ثقافة اليوم - سعد الثقفي:
عن دار الكفاح للنشر صدرت مجموعة قصصية للقاص جعفر الجشي اختار لها عنوان الجمجمة، في اثنتين وستين صفحة من القطع الصغير، وهي اشارة لا تخفى دلالتها على القارئ الكريم إذا ما اعتبرنا الجمجمة هي كل شيء تقريباً في الإنسان، فهي مستودع الاسرار ومنبت الفكر، وبها حواس السمع والبصر والكلام أيضاً. ومن هنا كان لا بد وأن نعرف ماذا في جمجمة الجشي!.. وان كانت الجمجمة هي من قصص المجموعة التي تنفرد بدلالاتها ورموزها، ولكنه اختار اسمها لتكون عنوان القصة على أية حال.
في (سيماء الموت) ص 9يتبين بوضوح غرض وطريقة كتابة الجشي، في هذه المجموعة، فهي ذات غرض اجتماعي، لكنه يبتعد كثيراً عن التفاصيل المملة، ويكثف القصة بحيث تكاد تختزل كثيراً من التفاصيل، ولا يعنيه الاقتراب من التفاصيل أو حتى وضع نهاية للقصة، وهكذا تتجلى تقنيات السرد الحديث في الكتابة، وكأن القصة هي نمط أدبي يمكن أن يقترب من المقالة أو حتى من تقنيات قصيدة النثر، وهو ليس عيباً بطبيعة الحال، فما يهمنا في الحقيقة من أي فن أدبي هو غرض القصة، وجماليات الكتابة، وحتى جماليات الكتابة هذه تخضع لأمور شتى لا سبيل إلى سردها ونحن في غرض تقديم هذه المجموعة القصصية.
وفي (تلبسين الذري) 21نجد منذ البدء هذا العنوان الشاعري وكأنه لقصيدة سيكتبها القاص لا عنوان قصة، نقرأ:
ترغبين في اعتلاء عرض الوهم
تتطلعين لقمر قد تطول رجفته
تلهثين خلف أسطورة تمجدينها قد لا يعترف بها سواك.

في الحقيقة، هذا مقطع لقصيدة، ولغته شاعرية موغلة في تقنيات القصيدة، ولو أكملنا ما كتب سنجد ان القصة - القصيدة تنطبق على هذا القالب القصصي الذي اعتمد عليه الشاعر في الكتابة.
ويستمر في سرد تفاصيل بطلة القصة الطويلة وإن كانت القصة قد تجزأت إلى قصص ثانوية Sub shrtstory، هي على التوالي، سيماء الموت، تلبسين الذرى، يوم ممطر ومخيف، طريق الملح.. فهو في الواقع يتحدث عن واقع تلك المرأة الطفلة (الطالبة) الزوجة، وما يعتري حياتها من تغيرات، ابتداءً بما أفرزه العقل الباطن من أثر، وكان مسيطراً على دوافعها، ومحركاً لها في آن، وليس انتهاء بذلك الحب العابر الذي يشبه أي حب تقع فيه بنت في مثل ظروفها، وليس انتهاءً بزواج تحيط به مشاكل شتى على رأسها بالطبع مشكلة زوج يشك، ويشتم رائحة ما خفي، لكنه يتناول في الواقع القصة بطريقة جميلة، حيث يختلف الراوي تبعاً لما يود ايصاله، فالضمير تارة يعود للمرأة، وتارة للرجل، بحيث يستمر في بناء القصة على نحو جميل، حتى يتركها هكذا لنعرف نحن بالطبع، كيف يمكن أن تكون نهاية القصة المجزأة هذه، والنهاية سيكتبها القارئ تبعاً لفكره، وثقافته، وتبعاً لالتصاقه بالنص، وفك رموزه بطبيعة الحال.
في قصص قصيرة جداً ص 43يكتب الجشي قصصاً قصيرة جداً لا تتجاوز كل قصة منها السطر أو السطرين أو الثلاثة، وهي من القصص الموقعة التي لا تجود بتفاصيل تذكر؛ وانما تعتمد على ايصال فكرة ما أراد الكاتب أن يوصلها، وقد تكون فكرة فلسفية مثلاً أو رأياً للكاتب رأى ان يوصله للقارئ عبر أسطر معدودة تكفي لهذا الغرض.

وفي ظمأ الباقيات ص 63، قصة، فانتازية، ذات مشاهد متعددة، لن تفك رموزها عزيزي القارئ، إلا بعد عناء شديد، وهي في الواقع تتحدث عن تجربة ما، يختلط الخيال بالواقع وكل شيء يرمز في القصة لأمر عناه الكاتب، لكن المشاهد تفصح عن هذه الرحلة - السفرة العجيبة، ويبدو أن بطل القصة قد جرّب شيئاً جديداً، جعله، يعبّر عنه بهذا الزخم الهائل من الخيال، من الرموز التي جعلت من قصته أجمل وهي تتحاشى هكذا أن تكون واقعية مبتذلة، لن تستبطن كل شيء، وهذا من أجمل ما فيها.

في الديكة لا تصيح عند الفجر ص 54، تتناول القصة، مثالية شخص ما في زمن لا يحفل بالمثالية، زمن تموت فيه المثالية، وحتى المواطنة لدى البعض. فحين تدرك واجبك تجاه الحياة، تجاه الآخرين، فهناك من لا يحفل بك، ولا بما تفكر فيه، ولا حتى بالحياة التي من حوله، لذا عليك، أن تكون واقعياً، وتدرك أن الحياة لو كانت مثالية لما احتجنا لاشياء كثيرة نمارسها، ولقضينا على الروتين في حياتنا، ناهيك عن القضاء على التنظيمات، بل وكل شيء، سنكون في مدينة أفلاطون المثالية بالتأكيد، ولكن في هذه القصة، لا توجد مثالية، ويجب عليك أن تقتنع بأن هذا العالم مليء بالنواقص حين تبحث أنت عن الكمال، عن المثالية، التي لم يعد لها وجود في عالمنا المادي اليوم.
في الجمجمة ص 05وهي التي جعل منها عنواناً للمجموعة القصصية ككل. فالقصة موغلة في الكتابة العبثية - موغلة في الخيال، تحاول ان تجمع أشتاتها علك تخرج بدلالة رئيسة فقد لا تفلح، فهنا جمجمة، وهنا إنسان، وهناك يد ثقيلة تضغط على الجمجمة، وهناك أيد موحشة تقبض على عينيه، ولو قال تضغط لربما زاد الأمر خيالاً، المهم هناك ساعة أيضاً تشل التفكير وهي تدق عقاربها، وهناك ألوان متموجة، وكأن صاحب الجمجمة ينتظر أمراً ما! أو هو في طريقه للحدوث، ويدور حديث بين ذلك الإنسان وجمجمته، وهي تطلب منه الصبر والجلد، والصمود، لكن الكاتب ترك سبب التجلد هذا غامضاً، وحين يصل المشهد إلى عنفوانه، تبقى الجمجمة متدحرجة بعد أن غادرت موقعها، والساعة تواصل أنينها، وهكذا بقينا نحن نحاول أن نخرج من هول المشهد الذي رسمه الكاتب، دون أن يبلغ المشهد نهايته ودون أن تبلغ القصة ذروتها أيضاً. وفي منتصف الذاكرة ص 35لا تختلف تقنيات السرد عن بقية نصوص المجموعة، والقصة تقف على تحولات عاشها قروي بسبب الغربة، وهي أقرب قصص المجموعة واقعية إذا ما فورنت بنصوص اخرى.
الزبانية ص 95آخر قصة في المجموعة، تخرج بطريقة الكاتب، في معالجة نصوصه، بل حتى كيفية اختيار اغراضه التي يكتب فيها، وكيف يحيطها بهالة من الرموز حتى لا تكون سهلة المرام، قصة واقعية مثلا، بل لا بد من جعلها قصة رمزية ذات معنى ومغزى، ولا بأس ان تركها هكذا مفتوحة على مصراعيها فلا نهايتها معلومة ولا حتى بدايتها واضحة المعالم، ماذا يريد بالضبط!!؟، هل نقول ان قصته ضرب من الخيال، لن تفيد الاجابة بقدر ما سنخرج به من فوائد في ترك القصة هكذا معلقة بين السماء والأرض، ليعرف كنهها من يقرأ بعمق جعفر الجشي، الذي اضاف لمكتبتنا الأدبية مجموعة جيدة، وضح من خلالها أسلوبه في الكتابة بطبيعة الحال.
المصدر