( 11 )
*انتـــــــظار*
..................

أشرقت الشمس بنورها الفضي، وملأت القرية دفئاً وبهجة، وفرحاً واستبشاراً . وتدفقت جموع القرية على محطة السكة الحديد في انتظار القطار الذي سيحمل إليهم الجنود العائدين من الحرب في اليمن ، فقد ذهبوا إلى اليمن الشقيق لمؤازرته ، و"لإنقاذه من جهل العصور الوسطى ، وحكم أسرة حميد الدين" ، وهاهم اليوم يعودون بعد أن سجل التاريخ بطولاتهم "بحروف من نور في صفحات من ذهب" .
وبدأ القطار يظهر في الأفق ، واتضحت معالمه شيئاً فشيئا .. هاهو القطار الذي يحمل حُماة الحرية .. وناصري الحق !
وتوقف القطار وانطلقت الزغاريد ..
وكانت هناك ـ بجوار المحطة ـ خالتي "مباركة" ، وهي امرأة صغيرة الحجم ، عيناها غائرتان باهتتان ، خاصمتا الكحل من وقت طويل .
مشت بجاموستها الهزيلة إلى الحقل الذي تتأجر منه ثلاثة قراريط، ووضعت أمامها وأمام جديين صغيرين شقيين حزمتين صغيرتين من البرسيم.
كانت تعانق الخيال، وتتمنى أن ترى ابنها هو الآخر، وتبحث عنه بين جموع العائدين الذين شُغلوا عنها بالفرحة والزغاريد ودموع اللقاء.
قالوا لها ـ منذ شهرين ـ إن ابنك مات.
ابني قد استشهد.
جاءت إلى المحطة تنتظر، إنها تعرف أن ابنها في زمرة الأحياء، سيبقى خالداً في سجل الخلود.
الأمهات فرحات بأبنائهن العائدين، والأبطال تبدو عليهم فرحة غامرة (كأنهم لا يصدقون أنهم عادوا إلى أرض الوطن). ابنها أيضاً "بطل".. وهي التي صنعت هذا البطل ..ابنها الذي استشهد في جبال بعيدة .. وفي أرض غريبة .
مات أبوه وهو مازال في بطنها ، كانت ابنة أربعة وعشرين عاما، مات لها ثلاثة أولاد وبنتان قبله .. ترملت من أجله، وحتى يتربى أحسن تربية رفضت أن تتزوَّج. صحيح أنها ليست جميلة، ولكن جاء لها أرملان يعرضان عليها الزواج : محمد أبو سليم، وصابر الملاّحي.
بطل؟ إنها هي التي صنعت هذا البطل .. تاهت الكلمات، وارتطمت بمخيلتها .. وهي ترى كل أم تعانق ابنها. ليته يعود ليقوم بشأن الجاموسة والجديين والقراريط الثلاثة، لم أعد أتحمَّل يا محمود .. فهل عدت معهم؟
الزغاريد انطلقت تشق أجواز الفضاء .
حاولت أن تُزغرد ، أن تفرح مثل الناس . ولكن ابنها "محموداً" الشهيد الغائب كان قد ملك عليها روحها.
انفضت جموع القرية ، نزلت من الرصيف إلى حقلها المجاور ، كانت الجاموسة تحرك ذيلها بشدة تبعد عنها ذبابة كبيرة سوداء تضايقها ، والجديان الصغيران يمرحان ويجريان.
إن ابنها حي ، لم يمت ، هكذا قال إمام المسجد ـ الشيخ عبد الفتاح ـ .. سيعود يوماً، ولهذا فهي تنتظر.

التعاون ـ 1967