تعميد التعصب !

بقلم: أ .د . حلمي محمد القاعود
...........................................

لم يتوقف أحد عند خبر نشرته الأهرام في 25/3/2008م؛ ورد من ستراسبورج يتحدث عن تواصل المظاهرات في بعض عواصم العالم ومدنه احتجاجا على استقلال كوسوفا ، مما ترتب عليه استدعاء الاتحاد الأوربي لموظفيه العاملين في شمال الإقليم بسبب المظاهرات العنيفة هناك .
ليس المهم في الخبر خروج المظاهرات أو الاحتجاج على استقلال كوسوفا ، ولكن المهم أن هذه المظاهرات التي نسبت إلى ما يسمى نشطاء اليمين المتطرف ؛ اختلط فيها الاحتجاج على الاستقلال بالهتاف المعادي للمسلمين ، والدعوة إلى إخراجهم من أوربة .
يفترض في نشطاء اليمين أنهم متدينون متمسكون بالمسيحية وقيمها ، فلا يؤذون مواطنيهم ولا يدعون إلى تشريدهم ، ويتعاملون معهم بمحبة وأخوة ولكنهم في حقيقة الأمر ليسوا كذلك ، إنهم متعصبون ضد الإسلام والمسلمين . والتعصب ميراث تاريخي ؛ يتناقض مع قيم المسيحية السمحاء ، وأخلاق المحبة التي دعا إليها المسيح عليه السلام . الأوربيون بصفة عامة ، لايعبأون بالقيم الدينية التي ينتسبون إليها ، ويخالف معظمهم الوصايا العشر ، ولا يبالون بالطقوس الدينية الكنسية إلا في حالات الميلاد أو الوفاة أو الزواج .. بل إن الزواج صار في أغلبه مدنيا ، أي يتم أمام مكتتب التوثيق الرسمية دون حضور " رجل دين ".. لقد صار ذكر الإسلام أو المسلمين مستفزا للغربيين ، وينفجر التعصب الخبيء تحت قشرة التحضر والمواطنة والمدنية والعلمانية والحداثة ،وهي القشرة التي انخدع بها ، أو اعتنقتها بعض النخب عندنا وصدعوا بها رءوسنا . إن التعصب الهمجي يتناسى ما تلوكه أجهزة الدعاية ( الميديا ) الغربية عن حقوق الإنسان وكرامته وحريته ، ويتفجر غضبا وغيظا أمام لفظة إسلام أو مسلمين ، ويتجاوز كل الحدود الشائكة والخطوط الحمراء ، ليعبر عن تعصبه الذميم بوسائل مختلفة وطرق متعددة ، ولا يقتصر الأمر على عامة الناس ، ولكنه يمتد إلى رأس الكنيسة هناك ( بابا الفاتيكان) الذي لا يخافت في الإعلان عن تعصبه وكراهيته للإسلام والمسلمين ، واتهامه الكاذب للإسلام في محاضرته الشهيرة معروف ومعلوم ، فقد صور الإسلام بأنه دين القتل والإرهاب وسفك الدماء ولا يحب الآخر ، ثم قام البابا بنفسه مؤخرا في خطوة تعصبية فاقعة تؤكد عدوانيته ؛بتعميد شخص مصري ، قيل أنه كان ينتسب إلى الإسلام وتنصر !
هذا التعصب الرخيص ضد الإسلام والمسلمين يصب في خانة تحريض التعصب الطائفي المحلى ، ويشجعه على الاستمرار في التحدي والاستفزاز ، على أساس أن هناك من يظاهره عالميا ، ويناصره بالقوة ويقدم له القدوة والنموذج في كيفية إدارة الحرب الصليبية ضد الإسلام والمسلمين . بمعنى آخر أن ما يتردد عن الآخر والحوار معه هو مجرد حيلة من حيل الخداع والمكر التي لا تنطلي إلا على السذج والبلهاء الذين يعتقدون ، أن الآخر لديه قابلية للحوار والفهم والاقتناع ، بينما هو يصر على عدوانيته الهمجية ، الممنهجة والمقننة والمخططة في إطار زمني محدد ، يحقق على امتداده تصفية حساباته مع الإسلام والأمة الإسلامية .
إن بندكيت السادس عشر ، حين يتخلى عن واجباته الكنسية الكبرى ، ورعاية الطائفة الكاثوليكية التي تضم مئات الملايين في العالم ، وينشغل بصحفي مغمور من أصل مصري ، كان ينتسب إلى الإسلام وأعلن ارتداده لسبب عاطفي يتعلق بالحيلولة بينه وبين فتاة يهودية كان يحبها ؛ لهو أمر يثير كثيرا من التساؤلات والشكوك حول موقف الفاتيكان ومزاعمه التي تتحدث عن الحوار والتقارب والتسامح والسلام ، وتؤكد أن الرجل جاء ليكمل مسيرة " بطرس الحافي " الذي تقدم الحروب الصليبية الأولى لحظة انطلاقها عام 1905م من سان مونت كلير بفرنسا ؛ قائلا : إنها إرادة الله " ، أي إن الحرب ضد المسلمين ( الكفار ) ، والقضاء عليهم ، وتخليص بيت المقدس من أيديهم ، وحي إلهي يجب تنفيذه بالقتل وسفك الدماء !
الصحفي المصري المغمور ، الذي تنصر ، وعمده بابا الفاتيكان لن ينقص الإسلام شيئا ، ولن يزيد المسيحية شيئا ، لسبب بسيط ، وهو أنه دخل وقبله المسيحيون من باب التعصب البغيض الذي يزرع الشر والكراهية والإحن لحساب الشيطان لا حساب المسيح عليه السلام .. لقد سافر هذا الشخص المتعصب إلى إيطاليا قبل خمسة وثلاثين عاما ليدرس في جامعة إيطالية ، ثم عمل في عدة صحف إيطالية آخرها " كوريير دي لا سيرا " الصحيفة الإيطالية المشهورة ، ولكنه كان طوال فترة غربته متعصبا ضد بلده وأمته ودينه ، ومنحازا إلى العدو النازي اليهودي في فلسطين ، وزار القتلة اليهود هناك ، وأصدر عنهم كتابا يؤيدهم ويمتدحهم ويذم قومه وأهله ، فمنحوه جائزة " دان ديفيد " وقدرها مليون دولار، ومنذئذ صار طفلهم المدلل الذي أتيح له أن يكون صوتا عاليا في الدفاع عما يسمى اضطهاد المسيحيين في العالم العربي ، واليهود النازيين الغزاة وهم يقتلون الشعب الفلسطيني على مدار الساعة، وعن مذابحهم وتدميرهم في لبنان ، وخاصة في عدوانهم على الشعب اللبناني صيف عام 2006م !
إن الإطار التعصبي الطائفي المقيت الذي يتحرك من خلاله هذا الشخص كان ينبغي ألا يجلب اهتمام بابا الفاتيكان ورعايته له لدرجة أن يقوم بتعميده بنفسه .، في الوقت الذي ينادي فيه بالحوار ، ويخدع مجموعة ممن ينتسبون إلى علماء الإسلام اسما ، كي يذهبوا إلى مؤتمر يعقد في الفاتيكان تحت عنوان " حوار الأديان " .. ولا أدري ما ذا سيقول لهم تماما ، ولا أية ثمار ستنتج عن هذا الحوار الذي يصر فيه الداعي على جرائمه ، فضلا عن أنه لا يحترم ما يعتقدون ولا يرى فيه دينا سماويا حقيقيا نزل به الوحي من عند الله بينما المسلمون يؤمون بالمسيحية وعيسى عليه السلام ؟
لقد علل الناطق باسم الفاتيكان قيام " بندكيت" السادس عشر بتعميد المصري المتعصب المغمور ؛ بأنه يأتي في سياق دعم حرية الاعتقاد ، وللأسف فإن البابا لا يدعم حرية المسلمين في التعبير عن عقيدتهم ، وممارسة شعائرهم ، في داخل أوربة ، وفي بلاد المسلمين لأنفسهم ، بل إنه يحرمهم هذه الحرية ، ويرسل كتائب المنصرين لتجوب العالم الإسلامي بطريقة مباشرة وغير مباشرة لإكراه المسلمين على التحول عن دينهم ، والكفر بالإسلام ، والانضمام إلى ركب الصليبية المتوحشة ، وما تشهيره بالإسلام إلا حلقة من حلقات مخططه الشرير !
إن المهرجان الذي أقامه الفاتيكان لتنصير مصري مغمور وتعميده ؛ لا ينفصل عما يحدث على أرض مصر من سعي حثيث لاستئصال إسلامها ، وتحريمه على أهلها ، وإظهارها في صورة أخرى تناغي وترا حساسا لدى المتعصبين الطائفيين ، وتشبع رغبة التحدي الطائفي في إذلال الأغلبية الساحقة وقهرها ، تحت دعم معنوي دولي يأتي من الفاتيكان وأوربة التي تتظاهر لإخراج المسلمين منها..
من المؤكد أن الحرب الصليبية الوحشية التي يشنها الغرب على الإسلام والمسلمين ، ويقودها الفاتيكان ، ويسهم فيها نفر من المتعصبين الطائفيين في بلادنا ، تحقق بعض أهدافها لأسباب يعود بعضها إلينا في مقدمتها الغفلة والخيانة ، ولكنها على المدى غير البعيد ستجلب من الخسائر والكوارث ما لا يمكن حصره ، وسيدفع من يشعلون نارها الثمن الذي لن يتوقف عند احتراق أصابعهم وحدها...
...............................
*المصريون ـ في 2/4/2008م.