كيف أصبحت ماركسيا ضالا؟*
ترجمة:
إلهام عيداروس
- Tweet Widget
[قبل أن يدخل عالم السياسة، قام يانيس فاروفاكيس وزير المالية اليوناني المتمرد الذي شغل هذا المنصب في خضم المواجهة الأخيرة في منطقة اليورو بكتابة هذا البيان الناري عن الرأسمالية الأوروبية وما على اليسار أن يتعلمه من أخطاء ماركس.]
في عام 2008، تعرضت الرأسمالية لثاني نوباتها التشنجية العالمية. تلك الأزمة العالمية أطلقت تفاعلا متسلسلا دفع- وما زال يدفع- بأوروبا على منحدر هبوط مستمر حتى يومنا هذا. ولا يمثل الوضع الحالي في أوروبا مجرد تهديد للعمال أو المحرومين أو المصرفيين أو الطبقات الاجتماعية أو حتى الأمم فحسب، بل أن وضع أوروباالحالي يمثل خطرا على الحضارة كما نعرفها.
إن كان تخميني سليمًا ولم نكن نواجه مجرد ركود دوري آخر سيتم التغلب عليه قريبا، يكون السؤال أمام الراديكاليين كالتالي: هل علينا أن نرحب بأزمة الرأسمالية الأوروبية هذه باعتبارها فرصة لإحلال نظام أفضل محلها؟ أم علينا أن نقلق منها ونشرع في حملة لإحداث الاستقرار في الرأسمالية الأوروبية؟
بالنسبة لي، الإجابة واضحة. ليس من المرجح أن تؤدي أزمة أوروبا إلى ميلاد بديل أفضل للرأسمالية، بل الاحتمال الأكبر هو أن تؤدي لإطلاق قوى رجعية خطيرة قادرة على التسبب في حمام دم بشري وتقضي في الوقت نفسه على الأمل في أي خطوات تقدمية للأجيال القادمة.
بسبب وجهة نظري هذه، اتهمتني الأصوات الراديكالية حسنة النية بأنني "انهزامي" أحاول إنقاذ نظام اقتصادي اجتماعي أوروبي لا يستحق الدفاع عنه. أعترف بأن هذا النقد مؤلم. وهو مؤلم لأن به قدرًا من الحقيقة.
أتفق مع الرأي القائل بأن الاتحاد الأوروبي يتسم بعجز ديمقراطي ضخم، وهذا العجز- بالإضافة للإنكار الذي تتسم به البنية المختلة لاتحاده النقدي- قد وضع الشعوب الأوروبية على طريق الركود الدائم. وأتواضع أيضًا أمام النقد القائل بأنني شخصيًا قد اشتركت في حملة قائمة على أجندة تفترض أن اليسار كان- ولا يزال- مهزومًا بشكل واضح. وأعترف أنني أفضل أن أدعو لأجندة راديكالية منطلقها أن يتم إحلال نظام مختلف محل الرأسمالية الأوروبية.
لكن هدفي هنا هو توضيح وجهة نظري بخصوص الرأسمالية الأوروبية البغيضة التي- ورغم كل أمراضها- يجب أن نتجنب انهيارها مهما كانت التكلفة. وهذا الاعتراف الغرض منه إقناع الراديكاليين بأن علينا مهمة متناقضة: أن نوقف السقوط الحر للرأسمالية الأوروبية حتى نشتري الوقت الذي نحتاجه لتشكيل بديلها.
لماذا أنا ماركسي؟
حين اخترت موضوع رسالة الدكتوراة الخاصة بي في عام 1982، تعمدت التركيز على موضوع رياضي تماما ليس لفكر ماركس علاقة به. لكن لاحقا حين بدأت مسيرتي الأكاديمية كمحاضر في أقسام علم الاقتصاد التقليدية، كان الاتفاق الضمني بيني وبين الأقسام التي عرضت علي أن أقوم بالتدريس فيها هي أن أدرس نوعية النظرية الاقتصادية التي لا تترك أي مجال لماركس. وفي نهاية الثمانينيات، وظفتني كلية الاقتصاد بجامعة سيدني من أجل استبعاد مرشح يساري التوجه (ولم أكن أعلم هذا حينذاك).
بعد أن عدت لليونان في عام 2000، انخرطت بالكامل مع چورچ باباندريو الذي أصبح رئيسا للوزراء بعد ذلك أملا في إيقاف عودة اليمين الصاعد للسلطة، ذلك اليمين الذي أراد أن يدفع باليونان نحو العداء للأجانب محليا وفي السياسة الخارجية أيضا. وكما يعرف العالم كله اليوم، لم يفشل حزب باباندريو فقط في إيقاف العداء للأجانب، وإنما تبنى أيضا- في النهاية- سياسات ليبرالية جديدة في الاقتصاد الكلي شديدة الخبث سبقت ما سمي بعمليات الإنقاذ الخاصة بمنطقة اليورو، ومن ثم أدت بدون قصد لعودة النازيين لشوارع أثينا. ورغم أنني استقلت من عملي كمستشار لباباندريو مبكرا في عام 2006، وأصبحتُ من أكثر منتقدي حكومته شدة أثناء تعامله السيء مع الانهيار في اليونان بعد عام 2009، لم تكن مداخلاتي العامة في النقاش حول اليونان تحمل أي طابع ماركسي.
بالنظر لهذا كله، قد يندهش القارئ حين يسمعني أصف نفسي بالماركسي. لكن في الحقيقة كارل ماركس مسئول عن تشكيل نظرتي للعالم الذي نعيش فيه منذ طفولتي وحتى اليوم. لا أتطوع كثيرا بالحديث عن هذا في المجتمعات الراقية لأن مجرد ذكر اسم ماركس ينفر المستمعين. لكنني لم أنكره أبدا أيضا. وبعد سنوات قليلة من مخاطية مستمعين لا أشترك معهم في الأيدلوجية، تسللت إليَّ رغبة في الحديث عن تأثير ماركس على تفكيري. فرغم أنني ماركسي لا يعتذر عن كونه ماركسيا، أعتقد أنه من الضروري مقاومة ماركس بحماس أيضا بطرق متعددة. بعبارة أخرى، أن أكون ضالا في ماركسيتي. لماذا أذكر ماركس الآن رغم أن مسيرتي الأكاديمية تجاهلت ماركس إلى حد كبير، ورغم أن السياسات التي أتبناها اليوم من المستحيل أن توصف بالماركسية؟ الإجابة بسيطة: حتى علم الاقتصاد غير الماركسي الذي أعمل وفقا إليه يوجهه ذهن متأثر بماركس.
اعتقدت دوماً أنه يمكن لأي منظر اجتماعي جذري أن يتحدى التوجه السائد في الاقتصاد بطريقتين. الطريقة الأولى هي النقد الملازم، أي قبول المسلمات السائدة ثم كشف تناقضاتها الداخلية،أي أن تقول: "لن أحاول دحض افتراضاتكم لكن هكذا يتضح أن نتائجكم لا تترتب عليها منطقيا". وقد كانت هذه بالفعل طريقة ماركس في تقويض علم الاقتصاد السياسي البريطاني. فقد قبل كل مسلمات آدم سميث وديڤيد ريكاردو ليوضح أن الرأسمالية نظام متناقض في سياق افتراضاتهما. المسار الثاني الذي يمكن للمنظر الراديكالي أن يسلكه هو بالطبع بناء نظريات بديلة لتلك السائدة أملا في أن يتم أخذها على مأخذ الجد.
كانت وجهة نظري دائما في هذه المعضلة أن القوى القائمة لا تربكها أبدا النظريات التي تنبع من افتراضات مختلفة عن افتراضاتها. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يهز استقرار الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد المهيمنين ويتحداهم بشكل أصيل هو إظهار التناقض الداخلي في نماذجهم نفسها. ولهذا السبب، اخترت منذ البداية أن أغوص في أحشاء النظرية الكلاسيكية الجديدة وألا أبدد أي طاقة في تطوير نماذج ماركسية بديلة للرأسمالية. واعترف أن أسبابي في ذلك كانت ماركسية تماما.
حين طُلِب مني التعليق على العالم الذي نعيش فيه، لم يكن لدي بديل سوى العودة للتقليد الماركسي الذي شكل تفكيري منذ أطلعني والدي خبير المعادن وأنا طفل صغير على آثار الابتكارات التكنولوجية على العمليات التاريخية. كيف على سبيل المثال أسرع الانتقال من العصر البرونزي للعصر الحديدي من حركة التاريخ، وكيف عجل اكتشاف الصلب من الزمن، وكيف أدت تكنولوجيا المعلومات القائمة على السيليكون إلى تسريع مسار الانقطاعات التاريخية والاقتصادية الاجتماعية.
التقيت لأول مرة مع كتابات ماركس مبكرا في حياتي نتيجة للأوقت العصيبة التي نشأت فيها حيث كانت اليونان تعيش كابوس الدكتاتورية الفاشية الجديدة من 1967 إلى 1974. ما جذبني إلى ماركس كان موهبته الفذة في كتابة سيناريو درامي للتاريخ الإنساني، بل في الواقع للعنة البشر التي هي متضافرة أيضا مع إمكانية الخلاص والنقاء الأصيل.
خلق ماركس رواية يسكنها العمال والرأسماليون والمسئولون في الدولة والعلماء باعتبارهم شخصيات التاريخ الدرامية التي صارعت من أجل تعزيز العقل والعلم في سياق تمكين الإنسانية لكنهم أطلقوا- رغما عن نواياهم- قوى الشر التي اغتصبت حريتهم وإنسانيتهم ودمرتها.
هذا المنظور الجدلي- الذي يكون كل شيء فيه حاملا لنقيضه- والعين المتفحصة التي كان ماركس ينظر بها لإمكانيات التغيير فيما بدا أبنية اجتماعية غير متغيرة ساعداني على إدراك أعظم تناقضات العصرالرأسمالي. فقد حل هذا المنظور لغز عصر يولد أكبر ثروات وأبشع فقر في نفس اللحظة. واليوم لو التفتنا للأزمة الأوروبيةوالأزمة في الولايات المتحدة والركود طويل الأمد للرأسمالية اليابانية، نجد أن معظم المعلقين فشلوا في تقييم العملية الجدلية التي تتم تحت أنوفهم، فهم يرون جبل الديون والخسائر المصرفية لكنهم يتغاضون عن الوجه الآخر من العملة: جبل المدخرات المكدسة التي يجمدها الخوف فلا تتحول إلى استثمارات منتجة. وربما لو كان لديهم انتباه ماركسي للثنائيات المتناقضة لكانت أعينهم قد انفتحت.
من أهم الأسباب التي جعلت الآراء السائدة تفشل في التعامل مع الواقع المعاصر هو أنها لم تفهم أبدا كيف يتم إنتاج الديون والفوائض، والنمو والبطالة، والثروة والفقر، بل والخير والشر، معا بشكل جدلي. فرواية ماركس هي التي نبهتنا لهذه الثنائيات المتناقضة باعتبارها مصدر مكر التاريخ.
منذ بدأت افكر كاقتصادي وحتى اليوم، اعتقدت أن ماركس قام باكتشاف يجب أن يبقى في قلب أي تحليل مفيد للرأسمالية. وهو اكتشاف ثنائية أخرى عميقة في العمل الإنساني تتمثل في التضاد بين طبيعتين مختلفتين تماما للعمل، وهما: 1) العمل كنشاط خالق للقيمة لا يمكن تقديره كميا مسبقا (ولهذا من المستحيل تسليعه) و2) العمل ككم (مثلا عدد الساعات التي يعملها المرء) معروض للبيع مقابل سعر. هذا ما يميز العمل عن المدخلات المنتجة الأخرى مثل الكهرباء: طبيعته المزدوجة المتناقضة. وهذا الاختلاف والتناقض الذي أهمل علم الاقتصاد السياسي الوقوف عليه قبل ماركس ظهر بجلاء، وهو ما يتمسك الاقتصاد التقليدي برفضه حتى اليوم.
يمكن التفكير في الكهرباء والعمل كسلع. وفي الواقع، يكافح العمال وأصحاب الأعمال من أجل تسليع العمل. فأصحاب الأعمال يستخدمون كل براعتهم ومهارات أتباعهم في أقسام الموارد البشرية لقياس العمل وتحويله لوحدات كمية متجانسة. وفي الوقت نفسه، يحاول الموظفون المستقبليون بشتى السبل تسليع قوة عملهم، فيكتبون السير الذاتية ويعيدون كتابتها من أجل تصوير أنفسهم كمالكين لوحدات عمل يمكن قياسها. وهنا تكمن المعضلة. فلو تمكن العمال وأصحاب الأعمال من النجاح في تسليع العمل بشكل كامل، ستنتهي الرأسمالية. بدون هذه الرؤية لا يمكن فهم ميل الرأسمالية لتوليد الأزمات بشكل كامل أبدا، وهي الرؤية التي لا يمكن لأحد أن يقترب منها إن لم يكن قد تعرض بشكل أو بآخر لفكر ماركس.
الخيال العلمي أصبح حقيقي
في فيلم كلاسيكي منتج عام 1953 بعنوان Invasion of the Body Snatchers أو (غزوة ناهشي الأجساد)، لا تقوم القوة الفضائية بالهجوم علينا مباشرة على العكس مثلا من فيلم War of the Worlds أو (حرب العوالم) للمؤلف HG Wells (إتش چي ويلز)، بل يتم الاستيلاء على الناس من الداخل حتى لا يبقى أي شيء من روحهم الإنسانية وعواطفهم. فأجسادهم أصبحت مجرد هياكل كانت تحتوي على إرادة حرة وصارت تمر بحركات الحياة اليومية وتتحرك كصور بشرية "متحررة" من جوهر الطبيعة الإنسانية غير القابل للقياس الكمي. هذا الأمر يشبه ما سيحدث لو أصبح العمل الانساني قابل للاختزال إلى رأسمال بشري، ومن ثم قابل للإدخال في نماذج الاقتصاديين الجافة.
كل نظرية اقتصادية غير ماركسية تتعامل مع مدخلات الإنتاج البشرية وغير البشرية على أنهما نفس الشيء وقابلين للتبادل، وتفترض أن نزع السمة البشرية من العمل الإنساني قد اكتمل. لكن لو كان من الممكن إكماله لكانت نهاية الرأسمالية كنظام قادر على خلق القيمة وتوزيعها. بدايةً، مجتمع من الروبوتات منزوعة الإنسانية يشبه ساعة ميكانيكية مليئة بالتروس والزنبركات وكل منها له وظيفته الخاصة ومعا ينتجون "سلعة" هي ظبط الوقت. لكن لو لم يكن في ذلك المجتمع شيء آخر غير روبوتات أخرى، لن يصبح ضبط الوقت "سلعة"، وإنما سيكون "منتج". لكن لم لا يكون "سلعة"؟ فبدون بشر حقيقيين يختبرون وظيفة الساعة، لا يكون هناك أي سلع سواء جيدة أو سيئة.
لو نجح رأس المال أبدا في تحويل العمل إلى شيء كمي ومن ثم تسليعه بالكامل كما يحاول أن يفعل دائما، سيُحرَم العمل من تلك الحرية البشرية غير المحددة والمتمردة التي تسمح بإنتاج القيمة. لقد تمثلت بصيرة ماركس النافذة في جوهر الأزمات الرأسمالية فيمايلي بالضبط: كلما نجحت الرأسمالية في تحويل العمل لسلعة قلت قيمة كل وحدة من الناتج الذي يولده، وانخفض معدل الربح، ومن ثم اقترب الركود التالي للاقتصاد كنظام. إن تصوير الحرية البشرية كفئة اقتصادية أمر خاص بماركس فقط، وهو ما يمكننا من التوصل لتفسير فطن تحليليا ودرامي بشكل مميز لميل الرأسمالية لانتزاع الركود أو حتى الكساد من بين فكي النمو.
حين كتب ماركس أن العمل هو الشيء الحي، هو النار الخلاقة، هو الحالة المؤقتة للأشياء، كان يقدم أعظم إسهام يمكن لأي اقتصادي أن يقدمه لفهمنا للتناقض الحاد الدفين في الحمض النووي للرأسمالية. وحين وصف رأس المال بأنه "... قوة يجب أن نخضع لها... تخلق طاقة عالمية النطاق تتفكك عبر كل العلاقات والحدود وتنصب نفسها باعتبارها السياسة الوحيدة والحقيقة العالمية الوحيدة والحد الوحيد والعلاقة الوحيدة" كان يلقي الضوء على حقيقة أن العمل يمكن شراؤه برأس المال السائل (أي المال) في شكل سلعة، لكنه يبقى دوما حاملا معه إرادة معادية للمشتري الرأسمالي. لكن ماركس لم يكن فقط يطرح مقولة نفسية أو فلسفية أو سياسية. بل كان يقدم تحليلا هاما يفسر به لماذا يصبح العمل عقيما غير قادر على إنتاج القيمة في اللحظة التي يبخ فيها العمل (كنشاط غير قابل للقياس الكمي) هذه العدوانية.
في الوقت الذي تمكن فيه الليبراليون الجدد من إيقاع الأغلبية في شراكهم النظرية مجترين باستمرار أيدلوجية تحسين إنتاجية العمل من أجل تحسين التنافسية بهدف خلق النمو.. إلخ، يوفر لنا تحليل ماركس مصلا قويا. فلا يمكن لرأس المال أن يفوز في معركته لتحويل العمل لمجرد مُدخَل مميكن شديد المرونة دون تدمير نفسه. هذا ما لن يدركه الليبراليون الجدد أو الكينزيون أبدا. "لو كانت الآلة ستقضي على طبقة العمال المأجورين كلهم"، كتب ماركس، "سيكون هذا أمرا بشعا بالنسبة لرأس المال الذي- بدون عمال مأجورين- لا يصبح رأسمال"!
ماذا فعل لنا ماركس؟
تفضل كل المدارس الفكرية تقريبا- بما في ذلك تلك الخاصة ببعض الاقتصاديين التقدميين- أن تدعي أن إسهامات ماركس لم يعد لها دلالة تذكر اليوم رغم أنه كان شخصية قوية. اسمحوا لي أن أختلف مع هذا. فبالاضافة إلى أنه وضع يده على لُب الدراما الأساسية في الديناميكيات الرأسمالية، منحني ماركس الأدوات التي يمكن أن أصبح بها محصنا ضد الدعاية السامة لليبرالية الجديدة. على سبيل المثال، فكرة أن الثروة تنتجها المصالح الخاصة ثم تستولي عليها الدولة التي تعتبر غير شرعية إلى حد ما من خلال الضرائب هي فكرة يسهل الاستسلام لها إن لم يكن المرء قد اطلع أولا على أطروحة ماركس الصائبة التي تفيد بأن العكس بالضبط هو الصحيح، فالثروة يتم إنتاجها بشكل جماعي ثم تستولي عليها مصالح خاصة من خلال العلاقات الاجتماعية للإنتاج وحقوق الملكية التي تستند إعادة انتاجها على الوعي الزائف فقط تقريبا.
في كتابة الحديث Never Let a Serious Crisis Go to Waste أو (لا تدع أزمة جادة تذهب هباءً)، بين مؤرخ الفكر الاقتصادي Philip Mirowski (فيليب ميروڤسكي) نجاح الليبراليين الجدد في إقناع نسبة كبيرة من الناس بأن الأسواق ليست وسيلة مفيدة من أجل غاية فحسب وإنما هي أيضا غاية في ذاتها. وفقا لهذه النظرة، لا يمكن للعمل الجماعي والمؤسسات العامة أن يقوما بالأشياء كما ينبغي، بل أن التفاعل الحر للمصالح الخاصة اللامركزية لا يؤدي فقط للنتائج السليمة وإنما ينتج أيضا الرغبات السليمة والشخصية السليمة بل وحتى الروح الوطنية السليمة. ويتمثل النموذج الأفضل لاكتمال هذا التصور الليبرالي الجديد في النقاش حول كيفية التعامل مع التغير المناخي. فقد طرح الليبراليون الجدد سريعا أن أي شيء سنفعله (إن كنا سنفعل أي شيء أصلا) يجب أن يكون أشبه بالسوق حتى لو كان سوقا للأشياء السيئة (أي منظومة للتجارة في الانبعاثات) وذلك لأن الاسواق هي الوحيدة التي تعرف كيف يمكن تثمين الأشياء الجيدة والسيئة بشكل سليم. لكن هذا الحل القائم على ما يشبه السوق مقدر له أن يفشل، ولنفهم أسباب ذلك، والأهم لنفهم الدوافع التي تنبع منها مثل هذه الحلول، يجب على المرء أن يطلع على منطق التراكم الرأسمالي الذي وضعه ماركس وعدله الاقتصادي البولندي Michal Kalecki (مايكل كاليكي) ليناسب عالم تحكمه أقليات احتكارية متشابكة.
كانت الحركتان السياسيتان اللتان انطلقتا في القرن العشرين من أفكار ماركس هما الأحزاب الشيوعية والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية. وقد فشلت كلتاهما بشكل مدمر لهما في السير على خطى ماركس في مسألة أساسية جدا (بالإضافة لأخطاءهما الأخرى أو بالأحرى جرائمهما)، وتلك المسألة هي أنهما بدلا من تبني الحرية والعقلانية كشعارات أساسية حاشدة ومفاهيم منظمة، اختارتا المساواة والعدالة وتركتا مفهوم الحرية لليبراليين الجدد. كان ماركس صلبا في رأيه هذا: مشكلة الرأسمالية ليست كونها غير عادلة وإنما أنها غير عقلانية، فهي دائما ما تحكم على أجيال كاملة بالحرمان والبطالة، بل وحتى تحول الرأسماليين إلى روبوتات يتحكم بها القلق وتعيش في حالة خوف دائم من أجل أن تسلع البشر الآخرين بشكل كامل لخدمة التراكم الرأسمالي بشكل أكثر كفاية وإلا لن يصبحوا رأسماليين. إذن، لو كانت الرأسمالية تبدو غير عادلة فهذا لأنها تستعبد الجميع، وتهدر الموارد البشرية والطبيعية، فنفس خط الإنتاج الذي يضخ ثروات عظيمة وأدوات هائلة ينتج أيضا تعاسة وأزمات عميقة.
وبسبب فشلهما في تقديم نقد للرأسمالية منطلق من الحرية والعقلانية (وهو ما كان ماركس يظنه أساسيا)، سمح التيار الديمقراطي الاجتماعي و التيار اليساري بشكل عام لليبراليين الجدد بالاستيلاء على رداء الحرية والنجاح بشكل ساحق في معركة الأيدلوجيات.
إن أهم بعد في النصر الليبرالي الجديد على الأرجح هو ما أصبح معروفا بـ"العجز الديمقراطي". فقد جرت أنهار من دموع التماسيح حزنا على انهيار أنظمتنا الديمقراطية العظيمة أثناء العقود الثلاثة السابقة من العولمة وتسييد المنظور المالي. كان ماركس ليضحك بشدة على من يبدون مندهشين أو منزعجين من "العجز الديمقراطي". فماذا كان الهدف العظيم من ليبرالية القرن التاسع عشر أصلا؟ لقد كان- كما كان ماركس يوضح بلا كلل- هو الفصل بين المجال الاقتصادي والمجال السياسي وحصر السياسة على المجال السياسي مع ترك المجال الاقتصادي لرأس المال. وقد نجحت الليبرالية نجاحا باهرا في تحقيق هذا الهدف القديم كما نلاحظ الآن. الق نظرة على جنوب أفريقيا اليوم، فبعد عقدين من إطلاق سراح نيلسون مانديلا وإدماج كافة السكان في المجال السياسي أخيرا، مكتوب على المؤتمر الوطني الافريقي أن يبتعد عن المجال الاقتصادي ليُسمح له بالهيمنة على المجال السياسي. وإن كنت تظن أن هذا غير صحيح، اقترح عليك أن تتحدث مع عشرات عمال المناجم الذين ضربهم حرس مسلحون بالرصاص يأخذون رواتبهم من مستخدمي عمال المناجم أنفسهم لأن هؤلاء العمال تجرأوا على طلب زيادة في الأجور.
لماذا أنا ضال؟
لقد شرحت لماذا أدين لكارل ماركس إلى حد كبير بأي فهم قد يكون لدي للعالم الاجتماعي الذي نحيا فيه، والآن أريد أن أشرح لماذا أنا غاضب منه إلى حد بعيد. بعبارة أخرى، سأوضح لماذا اخترت أن أكون ماركسيا ضالا غير متسق. ارتكب ماركس خطئين كبيرين، أحدهما بالإغفال والآخر بالارتكاب المباشر. ولا تزال هذه الأخطاء حتى يومنا هذاتعرقل فعالية اليسار وخاصة في أوروبا. خطأ ماركس الأول هو أنه أغفل إلى حد كبير تأثير تنظيراته على العالم الذي كان ينظر بشأنه. فنظريته قوية بشكل استثنائي ومنطقي وكان ماركس مدركا لقوتها. كيف إذن لم يهتم بأن تلاميذه الذين لديهم فهم أفضل لهذه الأفكار القوية من العامل العادي قد يستخدمون القوة التي منحتهم إياها أفكار ماركس لاستغلال رفاقهم وبناء مرتكزات لقوتهم هم وشغل مواقع نفوذ؟
خطأ ماركس الثاني، الخطأ الذي ارتكبه مباشرة، كان أسوأ، وهو أنه افترض أن حقيقة الرأسمالية يمكن اكتشافها من نماذجه الرياضية. وقد كانت هذا أسوأ خدمة يمكن أن يقدمها لمنظومته النظرية نفسها. فالرجل الذي سلحنا وقدم لنا الحرية البشرية باعتبارها مفهومًا اقتصاديًا أساسي، العالم الذي ارتقى بالغموض الجذري إلى مكانه الصحيح في علم الاقتصاد السياسي، هو نفس الشخص الذي انتهى به الحال يلعب بنماذج ومعادلات جبرية تبسيطية وحدات العمل فيها محولة لصور كمية تماما، وهو ما يتعارض مع الرغبة في الخروج من هذه المعادلات برؤى عن الرأسمالية. بعد وفاته، أضاع الاقتصاديون الماركسيون حيواتهم العملية الطويلة في الغوص في نمط مشابه من الآليات الدراسية. وانغمسوا تماما في نقاشات غير مفيدة إطلاقا عن "مشكلة التحول" وما العمل بشأنها.فانتهى بهم الحال إلى ما يشبه كائنات منقرضة حيث سحقت المنظومة الليبرالية الجديدة كل المعارضين في طريقها.
كيف أمكن خداع ماركس هكذا؟ لماذا لم يدرك أنه لا يمكن ظهور حقائق عن الرأسمالية من قلب أي نموذج رياضي مهما بلغ ذكاء وبراعة القائم على وضع النموذج؟ ألم يكن لديه الأدوات الذهنية اللازمة لإدراك أن الديناميكيات الرأسمالية تنبع من الجزء غير القابل للقياس الكمي في العمل الانساني (أي من متغير لا يمكن تعريفه تماما تعريفا رياضيا)؟ بالطبع كانت لديه فهو من ابتكر هذه الأدوات أصلا! كلا، السبب في هذا الخطأ مسألة أكثر سوءً: فمثل الاقتصاديين العاديين الذين انتقدهم ببراعة (والذين يستمرون في الهيمنة على أقسام علم الاقتصاد اليوم)، اشتهى ماركس البراهين التي منحتها إياه الأدلة الرياضية.
إن كنتُ محقا، كان ماركس يعلم ماذا يفعل. كان يفهم، أو كانت لديه القدرة على أن يفهم أنه لا يمكن إدماج نظرية شاملة للقيمة في نموذج رياضي لاقتصاد رأسمالي ديناميكي. ليس لدي أي شك في أنه كان واعيا بأن أي نظرية اقتصادية سليمة يجب أن تحترم فكرة أن قواعد الأشياء غير المحددة هي نفسها غير محددة. بالمصطلحات الاقتصادية، كان هذا يعني الاعتراف بأن قوة السوق ومن ثم ربحية الرأسماليين لم تكن بالضرورة قابلة للاختزال في قدرتهم على استخراج العمل من الموظفين، وأن بعض الرأسماليين يمكنهم استخراج المزيد من قاعدة معينة من العمال أو من مجتمع معين من المستهلكين لأسباب تخرج عن نظرية ماركس.
للأسف، اعتراف ماركس بهذا يعني قبول أن "قوانينه" لم تكن حصينة. فقد كان سيرضخ أمام الأصوات المنافسة في الحركة النقابية بأن نظريته لم تكن محددة، وبالتالي آراءه ليست بالضرورة صحيحة بشكل مطلق، أي أنها كانت وستبقى مؤقتة ومشروطة. هذا الإصرار على الوصول للقصة المكتملة أو النموذج الكامل أو الكلمة الأخيرة شيء لا يمكن أن أسامح ماركس عليه. فقد ثبت في نهاية الأمر أنه مسئول عن الكثير من الأخطاء، وعن- وهو الأهم- السلطوية. هذه الأخطاء وهذه السلطوية مسئولة إلى حد كبير عن عجز اليسار حاليا كقوة خيرة وككابح لانتهاكات العقل والحرية التي يقوم بها فريق الليبرالية الجديدة اليوم.
درس السيدة تاتشر
انتقلت إلى انجلترا للدراسة في الجامعة في سبتمبر 1978 أي قبل فوز مارجريت تاتشر الذي غير وجه بريطانيا للأبد بستة أشهر تقريبا. شاهدت حكومة العمال وهي تتفكك تحت ضغط برنامجها الاجتماعي الديمقراطي المتفسخ، وهذا دفعني لارتكاب خطأ خطير: وهو أنني ظننت أن انتصار تاتشر قد يكون شيئا جيدا لأنه سيؤدي لتوجيه صدمة سريعة وحادة للطبقات العاملة والوسطى صدمة ضرورية لإعادة إحياء السياسات التقدمية، وإعطاء اليسار فرصة لوضع أجندة جذرية طازجة تناسب نوعا جديدا من السياسات التقدمية الفعالة.
وحتى مع تضاعف البطالة مرة ثم مرتين تحت وطأة التدخلات الليبرالية الجديدة الجذرية لتاتشر، ظللت أربي الأمل في أن لينين كان على صواب: فـ"الأمور يجب أن تزداد سوء قبل أن تتحسن". لكن مع زيادة سوء الحياة وقسوتها وقصر مدتها بالنسبة للكثيرين، خطر لي أنني كنت مخطئا بشكل مريع: فالأمور يمكن أن تزداد سوءا بشكل مستمر دون أن تتحسن أبدا. الأمل في أن انهيار السلع العامة وتدهور حياة الملايين وانتشار الحرمان في كل ركن من المعمورة سيؤدي بشكل أوتوماتيكي لإعادة ميلاد اليسار كان مجرد "أمل".
لقد كان الواقع مختلفا بشكل موجع. فمع كل خطوة على طريق الركود، أصبح اليسار أكثر عزلة وأقل قدرة على إنتاج أجندة تقدمية مقنعة، وفي الوقت نفسه كانت الطبقة العاملة منقسمة بين من سقطوا من المجتمع تماما ومن سيطرت عليهم العقلية الليبرالية الجديدة. لقد كان أملي في أن وجود تاتشر سيجلب- رغما عنها- ثورة سياسية جديدة أملا زائفا حقا وفعلا. فالتاتشرية لم ينتج عنها سوى التحول المالي المتطرف وانتصار مراكز التسوق الكبرى على حساب الدكاكين الصغيرة وتحول المسكن إلى صنم وتوني بلير.
وبدلا من تجذير المجتمع البريطاني، أدى الركود الذي هندسته حكومة تاتشر بكفاءة كجزء من حربها الطبقية ضد العمالة المنظمة وضد مؤسسات الضمان الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة التي بُنيت بعد الحرب إلى تدمير أي احتمالية لوجود سياسات تقدمية جذرية في بريطانيا تدميرا نهائيا. وبالفعل،أصبح من المستحيل مجرد التفكير في القيم التي تتجاوز ما يحدده السوق باعتباره السعر "الصحيح" لأي شيء.
الدرس الذي علمتني إياه تاتشر بخصوص قدرة الركود الطويل على تدمير السياسات التقدمية هو درس أحمله معي في الأزمة الأوروبية الحالية. وهو في الحقيقة أهم عامل يحدد موقفي بالنسبة للأزمة. وهو السبب في اعترافي عن طيب خاطر بالخطيئة التي يتهمني بها بعض نقادي من اليسار: خطيئة أنني اخترت ألا أطرح برامج سياسية جذرية تسعى لاستغلال الأزمة كفرصة للإطاحة بالرأسمالية الأوروبية وتفكيك منطقة اليورو البشعة وتدمير الاتحاد الأوروبي المكون من كيانات احتكارية ومصرفيين مفلسين.
أجل، أحب أن أطرح مثل هذه الأجندة الجذرية. لكن كلا، لست مستعدا لارتكاب نفس الخطأ مرتين. ما الذي استفدناه في بريطانيا في بداية الثمانينيات من الترويج لأجندة قائمة على التغيير الاشتراكي استخف بها المجتمع البريطاني بينما كان يسقط بلا تردد في فخ تاتشر الليبرالي الجديد؟ بالتحديد، لم نستفد أي شيء. وما الذي سنستفيده اليوم من الدعوة لتفكيك منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي نفسه بينما الرأسمالية الأوروبية تفعل كل ما بوسعها لتدمير منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي بل وتدمير نفسها؟
إن خروج اليونان أو البرتغال أو إيطاليا من منطقة اليورو سيؤدي بسرعة إلى تفكك الرأسمالية الأوروبية وهو ما سينتج عنه وجود منطقة تتسم بفائض وبحالة ركودية خطيرة شرق الراين وشمال الألب بينما تقبع باقي أوروبا في قبضة الركود التضخمي البشع. من تظنه المستفيد من تطورات كهذه؟ يسار تقدمي سيصعد مثل العنقاء من رماد المؤسسات العامة الأوروبية؟ أم نازيو "الفجر الذهبي" والفاشيين الجدد والمعادون للأجانب والبلطجية الصغار؟ ليس لدي أدنى شك بخصوص أي من الاثنين سيستفيد أكثر من تفكيك منطقة اليورو.
لست مستعدا للمساهمة في إحياء هذه النسخة المابعد حداثة من ثلاثينيات القرن العشرين. وإن كان هذا يعني أننا- نحن الماركسيين الضالين بما يكفي- علينا أن نحاول إنقاذ الرأسمالية الأوروبية من نفسها، فليكن. لا ينبع هذا من حبنا للرأسمالية الأوروبية أو منطقة اليورو أو بروكسل أو البنك المركزي الأوروبي، وإنما لأننا نريد أن نقلل فقط من الخسائر الإنسانية غير الضرورية لهذه الأزمة.
ماذا يجب على الماركسيين أن يفعلوا؟
تتعامل النخب الأوروبية اليوم وكأنها لا تفهم طبيعة الأزمة التي يقودونها ولا آثارها على مستقبل الحضارة الأوروبية. واختاروا بكل رجعية أن ينهبوا الأرصدة المتناقصة الخاصة بالضعفاء والمحرومين من أجل سد الفجوات في القطاع المالي رافضين أن يعترفوا بأن هذه العملية غير قابلة للاستمرار.
لكن مع انغماس النخب الأوروبية في الإنكار والتشوش، يجب على اليسار أن يعترف بأننا لسنا مستعدين لسد الهوة التي سيسببها انهيار الرأسمالية الأوروبية وإحلال نظام اشتراكي فعال محلها. ولذلك مهمتنا يجب أن تكون مذدوجة: أولا، تقديم تحليل للوضع القائم يكون مقنعا ومنيرا للأوروبيين حسني النية من غير الماركسيين الذين خدعتهم صفارات الليبرالية الجديدة. وثانيا، اتباع هذا التحليل السليم بمقترحات من أجل تحقيق الاستقرار في أوروبا وإنهاء دوامة الانهيار التي لن تقوي سوى المتعصبين في النهاية.
دعوني أنهي ما لدي باعترافين. أولا، إنني أقبل بأن أدافع عن أجندة متواضعة لتحقيق الاستقرار لنظام انتقده وأعتبر دفاعي هذا عملا جذرياأصيلا. ولن أدعي أنني متحمس لهذا. قد يكون هذا ما علينا فعله في الظروف الحالية، لكنني حزين لأنني على الأرجح لن أحيا لأشهد بعيني تبني أجندة أكثر جذرية.
اعترافي الآخر شخصي إلى حد بعيد. أعلم أنني أخاطر بأن أعوض حزني من عدم إضاءة شمعة أمل من أجل تغيير النظام الرأسمالي في حياتي بالتمتع بشعور القبول من دوائر المجتمع الراقي. وقد بدأ الشعور بالرضا من قبول الأغنياء والأقوياء لي بالفعل يزحف على روحي أحيانا. ويا له من شعور أكول وفاسد وقبيح ومحافظ.
على المستوى الشخصي، شعرت بأني في الحضيض في أحد المطارات. فقد دعاني بعض الأغنياء الراقين لإلقاء خطاب افتتاحي عن الأزمة الأوروبية في إحدى الفعاليات، ودفعوا مبلغ ضخم ليشتروا لي تذكرة درجة أولى. أثناء عودتي متعبا من كثرة السفر، كنت أتجاوز الطابور الطويل للمسافرين على الدرجة الاقتصادية لأصل للبوابة الخاصة بي. لكنني أدركت فجأة مفزوعا كم هو سهل أن يتصور دماغي أنني استحق تجاوز الناس العادية. أدركت كيف يمكنني أن أنسى بسهولة الشيء الذي عرفه دماغي اليساري دوما وهو أن لا شيء ينجح في إعادة إنتاج نفسه أكثر من الشعور الزائف بالاستحقاق. وتشكيل تحالفات مع القوى الرجعية (وهو الأمر الذي أظنه ضروريا لتحقيق الاستقرار في أوروبا اليوم) يجعلنا نخاطر بأن نتساهل وتتآكل جذريتنا بسبب البريق الساطع لـ"وصولنا" لأروقة السلطة.
الاعترافات الجذرية- كذلك الذي أقوم به هنا- هي المصل البرنامجي الوحيد غالبا المضاد للانزلاق الأيدلوجي نحو التحول لتروس في الآلة. إن كان علينا أن نشكل تحالفات مع أعداءنا السياسيين، فعلينا أن نتجنب أن نصبح كالاشتراكيين الذي فشلوا في تغيير العالم لكنهم نجحوا في تحسين ظروفهم الخاصة. التحدي هو أن نتجنب التطرف الثوري الذي يساعد في النهاية الليبراليين الجدد على تجاوز كل المعارضة أمام سياساتهم الهدامة وأن نبقى مدركين لمكامن الفشل الأصيلة في الرأسمالية ونحن نحاول إنقاذها من نفسها من أجل أهدافنا الاستراتيجية.
*هذه ترجمة لمقال (How I Became an Erratic Marxist) ليانيس ڤاروفاكيس المنشور على موقع الجارديان بالإنجليزية في 18 فبراير 2015 ويمكن الإطلاع عليه هنا http://www.theguardian.com/news/2015/feb/18/yanis-varoufakis-how-i-became-an-erratic-marxist. وهذا المقال عبارة عن تطوير لمحاضرة ألقاها فاروفاكيس في مهرجان سابفيرسيف السادس في زغرب - كرواتيا في 2013، والروابط المدرجة فيه مأخوذة من الأصل الانجليزي كما هي.
مدى مصر