بين العمل الأدبي العربي والمنهج النقدي
*******
لا شك أن العمل الأدبي يساهم في تأسيس لغته أو مادته الواصفة، وتطوير صيغة نقدية ذات طابع خاص، وذلك تبعا لما ينفرد به من أرضية واقعية فنية، يجب اعتبارها عند النقد والدراسة، ومن ثم فإن أي عمل أدبي عربي تمتزج معطياته الأصلية وعناصره المتلاحمة في بوتقة واحدة، من أدب وتاريخ، وفكر وعقيدة، وغيرها من المكونات الرئيسة التي يكمل بعضها بعضا.
نحن إذن إزاء أحد أهم أركان القراءة المتميزة والفاعلة والمنتجة، المتمثل في مسألة اختيار "المنهج النقدي" المناسب لموضوع الدراسة الأدبية، واعتماد رؤية و قراءة نقدية مؤهلة لمحاورة ومعالجة أعمال أدبية لها واقعية محددة، وطبيعة معينة، والأحق بالاعتبار، حسب اجتهادنا، هو الخطاب الأدبي، سواء الشعري منه أم النثري، بقيمه التعبيرية والشعورية، لأنه أولا وأخيرا يعد بعضا من النسيج الثقافي والفكري الإنساني.
ثم إن هذا الضرب من الخطاب ليس وقفا على فرد بعينه؛ بل هو خطاب أدبي كوني ومعرفي فاعل، ولحظة في مسار التاريخ البشري، بحكم أنه مظهر جزئي للطائفة الاجتماعية وللإنسان في النهاية، أما عن المناهج النقدية، ففي رأيي المتواضع أرى من غير الصواب تقديم الخطاب الأدبي على المنهج النقدي، وأرى من الخطأ دراسة العمل الأدبي في ضوء منهج نقدي واحد.
إن القصد السليم، هو أن لا يتم إخضاع أي خطاب أدبي اعتباطا وبالإكراه لسلطة الأداة النقدية، وأن لا نترك الخطاب الأدبي يهيمن على المنهجية النقدية التي سيعتمدها في ممارسته النقدية، وذلك محاولة منه لإقامة حوار نقدي إبداعي بين العمل الأدبي ومنهج الدراسة والتحليل، باعتبار أن العمل الأدبي كائن لغوي حي، له ظروف معينة وخصائص محددة، ثم إنه تجربة مفتوحة باستمرار من أجل القراءة، والمطلوب هو استكشاف ما يزخر به من حياة داخلية وإبراز فاعليته.
إن الخطاب الأدبي سيعين ناقد الأدب على انتقاء المنهج النقدي الملائم، ما دام أن روح ذاك الخطاب وطبيعته هي التي بإمكانها أن توحي بالأداة أو المقاربة النقدية، التي ستوجه سعي الناقد الأدبي، وهذا بالطبع مبدأ علمي واضح، لا يتعارض مع أهداف وتقاليد البحث الأدبي العلمي في شيء، ثم إن من واجب الناقد الجاد أن يسعى بالمنهج الذي يعتمده إلى بناء وإنتاج معرفة ومعاني جديدة، ومن المؤكد أن المنهج النقدي المناسب يستمد أسباب وجوده من النصوص الأدبية الإبداعية المشتغل عليها.
ومعلوم أن المناهج النقدية ما هي في الأصل إلا وسائل وأدوات مساعدة على سبر أغوار عمل أدبي معين، وليست غاية في حد ذاتها، وهي بالتالي قراءات متكاملة رأت النور بفضل الأدب وقوته الإيحائية، وحتى الآن لم يبلغ النقد اكتساب الصفة العلمية بالمعنى الصحيح والدقيق، إذ على الرغم من وجود اتجاهات نقدية جديدة، كالبنيوية، والأسلوبية، والتفكيكية، التي تجتهد في توظيف بعض المعطيات العضوية للعمل الأدبي أثناء الممارسة النقدية، فإن أي نص إبداعي يظل يحتفظ بجملة عناصر لا سبيل إلى استقرائها إلا باعتماد ما يتوفر من ذوق وحس لغوي وأدبي رفيع عند الناقد.
ففي البدء كان "الخطاب الأدبي" وبعد ذلك لحقت به "الممارسة النقدية"، ثم لازمته وتطورت إلى مناهج، فأصبح النقد الأدبي لحظة وعي مسخرة لسبر غور الأعمال الأدبية، من خلال البحث عن غاية الكاتب ومقصده، واستقصاء تجليات ذاته، واقتفاء تأثير خطابه، ثم ضبط وعيه بالأشياء، واستقراء الظواهر والفضاءات، وكذلك إزالة النقاب عن العلاقات اللفظية والمعنوية الخفية في قلب الخطاب الأدبي.
ونحن من هذا المنطلق وهذا الاقتناع، نعتقد بأن اللجوء إلى فرض منهج نقدي بالقوة على أي خطاب أدبي لا يصله بسبب، هو عمل غير صائب، وخطوة لا تندرج ضمن المبادئ العلمية السليمة، خاصة وأن الأمر لم يعد مجرد تجريب زخم هائل من الرؤى والأدوات النقدية، التي أفرزتها جملة من المناهج الغربية على نتاج الأدب العربي، قديمه وحديثه؛ بل إن كل أداة نقدية وافدة صارت توظف في غالب الأحيان اعتباطا، ودون فحص أو تمحيص.
إن هذه الظاهرة المتفشية هي من بين الأسباب الوجيهة التي تبعث الناقد الأدبي الجاد حتما إلى التعامل بحذر شديد مع المناهج والدراسات الغربية، المتعلقة بأي عمل أدبي عربي، لكون أكثرها رصد وخصص لدراسة ونقد الأدب الغربي، سواء على مستوى التنظير أم على مستوى الممارسة والتطبيق.
إن فرض أي منهج بالقوة على الأعمال الأدبية العربية القديمة والحديثة على حد سواء، كفيل بتكريس عملية أو معالجة نقدية منحرفة، ومن شأنه كذلك أن يسفر عن لغة واصفة عقيمة، ثم من المؤكد أن يظل أي عمل أدبي عربي مغتربا إذا ما تعمد الناقد الأخذ بممارسة نقدية غير سليمة، بل وسيتم إلغاء هويته وطمس أسئلة الذات الكاتبة والمنتجة له، عندما يصير تباهي الباحث بالمفاهيم والمناهج النظرية الغربية غشاوة سميكة، تحول بينه وبين الاهتمام بالعمل الإبداعي، والإنصات إلى الأصوات والأصداء المترددة فيه، مما يجعله بعيدا كل البعد عن تقديره حق قدره.
إذن فليس الأدب وثيقة ذات بعد واحد، يزج بها البعض مثلا في أسر التاريخ، أو الاجتماع، ويودعها البعض الآخر في دائرة الفن، أو الفلسفة، أو العقيدة؛ بل إن الأدب حياة متشعبة ومستقاة من واقع الإنسان.
ثم إن الأدب العربي، وهو جزء من الأدب العالمي، ليس حرباء أدبية تتجاوب وتنسجم مع جميع المناهج النقدية الوافدة من خارج البلاد العربية، علما بأن العمل الأدبي العربي كائن لغوي يأبى أن نختزله في نعته بالوثيقة التاريخية أو الاجتماعية تارة، وفي وصفه بالوثيقة الإجتماعية تارة، وتارة أخرى في تعريفه بالصورة النفسية أو الظاهرة العقدية، فهو أدب يستجيب للدراسة النقدية، بشرط أن ننظر إليه على أنه نتاج أدبي ابن بيئة محددة، وذو أبعاد متنوعة، ومستويات مختلفة، وخصائص مركبة لا يستغني بعضها عن بعض.
ومن ثم فإن المبدأ الأدبي سيظل مدخلا طبيعيا لنقد ودراسة الأدب العربي، ذلك لأن المادة الأدبية هي البوابة الرئيسة الخاصة بالعبور إلى فضاءات الإنتاج الأدبي، والعنصر الأساس المساعد لنا على كشف ما يزخر به هذا الإنتاج من عمق فكري وفني وروحي، وبالتالي الوقوف على أبعاده ومدى قوته التواصلية.
لقد أولى معظم الباحثين والنقاد العرب والأجانب اهتمامهم بالمنهج التاريخي في دراسة الأدب العربي، باعتباره ظاهرة حضارية لها جذور ونشأة، وتحولات مطردة، تحكمها عوامل وظروف معقدة، وتغذيها سياقات اجتماعية وثقافية، وسياسية، وعقدية وفكرية مختلفة، كذلك المنهج النفسي كان بدوره محط اهتمام بعض النقاد والباحثين، وهو منهج يستطيع أن يغني دراسة الأدب العربي بوجه عام، لكن ثمة من يسرف في اعتماد "المنهج النفسي"، فيسقط في كثير من التعليلات والتأويلات المتكلفة، التي يستقيها من "علم النفس" أكثر مما يستخلصها من العمل الأدبي، في حين أن الاعتدال في الدراسة النفسية، يقتضي عدم الخلط بين النقد الأدبي والتحليل النفسي، الذي يجب أن يبقى أداة مساعدة فقط على كشف وتوسيع الآفاق الممكنة في ضوء الإنتاج الأدبي.
صحيح أن توظيف المنهج النفسي أو المنهج التاريخي أمر لا يتعارض وطبيعة سائر الأعمال الأدبية العربية، لكن الاقتصار على منهج واحد، أو على عدد من المناهج في معالجة هذا النمط من الكتابة والتعبير هو تقصير وضيق في الأفق النقدي، إذ أن الدراسة النقدية لا تقوم فقط على العرض التاريخي أو بحث التجليات النفسية، أو حتى استقراء العناصر الفنية والقيم التعبيرية والشعورية؛ بل هي رهينة بتسخير جميع المناهج النقدية المناسبة في تكاملها، وذلك من خلال الاستعانة بأبرز وأهم أدواتها، والاستفادة من أدق أساسياتها قدر الإمكان.
أمام تنوع المناهج النقدية المختارة من طرف نقاد الأدب العربي والباحثين فيه، نعتقد أن الحسم في مسألة اختيار المنهج المناسب لدراسة ونقد أي عمل أدبي عربي، يقتضي العودة إلى ما يتمثل فيه من خطاب، وذلك لضبط أهم مرتكزاته، وهذه العودة من شأنها أن تساعد الناقد الجاد على تحديد دعائم المنهج النقدي الملائم، الذي بإمكانه أن يفي بممارسة نقدية علمية، مستوحاة أصلا من طبيعة العمل الأدبي.
ولا شك أن الرأي سيستقر بالناقد المتبصر في نهاية المطاف النظري على توظيف منهج نقدي مركب ومتكامل، أو ما تم الإصطلاح عليه بالمنهج النقدي التكاملي، الذي يرتكز على رؤية نقدية واسعة وشاملة إلى حد ما، إيمانا من معتمديه، في مقارباتهم للأعمال الأدبية العربية، بضرورة الاستفادة من مناهج نقدية مختلفة في نقد ودراسة عمل أدبي عربي معين، ولا شك أن منطلق النقد الأدبي ابناء هو محاولة إنجاز قراءة دقيقة، يطرح ناقد الأدب في مختلف أطوارها العملية أسئلة جد مركزة، بهدف أن يفتح بها آفاقا جديدة وفضاءات مغمورة في أجواء ممارسته النقدية، مستعينا بخلاصة ما انتهى إليه من قراءات نقدية منهجية.
فالمنهج النقدي مثل الأدب، يرتكز بدوره على خبرات مكتسبة، وقد تحدث عدد من النقاد والباحثين كثيرا عن المنهج النقدي التكاملي، ونذكر من بينهم على سبيل المثال: سيد قطب، وأحمد كمال زكي، وشكري فيصل، وشوقي ضيف، وعبد المنعم خفاجي، وجورج طرابيشي، ويوسف الشاروني، وعمر محمد الطالب، ولا شك أن المنهج النقدي التكاملي هو أداة تستقي قوتها من ممارسة نقدية مركبة، تجمع بين المعطيات الفنية والتاريخية، والأبعاد النفسية، والاجتماعية، والعقدية، أما الشرط الوحيد في بناء هذا المنهج النقدي، فهو الارتكاز على رؤية نقدية شمولية واحدة، والأخذ بكل أداة منهجية صغرى تستجيب لهذه الرؤية وتوظيفها.
لاشك أن الكلمة الفصل في موضوع المنهج النقدي المناسب لنقد الأعمال الأدبية العربية، هي أن هذه الأعمال تمثل أولا وأخيرا النبع الذي تنبجس منه مناهج دراستها، والبوابة التي تمكن من النفاذ إلى جوهرها، وحسب ما نعتقد لن يستطيع أي منهج نقدي بمفرده أن يوفي توظيفه معالجة شاملة ودقيقة لأي عمل أدبي عربي، لأن الناقد سينظر من خلاله إلى هذا العمل نظرة جزئية، في حين سيهمل الجوانب الأخرى، خاصة إذا استحضرنا في الأذهان ما للأدب العربي قديمه وحديثه من امتداد في الزمن، وسعة في المكان، وواقع في اللغة.
إن منتهى ما نقصد إليه من خلال ما أثرناه في هذا الباب من رأي متواضع حول علاقة العمل الأدبي العربي بالمنهج النقدي، هو دعوة سائر نقاد الأدب إلى الاجتهاد ما وسعهم الاجتهاد في نقد ودراسة الأدب العربي بأقصى ما يمكن من الإحاطة العميقة دون الاستسلام للسطحية، وذلك باعتماد الإفادة مما في مختلف المناهج النقدية من تكامل على مستوى الأدوات الإجرائية، وعلى مستوى ما انتهت إليه من نتائج علمية، وما بلغته من عصارة وحقائق.
د. أبو شامة المغربي