مقالات في موسيقى الشعر (1)
وبعد، فإني أعدّ هذه المقالات مشاركةَ مني، وإن كانت متأخرة، في تكريم الأخ الفنان المبدع (محمد العربي أبو حزم)؛ ولئن كان تعذر علي أن أحضر حفل مراكش لتكريم هذه الموهبة المتفتحة الواعدة المقتحمة المتوكلة على الله، فإني أرجو أن تتدارك هذه المقالات ما فاتني في هذه المناسبة، لأني أنشرها بنِـيّة المشاركة في هذا التكريم.
وخيرا فعل الإخوة والأخوات في مراكش، لأن الناس عوّدونا أن يكون التكريم بعدما يبلغ الإنسان من العمر عتيا، وهناك عباقرة أفذاذ لم يُـلتفت إليهم ولم يعرف الناس قدرهم إلا بعد موتهم. وإني لمَعَ التكريم والمُكَرَّم (بصيغة المفعول) في عنفوان العطاء والإبداع، ليكون ذلك اعترافا وتقديرا إيجابيا للجهد المبذول، وحافزا مشجعا على مزيد من الحفر والتنقيب والاستكشاف.
حياك الله يا أبا حزم، واعلمِ أني ممن يتابعون، بجد واهتمام، إبداعاتك، المقروءة والمسموعة، على الأقل ما أستطيع الوصول إليه منها. وإني لأحيي فيك غيرتك القوية الراسخة على الفن، كما أحيي أسلوبك المتميز في المعالجة والنقد والتقويم والترجيح، وخاصة في ميدان بات يمتاز، في زماننا، بحساسية بالغة وخطورة وأهمية نلمسهما في حياتنا الاجتماعية والنفسية، بل وفي حياتنا السياسية والاقتصادية أيضا. أسلوب ينم عن اطلاع وخبرة ومعرفة بالميدان، وعن اقتدار على امتلاك ناصية المصطلحات والمفاهيم في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، وأصبح بين الناس ودعوى الإبداع والعبقرية إلا أن يكتبوا أو يقولوا متمردين على الحدود، وخالطين بين المفاهيم، وساطين على المصطلحات عنوة… وعاشت الحداثة… !!!
والذي يعجبني أكثر عند أبي حازم هو الجدّة والتميز في طرح الموضوع، وكذلك الجرأة الاجتهادية “المحترفة” في التناول والنقد والتقويم والنظر إلى الآفاق البعيدة. أما اللغة وطريقة العرض، فهي شكل آخر من أشكال التلحين والتوقيع والعزف بالكلمات؛ جمال ورونق وسلاسة وسلامة وبهاء، (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم).
بارك الله في عمل أخينا الفنان أبي حازم، وزاد موهبته تفتحا معطارا وإبداعا شفيفا جميلا وتفكرا شاملا مقتدرا، لخدمة ذوق الإنسان ورفعة عواطفه ومشاعره وسمو سبحات خياله وأمانيه.
يدور مضمون هذه المقالات على بحث نظري في “موسيقى الشعر”، أركز فيه على تبيان أهمية “الوزن” في الإبداع الشعري، وأن الشعر العربي، منذ اكتمل نضجه، لم يزل لصيقا بصناعة الألحان، نظما وإنشادا ودندنة. وسأختم بمقالة تبين تهافت دعوى الحداثيين اللادينيين المتطرفين أن التحديث حكم حكمه المبرم أن يموت “الوزن” أصلُ كل الشرور، في زعمهم وحكمهم النهائي الظالم، ليحل محله “الإيقاع” بما حمّلوه من مفهوم فضفاض لا علاقة له بصناعة الشعر، وإنما هو، عند التحقيق، الادعاء والفوضى وفساد الذوق.
وإلى المقالة الأولى، متمنيا للقراء الأعزاء قراءة مفيدة وممتعة، أي قراءة “جميلة”.
الشعر والغناء
“الغناء حلّة الشعر، إن لم يلبسها طُويت.” (العمدة، لابن رشيق: 1/39)
“الصناعة الشعرية هي رئيسة الهيئة الموسيقية…” (كتاب الموسيقى الكبير، لأبي نصر الفارابي: 3/1093)
لقد اقتبست عبارة “موسيقى الشعر” من عناوين بعض الكتب، ككتاب “موسيقى الشعر”، للدكتور إبراهيم أنيس، وكتاب “موسيقى الشعر العربي” للدكتور شكري عيّاد.
ولعل مخترع هذه العبارة كان موفقا، إلى حدّ كبير، في إضافة الموسيقى إلى الشعر، لأنها إضافة تربط بين فنين اثنين، المضاف والمضاف إليه، كلاهما ينتمي انتماء طبيعيا-أقول طبيعيا، وليس فلسفيا أو أكاديميا على سبيل الدراسة الفكرية- لجنس أوسع وأشمل هو جنس تركيب الأصوات وتأليف الألحان.
فالأصوات، بخصائصها، وأنواعها، وأوصافها، وتعدد صور تأليفها وأشكال أدائها، هي جنس يشمل، فيما يشمل من الأنواع، فنَّـيْ الشعر والموسيقى. وفي بعض المصادر ترد الإشارة إلى فن الموسيقى بعبارة “علم الألحان” و”صناعة الألحان” (العقد الفريد، لابن عبد ربّه: 7/3)، وعبارة “صناعة الإيقاع” (المزهر، للإمام السيوطي: 2/470)، وعبارة “تأليف اللحون”(البيان والتبيين، للجاحظ: 1/208).
وقد عرّفوا الموسيقى بأنها “صناعة في تأليف النغم والأصوات ومناسباتها وإيقاعاتها وما يدخل منها في الجنس الموزون والمؤتلف بالكمية والكيفية.”(كتاب الموسيقى الكبير، لأبي نصر الفارابي: 1/15)
وعرّفوا الإيقاع بأنه “هو نظم أزمنة الانتقال على النغم في أجناس وطرائق موزونة تربط أجزاء اللحن، ويتعين بها مواضع الضغط واللين في مقاطع الأصوات.”(نفسه: 2/436، هامش رقم(1))
وقد وضح أبو نصر الفارابي الفيلسوف “أن الموسيقى والشعر يرجعان إلى جنس واحد هو التأليف والوزن والمناسبة بين الحركة والسكون. فكلاهما صناعة تنطق بالأجناس الموزونة. والفرق بينهما واضح في أن الشعر يختص بترتيب الكلام في معانيها على نظم موزون، مع مراعاة قواعد النحو واللغة. وأما الموسيقى فهي تختص بمزاحفة أجزاء الكلام الموزون، وإرساله أصواتا على نسب مؤتلفة بالكمية والكيفية في طرائق تتحكم في أسلوبها بالتلحين.” (كتاب الموسيقى الكبير: 1/16-17)
وارتباط الشعر بالموسيقى، وبالغناء تحديدا، قديم في التاريخ. وقد استنتج الدكتور البهبيتي، في دراسته لتاريخ الشعر العربي، أن عهد اقتران الشعر بالغناء، عند العرب، هو عهد قديم “لا يمكن أن يقع في حدود المائتي سنة السابقة للإسلام، وهي الفترة التي يقع فيها شعر شعراء الجاهلية المعروفين لنا جميعا.” (تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري، ص92)
وفي الموشح، للمرزباني، عن عبد الله بن يحيى، قال: “كانت العرب تغنّي النَّصْبَ، وتمد أصواتها بالنشيد، وتزن الشعر بالغناء؛ فقال حسان بن ثابت:
تغنّ بالشعر إمّا كنت قائلـــه *** إن الغناء لهذا الشعر مضمــار.” (الموشح، ص52-53)
قال ابن رشيق: “فأما النّصْبُ فغناء الركبان والفتيان، قال أبو إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وهو الذي يقال له المرائي، وهو الغناء الجنابي، اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل، فنسب إليه، ومنه كان أصل الحُداء كله، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض.” (العمدة: 2/313)
وذهب ابن رشيق إلى أن “غناء العرب قديما على ثلاثة أوجه: النّصب، والسّناد، والهزج.
“فأما النصب فغناء الركبان والفتيان&
“وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع، الكثير النغمات والنبرات&
“وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدفّ والمزمار، فيطرب، ويستخف الحليم.
“قال إسحاق: هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام.” (العمدة: 2/313-314)
ويطلق الهَزَجُ، في اللغة، على الرّنة، وعلى الصوت المطرب، والصوت الذي فيه بَحَح، والصوت الدقيق مع ارتفاع. ويطلق، أيضا، على كل كلام متقارب متدارك، كما يطلق على الخفة وسرعة وقع القوائم ووضعها. وقيل: التهزّج صوت مطوّل غير رفيع& (لسان العرب: مادة(هزج)). وهذه المعاني كلها تدل على أن هناك نوعا من الإيقاع الموسيقي.
والهزج، في الاصطلاح العروضي، هو الذي يجيء وزنه على “مفاعيلن” أربع مرات، وهو في الدائرة الثالثة مع الرجز والرّمل.(انظر كتاب “المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها”، للدكتور عبد الله الطيب: 1/104 وما بعدها، وكتاب “الكافي في العروض والقوافي”، للخطيب التبريزي، ص73 وما بعدها).
ومن أنواع الغناء التي عرفتها الحياة البدوية العربية، والتي لم تكن تنفك، في أدائها، عن شكل من أشكال الإيقاع الموسيقي، الحُداءُ والتّغْبير.
أما الحداء فهو سوق الإبل بالغناء لها. وقد كان الإيقاع الموسيقي حاضرا في أصل نشأة الحداء. فمن الروايات التي رويت في هذا الصدد، أن مضر بن نزار “سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول: وايداه، وايداه، وكان أحسن خلق الله جرما وصوتا، فأصغت الإبل إليه وجدّت في السير، فجعلت العرب مثالا لقوله: “هايداه هايداه” يحدون به الإبل.” (العمدة: 2/315). راجع روايات أخرى في أصل ظهور الحداء في المصدر نفسه: (2/314-315).
“وأما التغبير فهو تهليل أو تردد صوت، بقراءة أو غيرها، حكى ذلك ابن دريد.”(العمدة: 2/315)
“وحكى أبو إسحاق الزجاجي قال: سألني بعض الرؤساء: لم سُمّي التغبير تغبيرا؟ قلت: لأنه وضع على أنه يُرغّب في الغابر، أي الباقي، أي يرغب في نعيم الجنة وفيما يعمل للآخرة.”(العمدة: 2/315)
وقال الأزهري: “وقد سمّوا ما يطرّبون فيه من الشعر في ذكر الله تغبيرا، كأنهم إذا تناشدوها بالألحان طرّبوا فرقصوا وأرهجوا [أثاروا الرَّهَج أي الغبار]، فسُمُّوا مُغَبَّرة.” لسان العرب: مادة(غبر)). ومعنى التغبير، في اللغة، إثارة الغبار، وكذلك الإغبار.
وقد أكد الجاحظ رجوع هذه الأنواع الغنائية، في أصلها، إلى صناعة الألحان، حيث ذكر أن الرجل قد “تكون له طبيعة في الحُداء أو في التغبير، أو في القراءة بالألحان، وليست له طبيعة في الغناء، وإن كانت هذه الأنواع كلها ترجع إلى تأليف اللحون.” (البيان والتبيين: 1/208)
وهناك بعض الأوزان الشعرية يرتبط اسمها، في الاصطلاح العروضي، بنوع من الإيقاع المحسوب الحركات والوقفات، كالخبب والرجز مثلا. فـَ”الخبَبُ ضرب من العدو& وقيل الخببُ السرعة”(لسان العرب: مادة(خبب)). وقيل في وزن الخبب إنه “يشبَّه بالرجز في رجل الناقة ورِعْدَتها، وهو أن تتحرك وتسكن، ثم تتحرك وتسكن& وقال الأخفش مرة: الرجز، عند العرب، كل ما كان على ثلاثة أجزاء، وهو الذي يترنّمون به في عملهم وسوقهم ويحدون به& ” (نفسه: مادة(رجز))
ويرى الدكتور عبد الله الطيب، رحمه الله، أن الخبب- وقد عدّه في الأوزان القصار- لا يصلح “إلا للحركة الراقصة الجنونية” (المرشد:1/80)، وأن بعض أوزان الرجز القصير، وهما وزنان- الأول يكون بتكرار “مستفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلْ” مرّتين، والثاني بتكرار “مُتَفْعِلُنْ” أربع مرّات- “يصلحان جدّا للأناشيد المدرسية وما بمجراها من أشعار الصغار.” (نفسه: 1/81)
وقد أورد صاحب “العقد الفريد”، في “كتاب الياقوتة الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه”، أخبارا وحكايات تفيد كلها شدة هذا الارتباط والتلازم الذي كان بين الشعر والغناء في الحياة العربية.
وفي حديث من هذه الأحاديث أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال للنابغة الجعدي الشاعر: “أسمعني بعض ما عفا الله عنك من غنائك. فأسمعه كلمة له. قال[أي عمر]: وإنك لقائله؟ قال: نعم. قال: لطالما غنّيْت بها خلف جمال الخطّاب.” (العقد الفريد: 7/9-10). راجع أمثلة أخرى من هذه الأحاديث في الكتاب المشار إليه من هذا المصدر.
وفي هذا الغرض قال ابن عبد ربه: “وإنما جعلت العرب الشعر موزونا لمدّ الصوت فيه والدّندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور.” (نفسه: 2/8)
“ويقولون: فلان يتغنّى بفلان أو بفلانة، إذا صنع فيه شعرا. قال ذو الرّمة:
أحبّ المكان القفر من أجل أننـي *** به أتغنّى باسمها غير مُعْجِــــمِ.
“وكذلك يقولون: حدا به إذا عمل فيه شعرا. قال المرار الأسدي:
ولو أنّي حدوْتُ به ارفأنّت *** نعامته وأبصر ما يقــول.” (العمدة: 2/313)
ارفأنّت: اطمأنت وسكنت.
وقد كان الشعراء يستطيعون معرفة عيوب شعرهم بالغناء، كما في خبر النابغة الذبياني حين دخل إلى المدينة، “فقالوا له: قد أَقْـوَيْت في شعرك، وأفهموه فلم يفهم، حتى جاؤوه بقينة فجعلت تغنّيه: “أمن آل ميّة”، وتبيّنُ الياء في “مزودِ” و”مغتدِي”.
“ثم غنت البيت الآخر فبينت الضمة في قوله: “الأسودُ” بعد الدال. ففطن لذلك، فغيّره، وقال: “وبذاك تنعابُ الغراب الأسودِ””(الموشح، ص52). والإقواء في الشعر هو رفع بيت وجر آخر، ومثال ذلك قول النابغة من قصيدته المخفوضة التي مطلعها:
أمن آل ميّة رائح أو مغتــــدي *** عجلان ذا زادٍ وغير مُــــــزوّدِ
زعم البوارحُ أن رحلتنا غــــدا *** وبـذاك خبّرنا الغرابُ الأســــودُ. (الموشح، ص51).
والبوارح: ما يتشاءم به من طير أو وحش.
وقد ورد في أشعار المتقدّمين ما يفيد أن تعاطي الغناء بالأشعار كان معروفا عندهم منذ القديم، كقول أبي النجم يصف قينة:
تغنّيْ فإن اليوم يومٌ من الصّبــــا *** ببعض الذي غنّى امرؤُ القيس أو عمرو
فظلت تغنّي بالغبيط وميلـــــه *** وترفع صوتا في أواخره كســـــــرُ.(الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص54)
وقول عبدة بن الطبيب، من قصيدته التي مطلعها:
هل حبل خولةَ بعد الهجر موصولُ *** أم أنت عنها بعيد الدار مشغـولُ
(& )
ثم اصطحبتُ كُميتا قَرْقَفاً أُنُفـا *** من طيّب الراح، واللذات تعليـلُ
صرفاً مزاجا، وأحيانا يعلّلُنــا *** شعرٌ كمُذهبة السمَّان محمــولُ
تُذْري حواشِيَهُ جيداءُ آنســـةٌ *** في صوتها لسَمَاع الشَّرْب ترتيـلُ.(المفضّليات: المفضلية رقم(26)، ص145)
القرقف: التي تصيب شاربَها رعدة. السمان: الأصباغ التي تزوق بها السقوف. تذريه: ترفعه.
وقول طرفة من معلقته المشهورة:
ندامايَ بيضٌ كالنجوم وقينـــــةٌ *** تروح علينا بين بُردٍ ومُجْســــــد
رحيبٌ قطاب الجيْب منها رفيقـــةٌ *** بجَسِّ النّدامى، بضَّةُ المتجــــــرَّد
إذا نحن قلنا أَسمعينا انبرتْ لنــــا *** على رسلها مطروفةً لم تَشـــــَدّد
إذا رجّعت في صوتها خلت صوتهـا *** تجاوبَ أظآرٍ على رُبَـــــعٍ رَدِيْ. (شرح المعلقات العشر، للدكتورين ياسين الأيوبي وصلاح الدين الهواري، ص100-102)
المُجسد: الثوب الذي يلي الجسد. المتجرَّد: الجسد العاري من الثياب. مطروفة: فاترة الطرف. رُبَعٍ رَدِي: الهالك من ولد الإبل.
وقول مزرّد بن ضرار الذبياني، من قصيدته التي مطلعها:
صحا القلب عن سلمى وملَّ العواذلُ *** وما كاد لَأْيًا حبُّ سلمى يزايــــلُ.
فقد علموا في سالف الدّهر أننــي *** معنٌّ إذا جدَّ الجِراءُ ونابــــــلُ
زعيمٌ لمن قاذفته بأوابـــــدٍ *** يغنّي بها الساري وتُحدى الرّواحــلُ. (المفضليات: المفضلية رقم(17)، ص100)
المِعَنُّ: المعترض. الجِراءُ: الجري. النابِل: الحاذقُ. الأوابد: أراد بها ما يهجوهم به من الشعر.
كما ورد في أشعارهم ما يفيد أنهم كانوا يستعينون، في الغناء ببعض الآلات الموسيقية، كالصَّنْج في قول الأعشى(ميمون بن قيس):
ومستجيب لصوت الصنج يسمعه *** إذا تُرجّع فيه القينةُ الفُضُـــلُ (الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص154)
والصنج هو نوع من الآلات الوترية تشبه العود، يعزف عليها. وقيل هو الدّف ونحوه، وهو معرّب.
والمِزْهَر في قول علقمة بن عبدة الفحل، من قصيدته التي مطلعها:
هل ما علمت وما استودعت مكتــومُ *** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصــــــروم
قد أشهد الشَّرْب فيهم مِزهر رنِـــمٌ *** والقوم تصرعهم صهباءُ خُرطُـــــوم (المفضليات: المفضلية رقم(20)، ص402)
المزهر: آلة العود. الرّنم: المترنّم. الخُرطوم: أول ما ينزل من عصير العنب خمرا صافية.
وهكذا نرى أن كلمات مثل، الترنّم، والترنيم، والترتيل، والترجيع، والتغني، والدندنة، وكذلك الصنج، والمزهر، والقينة، وأشباهها من المفردات الغنائية الاصطلاحية، وأسماء الآلات الموسيقية، لم تكن غريبة عن صناعة الشعر العربي منذ أقدم العصور. بل يمكن القول إن هذه المفردات كانت من صميم عمل الشعر، لما بينها وبين أوزان الشعر من صلات قرابة قوية، هي قرابة تركيب الأصوات وتلحينها وأدائها في صورة جميلة ومطربة.
ولعل أبا نصر الفارابي لم يكن مبالغا حين قرر أن “الصناعة الشعرية هي رئيسة الهيئة الموسيقية، وأن غاية هذه أن تطلب لغاية تلك.” (كتاب الوسيقى الكبير: 3/1093)
كانت هذه أمثلة من الأخبار والأشعار، وجملة من النصوص استأنست بها هذه المقالة للتدليل على أن الشعر والموسيقى، في صورة من صور أدائها المتعددة، البدائية أو المتطورة، كانا دائما متلازمين ومتصاحبين لا يفترقان، تجمعهما صناعة الأوزان والألحان والإيقاع، وأن هذا التلازم والتصاحب يرجع، في تاريخه، إلى أقدم العصور.
يمكن مراجعة هذا الموضوع (علاقة الشعر بالموسيقى) بشيء من التوسع في الفصل الثاني حول “الموسيقى والصنعة”، من الكتاب الأول في كتاب “الفن ومذاهبه في الشعر العربي”، للدكتور شوقي ضيف، ص41-90. وحول “الشعر والغناء”، في كتاب “تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري”، للدكتور نجيب محمد البهبيتي، ص89 وما بعده. وحول “الموسيقى في الحجاز وأثرها في الشعر”، في المرجع نفسه، ص129-147.
وإلى الأسبوع المقبل، إن شاء الله، مع المقالة الثانية.
عبد العالي مجذوب