السرد القصصي في الخطاب القرآني

بين الحقيقة والخيال..

عبدالرزاق المساوي

ب* طبيعة القصة القرآنية:
لكل شيء في الوجود طبيعته الخاصة التي يتحلى بها وتميزه عمن سواه.. تبرزه في هيأته وتظهره في شكله: إما في شكله الذي هو عليه بطبعه وفطرته التي وجد عليها أول مرة.. وإما في شكله الذي تعارف به عليه متلقوه والمتعاملون معه الذين ألفوه وخبروه..
وللقصة بشكل عام طبيعتها التي تميزها عن غيرها من الأجناس التعبيرية والأنواع السردية والأشكال التواصلية الأخرى.. وهي طبيعة لها خصوصيات ذاتية تتمتع بها القصة ذاتها، صنعتها لنفسها بنفسها كنوع من الرسائل التي تعتمد المكونات السردية في بنائها.. ذلك أن السرد في وظيفته (" يركب ويعيد تركيب، ويبدع ويعيد تأسيس سلسلة متكاملة ومتداخلة من الوقائع والأحداث والشخصيات والخلفيات الزمانية والمكانية، لتجعل منها المادة الحكائية..") (6)، ذات المقومات المكتسبة نتيجة التفاعل الداخلي لمكوناتها الشخصية، وبفعل التلاقح المستمر مع كل مكونات الفعل المعرفي والمشهد الثقافي والهندسة العلمية والخريطة الأدبية..الخ.
وللقصة أيضا خصوصيات مكتسبة تساهم في بناء تلك الطبيعة، يفرغها عليها أو يكسبها إياها المرسل:القاص أو الراوي أو السارد، على اعتبار أنه كائن حي يملك قدرات ومهارات وكفايات نفسية واجتماعية وفكرية وثقافية وعلمية وإبداعية تنتج وتؤثر في إنتاجها بل إنه يعتبر أول متلق نظرا لما يمارسه من قراءة داخلية خاصة به بفعل التدقيق والتنقيح والتنميق..
كما أن من خصوصيات القصة ما يضفيه عليها متلقوها من خلال قراءاتهم المتعددة والمتتالية والمتجددة.. على اعتبار أن المتلقي هو الآخر مشارك فعال في التأسيس والبناء لكونه حاضرا حتى قبل إنتاج الرسالة كمستهدف يتمثله المرسل في ذهنه قبل وبعد الكتابة.. ثم بعد ذلك لقراءاته المتعددة والمختلفة والمتباينة أحيانا، التي يملأ بها الفراغ الذي يحيط بالنص من جميع الزوايا ويسود بها البياض اللامتناهي الذي يغشى السطور والتعابير والكلمات.. ويضيف ما بقيت تحتاجه الرسالة في مستويات تركيبتها الأخيرة فهما وتفسيرا وتأويلا وحتى ليّاً لعنقها أحيانا..
وقد تجتمع كل هذه الخصوصيات – في أعلى مستوياتها – أو يتحقق بعضها - قل أو كثر - لتصاغ في الأخير تلك الطبيعة الخاصة بالقصة ولو في أدنى مكوناتها كطبيعة رسالية..
والقصة القرآنية لها خصوصياتها التي تتشكل منها طبيعتها الداخلية – من جهة - بحكم البناء الذاتي المتنامي دائما بشكل تلقائي، وعند تفاعلها مع باقي مكونات الخطاب الذي تنتمي إليه والذي هو الخطاب القرآني.. وطبيعتها الخارجية – من جهة أخرى- بحكم أنها:
1: ملفوظ سامي صدر عن ذات عالية متعالية علوا كبيرا يمكن اعتبارها السارد الأعلى ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى..
2: متلقاة ومشتغل عليها عبر سيرورة زمانية وصيرورة مكانية من طرف ما لا نهاية من المتلقين المنفعلين والمتفاعلين وحتى المغرضين..
3: معرضة لكثير من القراءات المختلفة المناحي والمتعددة المشارب والتي تراكمت عبر التاريخ حاملة عصارة أفكار أصحابها/المتلقين..
هذه الخصوصيات ضمن مجموعة من الخصوصيات الأخرى تقوم عليها القصة القرآنية وتؤطرها، وتنفرد بها عن غيرها وتكسبها مميزات ترقى بها عما سواها، وتحدد طبيعتها..
1 * القصة حق وحقيقة:
إن القصة القرآنية تنبني في هيكلها ولبها، في قلبها وقالبها، على الحق وتتأسس في روايتها للأحداث والوقائع، وتشخيصها للأفعال والوظائف، ورسمها للنماذج الحية والشخصيات، وحكيها للتدافع والتفاعل، وتصويرها لكل ذلك في الزمان والمكان والأجواء، تتأسس في سردها لجميع هذه المكونات والمقومات على الحق المبين والحقيقة الجلية.. وتجعل ركائزها التي تعتمدها في حكيها ما جرى على أرض الواقع فعلا وليس تخيلا، وهذا يعني أنها بعيدة كل البعد عما يسمى الخيال في شكله الذي ألفته، عبر التاريخ الأدبي وحتى البشري، أشكال وأنواع من القص، حتى تلك التي تنعت بالواقعية أو ما شاكل ذلك بناء على فلسفات حديثة معينة..
إن القصة القرآنية تصور وأقولها بصوت مرتفع وأكتبها بخط عريض تصور الأحداث والوقائع والممارسات والسلوكايات وحتى الأفكار والهواجس وخوالج الأنفس وما تخفيه الصدور وتضمره القلوب.. تقوم بها شخصيات مختلفة وهويات متعددة ورموز متباينة في أزمنة معينة تتراوح بين بدايته وما وصلت إليه، وأماكن محددة تتنقل بين مشارق الأرض ومغاربها، وبين السماء والأرض وما لا حدود له.. وفي حالات نفسية متباينة من أعلى مستويات التدين والإيمان إلى أدنى مستويات الجحود والكفران، وفي ظروف اجتماعية مختلفة تتأرجح بين العدالة والطغيان، وتراكمات تاريخية تفرض ذاتها على لا وعي الإنسان.. كل ذلك مأخوذ من واقع الحياة، موجود بالفعل والقوة، تحكمه قاعدة p وتلك الأيام نداولها بين الناس i
وهذا لا يعني أبدا أن السرد القصصي في الخطاب القرآني إنما صيغ من أجل الإخبار في معناه الضيق عند بعضهم، أو أنه سرد يدل على مفهوم الخبر كما يروج له في بعض الكتابات على أنه ينقل المعلومة بكل حياد ولا يقصد منه التأثير على المتلقي.. وذلك لأن السرد القصصي في الخطاب القرآني يستمد مكوناته فعلا من الحقيقة التي عرضت في حياة الناس خلال معيشهم، والواقع الذي عاشه الإنسان عبر تداول الأزمان إلا أنه يضفي عليها مقومات التأثير وخصائص التفاعل بتصويره لكل تلك القصص وربطها بواقع حال المتلقي تحت فاعلية التآثر التي تنسج خيوطه بين الرسالة الواقعية والمتلقي الحي.. ومن ثمة لا يصدق قول بعض المغرضين الذين يتبجحون في قيلهم إن ما جاء في القرآن الكريم من قصص الأنبياء لا يدل على مفهوم القصة بقدر ما يدل على مفهوم الخبر.. على اعتبار "أن الفرق بين الخبر والقصة أن الخبر مستمد من الحقيقة وأن القصة من نسيج الخيال ولكن هذا غير صحيح" فـ"الفرق بين الخبر الذي يقتصر على تزويدنا بالمعلومات والخبر الذي يصور حدثا هو الفرق بين مجرد الخبر وبين القصة " كما يقول الدكتور رشاد رشدي في كتابه فن القصة القصيرة (7)..
لذلك نعتبر القصة القرآنية من خصوصياتها الرئيسة أنها تنبثق عن الواقع الحي، وتحكي لنا الحق المبين، ولا تخرج عن الحقيقة التاريخية قيد أنملة، وتصور ذلك تصويرا رائعا يساير مقومات الخطاب القرآني ذي البعد اللغوي المتين والبعد الموضوعاتي الهادف..
ولتفادي كل لبس فقد صرح القرآن نفسه بهذه الخصوصية، وأكد عليها كحقيقة ثابتة لا يمكن أن يطالها الشك أو الريب.. بشتى أنواع التوكيد حين يقول جل وعلا: ﴿ إن هذا لهو القصص الحق.. (آل عمران: 61).. حيث نجد في أسلوب الآية الكريمة نوعي التأكيد أو التوكيد: اللفظي والمعنوي، من مثل "إنّ" الحرف المضعف المعروف بحرف أو أداة التوكيد، ولام الابتداء الدالة على التأكيد وقد فصل بينهما باسم إشارة ليزيد في تأكيد هذه الحقيقة وتوكيد هذه الخصوصية، إنها طبيعة ذاتية وبنية داخلية يحملها هذا التوكيد اللفظي﴿ إن هذا لهو القصص الحق .. وهكذ يتأكد معنى الآية من كون القصص القرآني حق..وفي آية أخرى ينسب سبحانه وهو الحق جل وعلا عملية القص في القرآن الكريم بصريح العبارة لذاته كمرسل وسارد وفاعل أول عز وجل، وبنون العظمة والجلال، ليزيدها وضوحا أكثر على مستوى التوكيد المعنوي، ويعطيها مصداقية تامة لواقعيتها بشكل أمتن.. لقد أفرغ سبحانه على عملية القص من جلال اسمه هبته، ومن عظيم سلطانه قدرته، ومن اسمه الحق طبيعته.. وقال عز من قائل سبحانه وهو الحق وقوله حق في معرض الحديث عن أصحاب الكهف القصة ذات الطابع الأسطوري التي خلخلت مستويات التفكير المنطقي، وزعزعت ذوي القلوب المترددة والعقول المتقلبة.. فكيف إذا كانت هذه حقا وحقيقة وهي تسرد حدثا خارقا، لم يتمكن بعضهم من استساغته لما في قلبه..، ألا يكون ما سواها من القصص واقعا حقا:﴿ نحن نقص عليك نبأهم بالحق. إنهم فتية أمنوا بربهم وزدناهم هدى (الكهف:13)..
وتأتي آيات أخر لتؤكد القضية نفسها، وتثبت الأمر ذاته، وذلك أن الحق هو السمة البارزة لهذا القصص القرآني العظيم فيقول سبحانه:﴿وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ﴾ (هود:119) " حق وموعظة وذكرى " مكونات تتطلب متلق من نوع خاص، متمكن من أدواته التي تسعفه على رؤية وقراءة الحق والموعظة والذكرى من خلال الطبيعة التي تتمتع بها القصة في السرد القرآني..
هذا المتلقي هو "المؤمنون" الذين يقرأون ويتلون وينفعلون ويتفاعلون ويفعّلون تلك القراءة التي لا تحيد عن الطبيعة القصصية في القرآن الكريم على خلاف أولئك الذين يحاولون إفراغها من الحق والحقيقة والواقعية ويدخلونها في إطار المتشابه من القرآن.. ثم ينقلونها إلى عالم الأمثال التي تضرب لا لكونها حقيقة ولكن لكونها تحمل فكرة فقط ومن ثمة يسار إلى مفهوم الأسطورية التي نعت بها كفار قريش قصص الأولين في القرآن العظيم واقتدى بهم بعض كفار هذا العصر..(8)
إنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا من فوقه ولا من تحته ولا من أي جهة قد تخطر بالبال، لأنه بكل بساطة هو قص في ذاته حق ويحمل الحق وإن كان أغلب الناس لا يعلمون، ومن طبيعته توخي الحقيقة واتباعها.. ولأنه يحمل مكونات منطقية داخلية وخارجية تدفع متلقيه إلى الإيمان بصدقيته، فهو أولا وقبل كل شيء صدر عن الحق سبحانه: ﴿ والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ (الرعد: 1).. وهو جزء من الكتاب الذي أوحى به الله: ﴿ والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه﴾ (فاطر: 31).. وليس كذبا أو افتراء ﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ﴾ (يونس: 111).. وأخيرا نقول إنه الحق الذي صدر عن الحق سبحانه، ونزله روح القدس الأمين جبريل عليه السلام بالحق: ﴿ قل نزله روح القدس من ربك بالحق﴾ (النحل:102).. وأوحى به إلى رسول الحق صلى الله عليه وسلم والذي بلغه لكل الذين يحبون أن يتبعوا الحق ﴿ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ﴾ (يونس: 108)..
وهكذا يمكن أن تتسع شبكة العلاقات التي تربط بين حلقات الحق والحقيقة من المرسل الأول الذي هو الله عز وجل إلى المتلقي من الدرجة الثالثة في سلم العلاقات التواصلية والذي يعبر عن جملة المؤمنين كما سنبين في الترسيمة الإرسالية التالية التي تسيطر فيها معالم الحق المبين والحقائق التاريخية الواضحة..


المرسل (1) ــــ> الرسالة ــــ> المتلقي (1)/المرسل (2) ــــ> المتلقي (2) /المرسل (3) ــــ> الرسالة ـــــ> المتلقي (3)

l l l l l l

الله جل جلاله ـــــ> الوحي ـــــــ> جبريل (ع) ـــــــــــ> الرسول عليه السلام ـــــ> القصص الحق/الوحي ـــــ>المؤمنون


..++**// وللبحث بقية إن شاء الله تعالى //**++..