أزمة النقد حقيقية
*سؤال آخر.. يرتبط بهذا الموضوع، وهو النقد السائد في الساحة الأدبية، هناك من يقول بأزمة خانقة في النقد تسيطر على الساحة بأسرها، فهل ترى حقاً أن هناك أزمة نقدية؟
- إذا أدركنا الخلل الذي يحكم الحياة الأدبية بصفة عامة، استطعنا أن نقول إن هناك أزمة نقدية حقيقية، فالفساد الذي يخيم على الواقع الأدبي، من خلال المؤسسة الرسمية، حوّل الأدباء إلى جماعات وثلل متنافسة، ليس على الإبداع أو خدمة الثقافة، وإنما على المغانم والمكاسب التي يمكن جنيها من هذه الجهة أو تلك، ومن ثم فقد روجت كل "ثلة" لأعضائها، ووجدت النقاد الخاصين بها، وهم عادة نقاد يكتبون بلغة غير مفهومة، ولكنها دائما تكرس أعمال الشلة، وترفعها إلى أعلى عليين... من ليست له ثلة أو جماعة فلن يذكره أحد، فضلاً عن أن ينقده، وبعض الأدباء تحول إلى رجل علاقات عامة ليسوق أعماله أو كتاباته لدى الصحف وأجهزة الدعاية من تلفزة وإذاعة وندوات ومحاضرات وغيرها، ويستكتب النقادَ- خاصة في الصحافة- الذين يملكون مساحات أو نوافذ دائمة.. الأغلبية التي لا تملك القدرة على العلاقات العامة، ماتت كمداً وحسرة، خاصة إذا كانت ذات توجه إسلامي واضح.
وقد رأيت ما جرى بالنسبة لجيلكم، فقد سيطر "الهالوك" على مرافق النشر والنقد والدعاية، ولكن النتيجة كما توقعت أنهم ذهبوا، ولم يبق من آثارهم شيء، وبقي "الورد" هو الأقدر على التعبير، والأقدر على الإنشاد، مع أنه كان ضعيف الصلة بالمؤسسة الرسمية والجماعة أو الجماعات المهيمنة عليها.
الورد والهالوك
*أعدتنا الى "الورد والهالوك" كتابك الذي أحدث ضجة كبيرة عند صدوره، وتناولت فيه فريقين من شعراء السبعينيات، أحدهما سميته فريق الأصالة، والآخر فريق الهالوك أو المتسلقين.. ترى ما هو تقويمك الآن لما وصلت إليه في هذا الكتاب؟ وهل يمكن أن تقدم كتاباً يثير قضية مماثلة؟
- كتاب " الورد والهالوك" من الكتب التي كتبتها بدمي إن صح التعبير، فكل جملة، بل كل كلمة، بل كل حرف، كان وراءه فكري وأعصابي ودمي، وقد واجهت تياراً هادراً يملك كل شيء، الصحافة والإذاعة والتلفزة والمؤسسة الثقافية بكتبها ومجلاتها وصحفها، وندواتها ومحاضراتها وجوائزها، ونقادها ومؤتمراتها، وكان الترويج لأفراد هذا التيار لا يتم داخل الحدود وحسب، ولكنه كان يتجاوزها إلى أرجاء العالم العربي والصحف والمجلات ودور النشر في لندن وباريس وقبرص، وتاهت الحقائق، وضاع الفن، وسط الضجيج الصاخب الذي يروج لشعر يخلو من مقومات الشعر شكلاً وموضوعاً، بل تعدى إلى إهدار كل قيمة مضيئة فنياً وإنسانياً، في الوقت الذي تقوم فيه كوكبة من الشعراء على امتداد قرى مصر ومدنها الصغيرة بدور صامت في التعبير عن هموم الأمة من خلال فن جميل أصيل متجدد، دون أن يلتفت إليها أحد، أو يقدرها أحد.. وهنا كان دوري لأواجه التيار وأسبح ضده، وأنشر الحقيقة، وقلت رأيي واضحاً وصريحاً وجريئاً بفضل الله، وصح كل ما توقعته. واليوم لم يبق إلا شعراء الأصالة.. أما الهالوك فقد جف وأصبح هشيماً تذروه الرياح.
تسألني: هل أستطيع أن أقدم اليوم كتاباً آخر مثل "الورد والهالوك"، أقول لك: بعون الله أستطيع، بل إني أقدم بالفعل، ولكن في مجال الرواية ذات المنظور الإسلامي، فأنا أكتب عن كتّابها المهمَّشين وأقدمهم إلى الناس ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ولعلك تذكر كتابي "الرواية الإسلامية المعاصرة" الذي قدمت فيه شباباً ممتازين يكتبون الرواية الإسلامية باقتدار، من المغرب وفلسطين وغيرهما، وهناك كتاب جديد، أسأل الله أن يظهر قريباً، قدمت فيه أصواتاً روائية إسلامية جديدة أيضاً. ثم إني أواجه "الرواية المضادة" التي تعادي التصور الإسلامي وتدعو إلى ثقافة بديلة عن الثقافة الإسلامية، ولعل ذلك يظهر مستقبلاً- إن شاء الله- في كتاب.
إني أحاول دائماً أن أضع يدي على الحقيقة، ولا أعبأ بالضريبة التي أدفعها.. المهم أن يكون هناك رأي فني مخلص، ولتكن النتائج ما تكون.
الأدب الإسلامي موجود.. ولكن!
*لعل هذا يقودنا إلى سؤال عن الأدب الإسلامي، هل أنت راض عما يقدم من نماذج أدبية للأدباء الإسلاميين، وعن مستوى الأدب بصفة عامة؟
- هذا السؤال جيد للغاية، فهناك من يشنع على الأدب الإسلامي، بل هناك من ينفي وجوده أصلاً، ولعل أكثر المقولات رواجاً في هذا السياق، أن الأدباء الإسلاميين لم يكتبوا أدباً، وإنما كتبوا كلاماً وعظيّاً يصلح للمنابر فقط! ولكن الحقيقة غير ذلك. الإسلامي شعراً ونثراً موجود، وله نماذجه الجيدة والجميلة، وهي تفوق من وجهة نظري كثيراً من النصوص التي يكتبها الآخرون، ولكن المشكلة أن هذه النماذج قليلة نسبياً في الشعر، وقليلة إلى حد الندرة في الفنون السردية، القصة القصيرة والرواية والمسرحية، مع أن هذه الفنون هي الأكثر رواجاً الآن، ويتقبلها الناس بصورة ملحوظة.
قبل سنوات، كانت الفنون السردية الإسلامية شبه غائبة، ولكن مسابقات رابطة الأدب الإسلامية العالمية أحدثت تطوراً جيداً في هذا المجال، فقد أفصحت المسابقات عن كتابٍ مستواهم جيد في كتابة الرواية الإسلامية، وقصص الأطفال. ويبقى أن تعلن الرابطة عن مسابقات في المسرح الإسلامي، وتكرر مسابقاتها في مجالات الرواية وقصص الأطفال القصيرة؛ لأن المسابقات تكشف المواهب المخبوءة وتشجع المواهب الراسخة، وتساعد بصفة عامة على زيادة الإنتاج الأدبي، وخاصة في المجال السردي.
الأمور تتطور بشكل عام، والأدباء الإسلاميون يجوّدون أدواتهم، ويسعون إلى الأفضل، وأتوقع في السنوات العشر القادمة- إن شاء الله- أن يكون لدينا وفرة في الإنتاج الأدبي الإسلامي شعراً ونثراً.
حدث مهم
*بالمناسبة، ما تقويمك لدور رابطة الأدب
الإسلامي العالمية؟
- الرابطة حدث مهم، جاء مع مطلع القرن الخامس الهجري ونهايات القرن الرابع عشر، ودورها مهم في تجديد الأدب العربي بصفة عامة فهي تعيد إلى طبيعته التي ظلّ عليها إلى مطلع العهد الاستعماري في القرن الثامن عشر الميلادي تغيرت طبيعة الأدب العربي القائمة على التصور الإسلامي، إلى احتضان تصورات غربية مادية بعيدة عن روح الإسلام ومقاصده. وإذا عرفنا أن المسلمين في عصرنا يعيشون الاضطهاد في أسوأ أنواعه على الصعيدين الخارجي والداخلي، فإن وجود مثل هذه الرابطة يعد مهماً، لأنها تمثل حائط صد يدافع بقدر طاقته عن هوية الأمة، ويسعى، ولو بخطوات محدودة، إلى نشر صور التسامح الإسلامي من خلال النماذج الأدبية الإسلامية.
إن البعض يطلب من الرابطة ما يطلبه من مؤسسة حكومية ذات إمكانات كبيرة، وهذا أمر فوق الطاقة؛ لأنها تملك إمكانات محدودة للغاية، ومع ذلك تنشر مجلة فصلية، وتقيم الندوات والمؤتمرات في إطار قدراتها، وتستفيد من المقترحات والرؤى التي يطرحها المخلصون في الساحة الأدبية، والأيام كفيلة- إن شاء الله- بدفعها إلى الأمام خطوات أسرع وأفضل.
دور الصحافة في الأدب
*خطر لي أن أسألك عن دور الصحافة الإسلامية في العمل الإسلامي، والأدب الإسلامي، فقد كنت تشارك في تحرير "الاعتصام" و "الدعوة" و "النور" و"لواء الإسلام" وغيرها من الصحف التي أغلقت أو التي تصدر الآن؟
- لاشك أن هذه المجلات، وخاصة "الاعتصام"، كانت تلعب دوراً مهماً في إيقاظ الوعي الإسلامي والدفاع عن الإسلام وقضايا الممسلمين في شتى أرجاء الأرض. كان موقف هذه المجلات بصفة عامة، ولما يزل، موقفاً دفاعياً بالدرجة الأولى، وإن كانت لاتهمل الموقف البنائي الذي يعرِّف بأصول الدين وقيمه وتشريعاته، وعندما وقعت مصر اتفاقية الصلح مع العدو النازي اليهودي عام 1979م، كان مطلب الغزاة وسادتهم الأمريكان، هو إغلاق هذه المجلات. وبالفعل أغلق كثير منها بالتتابع، وفقاً لقانون الصحافة الذي صدر عقب توقيع الاتفاقية، ولم يتمكن أي من هذه المجلات من معاودة الصدور بناء على القانون الجديد، المقصود به الصحافة الإسلامية تحديداً؛ لأنها تقود المقاومة الفكرية ضد الهيمنة الاستعمارية والغزو النازي اليهودي لفلسطين وما حولها.
ومن المؤكد أن الصحافة الإسلامية تقوم بدور مهم للغاية في التعريف بموقف الإسلام من القضايا المطروحة، وتدافع عما يراد بالإسلام والمسلمين، وفقاً لإمكاناتها المادية والتحريرية.
وبالنسبة لمجلة (الأدب الإسلامي)، فقد كانت تنشر بين حين وآخر، بعض القصائد أو القصص، وقد أسست في "لواء الإسلام" المحتجبة باب "أدبيات" للعناية بالأدب الإسلامي وقضاياه، وكان في أول الأمر صفحتين ثم امتد إلى أربع صفحات، وظل حتى احتجبت المجلة بفعل ظروف قاهرة، وهناك الآن في معظم المجلات الإسلامية التي تصدر في العالم العربي صفحات مخصصة للأدب الإسلامي، وإن كان المأمول أن تزداد هذه الصفحات عدداً، وترقى إعداداً، وتعظم مادة.
الجامعات والمجتمع
*لنتوقف عند الجامعة.. كيف تراها بصفتك أستاذاً جامعياً ورئيس قسم اللغة العربية سابقاً، وعازفاً عن أي منصب جامعي كما أعلم؟
- الجامعة مثلها مثل المجتمع، أصابها ما أصابه من ضعف وخلخلة وأمراض، تراجعت التقاليد الجامعية، وصارت القوانين والقرارات تحاصرها وتحاصر هيئة التدريس بقصد إبعادها عن أداء دورها تجاه المجتمع والأمة، وأعداد الطلاب الكبيرة تفوق طاقتها وقدراتها. هناك أكثر من مليون طالب جامعي في المرحلة الجامعية، بعض الكليات لا تتسع لنصف عدد طلابها، بل لربع عددهم، وهيئة التدريس أقل من العدد المطلوب بكثير، وعضو هيئة التدريس اليوم- في الغالب- لا يملك مقومات التدريس وتقاليده وقيمه، وبسبب التدخل من خارج الجامعة، ازداد الصراع بين الأساتذة على المناصب الإدارية، وسقط البعض في فخ العمل لحسابات أخرى قبل العمل لحساب العلم، وأشياء أخرى كثيرة تثير الكثير من المواجع، قد أكتب عنها في يوم ما، وأمر الدراسات العليا سيئ وأكبر من أن نعالجه هنا، ولكن شيئاً واحداً يجب أن نذكره، وهو أن الجامعة صارت مطية لأصحاب الهوى الذين لهم أذرع غليظة وقبضات حديدية وقلوب حجرية!
أخبار أدبية
*اسمح لي أن أوجه آخر سؤال حول أخبارك الأدبية الجديدة؟
- ياسيدي أنا لست رجلاً مهماً يُسأل عن أخباره، فأخباري التي يجب أن تسألني عنها تتعلق بالأمل في الله أن يرحم المسلمين من الهزائم والآلام المتلاحقة، وأن يوفقهم ولو إلى عمل واحد من أعمال الخير التي تهمهم جميعاً وتقرب فيما بينهم.
أخباري - إن صح أن يكون لي أخبار- تتمثل في رغبتي أن أنشر بعض الكتب الخاصة بالثقافة الإسلامية، والنقد الأدبي في الرواية والشعر، ولدي مشروعات كثيرة، لا أدري هل سأكتبها أم لا؟ أسأل الله أن يعينني على تنفيذها، أو تنفيذ بعضها.