صفحة بيضاء من التاريخ الإسلامي
قصة أَلْبْ أرْسَلان
بقلم
أ.د. : بكري شيخ أمين
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو المجلس التأسيسي العالمي للغة العربية
أصحيح أن رجوع العرب إلى التاريخ تغن بالأطلال ؟
من أغرب ما قرأت في حياتي مقالة أستاذ جامعي معاصر ، يستنكر فيها حب العرب في الرجوع إلى ماضيهم ، ونبش كل صغيرة وكبيرة فيه ، ثم تغنيهم بالأمجاد البائدة ، والانتصارات المنقضية ، كأنه يعدُّ ذلك شكلاً من أشكال الوقوف على الأطلال ، والعبث الذي يجب أن يترفع عنه أبناء العصر الحديث . وانتهى الكاتب إلى ضرورة نبذ الماضي ، وطرحه ظِهرياً ، والقطيعة بينه وبين الحاضر ، لأن لكل زمان ـ في رأيه ـ دولة ورجالاً ، وظروفاً وأحوالاً.
قد يكون هذا الكاتب مصيباً في بعض رأيه ، إلى حد ما ، وقد يكون مخلصاً بعض الإخلاص في دعوته ، وقد يكون جاداً في رغبته في أن يكون حاضر أمته خيراً من ماضيها ، ونجاحها أكثر من سقوطها ، وبصرها بالواقع أقوى من تحديقها في الماضي والذكريات ؛ ولكنه يبقى مخطئاً ، كل الخطأ ، حين يحكم هذا الحكم العام المطلق على الماضي ، وإنه ليتجنى على الأمة التـي تتغنى بماضيها وتراثها كل التجني .
@@@@@
من درس التاريخ عرف ملامح المستقبل
ليس صحيحاً أبداً أننا ندرس التاريخ ليكون لنا خدراً ينسينا آلام الحاضر ، وليس صحيحاً أبداً أننا نعود إلى الماضي ونركن إليه ، ونتجمد عنده ، وننام على دغدغاته ، وننسى الحاضر ، وكل ما يتطلبه هذا الحاضر . فما دراسة التاريخ إلا عبرةً نعتبر بــها، وإلا مِشعلاً نستضيء به ، فإذا وجدنا خيراً أصابه آباؤنا درسنا السبيل التـي سلكوها ، فقلدناهم في سـلوكهم ، وإذا وجدنا ضراً تردى فيه أجدادنا درسنا مواطن الزلل التـي وقعوا فيها ، فتجنبناها ، لئلا نقع فيها من جديد ، ولا سيما إذا تقاربت الظروف ، وتشابـهت الأحوال .
وإني لأرى أن الأمة التـي تستلهم العز من صفحات تاريخها لتخط صورة حاضرها ومستقبلها أمة جديرة بالحياة .
@@@@@
اطلب الموت توهب لك الحياة
وفي تاريخنا العربي والإسلامي من هذه الصفحات الرائعة ، والسطور المشرقة ، والأحداث العجيبة الشيء الكثير ؛ وإنـها لتصلح أن تكون المنار الهادي لا للعرب وحدهم ، ولا للمسلمين دون غيرهم ، وإنما للعالم أجمع ، ولكل شعب يسعى إلى المجد ، ويطلب الحياة . والحياة لا تكون إلا للذين يسيرون إليها عبر دروب الشهادة والفداء والاستبسال ، وفاقاً للحكمة التـي تقول : ( اطلب الموت توهب لك الحياة ) .
@@@@@
وخير ما أستشهد به ، وأدلل على صحة ما أذهب إليه هذه الصفحة الزاهية من تاريخنا ، وإنـها لتصلح أن تكون أسطورة ، والنموذج الذي يُحتذى في كثير من الظروف والأحوال المشابـهة
من هو ألب أرسلان ؟
إنـها صفحة ملك سلجوقي ، اسـمه ( أَلْبْ أَرْسَلان ) تولى الملك صغيراً بعد أبيه ( آقْ سُنْقُرْ ) . وكان هذا الملك الصغير مؤمناً بالله ، وشجاعاً . والإيمان أخو الشجاعة دائماً وقرينـها .
قضى ألب أرسلان معظم حياته مجاهداً ، لا ينتهي من معركة حتى يدخل في أخرى . ومات على فراشـه كما مات خالد بن الوليد ، سيف الله ، على فراشه .
كان ألب أرسلان ذات يوم عائداً من إحدى معاركه في حلب ، وكان متجهاً بجيشه الذي بقي على قيد الحياة إلى أذربيجان ، لينظم أمورها ، ثم يستقر في عاصمته أخيراً في خراسان .
رومانوس ملك الرومان يتجهز لحرب ألب أرسلان
وما إن وصل ألب أرسلان إلى أذربيجان حتى ترامت إليه أنباء تقطع القلب هلعاً . بلغه أن ( رومانوس الرابع ) أمبراطور القسطنطينية ذاته ، قد جهز جيشاً ، يترجّح عَدده ـ حسب روايات المؤرخين ـ بين مائتي ألف وستمائة ألف محارب . وقد ساقه رومانوس إلى عاصمة ألب أرسلان ليمزقه شر ممزق ، وليسحقه سحقاً ، حتى لا يبقي له ولجيشه أثراً ، ولينهي العالم الرومانـي منه ، وليقضي على الدولة الإسلامية قضاء مبرماً .
وتأكد ألب أرسلان من الأنباء ، ثم بلغه أن رومانوس قد وصل بجيوشه إلى أرمينية في طريقه إلى عاصمته ، وأن الأنباء التـي وصلته لم يكن مبالغاً فيها .
ونظر ألب أرسلان في جيشه ، فرأى أن ما بقي منه لا يزيد على خمسة عشر ألفاً . وهذا العدد الضئيل لا يوازي عُشْرَ جيش رومانوس عدداً . زِدْ على ذلك أنه جيش منهك من القتال ، والسـير الطويل ، وأن كثيراً من أفراده مجروح أو مصاب ، أو أعزل من السلاح ، وأن المسافة بينه وبين عاصمته لا تزال شاسعة ، وأن طلب نجدة من بلاده شبه مستحيلة .
@@@@@
وفكر ألب أرسلان طويلاً ، وحار فيما يفعل ، أيجابه رومانوس بهذا العدد الضـئيل ، وبـهؤلاء الرجال المتعبين ؟ وإذا جابـهه ، أفلا تكون الخســارة محققة ، ومصيره الدمار المؤكد ، ونـهايته السحق التام ؟ ومن ثَمَّ ، فلسوف يحتل رومانوس عاصمته ، ويُهلِك الإسلامَ والمسلمين ؟
وعلى افتراض عـدم مجابـهته ، فماذا يجب أن يفعل ؟ أيتركه يدخل بلاده ، ويعيث فيها كما يشاء ، دون أن يسأله سائل عما يفعل ؟
كلا الأمرين أحلاهما مُرَ ، إنه خاسر لو جابَهَ ، وخاسر لو لم يجابه ، فالخسارة محققة ومؤكدة في كلا الحالين .
إذن ، فليكن مما لابد منه ، وليكن ما قدّر الله .. وهزه الإيمان بالله ، وفاحت في حناياه روائح الجنة ، وانساق إلى ما ينساق إليه المؤمن الحق في مثل هذه المواطن .
@@@@@
ألب أرسلان يسترضي رومانوس فيرفض عروضه
جرب ألب أرسلان أن يكتب إلى رومانوس يستعطفه ، ويسترضيه ، وجرب أن يغريه بدفع جزية كبيرة إليه ، وجرب أن يقطعه أراضيَ شاسعةً من مملكته لقاء تراجعه عن محاربته ، وجرب أنواع المغريات .
ولكن أجوبة رومانوس كانت قاطعة جازمة ، لقد رفض كل العُروض ، وأصر على القتال والمجابـهة ، وأكثر من هذا رد على رسائل ألب أرسلان رداً قبيحاً . وكان لابد مما ليس منه بد .
@@@@
الجيش الإسلامي وألب يتكفنون قبل دخول المعركة
دخل ألب أرسلان خيمته ، وخلع ملابسه ، وحنَّط جسمَه ، وتكفن بكفن أبيض ، وخرج إلى جيشه ، وصعد على نُشُزٍ من الأرض ، وخطب فيهم :
أيها الجيش المسلم ! إن الإسلام على هذه الدنيا اليوم في خطر عظيم ، وإن المسلمين في جميع أنحاء العالم يوشكون أن يُذبحوا ، ويُقضى على شهادة أن لا إله إلا الله من هذا الوجود .. ثم حدثهم بصراحة عما بلغه من أنباء رومانوس وجيشه ، ومراسلاته ، وما وصل إليه الأمر أخيراً .. وختم كلمته بقوله : ها أنذا قد تحنّطتُ ، ولبستُ كفني ، فمن شاء الجنةَ والشهادة في سبيل الله فلْيلبسْ كفنَه ، فإنا ملاقون رومانوس بجيش أبيضَ ، مكفن .
وما هي إلا ساعة ، حتى تكفن الجيش كله ، وفاحت روائح الحنوط ، بل هبّت رياح الجنة والشهادة ، ودوّت السماوات والأرض بشعار ( الله أكبر . الله أكبر ) .
@@@@@
صورة جيش الإسلام المكفن والمفاجأة الكبرى
هل سمعت ـ يا أستاذ الجامعة ـ بجيش مكفن ؟ هل رأيتَ في حياتك جيشاً لَبِس ثياب موته قبل أن يدخل المعركة ؟ هل شممت رائحة حَنوط خمسةَ عشَرَ ألفَ مؤمن في آنٍ واحد ؟ هل تخيلتَ صورة جيش كامل يَسيرُ إلى معركة يَثِقُ أنه مِن على أرضها سيكون بعثُـه يوم يُـنفخ في الصور ؟ هل تصورتَ عزيمة خمسةَ عشرَ ألفَ رجل مُقْدِمين على لقاء الله ؟ هل دار في خيالك منظر جيش مرعوب على كلمة ( لا إله إلا الله ) من أن تختفيَ من هذا العالم ؟
إنه جيش ألب أرسلان . والتقى الجمعان ، بل التقت الفئة القليلة المؤمنة بالفئة الكثيرة الكافرة ، والتقى الذين أعجبتهم كثرتُـهم بالمشـــتاقين إلى الجنة . ودوّت في الفضاء كلمة :} وعَجِلتُ إِليكَ ربِّ لتَرضى { وتطايرت الرؤوس ، وسالت الدماء أنـهاراً ، وغطى الجوَّ قتامُ المعركة ، واختلط الحابل بالنابل ، ودار النـهار دورته ، والمعركة في أشـدّها ، وفجأة سُـمع صوت منادٍ يصيح بأعلى صـوته : لقد انهزم الرومان ، وأُسِر رومانوس ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، صدق الله وعده ، ونصر عبدَه ، وأعـزّ جندَه ، وهـزم الأحزابَ وحدَه } كَمْ مِن فِـئَـةٍ قليلةٍ غَلَبَتْ فئةً كثيرةً بإذنِ اللهِ { الله أكبر ، يا مسلمون افرحوا ، يا جيشنا المؤمن المكفن ! لقد صدق الله وعده ، لقد صدق الله وعده .
@@@@@
هل يعرف ذلك الأستاذ الجامعي الناقم على التاريخ ماذا فعل الأحياء من جيش ألب أرسلان ؟
الجيش الإسلامي يبكي وحوار ألب ورومانوس
لقد بكوا طويلاً لأنـهم لم ينالوا شرف الشهادة ، ولأنهـم رأوا أنفسهم مضطرين لخلع أكفانـهم ، ليعودوا إلى ثياب الدنيا .. وكذلك أغرق ألب أرسلان في البكاء .
واقتيد رومانوس مشدودَ الوَثاق ، مكبَّلاً بالأصفاد ، إلى ألب أرسلان . فضربه بـمَقْرَعةٍ كانت بيده ، وسأله بغضب : ألم أَعرِض عليك المالَ ، والأرضَ ، والجزيةَ ، وكثيراً من الممتلكات ؟
قال رومانوس : بلى !
قال ألب أرسلان : وما منعك أن ترفض كل عُروضي ؟
قال رومانوس : لأني كنت واثقاً من النصر عليك ، وكانت جيوشي من العَدد والعُدد ما يستحيل معها الانكسار ، وكنت عازماً على قتلك ، واحتلال بلادك ، وتخليص العالم منك .
قال ألب أرسلان : وما تظن أني فاعل بك الآن ؟
قال رومانوس بشجاعة وصلابة : أنت المنتصر ، تستطيع أن تفعل بـي ما تشاء . فإن كنت تحب منظر الدماء ، فاقتلني بيديك ، واسفك دمي حالاً، وإن كنت تحب الفخر والخيلاء والعظمة فجُرّنـي في عواصم بلادك ، ودع الناس يبصقون عليّ ، أو يرمونني بكل ما تصل إليه أيديهم ، وإن كنت تحب الخير ـ ولا أظنك ـ تقبلُ فديتي ، وتطلقُ سراحي .
وتعانق البطلان
وفكر ألب أرسلان فيما يفعل ، وأطرق طويلاً ، ثم رفع رأسه ، وقال : أقبل فداءك ، وأعفو عنك بشرط واحد ، هو ألا تفكر في محاربة المسلمين ثانية ، وأن تدفع عنهم ما يراد بـهم من سوء .
ودمعت عينا رومانوس لهذا الجواب الذي ما كان يتوقعه ، وقبل شروط ألب أرسلان ، ثم أردف قائلاً : هل للملك ألب أرسلان أن يقبل أن أحكم القسطنطينية باسمه ، ونيابة عنه ؟
ودمعت عينا ألب أرسـلان من جديد لهذا الفتح المبين ، وأجاب بالموافقة ، وأردف ذلك بقوله : ستوصلك جنودي إلى عاصمة بلادك ، وقد أمرت لك بخمسةَ عشَرَ ألفَ دينار تستعين بــها على وصولك .
وتعانق البطلان طويلاً ، وهما يبكيان ، وودع كل منهما صاحبه ، واتجه إلى مملكته .
@@@@@
وتحدثنا كتب التاريخ ببقية القصة فتقول : ما كاد رومانوس يدخل القسطنطينية حتى قبض عليه الذين كانوا يحكمونـها في غَيبته ، وأودعوه السجن . فكتب رسالة إلى صديقه ألب أرسلان يخبره بما حدث ، ويعتذر منه من عدم قدرته على الوفاء بوعوده .
ألب أرسلان يجهز اجيشه لإنقاذ رومانوس
ووصلت الرسالة إلى أذرببيجان ، وقرأها ألب أرسلان . وما هي إلا أيام معدودات حتى جهز جيشاً عَرَمْرَماً ليحارب به القسطنطينية ، ولينقذ صديقه رومانوس من السجن ، وليعيده إلى عرشه المجيد .
وتقدم بجيشه إلى مشارف حدود القسطنطينية ، وما كاد يقترب منـها أكثر حتى ترامت إليه الأنباء متواترة أن الرومان أعدموا رومانوس الرابع .
وعاد ألب أرسلان إلى بلاده ، ينظم أمورها ، وينتقل من جهاد إلى جهاد حتى وافاه الأجل المحتوم ، ودفن بِـمَرْو ، وأوصـى أن يكتب على قبره هذه العبارة : ( يامَنْ رأيتم عظمة ألب أرسلان تبلغ عنان السماء ، تعالوا فانظروها مدفونة تحت التراب ) .
@@@@@
في التاريخ عبرة لمن اعتبر
وبعد ، فهذه صفحة من الماضي الذي ولّـى ، وتاريخ لأيام مضت ، فيها من العبرة لكل من كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شـهيد . وفيها جـواب لذلك الأستاذ الجامعي الذي ينعي على الأمة أن تمجد تاريخها ، وتستذكره ، وتتغنى به .
حلب المحروسة :
15/8/1429هـ
18/8/2008 م بكري شيخ أمين