهادئ البنّاء المنتج.
*باحث وكاتب أردني مقيم في الإمارات
المصدر

حياكم الله


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com