من شرط البلاغة أن يكون المعنى مفهوماً واللفظ مقبولاً على ما قدمناه.
كلّ من أفهمك حاجته فهو بليغ. وإنما عنى: إن أفهمك حاجته بالألفاظ الحسنة، والعبارة النيّرة فهو بليغ.
ومن قال: إن البلاغة إنما هي إفهام المعنى فقط، فقد جعل الفصاحة، واللّكنة، والخطأ، والصواب، والإغلاق، والإبانة سواء.
ومما يؤيّد ما قلنا من أنّ البلاغة إنما هي إيضاح المعنى وتحسين اللفظ قول بعض الحكماء: البلاغة تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. إلى غير ذلك مما سنذكره ونفسّره في هذا الباب إن شاء الله.
وقال محمد بن الحنفية رضى الله عنه: البلاغة قول تضطر العقول إلى فهمه بأسهل العبارة، فقوله: تضطر العقول إلى فهمه عبارة عن إيضاح المعنى وقوله بأسهل العبارة تنبيه على تسهيل اللفظ وترك تنقيحه. ومثل ذلك من النثر قول بعضهم لأخ له: ابتدأتني بلطف من غير خبرة، ثم اعقبتني جفا من غير هفوة، فأطمعني أوّلك في إخائك، وأيأسني آخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء كشف إيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة الشكّ في حالك، فأقمنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف.
قال حكيم الهند: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، متخيّر اللفظ، يكلّم سيد الأمّة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السّوقة. ويكون في قواه التصرف في كل طبقة، ولا يدقّق المعاني كل التدقيق، ولا ينقّح الألفاظ كلّ التّنقيح، ويصفّيها كلّ التصفية، ويهذّبها كل التهذيب، ولا يفعل ذلك حتى يصادق حكيماً، وفيلسوفاً عظيماً، ومن تعوّد حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ، ونظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة والمبالغة فيها، لا على وجهة الاستطراف والتطرّف لها.
فقوله: " أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة " وأول آلات البلاغة جودة القريحة وطلاقة اللسان. وذلك من فعل الله تعالى، لا يقدر العبد على اكتسابه لنفسه واجتلابه لها.
كان البحتريّ يفضّل الفرزدق على جرير، ويزعم أنه يتصرّف من المعاني فيما لا يتصرّف فيه جرير، ويورد منه في شعره في كلّ قصيدة خلاف ما يورده في الأخرى. قال: وجرير يكرّر في هجاء الفرزدق ذكر الزبير، وجعثن، والنوار وأنه قينُ مجاشع. لا يذكر شيئاً غير هذا.
وسئل بعضهم عن أبي نواس ومسلم، فذكر أن أبا نواس أشعر، لتصرفه في أشياء من وجوه الشعر وكثرة مذاهبه فيه، قال: ومسلم جار على وتيرة واحدة لا يتغيّر عنها.
وأبلغُ من هذه المنزلة أن يكون في قوة صائغ الكلام أن يأتي مرّة بالجزل، وأخرى بالسهل، فيلين إذا شاء، ويشتدّ إذا أراد. ومن هذا الوجه فضّلوا جريراً على الفرزدق، وأبا نواس على مسلم. قال جرير:
طرقتْك صائدةُ القلوبِ وليس ذا ... وقتُ الزيارةِ فارجِعي بسلامِ
تجرِي السّواكَ على أغرَّ كأنهُ ... بردٌ تحدَّرَ من متونِ غمامِ
فانظر إلى رقّة هذا الكلام. وقال أيضاً:
وابنُ اللّبونِ إذا مالزَّ في قرنٍ ... لم يستطعْ صولةَ البزلِ القناعيسِ
فانظر إلى صلابة هذا الكلام والفرزدق يجري على طريقة واحدة، والتصرف في الوجوه أبلغ
من الصناعتين