السرد القصصي في الخطاب القرآني
بين الحقيقة والخيال

الأستاذ عبد الرزاق المساوي

أ* أما قبل:
إن أول ما سيلفت انتباه المتلقي للخطاب القرآني العظيم ويثير فضوله العلمي والمعرفي هو أنه يحتوي على نصوص سردية قصصية متفرقة على طول خريطته من عتبته الأولى "الفاتحة" إلى عتبته الأخيرة "الناس".. وأنها ليست قصصاً كاملة مستمرة استمرارا " سنكرونيا " في بنائها، فهي ليست خاضعة لتوالٍ زمني مألوف في كل فعل سردي يتوخى التواصل الهادف أي أن هذا الفعل السردي يهدف إلى جعل المتلقي يعمل تلقائيا على استقبال وفهم رسالته وفي الوقت نفسه على جعله ينفعل لأثره ويستسلم لتأثيره، ويتم التجاوب الفعال بين الملقي/الباث/المرسل والمتلقي/المبثوث إليه/المرسل إليه والرسالة..
إن حال السرد القصصي في القرآن الكريم جاءت على غير المألوف في جميع الثقافات، وعلى خلاف ما لحظناه في السرديات السابقة عليه في الانتشار سواء ذات الأصول السماوية أو ذات الأصول الوضعية.. فهو نسيج وحده، غير متأثر بغيره.. ومع ذلك فإنه حقق كل ما يمكن أن يتوخاه أي فعل سردي من تواصل هادف وأكثر.. بل لقد استطاع بمزجه للأحداث والوقائع والشخصيات والحوارات والصراعات مع الموضوعات الأساس التي يتغياها الخطاب القرآني العظيم من خلال أسلوبي الترغيب والترهيب.. لقد استطاع على الرغم من أن السرد القصصي فيه لا يخضع للتراتبية السردية المعهودة.. أن يهئ الأسباب النفسية والأجواء الفكرية والأسس العقلية لكي ينفعل المتلقي بالأحداث ويتفاعل معها ويراها أمامه مصورة كأنها عبارة عن شريط بصري على الرغم من تفرقها، ويعيشها مشاهد حية ناطقة وإن كانت متفرقة على مستوى الكتابة.. فقد اجتمعت على مستوى الذهن وتفاعلت على مستوى الوعي.. كما قد ينصهر المتلقي في بوتقتها كأن له بها صلات معينة، وتستولي على كيانه كأنها منه، وتجذبه إليها جذبا يدخله أحيانا في تماه من نوع خاص ينسيه نفسه..
هذه الظاهرة تعتبر من خصوصيات الخطاب القرآني ككل، وليست خاصة بالسرد القصصي، لأننا نلحظ أنه خطاب لا يجمع آياته في شكل مواد معينة أو موضوعات محددة، ولا يرتبها حسب مواضيعها ومضامينها.. ولا يطرحها في إطار حقول موضوعاتية حسب تسلسل الأهمية أو المركزية الموضوعية.. خاصة وأن المواضيع التي يطرقها كثيرة وكثيرة جدا من الإسلام ومرتكزاته ومن الإيمان وشعبه ومن العبادات وأركانها ومن السلوكيات وتفاصيلها ومن التاريخ وأحداثه ومن النبوءات وتوقعاتها.. إلا أن هذه الموضوعات المتعددة والمتشعبة والمرتبطة كلها مبثوثة في ثنايا الكتاب الكريم ككل بطريقة غير مألوفة في الكتابة أو الرواية..
وتتجلى هذه الظاهرة - ظاهرة الكتابة بالشكل غير المألوف - بكل وضوح في السرد القصصي منه على الخصوص، بل إنه لينفرد بكثير من خصائصها تحلية أسلوبية ورؤية جمالية ونظرة وظيفية وأفقا استشرافيا.. وقد تمثل هذه الظاهرة - في نظرنا على مستوى الأدبية- إعجازا بنائيا لهذا المكون من مكونات الخطاب القرآني الفريد..

إنها قصص متفرقة بشكل هندسي متفرد، وبإيقاع منسجم مع مكونات نصوص السور التي وردت فيها أو توزعت في ثنايا آياتها..
فالقصة القرآنية تمتزج بموضوع السورة امتزاجا عضويا لا مجال فيه للفصل بينها وبين غيرها من مجموع موضوعات السورة.. تلك السلسلة من الحلقات المختلفة شكلا، المتحدة هدفا، والمتناغمة مضمونا، والمتناسقة بناء، والمتكاملة إيقاعا.. بحيث لو حذفنا القصة -أو قل مشهدا من مشاهدها- من موقعها الوارد في السورة لحصل عدم توازن موضوعاتي ولاختل المعنى وتفاقم المعنى، لأن القصة تسهم في بيان مضمون النص وإيضاح معاني الخطاب وتعميق فكرته لدى المتلقي.. في جمال أسلوبي ورونق تعبيري وروعة لغوية ووحدة عضوية، وبكلمة واحدة: في إعجاز متكامل...
لقد جاءت كل قصص القرآن متفرقة حلقاتها موزعة أحداثها متناثرة مكوناتها لا تجتمع عناصرها المكونة لها في سور بعينها، أو في أماكن منها بذاتها على الرغم من كون مجموعة من السور كانت عناوينها هي أسماء بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام(1)، اللهم إلا ما كان من قصة يوسف عليه السلام، وإن كانت هي الأخرى – وهنا تتجلى الفرادة كما قلنا في تقديم القرآن الكريم للسرد القصصي - قد حضيت بالعناية الربانية نفسها التي طالت القصص القرآني جميعه بحيث سرد حلقة من حلقاتها المتميزة في سورة أخرى غير تلك التي تحمل اسمه عليه السلام وهي سورة غافر الآية(34) من قوله تعالى على لسان رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: ﴿}ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ({وهذه الإشارة غير واردة في سورة يوسف على الإطلاق لأن المكان الذي يجب أن تكون فيه والمناسب لها دلالة وموضوعا هو سورة غافر..
إن هذه التفرقة على مستوى السرد القصصي، وعدم تجميعه في حيز محدد من خريطة الخطاب القرآني، وعدم التزام مسار زمني كرونولوجي على مستوى كتابته، تفيد تحديدًا عدم تاريخية هذه القصص لكن ليس بالمفهوم الذي يروج له بعض المفكرين والمثقفين من الغرب والعرب(2)، فالقصص القرآني حقائق حدثت، ووقائع عيشت، وصور تفاعلت في الزمان والمكان حبلى بالواقعية.. وشخصياتها برزت بذواتها بشحمها ولحمها في الوجود.. وحواراتها وصراعاتها وأحداثها وكل ما صوره القرآن الكريم عنها طفحت كلها على سطح الواقع وتحققت في فترات متباينة على مر العصور وتداول الأيام..
فهي ليست حكايات دون سند واقعي حقيقي ملموس في زمانه ومكانه.. ولكنها في البناء القرآني لا تمثل التاريخ بمفهومه الجامد، ولا يعنيها أن تكون تاريخًا بمعنى الزمن الماضي المتوقف الذي لا علاقة له بالحاضر إلا من حيث أنه أحداث وقعت ومضت، ولا يؤسس للمستقبل أو لا يشجع على النظرة الاستشرافية.. فالله تعالى يقول: ﴿} تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون{ هذه الآية الكريمة تتكرر مرتين، في الآية (134) والآية (141) من سورة البقرة، وهذا توكيد لا يدع مجالاً للشك بأن القرآن ليس مجالاً للبحث التاريخي بالمفهوم الرائج عند بعض المثقفين والمفكرين أو عند بعض ذوي الاختصاص، ولا يهدف إلى إيراد التاريخ بالمعنى المتداول في بعض الكتابات المعاصرة.. فكل أمة مسؤولة عما تعمل وانتهى أمرها بانتهاء عصرها أو اندثار مكونات زمانها، ولن تُسأل أمة عما فعلت أمة قبلها أو حتى إذا تزامنت معها.. ولكنها سوف تسأل عما قامت به هي نفسها بدءاً مما استفادته من أعمال الأمم قبلها، وانطلاقا مما أخذته من عبر وتفكر في الأحداث والوقائع.. وارتكازا على ما استخلصته من دروس وحكم.. فالآية لم تجمع بين "أمة قد خلت لها ما كسبت" و "لكم ما كسبتم" بشكل اعتباطي.. أبدا!.. إنه لم يتوقف عند "أمة قد خلت لها ما كسبت" وكفى.. وإنما ألحق بها ما أتى بعدها في سياق دال، وجرس دلالي محكم تنسج خيوطه لفظة "لها" في الزمن الغابر ولفظة "لكم" في الزمن الحاضر، والفعل "كسبت" في الماضي والفعل "كسبتم" في الحاضر والمستقبل.. ليربط بين بداية ونهاية مكونات الزمان التي تختتم في شكل دائري لا يعيد نفسه ولا يكرر ذاته كما شاع بين الناس، وإنما تأتي على قاعدة ﴿} وتلك الأيام نداولها بين الناس{(آل عمران:140) ولا يستحم في النهر مرتين..
إذن هناك قصدية معينة لا تخفى على كل متلق لبيب للسرد القصصي في الخطاب القرآني..فالقصة في القرآن لا تساق دون قصدية بل لغايات معينة وأهداف محددة ومرام مقصودة، ولذلك نلحظ أن القرآن الكريم يذكر من عناصر ومكونات القصة ما يخدم تلك الغاية ويحقق ذلك الغرض ويبرز تلك المقاصد..
كما أن القصص القرآني ليس ضرب أمثال بالمفهوم الذي يعطى للمثل على أساس أنه هو الذي (" نعجب به وننفعل له فهو صادق بالنسبة إلينا أما صدقه في نفسه فلا يكون موضوع سؤال مادام يثير فينا ذلك الانفعال المعبر عن الإعجاب والتصديق")..(3).. ولكن المنطق القرآني يجعل القصة والمثل احيانا يجتمعان في بعض الخصائص منها الواقعية الحقيقية في سردها، كما يرسم أهدافا من وراء هذا السرد يطول الحديث عنها، ونحن نهدف إلى تخصيص هذه القراءة للوقوف على إشكالية طالما أثيرت في عصرنا الحديث وظننا لفترة من الزمن أنها دفنت بفعل عدم ثباتها أمام الحقائق العلمية والاكتشافات الأثرية وردود العلماء الشرعية.. إلا أنها أحييت من جديد من طرف بعض من ينصبون على رأس هرم الثقافة والفكر العربي والإسلامي في عصرنا الحاضر..
هذه الإشكالية هي تلك المقولة التي أبتدعها المسيحيون وروج لها المستشرقون ورفع لواءها المستغربون وانساق وراءها المضللون.. تقوم – كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري وهو من دعاتها - على("اعتبار القص القرآني نوعا من ضرب المثل، الهدف منه استخلاص العبرة، وبالتالي فلا معنى لطرح قضية الحقيقة التاريخية")(4) ثم يبين ويؤكد ما أجمله هنا في موضع آخر فيقول:(" فكما أننا لا نسأل عن صحة القصة التي وراء الأمثال التي تضرب لموقف أو حال الخ، لأن المقصود ليس أشخاصه بل مغزاه، فكذلك القصص القرآني في نظرنا. والصدق في هذا المجال لا يلتمس في مطابقة أو عدم مطابقة شخصيات القصة والمثل للواقع التاريخي، بل الصدق فيه مرجعه مخيال المستمع ومعهوده") (5)

..++**// يتبع //**++..

هوامش ومراجع:
1* كالسور الآتية أسماؤها: يونس وهود ويوسف وإبراهيم (ومريم) و(لقمان) ومحمد ونوح عليهم الصلاة والسلام..
2* انظر محمد عابد الجابري سلسلة مواقف إضاءات وشهادات العدد:47 الطبعة الأولى يناير 2006 الصفحة: 30
3* المرجع السابق نفسه الصفحة:27.
4* القصص في القرآن(2) من ملفات الذاكرة الثقافية مواقف محمد عابد الجابري العدد 48 الصفحة:33
5* القصص في القرآن(1) من ملفات الذاكرة الثقافية مواقف محمد عابد الجابري العدد 47 الصفحة:27