سلام الله عليكم
نقحتها بعض الشيء
أرجو أن ترقى لذائقتكم
"قطعة من الفخار"
أخيرا أقِيمَ معرضُ الأواني الفخارية الذي طالما انتظرتُهُ. و ما زاد من حماستي لزيارته أنه نُظِّمَ في المعمل الذي تُصْنَعُ فيه القطع، و هذا ما يعني أني سأتمكن من رؤية الأفران و المواد الخامة و الأيادي المبدعة في هذه الصناعة.
مع طلوع شمس ذلك اليوم، الجميل، حَمَلتُ آلة التصوير الرقمية ، خاصتي، و توجهتُ صوبا إلى المكان، جمع غفير يدِبُّ في الأرجاء. دَخَلْتُُ عبر المدخل الرئيسي لأجِدَ نفسي في رواق واسع و طويل، اِصْطَفَّتْ على جانبيه عدة غرف، و كانت الغرفة الرئيسية حيث المعروضات تتوسط نهاية الرواق.
اِرْتَأَيْتُ أن أبدأ بأول غرفة على يميني. فيها عُرِضَتْ مجموعة من المواد : قطع من صلصال صلب أحمر و رمادي، قطع أخرى بدت جبلية أيضا لكنها ملساء ،متألقة مثل وردة الرمال، باردة الملمس، صفراء ، بيضاء و بنية. عجائن طين رطبة و مواد أخرى لم أعرفها. وَدَدْتُ أن أسأل مشرف الغرفة عن ماهيتها لكنه كان منشغلا بالحديث إلى مجموعة من السياح، و كم يطول الحديث مع السياح! . اكتفيتُ بالتقاط بعض الصور ثم توجهتُ إلى غرفة ثانية. قابلني باب ضخم، لا بد أنه للفرن، لم يكن مغلقا تماما ، من خلال الفتحة تمكنتُ من رؤية بعض الأواني بداخله، تأملت جدرانه الداخلية ، كان مشتعلا و ساخنا . فاجأني صوت أحد الزوار مازحا: ماذا لو تدخلين بداخله و ألتقط لكِ صورة !! ، أجبته: يا لروعة الفكرة!...ثم انسحبتُ بخِفَّة كي أترك له مجال تأمل الفرن .
واصلتُ تنقلي بين بقية الغرف، أخذتُ صورا للحرفيين و هم يصنعون أشكالا مختلفة: مزهريات ، صحون، أوعية....تُزَيَنُ بعد ذلك بزخارف في غاية الدقة و الجمال ثم تحفظ في غرف خاصة.
توجهتُ أخيرا إلى الغرفة الرئيسية ، كانت واسعة و ضَمَّتْ أجمل التحف : نماذج من الخزف الأبيض الناصع ذي النقوش الزرقاء الجميلة، أخرى من البورسلان تكاد تكون شفافة و أواني فخارية مختلفة الألوان و الزخارف طُلِيَتْ بطبقات زجاجية أكسبتها بريقا رائعا.
بينما كنتُ أتنقلُ بين تلك التحف، لمَحْتُ في إحدى زوايا الغرفة قطعة لم تكن تشبه أيا من النماذج المعروضة. بَدَتْ لي عادية جدا في البداية، و في غاية البساطة. تساءلتُ : كيف عُرِضَتْ هنا؟ . اقتربتُ و حملتها. كانت بشكل إناء سميك من الفخار، كبير بعض الشيء، تُرِكَ بلونه الأحمر الطبيعي. تدويرُهُ لم يكن مثاليا، و كأنه شُكِّلَ باليد فقط دون الاستعانة بالآلة. على جوانبه رُسِمَتْ تشكيلة مثل الرسم التجريدي التعبيري، ضَمَّتْ خطوطا و مربعات و أوراق شجر ، وُضِعَــت بطريقة عشوائية حَضَرَ فيها اللون الأصفر و الأحمر و البني و الأسود، و الألوان بَدَتْ مُنْدَمِجَة مع مادة الإناء.
شَعَرْتُ بِأُلْفَةٍ مع هذا الإناء ، و كأنه يحكي قصة. رَفَعْتُ بصري أبحث عن المشرف ، انتبهت حينها إلى أنه كان على مقربة مني. حَالَ نظري إليه شَعَرْتُ أنه كان يرقبني طيلة تفحصي للإناء، زاد فضولي، سألته: هل صُنعَ هنا؟ لا يشبه غيره! ـ كلا يا سيدتي ، هذا الإناء من المجموعة التي يصنعها والدي بنفسه، و من حين لآخر، يُحِبُ أن نعرضَ شيئا منها هنا. ـ شَكْلُهُ يوحي بأنه مصنوع باليد ـ هو كذلك ـ و ماذا عن الألوان ؟ تبدو مُْدمَجَة؟ ـ يستعمل حجارة خاصة، يأتي بها من الوادي ، يكسِرُها و يدُقُهَا جيدا حتى تصبح مسحوقا بِلَوْنِ الحجارة المستخدمة، يضيف لها مادة دهنية طبيعية فيحصلَ على الطلاء الذي يستعمله في الرسم. عند الانتهاء ، يُدْخِلُ الإناء في الفرن مدة كافية حتى يجف الطلاء، ثم يدهنه بدهن شفاف ، يعيد إدخاله من جديد في الفرن لِيَحْصُلَ في الأخير على هذه النتيجة مع الألوان.
تأمَلْتُ القطعة من جديد: تحفة والدك مميزة ، فهي تحمل أكثر من قيمة شكلية جمالية، طريقة صنعها، الألوان و الرسومات ، البساطة، كل ذلك يُشْعِرُكَ و كأنها شيء قديم يحكي مراحل وجوده في هذا العالم ، و يحيي في النفس إحساسا عميقا ، ربما حنينا إلى الماضي...أو حنينا غامضا.... .أجابني بشيء من الدهشة و الانكسار : قليلٌ من يلحَظون ذلك ، بل لا أحد يلْحَظُ ذلك مطلقا، إنهم ينبهرون بالجمال الظاهر الأخَّاذ لهذه التحف التي تملأ المكان، و لا أحد ينتبه لهذا الإناء، يكاد يكون غير مرئي أو معدوما ، و قد يُعتبر طفرة غريبة إذا ما انتبه إليه أحدهم. استرسل بعض الشيء: البساطة و المعاني العميقة أمْسَتْ مفاهيم غريبة اليوم، لا أحد يَفقَهُهَا.
تأثرْتُ بكلماته ، سألته: سيدي هلا أرشدتني إلى والدك ؟ أرغب أن يصنع لي قطعة كهذه. تحرَّجَ قليلا: سيدتي أشكر هذا الاهتمام و التفاعل منك لكن لا أجْبِرُكِ على اقتناء مثل هذه القطع، خذي حريتك في اختيار أجمل ما تحبين . ـ أحببتُ هذه القطعة و لا أريد غيرها ـ لمس الصدق و الجدية في إجابتي ، ناولني عنوان والده.
نسيتُ أمر المعرضِ و المعروضات!
وجدتُ نفسي أخرج من المكان بسرعة ، متوجهة إلى ضاحية ريفية ، حيث الوالد والجبل و الصلصال الأحمر و الوادي و حجارة الوادي.
~ ~ ~