خروج
كانت رأسه فارغة من أي إجابة عن أسئلة شتّى كانت تتصارع على خاطره.. أين أنا؟ و من جاء بي إلى هنا؟ و كيف جئت؟ و لماذا؟ و من قام بتجريدي من كلّ ثيابي؟ و أي جرم أتيت حتى أحاط بكل هذه الأكوام من الرّجيع؟ إن كانت الباقية، فما أبعد ما ألقاه عمّا أعدّ للنظراء و الأقران، و إن كانت الفانية، فما هذه نهاية شخص يشار إليه بالبنان!
كلّ جهوده لإمساك طرف خيط يساعده على التعرّف عن الظروف التي ساقته الى هذا المكان المنتن قد ذهبت سدى و باءت بالفشل.. ممّا ضاعف ضيقه و زاد في كربه، جهله التامّ بحقيقة السواد الذي يغلّف المكان، أهو بسبب الظلمة التي إحتوشته و أطبقت عليه أو بسبب فقدانه البصر؟
كان الصمت يلفّ المكان في الغالب، لكنه يقطع بين الحين و الآخر بهتافات بعيدة ذات و تيرة واحدة قد اختلطت بفرقعات مدويّة تارة أو بأزيز صليات رصاص متقطعة تارة أخرى.
النتونة تملأ المكان و تكتم الأنفاس.. المحاولة الوحيدة التي بذلها للوقوف باءت بفشل فعقوبة.. فما أن غادرت ركبتاه الأرضية الدّبقة، حتى أنزلق مكبّا على وجهه، و ما إن همّ بذكر أوّل حرف من لفظ الجلالة حتى أنهالت على قفاه لطمة مدويّة زلزلت أركانه و هدّت كيانه و صكّت هامته بالأرض، قبل أن تشفع بصوت غليظ وصله زاجرا:" ما تنبغي لك يا خباث!" لأجل ذلك، كفّ منذ المحاولة الأولى عن مجرّد التفكير في الوقوف أو في طلب الرحمة الربّانيّة، مكتفيا بالزحف، شاقّا طريقة المنتن بين ركام الرّجيع الآدميّ، باحثا عن منفذ للخلاص، حتى اصطدمت يمناه بنتوء معدنيّ شرع يزحزحه رويدا رويدا حتى تمكّن بعد محاولات عديدة، من تحسّس فراغ دسّ فيه يده حتى تبيّنت له درجات فولاذية ساعده تلوّث جسده بالقاذورات على الإنزلاق فوقها رويدا رويدا، حتى غلب على أمره فتسارعت وتيرة انحداره مما نتج عنه اصطدام هامته بجدار مكسوّ بقطع زجاج بارزة، أعملت في فروة رأسه تمزيقا، و أسالت دما غزيرا شعر به حارّا وهو ينحدر فوق جبينه ثم انفه، قبل ان يستقر جسده على أرضية شديدة البرودة و النتونة معا.. كانت كثافة المخلفات البشرية أقل في هذا المكان ممّا شجعه على النهوض.. ما ان استقام واقفا، حتى تراءى له بصيص نور ينبعث من بعيد، ما ان همّ بذكر الجلالة حامدا نعمة البصر، حتى تلقّي ضربة أوقعته أرضا تلاها صوت يصيح به زاجرا: " لست أهلا لها يا خباث".. بمجرّد اقترابه زحفا من مصدر النور، ألفى نفسه في مصعد أسود الحيطان، شديد الضيق كثير النتونة سرعان ما فتح أمامه مبديا عن انسان آلي دون رأس، ما إن دنا منه، حتى أنحنى نحوه ثم قام بانتشاله كخرقة، مثبتا إياه على أرضيّة المصعد قبل أن يتولّى أمساكه بكلتا كتفيه العاريتين ثم إدارته الى الوراء، ملصقا ظهره العاريّ الملطخ الى صدره المعدنيّ البارد، قبل أن يشرع في التحكّم بذلك المصعد المنتن الكئيب صعودا و نزولا، وكلّما همّ بسؤال الرّجل الآلي:" أين أنا. أو ماذا يراد بي ؟" إمتدّت يد معدنية ذات أسلاك نافرة، لتضغط على زرّ بجانب المصعد الذي لا يكاد يفتح كل مرّة (إمّا على غرفة معطرة ذات أرائك مصفوفة، و إمّا على حديقة غناء ذات فواكه وطيور زينة، و إمّا على صالون تبدو فيه زوجته كأكثر ما كانت شبابا) حتى يهمّ بمغادرة المصعد هربا الى الغرفة المريحة، أو الحديقة الغنّاء، أو الزوجة الصّبوحة، و لكنّ رجليه كانتا لا تطاوعانه، فيظلّ مسّمرا في مكانه، مستغيثا بكلّ ما يملك من صوت" "أريد الخروج، إبّي أخرج" وصوت معدنيّ يصكّ سمعه:"الخروج حرام حرام حرام" فيما باب المصعد يغلق تدريجيّا أمام ناظريه مضاعفا حسراته...في كرّة أخرى وحين فتح باب المصعد، ظهر سرير ملكيّ وثير تتوسّطه ممثلة مصريّة معروفة(كان و لا يزال يكتم عشقها) و هي تدعوه بحركات مغرية للخروج إليها و اللّحاق بمخدعها.. حين همّ بالخروج تسمّرت قدماه أرضا، قبل ان يصله نفس الصوت المعدني مبلّغا " الخروج حرام حرام حرام. قبل إحياء من أمتّ يا حبيب الظلاّم".. كان يقف عاجزا عن فهم ما يقال، عجزه عن ردّ الجواب، حين ثنىّ الصوت قائلا " الخروج حرام حرام حرام . قبل إعادة الحياة الى أمثال هاته الرفاة" ما ان أتمّ الرّجل الآلي كلامه، حتى أختفت الغانية المصريّة مفسحة المجال لمشرحة شديدة بياض الطّلاء، توسّطتها جثة الشابّ الشهير ثامر الخلفاوي (أوّل من صرعته رصاصات قوّات قمع المظاهرات) على الشكل الفظيع الذي أظهرته قناة الجزيرة في أكثر من مائة عرض.. ثم صوت الرجل الآلي المقطوع الرأس يصيح به مزمجرا:
" يا أخا الحيّات، أعد لهذه الحياة، وإلا فلا خروج الا الى سقر لا تبقى ولا تذر"
حين ردّ مدافعا:
" ما أنا بقاتل ما أنا بقاتل"شرع الرجل الآليّ في رجّ كتفه الى حدّ آلمه، ممّا دفعه إلى الإمساك باليد المعدنيّة محاولا صرفها عنه.
ـــــ 2ــــ
تنفّس مفتي الجمهورية الصّعداء حالما فتحت عيناه على نور غامر يملأ أرجاء غرفة فارهة و فراش وثير و ملاحف نظيفة و حيطان مصقولة.. استغرق في حمد الله على خلاصه من كابوس مروّع، بشكل أذهله للحظات عن إطلاق سراح يد خادمة فلبينيّة مذعورة كانت تقف الى جوار سريره الملكيّ المزخرف بماء الذهب، حاملة في يدها الطليقة جهاز هاتف منزليّ فاخر بلون الدمّ :
ـــ مكالمة من رئاسة الجمهورية!
وهو يتناول السماعة بيد مرتعشة و قلب خافق، أشار مفتي الجمهورية على الخادمة بإيقاف زعيق قناة الجزيرة الذي كان
يصله هادرا: و على نسق متصل رتيب:" الشعب. يريد. إسقاط النظام. الشعب يريد. إسقاط النظام".. حالما تأكّد من خلوته، اندفع بوجه مشرق:
ــــ ألو .. صباح النور.. أبدا يا صاحب الفخامة.. كنت مستيقظا.. عفوا.. عفوا واجبي كان يحتّم عليّ ذلك.. أرجو من الله تعالى أن يتقبّل منكم كلّ هاته القرابين البشرية التي بشرتنا و ستبشرنا قناة الجزيرة بسقوطها حتى تمرّ هاته الضائقة بسلام.. أقول هذا خصوصا و نحن في أشهر حرم تتضاعف فيها الحسنات.. بلى بلي يا سيدي الرئيس.. كن واثقا ثقتك بالله تعالى، أنّ كل هذه القرابين التي حصدتها و ستحصدها قوّاتك المظفرة بمعونة و توفيق من الله تعالى، ستكون بلحومها و شحومها و أشعارها و حتى ما في بطونها من أرز بالكاري و من غير كاري في ميزان حسناتك يوم يقوم الناس لربّ العالمين.. لأنكم تواجهون كفرة فجرة لا مرية في انسلاخهم من الدين... ألم يرد عن أئمة السلف انه يحرم على كل مؤمن أن يبيت ليلة وهو ينكر شرعية الحاكم حتى لو كان ظالما غشوما؟ ألم يقل خاتم الرسل من خرج عن الجماعة ثم مات فميتة جاهلية؟ ألم يقل ايضا " من رفع عنا السلاح فليس منا"؟ الم يأمر عليه السلام أمته بالصبر على الحكام الظلام، و ان جلدوا الظهور و أغتصبوا الأموال؟ فما بالك بالصالحين من أمثالكم؟.. و الذي برأ النسمة و فلق الحبة ليجازينّك الله يا فخامة الرئيس بقدر ما تجتهد في إراقة دماء الخوارج الملاعين، لعلمه تعالى بأنكم تتقدّمون بكل تلك القرابين خالصة لوجهه الكريم و على مذبح الوطن و نصرة للدين، لا لغرض شخصيّ أو منفعة عاجلة، بل صيانة منكم لوحدة الأمة و أمنها و إستقرارها و دوام عزتها و كيدا لأعدائها المتربّصين.. ثم ها أنا أضيف لفخامتكم من الشعر بيت... فمن علامات الساعة التي وردت في حديث مطوّل غفل عنه حذّاق أهل العلم، ما رواه بن عمران و قال عنه الفضّي: حسن صحيح عن النبي عن معاذ بن سهل في باب الفتن و الملاحم و أشراط الساعة "من علامات دنوّ الساعة، ظهور آلة من حديد تكلّم الأقوام كلاّ بلسانه، و تدركهم بجديد الأخبار في إبّانه، حتى لو غاصوا في جوف الأنهار أو نأت بهم الدّيار،(و هي فيما أعتقد التلفزيون)، ثم لا يزال الناس كذلك في هرج و فتنة، ممّا تبثه فيهم تلك الدابّة التي
لا تذر مخدعا إلاّ دخلته، و لا ماخورا إلاّ ولجته، ولا محلّ ريبة و لواط الا نقلت منه ما يجرى فيه من إثم و خلاط، ثم لا يزال الناس كذلك، حتى يخرج من خضرائهم ـ و أعتقد يا فخامة الرّئيس و قد حصحص الآن الحقّ و ظهر إعجاز الحديث، أنّ المقصود تونس الخضراء، منبع الفتن و مصدر البلبلة و البلاء ــ قلت حتى يخرج من خضرائهم بعض النابتة الطغام، بمنظوم كلام يستنكره الأريب، و يجتذب كلّ مريب، كلام يصاغ في واشنطن أو في تلّ أبيب، يردّده كفرة غوغاء، صلتهم بدين محمد كصلة الأرض بالسماء أو صلة عبير الزهور بالفساء، يردّده الطغام بتتابع موسيقيّ و إنتظام: "الشعب. يريد. إسقاط النظام" فمن ذبحهم من الحكّام فهو مؤمن، و من رشّهم بغازات فهو مؤمن، ومن أستقبلهم برصاص أو راجمات فهو مؤمن، ومن تطوّع بعرقلة مسيرتهم فهو مؤمن، ومن سدّ عليهم منفذا فهو مؤمن، ومن لعنهم فهم مؤمن، و من لزم بيته بعد تهشيم دابّته المذكورة (التي لن تدع بيتا من حجر أو مدر الا دخلته) ثم شغل نفسه بالدعاء و التضرّع الى الله لنصرة ولي أمره فهو مؤمن، و ليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل، أخّ على وجوه هؤلاء و تفّ، جفّت الأقلام و رفعت الصّحف. و سيكون أجر اعتكاف المؤمن في بيته و حرمانه المشاغبين من تكثير سوادهم كأجر اعتكاف ليلة قدر في جوف الكعبة! ثم طوبي لك يا فخامة الرئيس، وقد حزت قصب السّبق في القتل و السّحق. قاتلهم الله أنّى يؤفكون" و سيعلم الذين ظلموا ــ و قيل في قراءة غير مشهورة و سيعلم الذين تظاهروا ــ أيّ منقلب ينقلبون"... بارك الله فيك و أعلى الله مقام معاليك... شكرا فخامة الرئيس.. هذا شرف لا أستحق معشاره، و معروف لا تمحى آثاره .. عفوا عفوا أنا قطرة من محيطك وورقة من دوحتك.. يا فخامة الرئيس إن كانت العناية الإلهية قد شرفتني أنا العبد الحقير بخدمة الدين، فقد شرّفك ربّ العالمين حين أتاك الملك وأصطفاك لخدمة الوطن والدين معا.. حياك الله و أطال حكمك الرشيد.. دمت في حفظ الله و رعايته.
ــ 3 ـــ
ما ان أتمّ مفتي الجمهورية مكالمته الرئاسيّة، حتى دخلت عليه ابنته المطلقة نوال حاملة صحيفة المساء مع قهوة ما بعد القيلولة، ثم أ فادته بأنه قد تمّ إصلاح دورات المياه التي انفجرت ماسورتها منذ ساعات، و بأنها قد قامت حسب أوامره بطرد السائق الهنديّ الأخرق الذي عمي عن رؤية إنسان آلى بحجم طفل صغير كان قد أهدي الى ولدها بمناسبة عيد ميلاده الرّابع، مما تسبّب في كسر يد الروبوت و فصل رأسه عن جسده، كما توسّلت إليه كثيرا من أجل الإبقاء على الخادمة الفلبينية التي تهاونت في ترك الحفيد المدلّل و هو يتلاعب بالمتحكم عن بعد مما أقلق نومه. و قبل مغادرته، سألته حول ما يشاع من حديث فتن راج على لسانه، فردّ عليها بأنه "مجرّد كلام فاضي" أراد به إثارة حماسة قوات الأمن حتى لا يكلّ حزمها عن مطاردة أعداء الوطن و الدين، و حين نبّهته من خطر التقوّل كذبا علي المصطفى، ردّ عليها بانه يتقوّل للرسول لا على الرسول، خدمة لدين الله، و أن له من جبال الحسنات ما يذهب قليل السيئات. و حين سألها متوتّرا:" ألم تحضر أمك بعد من منزل خالتك؟" ردّت عليه بأنّ الوالدة لم تعد الى البيت، لأن إحياء أربعينيّة ابن أختها ثامر المخلوفي لم ينته بعد.
ـــ 4 ـــ
إثر انصراف ابنته و حين هم مفتي الجمهورية بتناول أول رشفة من قهوته المسائية طالعته صورة فضيلته في الصفحة الأولي من جريدة الغسق و قد كتب تحتها وبعنوان غليظ " فضيلة الشيخ مطيع عبد السلام يواجه المشاغبين: الخروج حرام حرام حرام!! ضحك الشيخ طويلا ثم شرع يحدث نفسه :" الحمد لله الكريم المهيمن، ما رأيناه ليس بحلم الصدّيق يوسف، طريد الحسان، و لا صاحب العجاف والسّمان، كان فقط مجرّد هلوسات سمعيّة بصريّة لا مغزى لها بالكليّة.
هرش مفتي الجمهورية شيبته ثم استمر محدثا نفسه : " حلم الجوعان أرانب بملوخيّة، و حلم العانس، الفتى مهنّد بطل السلسلة التركية، و حلم السّجين حريّة، و حلم شيخ مثلي غدت قرينته كسحلية: ممثلة إغراء مصريّة، الحمد لله ربّ البريّة على انقضاء كابوس لعين حشي بأضغاث أحلام جاءت وفق التفسيرات العلميّة، كترجمة أمينة و حرفيّة لهموم يوميّة.. اللهمّ أنصر عساكر رئيس الجمهورية!
أوسلو 17 أكتوبر 2011