Reply to Thread
Results 1 to 3 of 3

Thread: السلام عليكم رواية

  1. #1 السلام عليكم رواية 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Mar 2007
    Posts
    21
    Rep Power
    0
    السلام عليكم
    (رواية)


    صلاح والى












    صلاح والى: السلام عليكم (رواية)


    تصميم الغلاف


    الحضارة للنشر
    7 شارع أبو السعود – الدقى 12311 – القاهرة
    تليفون 37619439 – 0123164867 – فاكس 37605898

    Al-Hadara Publishing
    7 Abou El-Seoud Street
    Dokki 12311, Cairo, Egypt

    Tel.: (20-2) 3 761 94 39
    (20-12) 316 48 67 - Fax: (20-2) 3 760 58 98
    E-mail: ask@alhadara.com
    E-mail: hadara@idsc.net.eg
    www.alhadara.com

    الطبعة الأولى: 2008
    رقم الإيداع بدار الكتب /2008
    I.S.B.N.




    جميع الحقوق محفوظة للمؤلف


    إهــداء

    "يا أمي.. أنا خائف
    هل ما أكتبه يجعلني رابط الجأش، لأنه المضنون به على أهله؟
    أخاف أن أكون قد وضعت طعام الملائكة للكلاب"





























    (1)

    ما إن لامست أقدامهما أفرع الجميزة الكبيرة العالية حتى سكنا قليلا وتنفسا بعمق، ثم انزلقا على أفرع الجميزة حتى وصلا إلى فرعها الموازي للأرض والعالي عن الأرض بمقدار متر، فقفزا معا إلي الأرض، فنفضا من عليهما كميات كثيرة من الغبار الأبيض تصنع حولهما هالة (يقولان الدقيق الأبيض ظنا منهما أنهما تعفرا بالدقيق لوجود الجميزة بجوار ماكينة الطحين، وإكمالا للظن، أن يكونا هاربين من شيء ما فوق الجميزة) وأنا لا أقول إن هذا الغبار الأبيض كان من القمر، لكن ربما والله أعلم من مسيرهما في طريق النزول إلى الأرض،عن طريق درب التبانة، لأنه أسهل طريق من السماء إلى الأرض، وأنا عانيت كثيرا من الغبار الذي يملأ درب التبانة والذي يظهر لك من على الأرض كدقيق تسرسب من سارق الدقيق وهو في طريقه إلى السماء لصنع كعكة القمر - راجع كلام الماء كلام النار - وأنهما بعد أن سار معا من أول خروجهما من أول طريق درب التبانة حتى أول ملامستهما لفروع الجميزة كان الغبار يتكاثف عليهما ولم يكن في أيديهم وقتا لنفض الغبار عنهما، كما أن هذا الغبار قد نفضاه عنهما مرتين، واحدة عندما لامست أقدامهما فرع الجميزة العالي، والأخرى لدي قفزهما على الأرض.
    تنهدا وجلسا تحت أفرع الجميزة على الأرض في ضوء القمر، ووضعا شالهما على الأرض بجوارهما، ثم وقفا وخلع كل منهما طاقيته بالعمة والجلباب ونفضاه بقوة، وضربا جذع الجميزة بملابسهما وكان الغبار ينفض كثيفا في كل مرة ويذوب صاعدا في الهواء منيرا تحت ضوء القمر، لبس كل منهما طاقيته وجلبابه ولف عمامته ووضع الشال علي الأرض والتفتا فنظر كل منهما في وجه الآخر وتبسما وتصافحا
    - حمد لله على السلامة
    ثم جلسا وناما كل على شاله قائلا بهدوء: السلام عليكم
    قلت في نفسي: أنا لا أحلم والنهار خرج تثاؤبه ضبابا أبيض! فما الحكاية؟
    انهمرت أصوات المخلوقات على أذن الكون فدمع من حلاوة اللحن، طلا وندي، وعزفت مخلوقات الله لحن الصباح الجميل، ووصل جمل السيد أبوديب مسحوبا بيد على خيشه وعليه حمولة الحبوب التي ستطحن، كما وصل جمل البربري يسحبه عبد الله وتمشي خلفه زينب وهو محمل بحمولة الحبوب، ونساء ثنائيات أو يتامى (يعني مفردات) تحمل كل واحدة قفتها بحبوبها وتسير في خط وهمي بين الدار ووابور الطحين، سحب فرج الله رزق عدته وجلس بجوار حجر الطاحونة وأخرج قادومه المخصص للنقش وبدأ عزف لحن العمل، وانتظم الدق فهلل مصباح وفتح باب الطاحونة، وعاد وبيده لمبة الجاز، ولملم أغصانا جافة ودندانا (أفرع وأوراق أشجار الكازورينا) فهي سريعة الاشتعال ووضع الجميع في حفرة وأوقد النار، وعاد بلمبة الجاز إلى داخل الوابور ثم خرج ليضع كنكة الشاي بمائها على النار.
    فضح النهار خوفي فصار حقيقة تنام أمامك وأمام الناس، ذهبت لمصباح وقلت له: السلام عليكم
    رد مصباح: صباح الخيرات
    - من هؤلاء النائمون تحت الجميزة
    قال دون أن يلتفت: عمك حفني وعمك عثمان النجار وأظنهما ذهبا إلى السيد أبوديب.
    في نفس اللحظة أخذني الشوق ناحيتهما أشك فيهما، ولمحت بقايا القمر في السماء تضحك وتختفي بعيدا في ضوء النهار، وموكبه القادم بالدفوف وأصوات العصافير، وانطلق من على أفرع الجميزة كمية هائلة من العصافير قلت: لماذا لم تنطلق لحظة هبوطهما؟
    تك، تك، تك
    انطلق صوت ماكينة الطحين فقلت إنها العفاريت في عز النهار، مازال عبد المحسن وفرج الله رزق ينقش كل منهما الحجر الذي يديرها، فكيف دارت الماكينة؟، نظرت إليهما وكانا قد استغرقا في النوم وعرفت أن مصباحا لا يري فقد قال لي: ذهبا إلى عمك السيد أبو ديب، ولكنهما نائمين.
    رفع كل منهما يده باتجاه الماكينة فسكت الصوت تماما فقلت ربما أحلم، أو أنني أحلم، أو يهيأ إليّ أنني أحلم، هل ظننت أنني أحلم.
    ربما شطح إلى النور فتركت للكلمات حالها لتحتفل بما نحن فيه وتتموج بشطح الكتابة إلى النور دون هدف غير أن تكتسب حريتها في مملكة التدوين، ولها أن تسجل صوت ماكينة الطحين أو لا تسجله فما هو إلا ككحة النائم ثم يعتدل دون أن يصحو، فلتنطلق الكلمات كما شاءت وشاء لها باعثها.
    كنت قد أخذت العهد على العم حفني حين أمرني بالتدوين أن أكتب كل الحادثات والأحداث كما حدثت دون مراعاة الأحياء وشعورهم فتلك بهجتهم أو حزنهم لحظة حدوثها، فلماذا يفرون منها الآن؟
    ويريدون الهروب منها؟
    فقال: الماضي والحاضر والمستقبل، وكنت أدون وأنظر إليه فأنا لا أفهم فينظر إليّ ويبتسم.
    ماذا أفعل الآن وهو نائم وبجواره عثمان النجار بعد أن هبطا من فوق الجميزة وقال مصباح أنهما ذهبا إلى السيد أبو ديب؟
    التفت ناحية الشرق كانت الشمس تكشف ستر الضباب الذي غلف كل شيء، برزت تحت الشمس مباشرة دار فتحي عبده، ورأس جمل السيد أبو ديب يسير أمامه على خيشه متمهلا (هل كان على خيشه يفكر في سيدة زوجته بعد أن ودعته عند آخر الحارة - راجع الكائنات التي..)، وأعرف أن الجمل وعلى قادمان لماكينة الطحين، كان الجمل يتصدر المشهد حتى برز من تحت أعلى جوال في حمله رأس جمل البربري، فعرفت أن زينب معهم في الطريق قبل أن ترحل طفشانة إلى القاهرة، زينب العفيفة الشريفة التي حملت مسئولية بيت أبيها ولم تنطق وكان هذا المشهد قبل الحادث الذي طفشت بسببه بعشرين عاما.، وقبل الحادث الذي سيحدث لي بثلاثين عاما وأري فيه زينب لأول مرة بعد هذا اليوم.(راجع سقوط الملائكة).
    ارتفعت الشمس بعيدا تاركة أشعتها في المشهد كله وتمهلت في سيرها لتكنّ قليلا وتستريح في ضاحية الكون، وتركت ضوءها يملأ المشهد، فعرفت أنني لا بد لي من مغادرة المكان، فرفعت وجهي أقلبه في السماء وكان الوجه الموزع الملامح في كل أرجاء الكون يطل عليّ سألته عن حفني وعثمان فقال: كانا ساهرين طوال الليل.
    نظرت إليهما وهما نائمان، كانا يتحولان فكيف أعرف هذين الرشيقين الهابطين بخفة فوق أفرع الجميزة؟
    وكيف يمكن نسبتهما لأكرشين كبيري الحجم؟
    تركت مصباحا وعبد المحسن وفرج الله رزق وسرت في طريقي
    - ازيك
    كان صوت العم حفني يمرق من خلفي إلى الأمام، خارما ثقبا في المشهد والكون وفالتا من ردي عليه
    - صباح الخير
    عند نهاية كلامي بالضبط كان يختفي بجرمه الهائل وكرشه أمامه في المشهد دافعا ضبابا خفيفا يموه الرؤية عليّ.
    بسرعة التفت وجدت عثمان النجار يشرب من قلة الماء، ولم يكن أحد أسفل الجميزة، قال بعد أن شرب: الحمد لله
    وقبل أن أسأله أشار إليّ قائلا: العين تخدع، لكن القلب لا ينخدع.
    وسار في طريق غير الذي سار فيه حفني.
    خفت من هذا التجلي الظاهر عيانا بيانا ففررت إلى طريق غير طريقيهما وأنا أردد (ففررت منكم لما خفتكم.)
    عندما رأيتهما كانا (كأنه) توءمين من لا قحتين مختلفتين وليستا متشابهتين، ولكن دائما يدخلان في الضمير من خلال (كأنه) وليس كأنهما، وأنهما (أنه)،
    ماذا أفعل؟
    عندما يتجلى أحدهما في الحديث عنه أو منه لا يذكر الأخر أبدا، وإذا التقيا صمت أحدهما صمتا لا يكون تابعا للآخر أو موافقا تماما على ما يقول (وكان بودي أن أقول لأزيد المسألة تقعيرا - حتى وهما صغيران، ولكنهما (ولكنه) لم يكونا (يكون) صغيرين فقد وجدا هكذا، وهكذا، هكذا هي السكاكرة - راجع كلام الماء كلام النار)

    كان حفني عندما يقابل عثمان يضحك وكان عمك عثمان يعرف ولا يغضب، ماذا يفعل لكل إمكانياته، كان حفني يضحك من الحلم الذي يراه عثمان ويطارده من ثلاث ليال، كل يوم وكان حفني يري أحلام عثمان لحظة حدوثها، ويشاهد عثمان وهو يحلم، وأيضا وهو في الحلم، فحفني مركبا وعثمان أحاديا كأنهما الشفع والوتر.
    وكان عثمان مشدود الجلد، بينما حفني كان وجهه مكرمشا كأصابع الجد الكبير إبراهيم بن سليمان الحداد التي نقعت في الماء لأيام، أيام كان يشق الترع ويمهد دربا للحياة لتسير عليه، فامتلأت أصابعه بالماء تحت الجلد ثم تبخر الماء فكرمشت أصابعه كوجه العم حفني، أو كأصابع النساء بعد الغسيل.
    بعد هذه المعرفة يكونان (يكون أمامي ولا أعرفهما (أعرفه)؟
    ولكن من أين جاءوا؟
    الخيال مقفل بالضبة والمفتاح، ولا أري وأنا في طريقي إلى ترعة النصرانية في المشهد الذي أمامي في الرؤيا سوى جميزة كبيرة وماكينة طحين، وأرض مزروعة لا أعرف ولا أقدر على تمييز النبات المزروع، وأثر مشى حفني محفورا في ضمير الكون، وأثر مشى عثمان واضحا في صدر المشهد، النهاية أنهما سارا إلى حيث يعلمان.
    كان لا بد أن يتغير المشهد أو تمحو الشمس آثارهما ولكن لم يحدث شيء من هذا فهما سارا والمشهد خال تماما، أما أنا؟
    فكما علمت، على ترعة النصرانية أصرخ لا أفهم يا رب فألهمني واحفظ جناني من جناني.

    ماذا أفعل يا رب، نرتب الأحداث من البداية
    هبطا على الجميزة من أعلى، ولم تنطلق العصافير، نزلا على فروع الجميزة كأنهما فئران وقفزا معا إلى الأرض ونفضا جلبابهما وشالهما وناما بعد أن قالا لبعضهما السلام عليكم،
    ثم قاما من النوم عثمان وحفني وسار كل منهما في طريق وأنا سرت في طريق ثالث لكني أراهما، إلى هنا لا يلزم أحد بتصديقي لأنني فقط الذي رأي.
    كيف أخبر أهلي وأنا المكلف بالتدوين، هل آخذ رأي شكري وحنكش وشلبي، طبعا لا يمكن ليس لأنني أناني ولكن لأنهم ماتوا وتركوني وحدي للتدوين.
    فهل حقا أنا أكتب من الذاكرة ومن المدونات سائرا بكلتا قدمي على سطور المدونات وقافزا فوق أرفف المكتبة ومعجبا بحزقيال وجو جول؟
    ثم أنني نسيت المكتب وهجرت الكتب، من يوم أن اكتشفت كنوزي، وهي لفائف المدونات التي فتنت أبي ثم فتنتني، التي تركها الرحالة الذي لم يكمل حديثه وستقول عائشة: أنه كان قادما ليوصلك هذه الأمانات، ولكني وقتها لم أكن أعرف.
    لم يكن أمامي إلا شخص عليه طين السفر ويحمل على أم رأسه وظهره حمولات من لفائف قالت عنها عمتنا لا شيء يؤكل ولا يدخل الزاد بطنه.
    وإن كانت شلبية تدخلت قائلة لا تعطوه طعاما أو ماء، أطعموه البصل والثوم يومين متتاليين
    - هذا كلام غير معقول يا شلبية.
    - قلت ما عندي
    طبعا لم نسمع كلام شلبية، كما في الآتي لن يسمع الرجل نصيحتنا التي همسنا بها للكون ورد السلام على جدي فلحق بآخر درجات سلم السماء، فرد لنا ما فعلناه.
    أشار لنا أبي ففهمنا أنه يأمر بإطعام الرجل، فأعطيناه كل ما عندنا، خروفا صغيرا، فأكل وشرب ونام ومات ودفناه لأنه لا أهل له لنستدل عليهم.
    وقال أبي: ألم أشر لكم بسماع كلام شلبية، لماذا أطعمتم الرجل؟
    في يوم بدأت أفك اللفائف وأقرأ المدونات بعد أن بقيت على حالها سنين، ودهشت، وارتبكت، وسحرت، وخفت فعلا أن أنسي الكتابة، ومن كثرة القراءة بهت نظري ما هي الحكاية بالضبط؟
    ساعدني يا رب ساعدني
    ساعدني ولا تجعلني أمرّ بالتجربة وامنع فيض التذكر عني، حقيقة، لا أريد الكتابة، ولا التدوين فساعدني
    وكان أبي قد غاص دون أن أعلم في نفس الكنز الذي يسمع ببلاد لأول مرة يقرأ عنها.
    ولما رحلت إلى الأردن، وتزوجت وأنجبت أولادا صغارا، ولكني اشتقت إلى اللفائف فحلمت بها وفككتها وأكملت قراءتها مكملا ما بدأت.
    مرة أخري شغلتني البنات الجميلات والأولاد الجميلون في البادية والمزارع والبساتين والجبال والسهول والوديان، والضفة، والنساء الفلسطينيات بقدرتهن على الفرح، شغلت كثيرا عن المدونات فكنت أعود ثانية، ولكن الجميلات والمدونات سحبن نور عيني.
    وكذلك صار أبي، فعندما تنعم عليك الدنيا بالمدونات تسحب نور عينك وتمرر أمامك الجميلات فتمرّر حياتك، ولذلك فعندما مرت شلبية على أبي وهو يجاهد ألا ينسي الكتابة نسيت ذلك لكن ستخبرني به بعد سنوات.
    كان أبي قد اندمج مع المدونات لدرجة أنك لا تعرف ذكرياته من خبرته مما قرأه، وكنت أخاف عليه وأنادي: ساعدني يا رب.

    (2)

    زامت الكلبة معلنة عن قدوم صوت الطبل، فاهتزت الروح داخل الجسد، وأطلت من رأسي عينان تبحثان في الظلام عن نقطة ضوء، وتحاول البحث في الأضواء الباقية من انعكاس نور فانوس الجامع المتسلل من هذا الضوء من نوافذ دورات المياه.
    الشتاء شتاء، والطين طين، والهواء مشبع بالبرودة، والبرودة واقفة تحت عرش السماء، ومنتشرة في المكان والعظام، واللحاف لا ينفع، ولا النفخ في اليدين ولا حمل الصوف البني المقلم بالأسود،
    فجاءت بالشالية وهي محملة بالكوالح المشتعلة ووضعتها ثم وضعت الطبلية ورمت عليها حزمة بصل أخضر، وفردت طولها، فاعتدلت
    وقالت: ربنا يستر عليه من كلبة أم حسين
    - نور الجامع ظاهر من الباب، لأن الفانوس معلق بالساحة أمام ميضة المياه
    وضعت الحلة على نار الشالية بعد أن وضعت قالبي طوب على سيفهما وبهذا حصرت النيران تحت الحلة، حصريا كانت النيران تحت الحلة، فارتفعت رائحة العدس، اقترب الطبل منا فنادي شلبي كالمستغيث: كل عام وأنت بخير يا أستاذ.
    وكرر: يا ست الكل يا أم أحمد، يا حاجة، يا أهل الله الصالحين طورة بلح، وإن شاء الله الليلة الجاية نأخذ الكعك.
    - إن شاء الله يا شلبي، انتظر
    كنت قد قفزت من تحت الأغطية مطبقا يدي على القرش صاغ الأحمر المشرشر الحافة الذي تصدره الملك من جهة وفي الجهة الأخرى الكتابة عشر مليمات، وأمسكت طرف الجلباب واضعا البلح في حجري وخرجت من باب الحجرة إلى الصالة ثم باب البيت اجتزت الحديقة وفتحت الباب كان شلبي واقفا بشحمه ولحمه وطبلته الكبيرة فأخذ شلبي يدق لحنا راقصا فضحكت وأعطيته البلح، فزامت الكلبة
    - امشي ابعدي هناك
    وكان نور فانوس الجامع ينعكس من فتحات دورات المياه، فتظهر الأرض بركا من الطين والماء، ولم أحس بذلك لأن ممشى الحديقة عالي بالزلط والأسمنت
    - أهلا يا أخ، أظن عندكم لحمة، أو مهلبية
    - عدس، والله العظيم
    - عيب أنا لا أحسد، يوم العدس عندنا يوم تكريم للعائلة بالبصل والذي منه
    هكذا بادلني شلبي الكلام وهو يأخذ البلح
    - تعال يا شلبي
    هكذا نادت أمي فتجاوزني شلبي إلي الحديقة وتناول في نور السهارى الكهربائي الخاص بالحديقة سلطانية العدس، شربها شلبي على ثلاث دفعات نافخا من البرد: الله يعمر بيتك وتزوري النبي ألف مرة، حلو قوي يا حاجة
    كنت أتأمل شلبي، كتلة بالطو أظن أنه أسود أو أخضر زيتي وتظهر من تحت ياقته كل ملابس عند شلبي، انتبه فأقفل الياقة وقال: أحسن البرد نار، والعدس ناريين
    مسح شلبي قدميه فنظرت فوجدته قد لبس شيئا جلديا محشوا بلفافات أقمشة وأربطة ويظهر بنطال قصير قليلا من فوق الأربطة
    قال: الهدوم الكثيرة قصرت البنطلون
    قال شلبي ذلك وهو يلف شاله حول رأسه ثم رقص الطبل قليلا وسار وأقفل باب الحديقة، وعدت إلي الفراش فوجدت أنني مازلت قابضا على القرش صاغ الأحمر ونسيت أن أعطيه لشلبي.
    قلت لنفسي لن أسلم من لسان شلبي فهو ليس له رأس، له شيء جاف وبه عينان ولسان حاد يطلقه على الناس سواء نال العقوبة أو العفو.
    كنت مازلت أتابع صوت الطبل وكأن شلبي يسير على قلبي، وأمام عيني وأنا أنظر إلى القرش صاغ الأحمر.
    قفز اللاعب الأكثر نشاطا من فوق أحد رفوف المكتبة إلى رف المدونات دافعا المدونة بقدمه فسقطت على السرير، فتابع القفز مطاردا المدونة ثم فتحها وأخذ يقرأ بصوت عال، بينما الآخرون يجلسون فوق الكتب وفوق أرفف المكتبة يستمعون
    .. أي محاولة لتفسير ذلك وتقول هم ناس بركة وكفي فمثلا أنا أراك ولكن لا يمكنني تفسير كيف أراك فأري السكاكرة نقشا بديعا على جدارية بجوارك، ثم يحرك الهواء هذه الجدارية فأكتشف أنها سجادة السكاكرة المتدلية من السماء.
    مسحت على رأسي يا خالقي وقلت لي (ما كنت أريدك تشقي، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) هل يصح وأنا في موقف الحضور والمحو أن أقول:
    سالت دموعي أوراق ورد، وشلالات عطر، ومناديل هوى أو أقول أن دموعي نزفتني حتى صارت عروقي تضخ آهات فقط،، ولكني لم أجد في هذا الكلام مقامك، فلزمت مقامك بمقامي وصمت، فالصمت أبلغ من الكلام، وفتحت بوابات القلب بيني وبينك..
    هل أمتنع عن الكتابة؟
    هل هذه الصفحات التي توقظني من النوم وتنهمر عليّ حروفا وشخصيات وحوادث لا علاقة لي بها، ولكنني أعرفها وبعضها لا أعرفه، وبعضها اكتب فقط وأشم رائحة حدوث في المستقبل لكني لا أفهم فأصرخ، ولا فاهم، حاجة يا رب.
    أو أن هذه الأوراق البيضاء التي أضعها في المكتب ثم أحضن المكتب وأتلوي من الألم وتصبح رأسي كشاشات العرض تعرض ما يدون في الأوراق، وبعد أن أفيق أجد الأوراق مدونا بها رواية عائشة الخياطة كاملة (راجع فتنة الأسر)
    عبدك المسكين يقف أمام العرش حائرا خائرا
    - وتظنون بالله ظنا حسنا
    كأنما أوتيت القوة فقلت: نحن نظن بالله ظنا حسنا لأنه ربنا
    أحسست نورا يخرج من بين أصابعي فضممت يدي إلى جناحي يعني وضعتها تحت إبط يدي الأخرى، ثم ناديت أكمل التسعة يا رب، فأضاء باطن يدي فسلكتها في جيبي أي وضعتها في صدري بين نهدي، فأضاءت كالمرآة فضممتها إلى جانبي (جناحي) فعشيت العيون وأضاءت البصائر.
    يا خالقي أنا أقول لك ما أقوي عليه، أما ما لا أفهمه فإنني أصرخ ولا فاهم حاجة يا رب.
    أنا أعرف أنك تسمعني، وأنا كذلك أسمعك، في مرات كثيرة أراك، ولكن يمتنع القول والإخبار، في أحيان كثيرة عظيمة أو كبيرة أعرفك، وأنت الحق تعرفني ألست تعرف من صنعت بيدك؟
    أنت ذلك الذي يأخذني آلاف المرات إلى منبع روحي وكان الخلق يسيل، وكنت عليّ حزين، ومسحت قضاءك في روح عذّبه الطين، تعرف أنني وأنا على الحائط الطيني وقبل أن تأتي أمي على صرختي أتيت أنت وامتدت يد المشيئة لتنقلني إلى الحائط الأخر وتقف بين سقوط قالب الطوب الطيني ورأسي.
    ربما أتت أمي لحظة كن، بينما كانت يدك تنقلني، ألست حبيبك، وكنت مازلت لحظتها على الحائط الأول وقد سقط القالب فعلا فوق رأسي فصرخت ففزعت أمي كما فزع من في السماوات والأرض، فتدخلت إرادتك قبل الزمن لتحول بين القالب ورأسي وتنقلني إلى الحائط الآخر ويسقط القالب على الحائط مكاني تمام ويستقر، كانت أمي تحس أن شيئا حدث لي وجرت، فرأتني على الحائط الآخر، هل أدركت لحظتها أنني على كلا الحائطين وأن ما تراه على الحائط الثاني ليس أنا، كالنجوم نراها تلمع وهي قد غادرت مكانها من ملايين السنين.
    تاهت أمي قليلا، ولكنها نفضت الوسواس الخناس من جوار أذنها واستعاذت منه بالرحمن الرحيم، وعادت إلى عملها.
    أعرف يا خالقي أنني أقف أمامك عاريا إلا من ذنوب وأنا سأجعل السكاكرة عارية كالحقيقة.
    أعرف أن الناس لا يقبلون الحقائق، لأنهم يدارون نفسهم بالكذب، فكل ابن من أبناء الفقراء يقول لك كان الحاج (يقول لنا) وهو يعرف أن هذا الحاج المزعوم لم يلبس لباسا في حياته وأنه مات ربما من الجوع، ويحفظون قصصا مليئة بالباشوات ويدسون أهليهم فيها، يا سبحان الله، يا مولانا أنا أعرف وأنت تعرف أن والدك لا يعيبه أن يكون فقيرا، ولكن يعيبه أن تحشره بهدومه المقطعة وشقوق رجليه بين الناس لأنه لن يكون بينهم إلا خادما.
    الحقائق يا مولاي تعرج أي تسير حول الأرض حسب دوران الأرض وتمر على الأماكن كلها على سطح الكرة الأرضية بسرعة، لذا تشابهت حكايات الشعوب وفي مرورها السريع وتمهلها يصعب تتبع مساراتها فتكتمل حكاياتها بالظن والتخمين والتحوير وعلى مدي الأجيال بالحذف والإضافة، وتشيع الصورة الضبابية من كثرة الاحتمالات لأنه لا يقين يقطع بالحقيقة التي تشبه القاطع فتفصل بها بين ما حدث وما هو ظني.
    ولأني أعرف فجئت لأقلب كل ما اعتاد الناس عليه.
    وها أنا ذا واقف أمامك في ملكوتك لا خائف من جبروتك، فأنا في حماك، ولا مرهوب من رهبوتك فأنا في طاعتك، واقف أمامك وأمام عرشك تسمعني الآن، فأعرف أنك أرحم من البشر.
    كنت وما زلت مليئا بالذنوب والعيوب (هل أقول المعايب؟) ولا أندهش وأنا أقف أمامك وأنت تنظر إليّ رغم كل المعاصي التي تجللني من الرأس إلى أخمص القدمين. فأنت تعرف أنني ولدت بشهوات خضراء وغرائز حمراء فكانت كحمي تحاصرني وتغذني في جسدي بمسامير فأجول منتصبا كمهر صغير خلف حيواني اليقظ، الذي لا يفهم فهو كالبهيم يسير خلف خياشيمه ووراء الإفرازات والسوائل، منتعشا من رائحة الطلع والخيار ورائحة نوار البطيخ، حتى وأنا أتدحرج خارجا من الكوليرا كطفل ينجو من الوباء لكن من حوله ينتظرون موته، ولكني ظللت أتشبث بالحياة وأغني لها، أو ربما كنت أناغي طفولتي فلا أحد يهتم بالأموات ولم ينتبهوا لي بعد عودتي من موتي إلا في المرة الرابعة.
    كنت أدخل إلى المعافاة من المرض ممزوجا بدعاء نسوة كثيرات، وعجائز كثر وشابات مدملجات كنت أود لو لا صغري أن أرويهن بماء الحنان عوضا عن لهفتهن عليّ.
    كنت أتدحرج بين حجرات البيت الطيني الذي لم يكتمل كالفأر في المتاهة، أو أخرج إلى الحديقة مدعوما بقلوب مراهقات مررهن طول الانتظار، آلاف من البكر ومن الثيبات، فأنا ولد بعد خمس بنات غير الذين لم يجدوا لهم مكانا بيننا فماتوا.
    أمسكت بقوة في عامي الرابع وصرت موجودا بعشقي نخلها وناسها وأرضها وأغانيها وسماءها وأغانيها وسعيت لجمع حكاياتها حتى اختارني العم حفني للتدوين، ولم يكن الصمت دليل الرضا إلا بين أنداد، فالسكاكرة كل واحد فيها رأس قائم بذاته حتى لو مات من الجوع فهم يعترضون على كل شيء فلماذا بدل العم حفني أحواله معي؟
    ولماذا سار عثمان النجار في اتجاه آخر، وأظنه واضح القصد في بلبلتي؟
    ماذا أفعل يا رب؟

    (3)

    كنت أجلس في المقهى وأنا أعبر الثمانين بعامين، وأسير بأنفاس لاهثة أدربها على امتصاص أنفاس الشيشة وأشرب القهوة التركي، وأنا لا أعرف هل ستحملني أقدامي إلى البيت.
    هل كان يعرف أنني كنت الطفل بأعوامه العشرة الذي كان يجلس مع جده الذي يشرب الشاي بالنعناع كما تعود في بيت لحم، وكان جدي يشد أنفاس الشيشة كأنما يقبلها رقيقا حانيا، وأن أي مقارنة بيني كرجل عجوز الآن وبين جدي يفوز جدي فيها ويتواري في سحابات الدخان بينما أبقي مكانه عجوزا يشد أنفاس الشيشة وأضحك.
    وكنت كجد عجوز أسير متمهلا في الشارع كرجل عجوز عندما ينظر الناس لي رغم أنني كنت لا أحس بالسن لكن المطلوب أن تتقن دورك، وكانت زوجتي التي يحسبها الناس حفيدتي بخمسة أعوام، حفيدتي من سمر عبود التي تزوجتها في الأردن قد أنجبت ولدين معا.
    أسير متمهلا كجد عجوز، وكان نادل المقهى يمسك يدي ويساعدني على القيام، وكنت أدفع الحساب والبقشيش مع متشكرين يا بني ودعوة أطلقها له فيقول بامتنان: متشكرين يا حاج مع السلامة، على مهلك، ولكنني في نفس العام سافرت إلى سوريا، ولا تفتح معي كلاما بشأن هذا الموضوع فذلك بلد يحبنا ونحبه، المحبة من الله يا أخي،
    فيها نبع ماء يمرق من تحت جبل عال وأول النبع حار جدا ثم تدخل في هذا النبع العلوي الذي يتساقط عليك من جوف الجبل فيبرد قليلا، قليلا إلى أن يصل إلى برودة شديدة في آخره عند فتحته الأخرى، كنت أعبره عاريا مرات أنا وغيري من الناس،
    وفي إحدى المرات أحسست كأن شيئا سقط عليّ من أعلى الكهف، أو كرات ثلجية تكورت من برودة الماء لكن ذلك الشيء كان قد ركبني ودلدل رجليه حول وسطي فأحسست أنها أنثي، خاصة وقد أحسست بجغرافيا جسدها تحتويني، واستدارت دون أن تتركني بحيث واجهتني وكان شعرها يغطي رأسها وكتفيها وظهرها وهي متعلقة بي فرفعت شعرها عاليا قبلتني بعينين ناعستين
    وقالت: حبيبي
    فحملتها حتى مكنتها مني وسرت تحت الماء إلى أن وصلت إلى الماء البارد فلم أجدها، رغم إحساسي بها، فنظرت مكانها فوجدت رسمها على جسدي بنفس وضعها الذي كان.
    عدت مرة أخري إلى داخل الكهف أجري وأنا أحسها تتغلغل في جسدي حتى وصلت إلى الماء الحار كان رسمها قد تلاشي تماما ولكني أحس بها، وظهر شعر أسود على جسدي وصار جلدي خشنا كجلد الدجاج، ولكن عندما أنام كانت تخرج من نفس المكان بنفس طريقة الدخول وتحتويني وفي الصباح لا أجدها وأجد رسمها يبهت على جلدي.
    كان جلدي قد خشن وظهرت عليه شعيرات سوداء، وصرت رجلا طويلا أطول من جدي رحمه الله رحمة واسعة فقد رأيته كهلا بعد موتي الأول.
    وأمسيت أذهب إلى المقهى وحيدا أشرب الشاي أو القهوة التركي والشيشة، ولي سمت غريب يوحي بالاحترام والوحدة، لزمت هذا الأمر حتى إذا ما جاء الشباب بأيديهم كتبهم وثقافتهم تختلف تعرفت عليهم وجلست صامتا أمتص رحيق قراءتهم وأنا صامت إلا من كلمات لتوجيه الحديث وكانوا قد اعتادوا غرابة أطواري وكنت أندهش بشدة كرجة الرعد في الصدور من ذكائهم وسرعة بديهتهم وقدرتهم على الحفظ والاستنتاج، وجدت صعوبة شديدة في اللحاق بهم بهذه السرعة، فأنا أتعامل مع كل الحروف بتقديس عظيم وأقدر الكلمة وموضعها في الجملة وأتأمل الجملة وأسأل نفسي لماذا هي اسمية وليست فعلية، ولذلك تستغرق مني القراءة والكتابة وقتا طويلا، بينما الناس تكون قد سودت صفحات كثيرة، ماذا أفعل هذه أرزاق؟
    لهذا كنت أنتظرهم بفرح طاغ، وأغضب إذا استهلك الوقت في كرة القدم أو التعالم من أصحاب فتاوى الجهل بكل ثقة، وضحايا عصرالاستحمار.
    زمان كنت أمرق بين سنوات الكلية في قطار الحب الذي دمرت كل سكانه في خيالي ولم أجرؤ على الحديث حتى مع كمساري القطار، رغم أنني علمت أنني كنت الملك المتوج على قلوب كل فاتنات القطار.
    طوحت بي السنين لتفاجئني وأنا أعزق الحشائش تحت أشجار التفاح في الأغوار بالأردن، وكنت أتأمل كيف لشتلات اللوز المر أن تحمل طعم التفاح حتى يقاوم النيماتودا والذبول، وكنت أسمع جدتي وأنا صغير تغني لي
    حط التين على التنتين
    حط الورد على الياسمين
    اطلعي من دول يا ست البنات
    وتقول اختار لك عروسة فهي ست البنات، ولست أعرف هل هن ست بنات فقط الجميلات، أو هي واحدة سيدة البنات؟
    كان يسحرني غناؤها الجميل وموسيقي الكلمات التي لا أعرف معناها ولكنها تعطي نغما حلوا،
    ولماذا التين؟
    يا للجراح كأنها التينات طازجة طرية
    فالتين كالجرح والجرح مدمي أحمر كالأشياء، يا للجراح وهنا يسكت الكلام والتأمل وأعزق بهمة الحشائش موقعا نغما يسري في أوصالي ويسكن في فخذي ويوترني لينطلق المهر الصغير من بين ساقيّ رافعا رأسه ومحمحما بالآهات للجراح.
    فيصل صوت أبي: لقد كبرت (صغرت) ونريد أن نزوجك، وأنا على كل من الحالين متكئ على طلل من الوقت المفاجئ وعلى شهوة وغريزة كغريزة البقاء تؤلمني وأنا سعيد بها.
    أفقت من اتكائي على المخدة التي وضعتها على وركي لكي أستطيع أن أبحلق في هذا الكائن الذي يتبادلني خلال مسيرة حياته، والذي يستطيع أن يتقدم حتى يصير طفلا دون اعتراض
    قلت له: ثم بعد؟
    قال: انقطعت عن الذهاب للمقهى لا أعرف كيف؟
    قلت بغيظ: ثم فاجأك الزمن الغض بأنك صرت طفلا بعمر عشر سنوات
    قال: نعم، فعلا حدث هذا، ولكنه لم يكن زمانا غضا، كان يابسا و..
    كنت مستعدا لتلقي قنبلة ذرية على رأسي لكن لا أسمع نعم، قمت واقفا وأنا أتميز من الغيظ
    قال بهدوء دون أن ينظر إليّ: كنت أذهب إلى المقهى وأنا شاب فأجد رجلا كهلا يشبهك يمسك بيديه كتابا بدون غلاف ويبدل نظارته الطبية بأخرى للقراءة، أو العدسة المكبرة ويقرأ بصعوبة بينما يشد أنفاس الشيشة بطيئا وئيدا كسير الجمال
    ما للجمال مشيها وئيدا
    أجندلا يحملن أم حديدا
    قلت له: عبر، أي أعبر من الحقيقة إلى المجاز (صالة البيت الفلاحي) وهي التي تعبر بك من غرفة إلى أخري، فهو مجاز لتقدير الفعل بالتقريب أو بالتغريب فكلا العكسيان يؤدي المعني لقوة المعبر عنه واتساع رقعة استعماله كالمجاز، فاللفظة لا تكتسب قوتها إلا وهي مرصوفة في جمل، وتؤدى معني، وقد يكون هذا المعني مرتبطا بطبقة اجتماعية معينة مثلا:
    1- عندما يقول أحد القاهريين أو أبناء الطبقات العليا (أحمد زأ (زقها أي دفعها) جيهان نفهم من ذلك أن أحمد ربما لمس جيهان
    2- ولكن عندما يقول الريفيون من أمثالنا (أكرمك الله) أن أحمد زقها على أن تحمل القاف معها كافا مضخمة كالغنة فإنه لا بد أنك قد فهمت أن جيهان بالمستشفي وأن أحمد (دهولها) أي دفعها دفعا شديدا فألقاها على الأرض فتكسرت عظامها إن لم تكن قد انخلعت قبل أن تسقط على الأرض هذا ما ألاحظه في أن الكلمات تؤدي وظيفة اجتماعية أو هكذا سولت لي نفسي،
    قلت فلأعبر هذه العقبة وليعبر أبي ما شاء بين الطفولة والزواج وأنا منتظر تحت ظلال التفاح وكان أبي قد صمم (لا أعرف كيف) رغم أن صمم أي وضع تصميما، ولكن أبي لن يفعل ذلك، يمكن أن تقول قرر مثل؟ ا و هي لابد كما لا يخفي عليك من دراسة الحالة ثم أخذ القرار، وما هي الحالة التي كنت عليها وأنا محنى أعزق الحشائش تحت أشجار التفاح؟
    هل كانت هيئتي سيئة حتى يقرر أبي أن أتزوج؟، أم كانت فاجعة حتى ألهمته أن حلها في الزواج، كل ما اذكره أنني كنت بملابسي لا يظهر مني شيء؟
    طيب... يمكن مثلا أن نقول أصر أبي على تزويجي (أي يجعلني أبي مزدوجا، أنا وزوجي) وأصر أي جمع الأمر، أو أنه وضع الأمر كله في صرة واحدة في أمان نفسه وفي حرز حريز في سرة السر العميق والغميق أيضا؟ ولكن أبي دائما يفعل أشياء غريبة.
    سارت الشهور محنية رأسها خلف بعضها البعض كأنها قطيع شياه بيض (لا تسألني لماذا بيض؟ فأنا لا أعرف) خلف بعضها حتى رأيت مؤخرة أشهر الشتاء فناديته تمهل يا أمشير، قليلا من الصبر يا طوبة، ولكن لا جواب، ولا رسائل صغيرة.
    كنا قد بعنا محصول البرتقال وتكدس المال في خزانة أبى، وبعنا مقدما محصول التفاح على أشجاره، وقال لي: الربيع سافر وكاد يصل إلى الجهة الأخرى من العالم، واتفقنا على الزواج، اختصارا للوقت قلت له: سمر عبود
    فتنهد وقال: الولد دم أبيه
    امتلأت الدار بالعيال، وفرحت أمي التي قالت ما قالته زوجتي بالضبط لكن في موضعين منفصلين لا رابط بينهما إلا العيال
    قالت أمي: أصبت بالحول من كثرة أولادك ومرورهم أمامي، صرت لا أعرفك من جدك أو أبيك، أو إخوتك فهم كثر، فكل عام لكم أحوال
    وقالت زوجتي: أصبت بالحول من شدتك وملأت الدار بالعيال ووهن جسدي وأصبت بهشاشة العظام من شدة اللهفة عليك معك، فصرت لا أتخيل نفسي إلا مطروحة على الفراش أو تحت الشجر، تحشم أريد أن أجلس معك جلسة رومانتيكية
    قلت لها: والله هذا صعب على كل حال وأنا لا أفهم في الرومنتيكية، استحمي والبسي من غير ملابس من باب الاحتياط.
    قلت لها جادا: مسافر إلى مصر
    قالت: خذني معك
    - يا أخي لا تحك لي بالتفاصيل وهذا لا علاقة له بالموضوع ولا تقف عند الحوادث الصغيرة.
    قلت له: بمعني؟
    قال: بلا معني، عشت ما يقرب من ثلاث مائة سنة، ومرة تصغر، ومرة تكبر وتعود من جديد هل تفرق معك عشرات السنين أو حوادث تافهة أو مشكلات، ثم أنت ما زلت تذكر حوارك مع زوجتك، تفعل ما تشاء كأن الحياة لا قانون لها
    قلت: أنت غاضب إذن، وتسأل عن قانون الحياة، الحياة اسمها دنيا وليست عليا أو قصوى، أي أنها محدودة وواطية، وليست أصيلة وماكرة لا خلاق لها دنيا، فما يمنعها أن تتلاعب بقوانينها، كحنكش أو كسكرتير القاضي الذي يمسح ما دونه القاضي من أحكام بالقلم الرصاص ويدون بالقلم الحبر السائل أو الجاف الحكم الذي يريده الزبون مادام سيدفع، دنيا.
    سافرت إلى مصر وتركت سمر والأولاد

    (4)

    كان حفني وعثمان من لاقحتين منفصلتين، في رحمين مختلفين، يضمهما هما وغيرهما رحم السكاكرة.
    وكانت يد الملاك اليمني تقلب عثمان وترعاه، بينما اليد اليسرى تقلب حفني وترعاه.
    في اليوم التالي كانا يتبادلان مواقعهما وكان الملاك الآخر يقف في مقابل الملاك الأول ليأخذ منه التعليمات، فتقلب يده اليمني حفني وترعاه، بينما اليد اليسرى تقلب عثمان النجار وترعاه، وهكذا يقام العدل.
    - هل كان وجود حفني وعثمان شيئا لازما؟
    - أقول لك الحق، لم يكن شيئا لازما، ولكنه ضروري
    لأنهما نبتا في رحم واحد في رحم السكاكرة، أيام كانت السكاكرة بعيدة تحت الآبار ولم يكن يؤذن لها لتخرج، وأخذ كل منهما دوره ليخرج ولم يعترض أحد منهما الآخر، ولم يتعارض دوراهما، بل اكتملا في مسيرة السكاكرة.
    قد يكون كل دور يؤدي إلى نتائج غير الآخر ولكنها بالتأكيد في صالح الموضوع
    - لو سمحت، لا داعي لكلمات مقرفة مثل بالتأكيد، وحتما، وكل هذه الأشياء القاطعة والتي تتنافى مع العقل، والذي لا يحس المتكلم أن أمامه إنسان، فيا أخي افترض تدخل العوامل الخارجية ومدي تأثيرها في النتائج خاصة أنك لا تسيطر على تغيرها، ولأننا للمرة الألف لسنا وحدنا في هذا الكون، ويكفي الجدود الأوائل وعائشة وحبيبة وبقية العائلة المسيطرة.
    - الاحتمالات يا صغيري عندما يكون هناك اختيارات بين البدائل، ولكن كان الكون في المهد والأشياء قليلة، ولم تتعلم الظروف ولا العوامل المكر والاحتمال، فكانت النتائج تكاد تكون معروفة - ما علينا
    كان حفني قد سبق عثمان بنصف نهار، لحق به عثمان في عقبه لكنهما من رحمين مختلفين
    - في عقبه كيف؟
    - تخيل وقرب المسافة بين المرأتين ادمجهما بالاستغناء عن النصف المجاور من كل امرأة فيكون لديك امرأة واحدة برحم واحد وطفلان توءمان.
    كانت الشمس واقفة في انتظار مجيء حفني وكانت تسأل كل من يخرج من البيت: هل خرج حفني؟
    وعندما قالت لها خديجة بنت توفيق: آه
    ابتسمت الشمس وتدللت ومالت وتدلت ناحية المغيب لتخبر الذين في الجهة الأخرى، وتركت كل أشعتها فوق بطن أم عثمان، وراحت الشمس إلى أمها في الجهة الأخرى وهي صلعاء بلا أشعة، لهذا بهت لون عثمان كثيرا فجاء أشقر اللون بشعر ذهبي.
    لم تكن الشمس تدرك أنها بإهمالها - بترك أشعتها فوق بطن أم عثمان، أنها تخلق تميزا حادا، بين الرجلين وإن كان هذا البياض قد مال كثيرا إلى الاحمرار فيما تلا من حوادث.
    فكأنما إحداهما زرع بعلي والآخر مسقاوي
    ولم يكن لديهما اعتراض
    هبطا هكذا كما رأيت من فوق الجميزة أو صعدا كما يقول إبراهيم بن سليمان الحداد، أو لم تكن لهما أمان، عادي لم يشغلهما الموضوع ولا خاضا فيه وماذا سيفيدك أنت؟، وأنا أري السؤال يلح في صدرك، إذا عرفت أنهما ولدا أو جاءا، إذا كانت السكاكرة كلها بحالها ومحتالها جاءت.
    لماذا تضيق علي نفسك الكلام؟
    إذا كان لا يعجبك كل هذا فاعتبر أنهما نبتا مع جدران بيتهما بالسكاكرة كما نبتت الكوانين والدجاجات الأول، وكانت ما تزال كالنباتات الغضة رهيفة ورقيقة،
    أو على رأى جدتي (إوز أخضر)،
    يعني لا تنكسر من شدة ليونتها، وطالعة بشوق الحياة غير هيابة من شيء لأنها لا تدرك شيئا، وكنا نصعد ثمانية، ثمانية، هذه لحظة غائمة، و لا أقدر على إيضاحها أكثر من ذلك.
    - لست وحدك في هذا الكون يا ابن الإنسان، شيء عادي أن تري شجرة، أو جبلا، أو نهرا فتحيية، هو شقيقك في الخلق الأول.
    وقد تري بلدا للمرة الأولي وتحس أنك تعرفها، وأنها دخلتك قبل هذا، لماذا نحب سوريا، والأردن
    نحس أنها تتنفسنا وأننا بعض من رئاتها نحبها، ما باليد حيلة
    - أنت تبدأ من غوطة دمشق، أقصد الأردن، وينتهي بك مطافك في مصر، وخاصة الريف لأنها غسيل الروح بالخضرة والماء والمساحات المنفتحة، كما أن الصحراء ذاكرة مصر القديمة، فكل ما نشأ بها مقابر ومساجد وأسبلة وحياة في طور الانتظار.
    أنا رأيت جدك، وأنت الآن تقف أمامي، وقد كنت في عمر الزهور، ورأيت أباك وأنا في عمرك، وأراك وأنت تجلس أمامي وأنا عجوز، لا يريد الزمن أن يتقدم أو يتأخر، ولكنى أحببت عمتك وأنا في طور الشباب،
    وكدت أتزوج خالتك لولا أن أبي فتن عليّ وهو كبير خرف وقال ابنه سيتزوج الأسبوع القادم، وهو عجوز، ربما عدد سنوات عمره ذهابا وإيابا أكبر منكم، فقالوا: عجوز خرف.
    اعتصمت بالصمت احتراما لوالدي ولأن الصمت في صالحي، قل لي بالله عليك كيف يفهم الناس؟
    - أنا شخصيا لا أفهم ولكني أجاريك في الكلام، فأنا أعرف أن يسير عمر الإنسان في اتجاه واحد، إلي الأمام دائما
    - ولكن هذا ما اعتدت عليه، ومعرفتك هذه ليست مؤكدة في حوادث الكون، وهو لا يمنع حدوث شيء أخر، كالتقدم إلى الخلف أو التردد بين زمنيين أو الثبات، وإذا كنت لم تلاحظ ذلك، فأنت حر، أقصد ضعف في قدراتك، فأنا أسير إلى الأمام دائما في شكل مغزلي حلزوني شديد الفتل (ذى مرّة)، وتري أنني أتردد في الزمن وهذا غير صحيح، ولكني أتحرك في نظرك إلى الأمام وإلى الخلف لا أستقر
    - ومتى تستقر
    - الاستقرار يعني الوصول إلى حالة من السواء (أستوي) في هذه الحالة أولا أما أن أكون إلها، وهذا غير وارد ولا يمكن حدوثه، لأن القرارات تصدر بإرادة واحد، فسيمنع، أو لو حدث سيحدث اضطراب في القرارات، ثانيا: أكون قد مت لانتهاء دوري
    - لماذا في كل مرة يبدأ حديثنا بموضوع ويتفرع إلى عدة موضوعات وتصر على أن تشبك العالم بشبابيك تفتح على اشتباكات كبيرة
    - الكون يتحرك كل متكامل في كل لحظة، فالتنفس مع تبادل الغازات، التبادل العضوي، والتحلل العضوي، ودورة كريب، يتحرك كل هذا مرتبطا بالدورة الدموية، والجهاز الهضمي في جميع الكائنات، مع الجزر والمد ودورة الفلك، والحيض في النساء والأرانب، كل هذا يسير بتناغم مع تكوين البترول والتكلس، والتحجر، والتحولات.
    في نفس اللحظة الحب والكره والقتل والسفر والعودة، والزراعة والحصاد على مختلف الكرة الأرضية بغلافها تجد حركة من كل هذه الأنواع كل لحظة، فنحن جزء من حركة الكون في نفس اللحظة تكون مخلوقات جرار المش قد اتخذت هيأتها وفي طريقها إلى خارج الجرة.
    وقد تكون عين اللحظة التى فاتني فيها طور الفتيان في السكاكرة، هي نفسها التى أعود فيها لأعمل مدرسا - وقد كان شوقي أن أعمل محفظا للقرآن، فأكون في الزقازيق رغم شوقي إلى السكاكرة أشد وأعظم، وأجلس في المقهى وأدخن الشيشة، لأري جدك قبل أن يوصد باب العمر وراءه، ويعاند ولا يفتح لمن يطرق الأبواب، هل سأقول لك على جدك؟ أنت تعرفه، رحمنا الله منه، وهو يحاول القيام من على الكرسي بالمقهى وأبوك يساعده في النهوض، تذكر نفس هذا المشهد سنعاود تكراره، ولكن لن يحدث ما حدث مع جدك، أن تسيل دموعه على خديه فنقول في شماتة إنا لله وإنا إليه لراجعون.
    ومع تقدمي في السن، أراك طفلا عنيدا يمسك بجلباب جده ويصر على الذهاب معه مترجما كل ذلك: ها
    مشيرا بيدك إلى الخارج،
    فأراني صغيرا ذاهبا إلى المقهى مع جدي في اليوم السادس من الشهر السادس طفلا لم يتجاوز العامين، ثم العشرين عاما وأعرف أنه لابد لي من الرجوع إلى الأردن، لأنني تأخرت كثيرا فوصلت وأنا في الثلاثين من عمري وقد تأخرت كثيرا، وماتت امرأتي، فأعرف أنني تعديت السبعين، وبناتي وقد كهلن وأولادي وقد خط المشيب برؤوسهم فلم يترك من سواد الشعر إلا القليل، فأكتم حديثي وأعمل حارسا للبستان،
    صرت شخصا أخر فأضبط نفسي وأنا أقول بصوت خفيض: هل تلزم أي خدمة؟
    - شكرا
    - طيب، السلام عليكم
    في هذه اللحظة أسمع ضحكته المجلجلة، وأري وجهه موزعا في السماء، جدي!
    - ما الذي أتي بك إلى هنا؟
    - هل صدقت يا فالح، أردت أن تعرف فاعرف
    اختفي جدي، وأنا مغلول بحالتي مغفوص في قلبي، هل هو جدي أم أنا؟
    أراني عند ماكينة الطحين، وحفني وعثمان أراهما رؤيا العين وهما ينزلان من فوق أغصان الجميزة، كيف أتيا إلى هنا؟
    أكيد أنا أحلم، ليس حلما
    كان الصوت القوي الذي يملأ المكان القادم من الملأ الأعلى يقول: ثق بحلمك
    التفت فأجدني عند ماكينة الطحين، وأمام الجميزة، و لا أحد سواي، والعصافير المنطلقة من فوق الجميزة حفنة قمح ألقيت نثرأ في سماء ملكوت الله
    جاءني الصوت: يموت الشاطر بنفس مهارته في الحيلة والتدبير
    - قلت لك ألف مرة، هندسة الغوص تخلق من اليوم وجودا ضخما، ولكنك تريد تفسيرا حرفيا لكل شيء، تريد تفسيرا واحدا ووحيدا، وهذا غير ممكن، لأنه ليس هناك تفسير واحد فقط لأي شيء، هذه من حكمة ربك، أصوغ لك كل هذه المواضيع من خشاش الأرض في أسلوب بديع له رأس الحكمة.
    أعرف أنك تقول قلبي ليس مرتاحا لكل هذا، تقولها في سرك قلها علنا
    - قلبي ليس مرتاحا لكل هذا.
    قال: حفني وعثمان توءمان اثنان متلازمان، لا توغل في تفسير علاقتهما بالقمر والشمس، وفيضان الأنهار، والرياح، والريح، وسقوط الأمطار
    - حاضر، بعد زواجه من صباح قالت له سأحضر لك إفطارا في الغيط (والإفطار هي أن تحمل ما تبقي من خبز باقي من العشاء، وطبعا المشنة بها بعض البصل وطبق فيه الجبن والمش وكان الله بالسر عليما)
    قال: غيط؟ أنا ذاهب لحفر المصرف، كل ينظف أمام غيطه، وأنا نصيبي من أول فتحة الطمبوشة الكبيرة، حتى الساقيتين الصغيرتين المرتبطتين بسواق أصغر، عندما تدار أكبرهما فتدور بتتبع الحركة باقي السواقي، ويتوزع الماء على كل الأراضي، ولذلك يرقد الماء فوق الأرض بعد الشراقي، لعل به بعض الطمي، العشم في وجه الله، ذلك في ناحية السكة الجديدة، فنجري لنحفر ونوسع لصرف الماء الراكد
    - ستصطاد سمكا من المصرف؟
    - ممكن أن أفعل، لكن هل تضمن مجيء السمك اليوم؟
    - لنا نصيب؟
    - المصرف للكل، والسمك للكل،
    ***
    - كان حفني وعثمان يقومان باستبدال أماكنهما، فتتبدل معهما أقدارهما، وتستقيم مسارات أقدار السكاكرة
    - ما شأنك في هذا، هل هما تدخلا في أمر يهمك؟
    - هما في كل ما يهمني، ويسرني
    - استغن عنهما
    - لا نقدر
    - فك عن رقبتي أسئلتك حتى أكمل لك الحكاية، (السلام عليكم يا عائشة)
    - نعم؟
    - هذه هي الدوريات الطوافة، تمر وقتيا أو حصريا أو قصريا (حور مقصورات في الخيام) أي فقط، بمعني يراقبن أبناء السكاكرة هذا مقصور فقط على السكاكرة، كما المقصورات في الخيام لأهل الجنة
    - كنت أظن أنه الخضر فقط،
    - الله يحرس كونه بالدوريات الطوافة والكواكب السيارة والنيازك الحارقة، وكما يحرس أمن السكاكرة باللصوص، كل ميسر لما خلق له
    - المهم ثم ماذا بعد ذلك؟
    - كل يوم والكون والكل في شأن من خلق جديد، تتجدد لكي تدوم

    (5)

    - هل يعقل أن أحدث نفسي ليلا ونهارا، في الصباح أنت وأنا بالعمل وعندما تعود إما نائما أو في البلدة؟
    هل أظل في سكون طوال الليل والنهار، والله كنت سأنسي اتصلت اليوم عايدة وقالت أن زوج إنجيل مات وسنذهب إلى الكنيسة للعزاء، طبعا لا تسمعني وسرحان أو الكلام لا يعجبك، هل تحب هذه الأيام؟
    - أولا كلي آذان صاغية، ثم أنني لا أكتب هذه الأيام أن أكتب الأيام القادمة
    - الأيام القادمة أنا سأعيشها
    - طبعا وسيكون شعرك أصفر وعيونك خضراء، واسمك عطية
    - أنا لا أستطيع أن أعطيك وصفا محددا من جهة الشكل، يا سلام لن أتكلم معك في هذه الموضوعات، أنا أريد شراء حلل استانل ستيل بالمناسبة، أنت كنت في البلدة، وقالوا عادت الذئاب مرة أخري لتهاجم البلدة
    - نعم، وبكل تأكيد
    - والحل؟
    - كما في المرة الأولي قتل الذئاب عن آخرهم، ولابد أن تعلمي أنها لا تأكل الدواجن ولا الخراف ولا الماعز، هي تأكل الناس عائلة، عائلة في السكاكرة فقط.
    قال حنكش: ليلة أمس كنا وزوجتي والعيال نتكلم عن الذئاب، وتذكرت عمي الحاج السيد أبو ديب وذهبنا لصلاة العشاء وعند (واطية المعمل) اسم حي قديم، كانت أمامي عينان تبرقان، قلت في نفسي تهيؤات، لابد أن العشاء كان ثقيلا، أحسست به لكني خفت فطمأنت نفسي قائلا: كلب عبيط صحيح!
    - واقف في طريقي ولا يعرف أن معي شومة.
    هكذا زاد على كلامي حسين أبو هميلة
    توقفت فقد كانت في الجو رائحة غريبة، والتفت إلى الوراء وجدت نفس العينين، وشمالا ويمينا لم تكن إلا هذه العيون، كان حصارا ضاريا ولم يعد مكان واحد خاليا من الحصار إلا السماء فرفعت رأسي وصرخت من عزم ما بي
    - ارحمني يا رب، افتح باب جنتك وخذني عندك وأرح بالي من السكاكرة وأفعالها
    فتح الشناوي الباب وخرج حاملا لمبة جاز نمره عشرة وقال: ما لك يا حنكش
    على الضوء بدأت الحركة فكنت أحس أن هدما يحدث، أو زلزلة في السكاكرة موكب، أو رتل من الظلمة لوحدات داكنة السواد في حجم الحمير ولها أنياب بيضاء وعيون حمراء، فوقعت من طولي
    قال حسين أبو هميلة: أنت خرع، ولست رجلا، ولا يحزنون، أو يحزنون، كل هذا من كلب! خائف من كلب؟
    - قلت له: هذه ذئاب وحياة أمك، ذئاب، افهم يا حسين ودع الفتة التي تلكم بها زوجتك بطنك حتى صرت كالجوال، فعينك عميت، فلا تعرف الكلب من الذئب
    تركني حسين أتكلم وجلس على المصطبة أمام دار الشناوي
    فقلت له: معا إلي صلاة العشاء، فرض الله يا مسلم
    قال: الليل كله عشاء
    اهتزت الأرض بجري ناس في الشارع فوضعت مشط رجلي أمام ولد يجري فوقع فجريت عليه أرفعه
    - بسم الله الرحمن الرحيم، مالك يا حبيبي، ابن من أنت؟
    قال الولد ووجيب قلبه أعلى من نخل السكاكرة: اسكت يا عم حنكش الذئاب بالمسجد والناس هربت من المسجد
    - كيف يا بني؟، المسجد به نور؟
    - الذئاب في عز النور
    زعقت على محمد أبو السيد، وحسين أبو هميلة، والشناوي وعبده النص، وزعق كل منهم على رجل آخر وحمل كل منا شومته الكبيرة، وسارت نجية خلفنا بلمبة الجاز لتأمين الطريق من الخلف ونحن نأخذ وجهتنا إلى المسجد.
    - النور طالع يبص علينا من شبابيك الجامع
    أرخينا حبل الحذر، دخلنا المسجد لم نجد شيئا فيه، لا ذئاب ولا غيره
    قلت في نفسي أفك الحصر وأستريح، ولكن الشيء الغريب أن جميع حمامات ودورات مياه المسجد كانت مقفلة!
    أخذت أدق على الأبواب ولم يرد أحد وللعلم أنني كنت أسمع صوت نهجان، فقلت: محمد تعال هنا
    فجاء فأنمته على الأرض بدون كلام وصعدت فوق ظهره، ونظرت من فوق الباب داخل الحمام، كان الظلام داكنا لكن بعد أن اعتادت عيناي على الظلام لاحظت أن بوسط الحمام كتلة أدكن من السواد العام، كأنه كوم طين يملأ الحمام، فصرخت فيه: أنت يا بني آدم قاعد مستريح وتارك إخوانك ينتظرون؟ إذا كنت قد انتهيت فاخرج يا أخي
    استدارت كتلة الطين وسددت نظرها نحوي، فسقطت من فوق ظهر محمد أبو السيد، ثم قمت بسرعة تاركا الشومة صارخا من هول ما أنا فيه: قاعدين في الحمامات، داخلين إلينا من تحت.
    في الصباح قابلت العم حفني وقال: يموت الشاطر بنفس مهارته في الحيلة والتدبير
    قلت في سري: يا سلام يا عم حفني الذئاب في الجامع وأنت تكلمني بالنحوي، أنت فاكرني أحمد،
    فضحكت وقلت له أكمل يا حنكش،
    فقال: هل أطلت عليك
    قالت زوجتي: شاي بالنعناع؟
    قلت: ممكن
    قالت: لا تكمل كلام حنكش حتى أعود بالشاي
    عادت زوجتي بالشاي وقالت: أشتري طقم الاستانل ستيل أم لا، أصل أنا وأنت فقط سنكون وحدنا والأولاد كل واحد في بيته وأريد حللا صغيرة على قدر احتياجاتنا
    - أنا أري أن نستعمل حللا أكبر مما عندنا لأننا المفروض بيت العائلة الذي سيأتي إليه الأحفاد وأمهاتهم وآباؤهم فسيكون احتياجاتنا للحلل الكبيرة
    زامت بشدة: أنا لا أقوي على هذا العمل، أنا أريد أن أدرس في معهد القراءات والتجويد، المهم أكمل ما قاله حنكش
    - المهم ما قلته أنت
    - الشاي
    قال حنكش: قال العم حفني: خائف من الذئاب؟، الذئاب أرحم من البشر، ثم كل مخلوق يستبد هو ذئب، بالمناسبة هل أنت متأكد فعلا أنهم ذئاب؟
    - أنا لا أحب هذا الرجل وأحس بالاختناق في وجوده وكأنه بسم الله الرحمن الرحيم، وأحس أن كلامه تهديد،
    في يوم الخميس الماضي أول أمس كانت هنية زوجتي في السوق واشترت لنا سمكا وشوته في الفرن وجلسنا حول الطبلية لتناول العشاء وكان المغرب قد مر علينا فأشعلنا لمبة الجاز نمرة خمسة
    كانت رائحة الصمت غريبة تقتل كل رغبة في الأكل، وحالة تابعة للخوف يا أستاذ أحمد تحس بفقدان رغبة في الحياة كأنما عز عليك بعد طول العمر اكتشفت أنك تخاف مثل مخلوقات الله جميعا، في أثناء ذلك كنت أضحك على نفسي وأقول السمك رائحته حلوة، وكنت أحس أن هنية تقترب مني، ولكنها الآن دخلت في جنبي الأيسر وتكاد تقعد على رجلي وتهمس: بص يا حنكش
    وكنت أقول نحن بالليل، وضلمة، وعندي نصف عين تري بعضيشي ثم تقولين بص يا حنكش،
    قلت بزهق: بص..!
    لم أكمل كان يقف وبوزه خلف كتف الولد حاتم ابني، على بعد خطوات من الطبلية، وهنية - الله يكرمك - سبحت في بركة ماء إذا كانت في الأحوال العادية نحن نسميها السد العالي فما بالك والذئب على بعد خطوة من روحك، تلفت لا أحد يمر في الشارع إلا هواء أعرج كسيح يخاف أن يلمس الذئب.
    تجمدنا من الرعب وهو لا يتحرك وينظر بعينين حمراوين كمؤخرة القرد لكن من يقدر يتنفس، سمعنا كأنما ترحيلة تسير في الشارع ثم مرّ من أمامنا مراح كمراح الغنم انضم الذئب إليهم في ملابسهم السوداء أكثر شبها بعساكر الأمن المركزي، مئات آلاف.
    بعد أيام قابلت العم حفني فقلت له: الذئاب كانت أمام بيتك
    فضحك وقال: الذئاب لا تجرؤ على السير في شارعي لكن غدا تكون في بيتك، أنا يا عم أحمد لا أطيق الكلام بهذه الطريقة فقلت له: يا عم حفني الذئاب في البلدة، فالكلام يكون واضحا، عاري من أي غطاء، كلمني على المكشوف.
    ضحك وقال: الذئاب في البلدة وحولها منذ زمن، وبعض الذئاب كلاب توحشت وهي أخطر
    - يا عم حفني في هذه الساعات الخطرة ما فائدة تزويق العروسة إذا كانت خطفت من أهلها المهم إثبات أنها ملك خاطفها، والبلد مخطوفة ولا نعرف من خاطفها
    - أظنه من الوضوح بحيث لا تراه، ولكنك تعرفه وهو منك وبجوارك في كل لحظة ولكنك لا تراه كأنما يسير ملتحفا بالعمى فلا تراه العيون وعندما تبصره تجده حقيرا ضعيفا أبلها، ولكن هو صناعة من حوله فكلهم مثله وترابط مصالحهم يمنحهم القوة، أصبحنا مجتمع حيوانات لنا سلوك الغابة، وقديما قالوا، لا يعض الكلب أذن أخيه، لعلك فهمت
    - يا ليتني لم أفهم
    قال حنكش كأنما رماني يا أحمد في بحر بلا قرار، وسار
    قالت: الذئاب مازالت في السكاكرة
    قلت: في البلد
    قالت: ثم ماذا بعد؟
    قلت: نشتري طقم استانل ستيل لنجدتنا في الأيام القادمة كأحد الأشياء التي يمكن بيعها وشراء ماء فقط بثمنها، أو نبادله بالماء
    قالت: أفهم من ذلك أن الفلوس التي بالبنك ستضيع علينا
    قلت: أن لم تكن ضاعت من زمن بعيد
    قالت: سأسأل عايدة بالتليفون
    انتابتني موجة من الضحك لا أستطيع إيقافها، ها، ها، هاي
    - ما الذي يضحكك فيما قلت؟
    - كل هذا الوهم الذي يفوق الواقع ويكذّبه، كل هذا البهتان والكذب لا يستحقه إلا أناس باعوا ضمائرهم، ماذا يحدث يا رب

    (6)

    لم تكن المرآة التي لم تنتشر بفضل عائشة تمثل لها أي اكتشاف وكانت عائشة تكرهها وكانت تصرخ في الناس
    - ما حاجتي إلى المرآة نحن نري أبعد، المرآة تريك ما خلفك ونحن نري سنوات بعيدة قادمة، نري بعيدا الأحداث في ضباب رحم الآتي
    ثم تنهدت عائشة وقالت: أنا أضبط زينة وجهي أمامي،وجهي معلق بين السماء والأرض في الفضاء أستطيع أن أضبط زينتي كما أشاء يا أحمد فلا تقلق، كذلك أضبط قامتي وغطاء الرأس والشبشب، المرآة والماء والسماء شيء واحد هو ما مضي، لكن السماء تعلق الطلبات التي تقلق في الفضاء وتقلبها تحت وجه السماوات من حالق، قد نري تقلب وجهك في السماء.
    المرآة بالنسبة لحفني سماء تطل منها الوجوه، وتكلمه ويري فيها أحلام عثمان النجار، وترعاه راعيات من المرآة وتوصل له ومنه الرسائل.
    أما بالنسبة لعثمان النجار فالمرآة شيء لا يهتم به إلا وقت الحاجة، عند ذلك يمد يده في المرآة ويعيد ترتيب الحوادث لتتفق مع ما يريد، وكانت تعانده الأشياء نوعا ما، ولكنه يرتبها ثم يتفرج عليها ويضحك.
    قالت عمتي: يا ولد لا تنظر في المرآة لأنك تري من ينظرون إليك من البعيد بوجوه شوهاء أو جميلة ولكنها كاذبة وليست حقيقية، يبسمون لك والمرآة كالماء في لحظة غير الأخرى لأنها متجددة فلا يمكن أن ينزل الماء مرتين، ودائما البحر ليس بملآن، حتى يغريك بأنك تري تحت الماء القليل ما فيه، لكنه يغريك وهو في الحقيقة عميق، غميق، ومن ينظرون إليك في المرآة تسمع همسهم، والبعض يتشاغل عن ذلك بالغناء أمام المرآة خوفا من أن يصدق أذنيه، أما في الماء فتسمع قرقرة بطونهم
    - يا عمتي أنت لا تنظرين في المرآة
    قال بحدة: لا أقتنيها، وجوه الناس سهلة القراءة
    - يا سلام أنت تكتبين اسمك بصعوبة
    - ليس لصعوبة في الكتابة، ولكن لثقل الاسم من ثقل المسؤولية، فأنا عندما أضع صورة الحروف على الورق فأنا أحرك الحروف الأصل فهي في ثقل الجبل، وأنا سأتكلم عني وإن كان الكلام يخص عائشة أكثر مني.
    أنا لا أحتاج إلى اسمي، فلا أكتبه لذلك بقيت حروف اسمي قليلة الجمال، بينما باقي الحروف في اللغة أجمل منه كثيرا، ربما لأنني سرقت من كل ما يخصني الحياة والجمال، وتركت ما يحييها فقط، ماذا لو كنت تركت لاسمي كل هذا البهاء، كان سيزهو فوق السطور ويسير الاسم وباقي الحروف متبخترة على السطر تأخذ أكثر من حيزها، وتخرج وقتما تشاء من حروف اللغة وتأخذ موقفا من بعض الكلمات، ثم ستخرج من الأفواه الجميلة وقد زانتها فتنة ولوثتها بالحياة، وستسيل على الدنيا محاطة ببهرج القول وملوثة بلعاب الشهوة،
    كانت ستأخذ وقتا قبل الانتظار لدي خروجها ثم تقف في منتصف المسافة تتأمل نفسها معجبة وشديدة الأناقة خالص، وستتحرك بحيث يري كل شخص جمالها وأن كل أشيائها فاتنة بارزة، ومن هنا تأخذ مساحات أكبر من حقها إلى جانب فتنتها بنفسها يجعلها لا تصغي لأحد، ولا يصغي أحدا للكلام الذي يأتي بعد مرور الحروف والكلمات المكونة من نفس الحروف لفتنته بهن، وفتنتهن بأنفسهن، وعرض مفاتنهن على صفحات الورق ضاربات صفحا عن إتمام ما بعدهن، هنا ستتوقف أمام جمالهن مما يجعلك لا تصغي أو تنتبه لما بعدهن من كلام، وأن الحروف ستأخذ حيزها بالكامل، وتضغط على الحروف التي بعدها فتصير صغيرة ومتآكلة كأسنان الأطفال، وربما لا تظهر حيث تقع تحت الحروف فمثلا كيف ستظهر (من) من تحت إلية (على) أو (إلى)، فالخرطوشة لن تسعها، والمصفوفة لن تستغني عنها، لذا لابد من أن تضغط وتصغر حتى تجد لها حيزا في الخرطوشة، وليس هذا ظلما ولكن الحروف تتصرف مع بعضها البعض، والحفر للخراطيش الموجودة على الصخر واضح، لكن محاولة فك المصفوفة ومحاولة إيجاد معني هو كالنظر تحت الماء، كأنما الشتاء يغير موعده.
    إن هذا الظلم الواقع على حروف اللغة، واللغات الأخرى لا يعادله إلا جمال اسمي، وفتنة نوم حروفه وسط الخرطوشة في السطر وتمطيها ودلع الحروف لتأخذ راحتها، فتبرز ملامح فتنة الاسم حتى ولو من على أو من تحت الهدوم، فلماذا تنطق الناس دائما اسمي؟ لأنهم ببساطه يحسون بحلاوة العسل عندما ينطقون اسمي، ولذا صار دائما على ألسنتهم، رغم ثقل مسئولية قائله.
    - أنت تتكلمين كعائشة الخياطة، هل أنا وقعت في وسط حمي من عاشقي الكلام
    - نحن نعطيك أحلى وأحسن ما عندنا، وأعمق وأثمن ما نعرف، فأنت محصلة الكل وتجمع أغلي باقة أزهار في الحديقة
    - أنا أحس أنني وقعت في كمين، فأنت تقولين ما تقوله عائشة
    - عائشة هي الرئيسة، قالت لنا:علينا إعادة الكلام عليك حتى تحفظ، كان لابد من إحراجك؟
    ثم أنك لك خاطر كبير ومكانة عند الرئيسة لدرجة لما أخطأت في حق البعض نزل عليك العقاب، فوقفت سيدتنا شفاعة رافعة زراعيها إلى السماء لتلقي العقاب بدلا منك فتوقف وعاد.
    وللمرة الثانية وقفت عائلات الطوافين والجدود، وشفاعة، والعالية كلهم عرايا كيوم البعث يبكون ويصرخون ويطالبون بك، وكانت ملائكة الخلق الأول تقول بعد الحادث لم يبق منه ما يبني عليه!
    فكانوا يصرخون كما بدأناه أول مرة
    فشحذوك منهم، وهكذا عدت إلى الحياة فمن حق كل منهم أن يطالب بك ابنا له.
    كانت شفاعة قد أبكت الملائكة وهي تبتهل: إن أمه فمها مرر بالعلقم والصبر حتى رأته، اتركوه لنا من كرمكم لا نريد العدل بل نريد الكرم والمنة والعطية منكم.
    كانت الدموع قد ملأت البحر الأحمر والأسود فتشققت الأرض ورفضت ابتلاع الدموع الناتجة عن البكاء فعادت إلى السماء مطرا معكوسا، وهي المرة الأولى والأخيرة التي حدث فيها ذلك لأنك لن تتكرر.
    - شفاعة!؟ ياه.. أخذتني الدنيا
    - هي أمك الكبيرة ومن حقها اللوم عليك، وأن تأخذ على خاطرها منك.

    (7)

    طال العمر
    وطار الحلم
    وخانتني الأفراح
    ما أوحش حجرتك
    مقعدك الخالي
    طي دبابيس الشعر وكل البرفانات
    شوفي بلدا آخر مدي طغيان حضورك فيه
    حتى أتنفس في كل الوقت حضورك

    كيف يمكن أن تغادرنا الحياة أجزاء، أجزاء حتى لا نجدها، هل يمكن لها أن تختفي كصورة تبهت أو طيفا يتلاشي أو وجها لجّ على وجه الماء وغاب؟
    هل يمكن لي القدرة على الحياة فعلا وأنا أدرك أنني لن أجدها؟
    وكيف يمكن أن يكون مكانها؟
    ما الذي سيشغل هذه المكانة في المكان، وأين ستجلس ذكرياتها، وهي هل يمكن أن تروح بهذه السهولة؟
    هل يمكن أن ترحل دون أن تهمس في دمي السلام عليكم؟
    هل ضاق الوقت بنا حتى لا نجد هنيهة وسط الهواء لتمر السلام عليكم؟
    هل السلام عليكم نهاية اللقاء أم بدايته؟
    لماذا لم ينذرني حفني أو عثمان النجار المراوغ كثعبان، لماذا غابت عنهم هذه الحكاية أو قل لماذا شاءا ألا يذكراها؟
    لكأنما زلزال ضرب القرية فهزّها وكسّرها بناسها وكل ما فيها وحولها إلى شظايا، ثم رجها في قارورة الكون فحلها ورجها وهزّها ما شاء له الهز حتى تجمعت كأنها ناتج غض، ولكن كل شيء طيب تجمع مع بعضه كالزبد، وكل شيء رديء في اتجاه وهو قدر الطيب، ومقدار الطيب والرديء أي مجموع جمعهما شيء بنسبة: 1: 2: 1 ومن هؤلاء توليفة الناس بالسكاكرة، وبعضهم زاد عن قدره وتعملق، والبعض الآخر شبت رأسه أكثر مما قسم الله لها وظلت خارج الكون تنظر وتري.
    وعاثت العثة في الناس فأخبرني من أخبرني أن السكاكرة ككل القرى تفككت وأصابتها الدعارة في مقتل فأدرت وجهي إلى الجهة الأخرى ولكن لف من وراء ظهري وقال: اسمعني
    فصرخت دعوا لي قريتي لا تشوهوها ولا تخبروني بأسمائهم فلن يبقي إلا ما ينفع الناس وكتائب الخير، المال والجنس كماء البحر لا يروي ولا يشبع جائع ويظل ظمآن طوال عمره.
    كنت أتمني أن أدفن تحت التراب دهرا ولا أسمع ما أسمعه عن السكاكرة، ولا أريد أن أعرف.
    هذا الزلزال مزج ولخص وفرز وكوّن تركيبته الجديدة بحيث صارت أوضح، ونثر البيوت في الحقول وفككها، وصارت الرياح تمر خلالها وهي تزمجر صاخبة كأنما غاضب يسب ويلعن بتمتمات قصيرة متلاحقة، هذا ما فعلته الرياح فما بالك بالريح التي قصمت النخيل رؤوس النخيل من على سوقها وجندلتها على الأرض كالقتلى وأحنت هامات الأشجار ودفنت النخيل الصغير حتى ظهر كعجوز تجلس القرفصاء وتتغوط بصعوبة وهي خائفة.
    كل هذا حدث وأنا بالأردن؟
    - هل تظن أن ما يصيب البلاد لا يصيب السكاكرة؟
    - تحولوا إلى آبار مغلقة، نبت الشك بين الأخ وأخيه، كان الإنسان إذا عثرت قدمه قال أخ، أي أنقذني يا أخي، فأصبح يقول آه يا أنا، هكذا انتشرت الفردية، ماذا بعد تلوث السلالة؟
    - كل عامل بناء أمامه عوامل هدم، والذي يستطيع أن يصمد يكون البقاء له.
    - كفي وعظا، أنا أريد كيف حدث هذا بالضبط، هل هو وباء أم مرض يسهل حصره.
    - كل شيء معرض للانهيار، ووجودك لن يمنع ذلك.
    - كيف لي أن أصدق كل ما يحدث؟
    كيف لي أن أصدق ما لا أعرف؟
    هل ضنّ عليها الوقت بأن تريد أن تراني فأكون أمامها،
    لم أكن أذهب لأستأذنها، صعب عليّ ذلك، فهي عندما تريد أكون، أجد باب الحديقة مفتوحا فأدخل حتى باب البيت وأدق ثلاث دقات الثالثة طويلة، فأسمع ضحكتها وحركتها في القيام، لا يخرج مني الصوت، فتفتح الباب فأرتمي في حضنها وأعود صغيرا فتمسح على رأسي وتسألني عن زوجتي والأولاد،
    لا أقدر على رفع رأسي في وجهها أو التحديق في عينيها.
    هل يمكن أن أكون نفس الشخص الذي وقف يتقبل العزاء فيها وتركها وحيدة تذهب إلى القبر بمفردها؟
    هل تصدقون أنني لم أفعل شيئا لها؟
    - أنت كذلك لم تفعل شيئا لأمك، أليس هذا انهيارا؟

    لم أفعل شيئا لتلك التي وقفت أمام الله بعد خمس بنات وترفع أكفّ الضراعة
    قائلة: - يا رب إن نظرت نظرة واحدة إلى مذلة أمتك، وذكرتني ولم تنس أمتك وأعطيتها الولد زرع البشر، فإنني سأهبه لك، وتطلب الهبة بعد ذلك نسلا من أهلي
    يا رب أتكلم إليك بقلبي لأن نفسي مرّة
    وأنا حزينة الروح ومنكسرة، وتكلمت من كثرة كربتي وغيظي
    فنظر الرب لها مليا وأعطاني إياها، ثم أتركها تذهب إلى القبر وحيدة؟
    لماذا كل هذا العذاب؟
    يستغلق عليّ الفهم وما أنا بفاهم
    لماذا تتبدل أحوال الناس، فأمامي عثمان وحفني يتباهيان بأنهما أربكاني وسادران في غيهما، وما أنا بفاهم لماذا؟ ولا معني هذه التحولات والإشارات، ولا هما قالا لي شيئا؟
    قلت لابد من الذهاب إليهما
    قابلني العم حفني بجرمه الضخم على باب شارعه، قلت في نفسي فلتكن حذرا يا فتي، وقلت له يا سيدي قلت له: إن التألم في كبدي، ما العمل مع الذئاب، ماذا يحدث في السكاكرة؟
    ابتسم وقال لي: إياك أن تخدعك عيناك، وأعرف أنك قوي بقدرتك على نفسك، وأنت لها، وهي ما كانت لأحد غيرك، فتحمل وتجمل واصبر، فالعاقبة خير
    قلت: ما دمت تعرف، فلماذا اللف والدوران؟
    قال: ادفع ثمن ما تعرف، ثم لنا مطلق الإرادة في الطريقة التي نختار لنؤدي بها عملنا، فما يصلح لك لا يصلح لغيرك، وأنت لا تغيب عن أعيننا فنحن نراك حين تقوم وحين تنام، الشمس مثلا نور ونار، كالحقيقة التي لها ألف تجل ولها وجه واحد، لكن لتعرف فالطريق طويل.
    نحن لا نتصرف من تلقاء أنفسنا، ولا غيرنا ولكن كل له أعماله ومهماته، والأعمال غير المهمات هل أشرح؟
    - قلت لي قبل ذلك
    - الحمد لله، أما الذئاب فهم متواجدون دائما ينتهزون الفرصة ليخلعوا جلودهم فتشتد أنيابهم، وتأتي أيامهم ومرجعيتهم عند السيد أبو ديب، سيعودون كل فترة بشكل يناسب كل فترة
    كما أننا بالمناسبة لا نتلقي الأوامر شفاهة ولكن نري فلا نخطي، ليس لنا أي حظ من الخطأ أو النسيان، لا ننفلت أبدا، فلو انفلتنا لانفلت الكون.
    في المرة الأولى عندما واجهنا الذئاب كنا خائفين ولكن بعد أن عرفنا هدفنا البعيد صرنا نتعامل مع كل المخلوقات لأن لهم حق في هذا الكون وعليهم واجبات فلو خرجوا دون رادع لخرج الجميع ولانفلت النظام، وهو نظام لأنه مقهور بالقوة.
    - هذا ليس كل شيء
    - لماذا تريد كل شيء، خذ قليلا على قدر حملك، واترك للآخرين الباقي فهي متصلة شئت أم أبيت
    غاب عني في وضوح النهار، فارتددت طفلا يجري في شوارع السكاكرة ليلحق بفريد الطبال الشقيق الأكبر لشلبي صديقي والذي آلت إليه الطبلة والقيام بالنقر في الفرح ورمضان والمآتم وكان شلبي أستاذا كبيرا وهو يلبس لكل مناسبة ما يناسبها، ليس من الملابس لكن من الوجوه التي تصبغه بصبغة تليق بالمناسبة.
    كان فريد يخرج من صلاة العصر في رمضان قاصدا فرن الكنافة وأنا خلفه وخديجة أختي تكون سبقتنا بالماجور الصغير وبه العجين وعليه المشنة التي سترص عليها الكنافة.
    استبدل فريد ملابسه بينما شلبي يداعب الطبلة ويمسح عليها فقد بات له دور كل يومين في السحور، لما رأيته تذكرت أن له عندي قرش صاغ أحمر مشرشرا كنت قد نسيت أن أعطيه له.
    النار تلهب الصانية التي سيرش فوقها عجين الكنافة وهو يختبرها، ثم يمسحها بالزيت بقماشة بيضاء ثم يملأ الكوز المعد لرش الكنافة ويضع أصابعه أسفل الفتحات ثم يقترب من الصانية الحامية ويرش العجين في حلقات دائرية تبدأ من أطراف الصانية حتى المركز، ثم يلم بالقماشة البيضاء العجين الذي تحوّل إلى غزل رفيع ويرفعه عاليا ثم يضعه في المشنة.
    مرات كثيرة وأنا ألف حول الفرن وأحاول لفت نظر شلبي أنني هنا ولكنه لا ينظر ناحيتي.
    انتهي فريد من الكنافة واستلم العمل في كنافة نقية أم العقر وحملت خديجة الكنافة على رأسها بالمشنة وطارت إلى الدار تاركة الحلة والماجور والقماشة الخفيفة لزوم تغطية الكنافة، بينما رفع شلبي رأسه قائلا: الليلة الكنافة بعسل النحل، لا تنس منابنا.
    بمجرد عودة خديجة إلى البيت عدت مرة أخرى أمام العم حفني الذي قال: أنا أعرف أنك تريد أن تسألني، وأن أحكي لك عن أولادي، وتدون في مدوناتك، ولكني تركت لك نصف الخيط وطرفه وأقل من ثلثه حتى تعود إليّ والعود أحمد، تريد أن تعرف ما سر تسمية ظاظا بهذا الاسم رغم أنه طالع نخل ومكرمها، والنخل بذوره نبتت بين بذور الإنسان والنور ولهذا (أكرموا عماتكم النخل)، ولقاح النخل إذا حبس عنه الهواء صار بقوام ورائحة ماء الرجل، كنت قد مررت بالشارع الذي يسكنه وكان هو في سفر، فرأيت زوجته قد أطلقت البط والإوز، وزاط البط حولها مع العيال وقد ملأت طشت بالماء وعيالها تعوم مع البط فيه، والبط فرح زاط، زاط
    فقلت: السلام عليكم
    قالت: تفضل يا جد، وعليكم السلام
    قلت: أين محمد، ثم ما هذه الزيطة؟
    قالت: اشرب شايا، وعندما يعود سأقول له
    قلت: قولي له يا محمد يا ظاظا الجد يقول لك عقبال فرح الأحفاد
    فقالت: يا جد تريد أن تحجز لنفسك مكانا مع الأحفاد
    فضحكت من ذكائها وقلت لها: يا بنت سليم ال ((الله يرحم الميتين))
    قلت له: هذا ليس كل شيء
    قال بغضب: ولماذا تريد كل شيء؟
    قلت: هنا مربط الفرس
    قال: مربط الفرس هنا ليس مربط الحصان، ولكنها بؤرة الفراسة
    قلت: أود أن أسألك شيئا، ما الذي حدث للسكاكرة، لا أجد من يبل ريقي بإجابة
    قال: لن أجيب، هذه من سفاسف الأمور مثل ندوة الطماطم أو أمراض الأرز، قد تحدث خسائر من هول المفاجأة لكن هناك عقلا يحل المشكلات هذه
    قلت: أشد يدك إلى السؤال
    قال: أنا أسألك عما يقلقك، ونسيت أنني حكيت لك عن الصحراء، وهي لا تحتاج فقط إلى من يزرع ويستخرج، ولكن إلى من يمرون في، ومن، وإلى داخلها أرأيت محيسن وزاهي وغيرهم ممن عبروا خضرة الريف ورحلوا إلى الصحراء يستنطقونها لتبوح بكلام الحياة زرعا أخضر يكسر حدة الصحراء، ثم كل شيء يأتي في موعده والذي تستعجلنا فيه يتأخر على الناس، ثم ما هي حكاية السلام عليكم
    قلت: مفتتح الكلام
    قال: أو نهاية الكلام، لم أصبح عجوزا بعد فأنا في رابعة النهار، وأنت في بداية الفطام، إن عرجك الدائم بين الأعمار ذهابا وارتدادا يضيع السنوات من الحساب.
    قلت: هل هذا كل ما تطلبه وتريد أن تبلغني؟
    قال: أنا لا أريد شيئا
    قلت: يا سبحان الله
    قال: كنت أود أن أقول لك أن البلاد تستبدل، أو على أحسن الأحوال يستبدل بعضها بعضا، قد تري أن ذلك يحتاج قرنا من الزمن، لكن هذا غير صحيح فالملكيات لا تستمر أكثر من سبعين عاما وتتغير، وأنا أدب الآن وسط أعوامي الثمانين لم يسبق لي أن رأيت البلاد تتبدل بهذه السرعة، فتري البلدة الجديدة تكبس فوق البلدة القديمة كأنها هبطت عليها من السماء كابسة على نفسها كأنه الخسف، ولكن في حالات سمجة تجد البلدة تنزل بناسها وشوارعها وفراخها وحميرها، تنزل في الصحراء مفككة ثم تتكامل وتزحف على أقرب بلدة، وتفتح شوارعها وتحيط بالبلدة القديمة ثم تغلق على البلدة القديمة ويتم هضمها ولا يبقى من البلدة القديمة شيء.
    في حالات أخري تجد البلدة الجديدة تنبت من الأرض كالسكاكرة وتجلس وتتسلطن، هذا إذا كان المكان خاليا، ثم تستكمل صعودها من تحت الأرض، لكن إذا كانت تحتل بلدة قديمة تخرج البيوت الجديدة وسط الشوارع القديمة ثم تمتص البيوت الجديدة البيوت القديمة فيصبح مكان البيوت القديمة فراغات وهي الشوارع والباحات.
    في حالات قليلة تحس البلاد القديمة بالحصار فتجري إلى الصحراء قبل أن تتمكن البلدة الجديدة من امتصاصها، ولكن يصيب البيوت القديمة تصلب في شرايين الحياة فتموت واقفة أو منهارة وتبقى طللا.
    وفي حالات الانتشار تحاول البلاد القديمة أن تمسك بنفسها وتقاوم أي تبديل أو تغيير في هيئتها، وتقاوم احتلالها، فتأتي البيوت الجديدة وتكمن لها متكاملة بجوارها، وتمتلئ بالأطفال والشياه، ثم تبدأ الشياه والأطفال الصغار بالزحف نحو البلدة القديمة، وتعتمد هذه الزواحف على المدن القديمة في الحياة في نفس الوقت تكون بيوت البلدة الجديدة قد زحفت ببنائها حتى أطراف البيوت القديمة، ويرغم أبناء البيوت القديمة على القول عن تلك البنايات أنها المنشية الجديدة، وتبدأ البلدة الجديدة في إزعاج البلدة القديمة، ثم تبدأ تختفي البلدة القديمة شارعا فشارعا، وتنتهي البلدة القديمة بالهجر، والاحتلال، فقد اغتصبتها المدن الجديدة وأضاعتها إلى الأبد.
    وفي أحيان أكثر مراوغة تتكسر البيوت القديمة وتسقط على الأرض فتري تحتها البيوت الجديدة كأنما تقشرت عنها.
    في بعض حالات الخداع تحس سرابا قادما من الصحراء فتأمن له، لكنه يكون طوفانا يكسح البلاد القديمة وينحر من جوفها وجرفها فتنبت البلاد الجديدة وتخرج الناس كالأشجار الصغيرة تشق الطين عنها خارجة من بذرتها (والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا- نوح) الشيء الغريب أن الناس والحيوانات تبدأ فورا ممارسة حياتها كأنهم كانوا هنا أمس.
    وفي حالات بدأت تنتشر كثيرا، فتمسك البلاد القديمة وتمتنع على التبديل وتغير في هيأتها وتقاوم احتلالها، فكأن البيوت الجديدة تكمن لها متكاملة بجوارها، وتحشر بالأطفال والماعز والناس، ثم تمتد البلاد الجديدة حتى تصل أول أطراف البلدة القديمة، وينزعج السكان من المسافة التي قربت والعيال الذين كبروا بجرأة، وتمتد وتنهار البيوت القديمة رويدا وتكسب الجديدة أرضا فتفرض ناسا وطباعا وتختفي القديمة شارعا، شارعا، وتبقى سنين في الاحتلال بينما تنهزم وتنسى العادات القديمة حتى لا يذكرها أحد لأن من بقى هم أولاد البلاد الجديدة.
    وأنا أرقب وأري.
    المكان الوحيد الذي لم يتغير هو مصر القديمة، أحس أنك تقول في سرك والصحراء، أبدا الصحراء تتغير لحظيا بالهواء والماء والنبات والسير فوقها وتنتقل أو تسير بالناس والحيوان وهم فوقها يظنون أنهم سائرون عليها.
    مصر القديمة لم تتغير فهي كنز الأسرار وترب الخفير من اختراع عائشة الخياطة للتمويه فهي عادتها الأثيرة للاحتفال بالموت والميلاد.
    لاحظ أنني في كل مرة أدخل مصر المحروسة قادما من الأردن، أدخلها من مكان مختلف في زمان مختلف وبعمر مختلف لكأني ملايين الناس، أدخل من المكان الأجمل كطائر الغر لأتمتع بالماء سباحة وعشقا أو أتي مصر في نوة الكرم، وهي كنوة جبل عكا وصور، وقالت لي أم جبار وأنا في رشيا الفخار بلبنان كانت النوة ترمي لنا السمك على الشاطئ، وعندما نأخذ كفايتنا وزيادة تسحب السمك إلى الماء تلمه قبل أن يموت،
    وكانت الأرض في شمال فلسطين في ذلك الوقت مزدحمة بالحمل ويلزمها القطاف كامرأة حامل في شهرها الأخير في شهر بؤونة، مجهدة وفاتنة،
    فهل نلوم عاشقها إذا راودها عن نفسها؟
    وهل نغضب منها إذا قالت: رجال يفقعون المرارة، يا رجل إذا كان وقتك فارغا فاشغله بعيدا عني؟
    وهل نغضب منه إذا ألح وقال: أريدك أن ترشى قليلا من الماء لتتبردي؟
    هل يمكن أن نذهل وهي تلقي نفسها في الماء سابحة بملابسها؟
    حقا أغضب منها كثيرا، فدخول كل شيء يكون في كامل عريها، كما دخلت دمياط من جهة المنزلة لجمال النساء وعري البحر ورائحة الشوق، ثم صان الحجر ثم فاقوس فالسكاكرة، أردت أم لم أرد سأتوقف ولو لأقرأ الفاتحة على روح أبي وأمي وبلال وخديجة إخوتي، لا تغضب، أنا أحكي لك عن زمن قديم لكن في زمن حديث، لكن السكاكرة نادتني (يسى السيد)..
    كانت السكاكرة تقع في الماء البعيد العمق، بمعني ماء يغمر كل الأرض لكن تحته آبار عميقة في آخر هذه الآبار طريق يشبه درب التبانة بعد حوالي مسيرة جيلين تري السكاكرة تتلألأ تحت الماء عالما من البهجة وتتنفس بالحمى وتخصف من أوراق الماء عليها كأنها عورة الماء أو العذوبة التي بالماء، وكانت السكاكرة تداري فتنتها فارتبك الماء علينا - أنا والسكاكرة - كانت نهرا من القبلات يسيل من مباهج التمني ويدفق فتنة في الروح.
    كانت قبل قليل تمد يدها وتزيح مالا تحب أن يجاورها
    قال حفني: هذا حدث في أي وقت
    قلت: هذا حدث في العمر الأول، الذي انتهي برسو السفينة وتنهد الحياة لتستأنف الوجود، وكان الخروج من السفينة لأهلي وذريتي وبعض العماليق ليسوا من ذريتي ولكن (من ذرية من حملنا مع نوح) بعدها تقريبا مت، طبعا أنت فاهم
    ثم صحوت في البعث الثاني وكنت أظن أنني سأبعث شجرة في الهند (وينشئكم في ما لا تعلمون) لكأنما صحوت بعد دهر، فوقفت وأخذت في التثاؤب وملاينة عظامي، فأخذت جلبابا ولبسته فوجدته طويلا جدا، فيبدو أنني انكمشت قليلا خلال نومي، وقلت كيف لثلاث مائة سنة من النوم أن تنقص طولي!؟
    كنت أسمع صوت الدم ناهضا في عروقي وأنا مملوء بحب السير والتطلع، وكان الجلباب يقصر عليّ حتى صار كأنه طوق في الرقبة فرأيت جنة أي حديقة على بعد قريب، وصلتها بوصلي ودخلتها بشوقي، وألقيت الجلباب أرضا فتفتحت الحياة عن آخرها وكنت أعرف أني والجها فولجتها، فرأتني وكانت هي الجمال والحياة والحال والمحتال وهي الكل، تزوجتني وامتلأت الجنة بالنسل، وصار الأولاد يبتعدون عنى بعد كل حين ومين، وكنت في أول التجارب معهم يأخذني الخوف ويسكنني الهلع فأبكي لبعدهم عنى، فأبقيت اللهفة للحياة ووضعت على القلب حجرا صوانا كبيرا وثقيلا من الصبر.
    وجدت الولد حفيدي يخرج من الجنة إلى الصحراء وراء امرأته وهي تلتف في شعرها، يخرجان إلى لا شيء، يا ليتهما يخرجان إلى المجهول كنت عرفت وجهتهما، فناديت عليهما: ارجعا
    فاستدارت المرأة وأشارت لي أن تعال، خفت ولكني جريت خلفهما فأحسست أنني أطير، وأغوص، حتى صارت كتلة طين ثقيلة فوقي فنفضتها عني وتحممت في النهر الذي أمامي وكانت هذه ترعة النصرانية، وأمام مكان يسمي الحوض فعرفت أن السكاكرة قريبة أقرب من الأيام وكان هذا هو البعث الثالث.
    خرجت من النهر ودخلت في حقل ذرة، آكل النبات بأكمله حتى كانت الكيزان هو ما استقر لي طعاما، وجدت أشخاصا يشوون الذرة على النار وكان طعمه بديعا، لكن كانت تنقصني السرعة في اللغة فما زلت واقعا في حصار القيود وثقل اللسان.
    كنت أفهم الكلام لكن استدعاء الكلمات كان يعوقني كثير في الانتقاء بين الحروف خاصة أنني كنت أتغاضى عن التنقيط فأقع في حيص بيص بين العين والغين، أو تريد الضاد أن تستريح قليلا فتنام في وسط ال ح وتصدر لي الصاد التي دائما أقع في إغوائها، هكذا فكأنك تبدأ من جديد.
    أعطاني أحدهما جلبابا، لبسته كان مناسبا قليلا، نمت حيث جلست أمام حقل الذرة، في الصباح أحسست بالاختناق وأنني أكبر في ثياب ضيقة، كان الجلباب ممزقا حولي ولم يبق منه إلا طوق الرقبة.
    تلقفني عمك على النجيحي وعلمني البناء فحاذيت خطوه لا أمامه لا خلفه، تابعا وهو المعلم، زوجتي زينب ابنته وسرت خلفه، وأمامها.
    لا تظن أني أهبل لا سمح الله، لكن كنت أظن أن كل الناس هكذا، ولكن لفت نظري أن هذه المرأة تتهدم وتشيخ بسرعة بينما أولادها يزدادون شبابا.
    أنجبت ولدي أحمد وبدأنا نكبر سويا، بيننا عشرون عصفور، ومحبة، وأسئلة كثيرة، ولكنني لا أعرف ما سيحدث غدا، لكن أعرف ما سيحدث بعد خمسة أعوام وأنت طالع، ولكن كلما اقتربت من عام لعام غامت الرؤيا ولا أتذكرها إلا وقت حدوثها
    قال حفني: المهم، أنك تعرف الآن
    قلت: هل تصدقني؟
    - نعم، هل هذا ما تريده؟
    - أنا لا أريد شيئا
    قام الرجل واقفا وغادرني، فأحسست أن روحي تغادرني.
    وصار همّا، كلما سرت من بلد إلى بلد أبحث عنه، وكنت دائما أري وجهه فوق رؤوس الناس، كان طويلا، لا، كان مهولا بجرم لا يدع للعين أي زاوية في المشهد تشغلك عنه.
    والحقيقة لا أنسي وجهه الصبوح وابتسامته الجميلة وهتافه الجميل: ازيك
    هل نذرت العمر للبحث عنه؟
    كان يتراءى لي في البعث الثاني وكان معلما - غريبة لم آخذ بالي يا جدع، وصرت معلما وعندما أحلت إلى المعاش مثل قطعة خبز جافة ألقيت بها برفق بجوار الحائط، فذهبت لاستكمال أوراقي في التأمين الصحي، والغريبة أن الناس كانت تكتنزني للنوائب، ويبتهلون لي، لكنني كنت أقوم على خدمتهم بحب، هو علمني هذا، وبعد خروجي على المعاش كانوا يتعمدون إذلالي بتركي لساعات طويلة واقفا أمامهم أو خارج المكتب، ويسوفون في عمل كل شيء، وكانت فرصتي لأري الإنسان على حقيقته، إذا كان قد فعل هذا من قبل مع الله فلماذا لا يفعل ذلك معي؟
    - اسمع يا حاج أنت تحب الحلال، وطوال عمرك مع الحق، فنحن سنعاملك بالحق، بما تحب، من قال أن هذه الخدمة الطويلة تخصك، ما هو الإثبات أنك أنت؟
    نحن نعرفك، لكن من الجائز أن أحدا قام باختطافك وجاء لنا وقال إنه أنت، أرجوك اثبت لنا هذا لنكمل لك الملف.
    وهكذا صار اليوم معهم بأشهر بينما الذين خرجوا بعدي بكثير أنهوا أوراقهم بسرعة، وعندما سألتهم قالوا: هؤلاء يحبون السهولة واللين، فنعاملهم بقانونهم، أما أنت فكما علمت.
    ذهبت للتأمين الصحي، فقالوا الموظف إذن ،وسيعود الساعة الثانية فجلست على كرسي في الصالة موضوع للعجائز وكان الهواء شديدا فكاد النوم أن يلفني بردائه، فنادوا: الموظف لن يأتي اليوم وسيأتي غدا.
    أمسك يدي وقال: يا حاج عندما تأتي إلى هنا البس جلبابا وشبشبا ولا داعي للقميص والبنطلون، أعطهم للفقراء، لله، لا داعي للتمسك بالخدمة التي تركتك.
    لقد أصبحنا بركة أو من موجودات البيت القديمة، يعز عليهم التخلي عنا الآن، لكن هذا الإعزاز سيقل كثيرا مع الأيام حتى نصبح معوقات أكرمنا الله قبل أن نصير هكذا، غدا إن شاء الله بالجلباب والشبشب.
    جلست على الكرسي في اليوم الثاني (غدا) بالجلباب الأبيض، وسلتُّ رجلي من الشبشب ووضعتها جانبي ونمت حتى يأتي رفيقي أو الموظف الذي يستأذن كل يوم.
    - اصح يا أستاذ، أنت تفتح فمك على أخره، حاسب من الذباب
    - يا أخي النائم أخو الميت كيف تحاسبني على شخير أو فتح فمي
    - استلم البطاقة
    فتسلمتها، فقال لي: والله العظيم أجمل، ثم إن الهواء يدخل لك من كل جانب فيحافظ على الجثة من العفن، لا تغضب، نحن موتى ننتظر الدفن،
    أولادك لا يستشيرونك في شيء وإذا قلت شيئا يقولون لك: تمام فعلا، الله يخليك لنا يا حاج، ثم يفعلون غيرة
    - إذا أخذوا رأيك من أصله، ستركبون التاكسي؟
    - سنتمشى قليلا، ليس وراءنا شيء، لماذا الوصول مبكرا، دعهم يقلقون علينا قليلا.
    - بعد إذنكم
    - مع السلامة، نحن في قهوة المعاشات
    عدت إلى البيت فقابلتني زوجتي من على الباب وهي تضحك وكأنني طفل ضائع عاد إليهم وعرف البيت
    - أين كنت؟
    - في التأمين
    - بالجلباب والشبشب؟
    - نعم
    - وتنام وتشخر، وتضع رجلك على الكرسي الذي بجوارك
    - من قال لك هذا؟
    - الدكتورة إيمان قالت لم أصدق نفسي، هل معقول يكون بالجلباب والشبشب وينام مطمئنا ويشخر؟، مررت من أمامه مرتين ووقفت أتأمله ففتح عينيه ونظر لي وكأنه لا يراني ثم نام مرة أخري، يا طنط لو سمحتي لو لكم أي طلبات في التأمين أنا سأقوم بها، لا داعي لما يفعله بنا أنت لا تعرفين مدي اعتزازنا به
    قلت: طيب
    قالت زوجتي: طبعا أخذت بالك من مدي اعتزازنا به، مبسوط
    قلت: واخدة بالك من يا طنط، كويس أنها لم تقل يا أبله
    دخلت البيت وأنا أتذكر أنني ربما رأيت إيمان في الحلم أو لمحتها تصعد السلم وكانت تبتسم وترتدي بلوزة بمبي وبنطلونا من الجينز وتحمل أوراقا ولكنها أكملت الصعود، ربما
    وربما كانت عمتي التي دائما تقص عليّ حكاياتها مع الملائكة عندما أرادت أن تموت فأخبرتهم بذلك، فنزل الملائكة أمام شباكها وأعدوها للغسل على طاولة الغسل وأخذوا يقومون بعملهم - وكان الملائكة الصغار يتابعونهم، لأنهم وجدوا السلم ممتدا إلى الأرض فلحقوا بالملائكة الكبار وأخذوا ينظرون من الشباك ويتلصصون على عمتي وكانت تبتسم وتهش الهواء ناحيتهم، وعندما يدغدغها الملائكة الكبار في الغسل تحت إبطيها وفي سمانتي ساقيها فتضحك وتشد جلبابها عليها وتمسح وجهها وتحكم غطاء رأسها وتنتر الماء بعيدا عنها، وكان الملائكة تستمتع برائحة جسدها وهي مستسلمة لهم، وعندما أخذوا يتحسسون فتنة وجهها وأزاحوا غطاء الرأس أدركت أنهم ربما مكثوا الليالي الطوال أمام منابت عفتها وفتنة بهجتها، ولاحظت أن أجسادهم تنز شيئا كرائحة اللوز المر وله رائحة طلع النخل وقوام زيت الزيتون فقامت واقفة محكمة غطاء رأسها عليها قائلة لهم: ما بدي
    وخرجت مسرعة بينما الملائكة الكبار يتعثرون في خجلهم ويلوذون بالهروب على سلم السماء، والملائكة الصغار يتعلقون بأرجلهم حتى أخذ أخرهم السلم في يده وصعد به السلم، بينما انصفق باب الحجرة.، بينما كانت عمتي تحك جسمها لتزيل أزهار الياسمين النابتة على جسدها وتهش العصافير الصغير التي تفرّ من تحت ملابسها، وتراجع نفسها بشأن العريس الذي تكلمنا عنه دائما، وتقول: كنت أريد أن أنجب للأرض وللسماء ملائكة ومنشدين، ولكن.
    كنت كالأرض ملقاة على طاولة الغسل، فلمحت ماء يسيل على أفخاذ الملائكة وهم منهمكون في الغسل فأدركت أن هذا الغسل ليس طاهرا تماما، ما أحببت أن أقول ذلك لكم ساعتها خوفا على الملائكة فنهضت، وأنتم تعرفون باقي الحكاية.
    عندها كانت عمتي قد تعدت غور الأردن ودخلت في زمام أملاكها.، وكانت تصحبني معها في تجوالها اليومي، وكنت أري الحكايات وهي تتعلق بملابسها وتنام بين طيات شالها وهي تنفضها لثقلها وكثرتها عليها.
    وهي دائما تأتي إليّ، أو أذهب إليها فتكلمني فأحس أن الدنيا تغيم، وأنها كائن علوى، وأن الملائكة تناديني فأذهب إليها مسلوب الإرادة.

    (8)

    لما نادتني الملائكة وأنا قائم على أمر السكاكرة فوق النخيل، أنظر وأشاهد، أمد اليد المساعدة، تلك الأيدي الآتية من جسد ذلك الرجل الذي يستوطن الحقول، هذا الرجل الذي يحاول أن يتواري في الحقول، ولكنه يعلو ويرتفع حتى تصل رأسه إلى السماء بالضبط فيرفعها فتلامس شفتاه السماء فيقبلها، عندها تكون الأيدي الكثيرة له قد غطت الدنيا وتبدأ عملها بالمسح على البيوت وبطون الحوامل وظهور الرجال ورؤوس الأطفال وعيون وأجساد الحراس سواء في الحقول أو البيوت أو الطرقات، كانت تقلب الأطفال قليلا قيل ليتحملوا العمل الشاق،
    كما تتوقف تلك الأيدي كثيرا على أجساد النساء، فالحياة هي المرأة والكتابة وليست السلاطين.
    قلت: مالك، تكلمني وأنت مهموم؟
    قال: الذئاب
    قلت: أراهم
    اطمئن وسار، فأعددت خمسة عشر كلبة قوية كثور، وقعن تحت الذئاب وحملن، لأنهن أغرين شباب الذئاب، كما حاول الناس الدفاع عن أنفسهم بالراقصات والداعرات ودفعن بهن إلى الذئاب إغوائهن ثم، فضحهن، فيستعمل ذلك كأوراق تخدم الذئاب بعضهم ضد بعض.
    كانت الولادات عسيرة وأنجبن هول قاس، شرس، أخذتهم وربيتهم على لحم الذئاب ومنعت عنهم الطعام حتى دمروا سجنهم وانطلقوا، وواجهوا الذئاب في الشوارع والحقول ودارت معركة بينهم، كانت النتائج قتلى بالمئات وأنهار دم من الذئاب لم نستطع إحصاء العدد لأن الكلاب كانت تلتهم الجثث، وفقد خمسة عشر من الكلاب، ولعب الفأر في عبي - وأيامنا كان الفأر في حجم الأسد
    قلت له: لا تلعب، أنا أعرف لكن ما لم أعرفه هو كيف؟
    قال: هي أساس كل شيء، الغواية، عشقن بنهم إناثا من الذئاب.
    لعب الفأر مرة أخري في عبي قلت له: لماذا تلعب بالنار يا فأر
    قال: المنشقون كونوا حزبا ضد الذئاب والكلاب
    قلت: ثم ماذا؟
    قال: لا تخف على السكاكرة فهي باقية
    قلت له: نريدها أن تبقي قوية، لا نريدها ذليلة كالعجوز الذي يطلب الستر ولا يفضحه الله، فيستطيع أن يذهب إلى دورة المياه وحيدا، بلا فضائح على الكبر.
    بحث عنهم، عرفت أنهم بالمقابر ذهبت إليهم، كانوا وقوفا يتململون، وجدت أوجههم تنطق بشبه لكل واحد فيهم، لم يستحوا كانوا متأهبين
    قلت: لماذا الانشقاق، ما لهذا أنتجنا كم
    قالوا: كل وقت وله أذان، ومن الآخر إذا كنت تعتبرنا منشقين وأبناء حرام، فنحن موافقون
    والمصالح تتضارب، كفي سيطرة علينا من أول الزمن
    قلت لهم: أنتم شيء عارض
    قالوا: إذن أترك لنا الوقت
    كانت المرأة التي خرجت من الجنة خلف ابن حفيدي تسير هناك، وتتكلم بكلام مرّ، فمها مرّ
    عدت فقالت عائشة: رأينا في هذا الموضوع أنا شلبية وحنونة وست الناس وشاهنداس والمتكلمون أن نتركهم، فوقتهم قصير المدى، لكن التجربة مقيدة.
    قال حفني وعثمان: الإبادة
    قال الجد الكبير: هذه هي الحياة دعهم، فالوقت الذي ستأخذه لتطير السكاكرة منهم هو نفس الوقت الذي يمر عليهم فينقرضون، ثم إن الحرب عليهم ستقويهم،
    قلت: لن يتركونا
    قال: أنظر إلى الأبعد المقاومة ستقويهم
    قال عمك عبده أبو زيد: وأنا مالي أصحاب الشأن يقلن رأيهن
    المهم تزوج الرجل إحدى بنات عمك عبده، ولم نعرف عنهما أي شيء وإن كان قد قل خروجها للشارع ولكن عمل عمك عبده كما هو،
    مالك؟ لماذا تنظر إليّ هكذا، نسيت أن أقول لك، من عمك عبده أبو زيد كنت قد فتك في الكلام: سامح يا مصطفي السن والعجز وقلة الشوف يجعلنا لا نري بداية الحكاية من آخرها، على العموم كان الرجل يختفي أحيانا لكن دائما يتواجد بعد صلاة الفجر في زراعة عمك عبده.
    صارت الناس تشتكى أنها تذهب لزراعة عمك عبده أو نسيبه لشراء الخضار، فيقول لهم: جبرنا، الحمد لله بعنا وغدا خير.
    وإذا عانده أحد صرخ فيهم: ازرعوا يا ناس بتون أرضكم بما تحتاجونه من خضراوات أو فاكهة، أنا لست عجيبة يا ناس، أنتم العجيبة، ازرعوا فوق التراب المكوم بجانب ووسط الأرض.
    عرفنا أن الرجل وأولاده يرسلون الخضار إلى بلاد صحراوية لا تنتج الخضار أو أرضها ملح أو حجر فيكسب هو وأولاده الكثير.
    وبدأ يقلده الآخرون
    هذا الرجل هو صامت، صار نموذجا، والله يا مصطفي أنا لا أعرف لماذا حكيت لك هذه الحكاية
    - وماذا فعلت يا جد للناس
    - أدخلت زراعة الفاكهة والأشجار الخشبية وأحضرت لهم الأصناف الجيدة من الشام، واهتممت كثيرا بنشر زراعة نخيل البلح، واخترت لكل بلد حولنا أنواع خاصة لا تتكرر في البلد الأخرى ولكن يمكن تتكرر بعد عشرين بلدا.
    عليك أنت أن تفعل مثلما فعلت، ومثلما فعل عمك عبده أبو زيد فيدخل الخير كل بيت فيدعون لك فلا أخاف عليك يا مصطفي.
    ما أقوله لك ليس مديحا في الماضي، ولا حزنا على الحاضر، ولكنى أقص عليك حكاية واحد فرد فلاح مثل كل الفلاحين الذين بكل العالم رجل متزوج، وله بنات جميلات واقفات كالنخيل على الأرض، وله مشاكل مثل مشاكل الفلاحين، إنه ليس له أرض، ولم يمنعه هذا من أن يكتب اسمه في مجد البلاد.
    أخذ أرض إيجار ولم يسمع للنصائح العبيطة، يا زارع في غير أرضك، يا مربي في غير ولدك، ماذا نفعل نعطل كل الدنيا ونترك شمس الله تتفرج علينا كل صبا ح؟ طبعا لا، ولكن نعمل فاستأجر أرضا، وبدأ زراعة الخضار من أول النعناع حتى البامية والشبت والبقدونس، وطبعا الناس كانت في رمضان بعد صلاة العصر تذهب إليه وتعود محملة بالجرجير والفجل وخضراوات السلطة من شبت وبقدونس حتى الليمون فقد كان قد زرع في تلك الأرض المؤجرة شجرة ليمون.
    وكانت بنات عمك عبده يعملن معه
    فجاءه رجل غريب كل يوم ويشتري منه معظم زراعته فقال له عمك عبده: اسمع، ماذا تريد؟
    قال الرجل أن تزوجني إحدى بناتك، فقال له عمك عبده: أنا مالي أصحاب الشأن يقلن رأيهن.

    (9)

    كأنما الشيطان يجلس فوق مخازن أعمارنا، ويغرينا بالشهوات والغرائز، حتى إذا مددنا يدنا وكدنا نلمسها، سالت أعمارنا وغرقنا في الشهوات، وسرعان ما يقلب خزان العمر علينا كعصاه، ولا نستطيع رفع الخزان والفرار من حصار إغوائه.
    هكذا يتسرب العمر
    هكذا انتظر العمر نعيما وعذابا
    بينما لفات القش المعجون بالطين، والتي تشكل سدادات جرار الجبن والمش قد اتخذت هيئات شعر حبيبة مضموما تحت أشارب أسود مستعد للرجوع إلى حالة الفوضى فور إزالة الإشارب - الطين - مازالت منذ العمر الأول كما هي.
    كانت هذه السدادات تشكل مقترحات لأشكال مخلوقات لا تتخذ من الجبن القديم الذي تخمر في المش الديمومة لتتخلق فيه أشكال تتنفس أشكالا خاصة بالمش، لم تكن تتخلق بإرادتها هي، ولكنها لها الحق في اختيار أشكالها الخاصة سابحة نحو السدادات لتتعداها خلال مرحلة طويلة إلى الخارج، فتكون هذه المخلوقات ليست مفاجأة لأحد، ولكنها تكون بتوحشها وسعيها الحثيث للتواجد أو عودتها إلى المش مرة أخري كالتي كانت في جرة ثم خرجت بره.
    وهذا يقال مع جملة التكوين لدي مشاهدة هذه الأشكال.
    لم تكن أشكالها مدرجة في العيون قبل ذلك، وكانت العامة لا تستغرب الأشكال الجديدة فكله دود، ودود المش منه فيه.
    لكن هذا لا يقع هكذا عند حفني أو عثمان النجار، فهم لا شأن لهم بتعبيرات العامة، لأن عثمان وحفني وقبائلهما ومن لف لفيفهما، كانوا قادمين بتكاملهم من بلاد بعيدة تحت الأرض، الممتد هذا التحت إلى أبار عميقة تحت الماء.
    كانوا قادمين بالبيوت والأشجار كاملة مكملة ونبتت السكاكرة كأنه سبق إنشاؤها.
    - هل أمه من خارج السكاكرة؟
    قالت: نحن لا نعرف، فقد رأيناه هكذا في نفس السن وبنفس الجرم وله نفس الدور
    - ألم يكن طفلا أو شابا؟
    قالت: أبدا، لا هو ولا عائشة ولا حنونة ولا عثمان ولا الجد الكبير، ولا الأشجار ولا البحار ولا صنف شيء من كل ما بالسكاكرة، ولهذا كنت الميلاد الأول على أرضها
    - وكذلك عبورك الثاني شابا، وكهولتك الثالثة، كما لم تشهد السكاكرة نموك الأول وامتدادك فتى في الثاني وشيخوختك في الثالث وأنت متردد بين الأردن والسكاكرة ذو مرة (شديد التردد ومنتظم) فمتى تستوي؟
    - هكذا أنت تفسرين أحلامي
    - هذه ليست أحلاما بل حقائق، فأنت بعد ميلادك الأول كنت تخطو إلى العالم البسيط، ما يقال عنه عالم المعجزات، فالأصل هو هذا العالم لكن كذب الإنسان وغشه ومداهنته أوصلته إلى هذا العالم الصدئ الرديء فقال عنه أنه الطبيعي والآخر المعجزات.
    المشكلة أنك عند عبورك إلى العالم البسيط التفت خلفك فترددت فصار ترددك هذا، وأنت الحالة الوحيدة وهي تشبه بلبلة اللسان، (بالمناسبة هذا لم يحدث لأحد غيرك لأنهم يعبرون معصوبي العيون، ولكن كطبعك قد أفلت العصابة عن عينيك)
    - وما الذي سيحدث؟
    - اسألهم فهم يهتمون بالأرض كما يهتمون بالملأ الأعلى
    - الملأ الأعلى؟ أنا أعرفه أليس هذا الذي يقول بصوت أجش عميق نابع من بعيد، عندما يقف ولد في جرن شرشيمة الواسع ساعة أن تكون الدنيا في وقت العصر، في الوقت المميت ويكون الكون له لوحة واحدة على جدران السماء، لون أسود ملاصق للأرض ربما من تفحم الأشياء, ولون أحمر ربما مازال الحريق مستمرا وصار الحريق بعمق المدى، يعلوه ويتداخل معه لون أزرق ربما من الدخان وفوقهما ويزيد اللون الأصفر المتداخل مع لون السماء اللبني المسود تتداخل جميع أشعة شمس كانت هنا، لكنها لا تبين،
    في هذه الأثناء يقف ولد في جرن شرشيمة الوسيع ويدق بزلطة على صفيحة معه، أو على قعر حلة نحاس فيتردد الدق وصداه في عمق السكون، ويتردد الخبط في السبع سماوات، منعكسا من أرجاء الكون إلى أعلى فيرتد من الملأ الأعلى ذلك الصوت العميق آمرا بترديد الصوت ملايين المرات، فيرتد إلى الأرض عميقا نفاذا مؤلما، وُيسقط أضلاع الصدر ويستفرط بالقلب فننهار ونخاف الإله ومن في الملأ الأعلى.
    وهو الذي يذهب إليه حفني وعثمان عن طريق الجميزة ويعودان مع الفجر ويقفزان فوق الجميزة قادمين من درب التبانة مرشوشان بالدقيق الأبيض من ضوء القمر فينفضان جلبابهما وغطاء رأسهما ثم ينظران إلى بعضهما قائلين السلام عليكم، ومن طول المشوار ينامان.
    - كان حفني وعثمان يقومان باستبدال أماكنهم، في رحم أمهاتهما، ولكن كان الراعي لهما قد انتبه لما يفعلان، وكانا يحذران بعضهما كما كان الراعي يحذرهما من الانتقال من رحم إلى رحم، ومع هذا مضيا يفكران بعمق وعيونهما مقفلة، بينما أراح أحدهما رأسه على يسراه، فيما غرس الآخر إصبعين من يمناه في لحم صدغه، وسهّما، كأنما يفكران في أوجاعهما.
    ربما كانا يستغرقان في النوم بعد طول تفكير، ثم يصحوان فجأة فزعين من صوت طبول فريد وشلبي، وقبل أن تنطق سأقول لك لكل زمان فريد وشلبي، نفس الأفعال تتكرر طوال الوقت لكن مع تبدل الأسماء والهيئات، ربما كانت طبول ما قبل التاريخ والمبشرة بالدنيا يدقها فريد وشلبي؟ من قال لك غير هذا فهل تملك دليلا على كذب ذلك؟
    فلا تسأل عما قبل حتى لا تقع في حيص بيص.
    كانا يفزعان ولا ينصرفان عما هما فيه، وفجأة كأنما انتبها أو انتفضا، أو حمامة تنفض رقبتها بشدة، عرض لها عارض على غير توقع، ففتنها وأدهشها، لكن لم يصرفهما عما كانا فيه.
    كان يدخل كل منهما في بحر التفكير يجدفان كل في بحر حتى إذا وصلا شط البحر وساحله خرجا من رحم أمهما يعرفان،ناضجان يملآن الدنيا عملا، لذا لم يكونا طفلين أو صغيرين، لم يكن لديهما وقت للطفولة، كما قال عمك حفني، ليس لديّ وقت لأموت، مشغول خالص.
    لذلك ما نعرفه أن كل منهما خرج من بيته هكذا، ربما رحم أمهما هو الدنيا، ممكن جدا.
    أقل لك فكرة أخري ربما نبتا مع بيوت السكاكرة عندما نبتت على سطح الأرض مع الدجاج والمواشي والنساء والكوانين والأفران.
    قال لي إبراهيم بن سليمان الحداد: أذكر عندما نهضت السكاكرة لم تعتمد على أحد، ولكن اعتمدت على يديها وقدميها، عاليهما العقل.
    قلت: مثلما فعل مصطفي حفيدي بالضبط.
    هل لك أن تصدق هذا؟
    هل نبتت شرشيمة والمطاوعة بهذه الطريقة بنفس الضبط، تأمل الأسماء، شرشيمة، المطاوعة فهمت أم لا؟
    المطاوعة لينة الإحساس، لينة، مطاوعة، تأتي بالراحة وبهدوء، كالعروس ليلة دخلتها، تأتي في أوقات الراحة، العقل والفعل فيها سهل قياده والقيام به،
    هل قلت لك شيئا عنها في معرض حديثي،
    قال إبراهيم: اسمع هي من شدة وضوحها تكاد لا تري ومن شدة انتظامها فهي عرضة للنسيان، يا سلام لا يعجبك الكلام، إذا كانت يدك أنت، لا تعرف تفاصيلها إلا عندما تصاب بألم أو حادث فتجلس لتتأملها فتكتشف أن الأصابع بها طول أكثر من اللازم، طيب بالله عليك، لو أخذنا يدك ووضعناها مع عشرات الأيدي هل تستطيع التعرف عليها؟
    فما بالك بالمطاوعة المنتظمة جدا حتى ماكينة الطحين لم تجد مكانا ترتب فيها دقاتها وانتظامها إلا المطاوعة لتنتظم على دقات الماكينة حركة الحياة المأخوذة من درابك عائشة
    أما شرشيمة فهي، نصفها شر، والأخر ساحرة على بركة ماء اسمها شيمة.
    رغم أن شرشيمة، الشهادة لله، حاولت أن تغير هذه الشهرة المضرة أحيانا، فخرج منها العلماء، العارفون، والكتبة، والصافون، والعادلون، والعلماء الكبار قوي لكن بقيت شرشيمة، يكفي أنها مركز تسليح السلاح، مهما كان خيرها كثيرا فإن لحظة واحدة من شرها تمحو أجيالا من خيرها.
    أما السكاكرة فوسط، وإن كنت شخصيا لا أحب الوسط، ولكن الحكمة اقتضت أن تجمعهما السكاكرة، وتنصر إحداهما على الأخرى في أوقات مختلفة، وتعلى شأن من تشاء لحكمة،
    أظن أن هذا قد تم بعيدا في زمن سحيق، ثم صارت السكاكرة مكتملة هكذا، وخرجت هكذا، وهكذا هكذا هي السكاكرة.
    قلت له: أنت تبرر
    - تريد أن تتعبني لأقلب لك أوراق القلب
    - قال لي حفني كلاما غير هذا، ولكن عثمان لم يقل
    - ربما
    - هل أقل لك ما في نفسي؟
    - قل
    قال: سأضيع منك إلى الأبد، أعود لأرد عنك حيرتك، أو آتيك في الوقت المناسب فلا تسأل، السلام عليكم ورحمة الله أودعك بها وأدخل على غيرك في نفس اللحظة بها.

    (10)

    - أنا أتذكر هذا جيدا، وأنا صغير أسير معك بضع خطوات، ثم أقف أمامك معترضا مادا يديه-فتفهم فتحملني على يدك المصابة، وتسندني بيدك السليمة، وأنا أستأنس بدفئك وأكاد أنام على كتفك، فأنا أحبك قوي، لا أعرف السبب، وطبعا أنا لا أحبك لأنك جدي.
    دخلت المسجد الكبير وهو مفروش بالأكلمة الصوفية (الصوف) حتى لا تزعل يا جد، وتركتني ودخلت إلى صحن المسجد، في وسط العتمة الخفيفة وتبعتك على الضوء الشحيح القادم من باب المسجد البعيد الذي لا يحرمنا من رؤية الغروب، ودخلت فأحسست ببرد خفيف كان يأتي من الفتحات العلوية فرفعت رأسي إلى أعلى، أتأمل المشكاوات المعلقة، وأتابع الخط الجميل الذي زين به المسجد، تدور آيات القرآن كأنها بالجص الأبيض وسط أرضية حمراء، كأن هذا النص جاء لينتصر على الدماء ويهزمها ويعم السلام والهدوء والسكينة، والله يا ريت يا جد.
    تدور الآيات على حوائط المسجد فأدور معها، تتجلى الكتابة بشكل أخر على التيجان لكأنها تتحرك، تعود إليّ من غبشة المكان متشحا بالضوء الشحيح فتبين ملامحك قليلا.. قليلا، إلى أن تظهر كاملا وبيدك المصحف فأضحك وأمسك بيدك، لكن يظل بالي مشغولا يا جد بسقف المسجد، لكأنما الأفلاك دائرة في قبابه، كأنها السماء تبصّ علينا وهناك خلف العتمة من يبص، ربما من الخوف تسرب داخلي هذا الإحساس، لذا جريت إليك بخطوي الصغير فمددت إصبعك إليّ ضاحكا فأمسكت به، فقدتني إلى التراس الذي أمام باب المسجد وجلست على الأكلمة الصوف وأسندت ظهرك على العامود، قمت أنا معتمدا على السور الحديدي القصير الذي يحد التراس عن درجات السلم وأخذت أمر عليه، وجدت امرأة عجوزا، ربما تنتظر هبات وزكاة رمضان فأمسكت كتفها فالتفتت إليّ وقبلتني، سعدت وعدت إليك جاريا، كنت تقرأ القرآن، تخاف أن تسبقك جدتي، كان يهب علينا نسيم جميل.
    نمت على فخذك ووضعت رجلي على إفريز العمود كما تنام أنت فتبسمت لي، فضحكت، كنا في اليوم العشرين من رمضان، وكنت تقرأ سورة الأنبياء، وكانت جدتي في جزء تبارك، أنا فاكر وهي تقول لك سأختم قبلك، هذا ما حكيته لي ولكني أذكره كأنني كنت كبيرا وأعي كل شيء رغم أنني كنت في عامي الثاني أقطع أياما في الشهر الرابع.
    كنت أنظر إليك والشعر الأبيض بدأ يسيطر على رأسك، كأنه يسيطر عليك كلك، كنت تقرأ وتلعب لي في رأسي، تعتقد أنني يمكنني النوم، كيف يمكنني النوم في حضرتك يا سيدي؟
    أخذت أتابع وأنا نائم على فخذك النقوش التي في السقف والحوائط، هل ستقول لي أنني كنت صغيرا جدا لا أفهم هذا، وأن ذلك يحتاج إلى رجل كبير؟
    أقول لك: أنا لم أكن أنام على فخذك إلا لكي يتصل جسدي بجسدك، فأصل معك إلى التوحد فينفتح عقلي على عقلك فأخزن فيه خبرتك، ثم أعرف كلما كبرت.
    أذكر أنني تقلبت في نومي على فخذك فاحتضنتني باليد السليمة وأمسكت المصحف باليد الأخرى، وأنا في حضنك وأنت تكمل القراءة، أي سعادة لي وأنا مغمور بك؟، من له جد مثل جدي هذا؟
    أنا لا أقول لك كل ما أحسه لأنه لم يأت وقته، فقط أحبك وأنت تحيطني بهالة من المحبة والود، ولا تظن أننا أطفال لا نعرف ذلك، نحن نحس بنبض القلب فأعرف أنك تحبني.
    وكيف لا تحبني وأن تحب كل البشر والأشياء؟
    كنت أحس بك أكثر عندما تسرح، ويعتكر وجهك، وقد أري تقلب وجهك وهو مطوي على سر دفين، بئر من خيبة الأمل أحسه في تنهداتك، وفي مرض السكر، وعندما أصبت بالضغط أحسست أن القلعة ما عادت قادرة على الصمود، وكأن الحصن المنيع باتت تتسرب داخله الشقوق، رغم قوة الصلابة والضحك الذي تقاوم به، كأنه جماليات البنيان، وتسعد الآخرين دون شكوى، حتى نظن أن القوى الذي لا يقهر، ولا تتذمر حتى لو خدعك الآخرون، فقط تتنهد، وكثيرا ما ضبطك في غلس الوقت أو بين وقتين تعتكر ولكن تصفو، يحلو لي أن أراك وأنت تصلي تكون بعيدا جدا خاصة إذا كنت بحجرتك، وكنت أحب أن أسألك
    - ماذا تقول لربك يا جد؟
    كنت سعيدا جدا بك، عندما سألت أمي عن شكل يدك اليمني الغريب، وقد كنت أظنك ولدت بها هكذا، وقد كان الأولاد الصغار الذين جاءوا للعب معي في بيتك يسألونك ماذا بيدك، فمسحت عليها وقلت من الحادثة، كذلك قالت لي أمي
    قلت لها احكي لي قالت قبل أن تولد، أحضروه لنا من غرفة العمليات بحجم ربع حجمه الذي خرج به من بيته صباح اليوم، تعرفنا عليه بصعوبة، عاد إليه الوعي ولنا الطمأنينة بعد تسعة أيام غيبوبة كاملة وثلاث عمليات، وجروح كثيرة، وحمدنا الله أنه خرج من غرف العمليات بلا بتر، وبصبر جميل، ولم يتألم، كأننا (شحتناه) من الله
    عجبت، لماذا ضعفت الآن؟ بعد كل هذا الصبر؟
    ***
    - كبر الولد كما تغيرت جميع الأشياء، لكنها تتغير في اتجاه واحد، وأنت تتغير كمغزل الصوف تتردد بين جنبات النول كالمكوك، تروح وتجيء بين سنوات عمرك لكنك تتقدم، سنة الله في الأرض، ففي المرحلة الأولي ظهرت هنا أي جئت وعمرك عشرون عاما ثم مكثت معنا ووجدت كشيء حقيقي بشكل متميز في الهواء وصار لك شارب وكم وعمة (أي كبرت ولبست جلباب الرجال ذا الكم الواسع ولبست العمامة كرأس مجلس) ثم رحلت عنا وأنت في الخامسة والثلاثين بعد أن أمرت ببناء بيت، ثم عدت إلينا في الخمسين معك زوجك وظللت معنا حتى الثامنة والستين ومازلت تشعل النساء بالحنين وتوقع الصبايا في شراكك، فتزوجت فتاتين بين السابعة عشر والثامنة عشر تلك أعمار الورد وأنجبت منهما أطفالا من المفترض أن يقولوا لي يا عم، ولكنهم هم أعمامي ويتدخل هذا المشهد مع جدك الحاج مصطفي أبو سليمان وأنت، وهو يقف أمام جثمان زوجته المتوفاة بعد غسلها فيصلي عليها ويدعو الله: اللهم أبدلني خيرا منها،
    كيف مازلت قادرا على إضرام النار في النساء، لا أقول البنات فهن حرائق تسير على الأرض؟
    كيف وأنت الذي أحرق عمره في الأرض، وزراعة أصناف الفاكهة نقلا من الأردن إلى أبي كبير بالشرقية وأبي حماد، والأكل بين منسف الحجاز وفلسطين بالحمل المخنوق بالنار تحت الرماد والمدفون في ورق الموز، وبين منسف الأردن المحلى باللحم المطبوخ باللبن، وبين النساء، أحمرها وأبيضها وأسودها، مانعا عن منابتنا أصفرها وأكرتها، وخضراء الدمن.
    قرن كامل ونحن في حضرة هذا الكائن الشامخ الذي لا تخطئه عين.
    لعلك لا تعرف يا جد أنني في الأربعين من عمري وأنني أسمعك وأنت تقول:
    وأنه يحضر أمامي هو وعماتي وشقيقتي، وأنه أي جدك (الحاج مصطفي أبو سليمان) أنت تقول يتراءى لك في المسجد وفي حدائق الزيتون والبرتقال في غور الأردن، كما أن زوجتك التي أحضرتها من الأردن من (الزوراء) كانت قريبة شلبية وشديدة الشبه بها، أنجبت تلك البنت التي استقالت من العمل بالجامعة وسافرت على الإمارات للعمل بجامعاتها في كلية العلوم، تلك التي كانت تغضب من طريقتك في شرب الماء بصوت عال، أنجب ابنها مصطفي ولدا له نفس اسمي، عقبالك يا جد.
    أرأيت استدعاءك لهما كما تقول عمتي وشقيقتي تتداخلان في الأشياء والأدوار وأنني يا ولد يا مصطفي لم أعد أميز بينهما، وأراهما بعد موتهما وهما يسيران معا وقد شبكا أيديهما معا.
    تحضراني لي يا مصطفي من جهة القلب من وسط المزارع قريبا من دارنا التي بالسكاكرة، تهفان علينا برائحة الياسمين، وتضحكان وتشدان غطاء رأسهما على فمهما ولكن دون صوت فاقتربا من رائحة المكان فشممته بين المغرب وقبل الفجر عند ماكينة الطحين، لحظة قفز عثمان وحفني من أعلى الجميزة إلى الأرض، وناما ربما من إرهاق السفر
    استرح يا جد،
    - أري السكاكرة ألف نشأة ونشأة، مبررة وصادقة، بنفس الناس والنتائج مع اختلاف الأحداث الصغرى، وثبات الأحداث الكبرى، لكن من أحببته ظل حبيب كأنه الأحداث الكبرى، ومن لم أحببه تغير كأنه الأحداث الصغرى، لم تتغير النشأة لا فيهم ولا فيّ.، أنا حكيت لك وسوف أحكي عن شرشيمة والسكاكرة والمطاوعة، فقد علمنا الله ذلك، وانظر في كتاب التوراة الذي يحكي عن نوح وعمل السفينة ويحدد له الله مكان الأخشاب، وكيف يدهنها بالزفت وكيف يصنعها وطولها ويحدد له كل شيء، ونعرف أن ثلاثة من أولاده قد ركبوا معه، ثم يخبرنا في القرآن في قصة نوح عن غرق الأرض والكفار وأن الطوفان حمل هذه الجثث إلى التنور ليحرقها، وأن ولدا له عصاه وغرق مع من غرق، ومن هنا تكرار الحكي يزيد ويوضح جوانب الصورة، ولا يوجد دين على الأرض إلا الإسلام وهو في موجات صغيرة مثل نوح وداود ويعقوب ومن لم يقصص علينا الله من الأنبياء والرسل، ومنها الموجات الكبيرة اليهودية والمسيحية والمؤمنون، فهل ظل الدين كما هو؟
    لقد تغير كل شيء، الدين، والجو، والأرض، والناس، والمؤمنون
    ومن الذين تغيروا حنكش، فمرة حنكش ومرة الحاج محمد أبو العينين، ومرة أحول العينين، وكل مرحلة هو رجلها بلا منازع، وبلا مقدمات كالصفاقة، وقادر على ملء المكان.
    كنت أحس وأنت ترافقني في السير والسفر أنك تفهم ولكنك كنت صغيرا، ويوم أخذتك إلى المسجد كنت أحس غربتك، وأنت تدخل وحيدا وسط العتمة باحثا عن طاقة نور ترسل إليك شعاعا من الضوء، ولكني رأيتك بعد أن تركتك لإحضار المصحف وأنت مبهور بالسقف والنقوش، السقف عال صحيح ولكنك احتلت على ذلك بالنوم على فخذي وتأملت النقش، والمشكاوات.
    كان قلبي يتمزق عليك عندما أجدك في حيرتك في صحن المسجد مأخوذا بما حولك، كنت عائدا من داخل المسجد وقد أحضرت معي المصحف وجريت نحوي وأنت تلم ملامحي من العتمة، فمددت لك إصبعي فمسكت بها كأننا لوحة دافنشي في سقف الكنيسة، لا تنظر إليّ هكذا يا مصطفي، ولا تظن أن جدك لم يتعلم ولم يقرأ، أخذت من علوم الدنيا الكثير لكن أرادوا لي ذلك أن آخذ علم الحياة من الحياة، كنت أحس أنك اطمأننت لما أمسكت بإصبعي، كان صوت تمزق قلبي عليك كصوت مزق الحرير، كنت أحس الصوت يتردد بين جوانحي ويهز ركبي.
    - من هم يا جد الذين أرادوا لك أن تأخذ
    - اسكت، اسمع لك أن تسمع فقط، أزيك، هم حراس الحياة يا درش.
    افهم خوفي عليك كخوفي على أمك وجدتك وعمتك وعمتي، خوف عبيط أناني، إذا كانت الأرض ستخرج أثقالها، ويحدث الصدع الكبير بدءا من صدع البحر الأحمر فاصلا الأردن عنا ومنشئا بيننا وبينها، وبيننا وبين سوريا والعراق وفلسطين صدعا كبيرا، هل لحماية مصر من النيران التي ستجتاح المنطقة، وبذلك تنجو مصر من النار مرتين مرة في حرب أكتوبر فالماء كانت هي المانع وكانت هي التهديد لو تحولت إلى نار، وهذه المرة تكون الماء المهددة لنا من الصدع هي الحامي لمصر المحروسة بإيقاف نار زاحفة وحروب خاسرة لكن هذا الصدع سيلقي حمما وبراكين تمنع النار أو غيرها أن يمر، وهذا ما قيل على جدار الهرم الأكبر من الداخل، صدقني يا مصطفي ما أقوله لك حقيقي وعندما يحدث سيقول الناس لقد قالها، كان ملهما، وطبعا لا ملهما ولكن يحزنون لأنهم لم يقرءوا.
    وكخوفي على خديجة وعلى أخي، ماتا ولن يتأثرا بشيء لكن تركوا فينا ندوبا وذنوبا وعلامات.
    والبني آدم لا يتعظ حتى وهو على مشارف القبر، ويظن أن الدنيا طوع أمره بقليل من الحثالة التي تطيع أمره، وتسرقه ويعتبرون أنها فرصة، أنا لا أعرف، الناس العزاز قوي يقولون ذلك.
    الدنيا لا ترحم من صدقها، الله لطيف بعباده
    الدنيا لعوب تسير كما تشاء فهي تطرق بشبشبها قلوب عبيدها وتضحك فيظهر سنها الأبيض وهي تضحك وتمضغ اللبانة وكأنها تقول سلوككم مثلها، ولذلك أحس أنني قوي لأنني لا أملك شيئا وربنا يسترها معنا أيام الأزمات لم نستدن ولم يساعدني أحد حتى من دفع لوقت قصير وأخذ مادفعه فورا، قال لأعدائنا أنه تصدق علينا فرددنا عليه وحسبنا الله ونعم الوكيل هكذا يفقد الناس شرفهم وإخوتهم ودينهم، وتركت الأمر لله وأخرجت لساني للدنيا وقلت لها غرّي غيري، ولا شيء يستعبدني كالذي ينتظر مباحث أمن الدولة في أي وقت، لا مال، ولا منشورات ولا زوجة ولها عشاق، لا تهم ولا جرائم عليه.
    وتظل هذه الدنيا تمضغ لبانتها لتضربنا في لبانتنا، فنجري وراءها بالمشوار، حتى نلحق بقطار العمر الذي نحسبه سيطوى المسافة بيننا وبينها لنلحق بها فيوصلنا إلى القبر تاركين كل شيء لأعدائنا.
    اسمع يا مصطفي الدنيا غول، ومن حاول الابتعاد عنها فهو مفتون بها، فما بالك بمن يعشقها؟.
    أسمع يا جميل، هناك أناس غيري يقاومون مثل عمك عبده أبو زيد وأظن أنني حدثتك عنه، من هنا يصبح خوفي عليكم غير مبرر، إلا أنه الحب، فسأظل أخاف عليك حتى رغم إساءتكم لي، هل تظن أن جدك يظهر أمامك شهما، لا والله فأنا أحبكم وسامحكم الله.

    (11)

    كما يتداخل الوقت بين المغرب وقبل صلاة الفجر، لا يميزهما إلا عليم، كنت أستطيع تمييز حفني وعثمان وهما بعيدان عن بعضهما، ولكن يغيبان عني وكأنهما آخران، وهما معا وقت نزولهما من فوق الجميزة لم أعرفهما، ولكن عرفتهما فور الاستيقاظ من النوم، ربما اختلطت ملامحهما أثناء النزول وردت إليهما بعد استيقاظهما، أو ربما من إرهاق السفر، أو ربما لمفاجأتي بهما؟
    العمى يا ولدي طريق من طرق الرؤيا
    هل تعرف هذا يا مصطفي؟ تخاريف عجوز.
    كنت أود أن أحكي لك حكايات كثيرة من حكايات الأطفال، لكن دائما أحس أنك كبير، هل أراك مستقبلا؟
    أم أن الزمن توقف بالنسبة لعجوز مثلي لا يدرك كر السنين التي أرهقتني دورانا، وأهدرت عمري في التردد كالمغزل بين السنين.
    ربما صرت أعمي
    لا خوف ولا فزع من العمى فهو طريق من طرق الرؤيا، وهو غير الحلم.
    الشاشة مقفلة تماما طوال الوقت، وأنت كما خلق الله مستأنسا بنفسك تنزل إلى الداخل بهدوء، وترتب كل ما يصل إليك من الخارج بخبرة البصر السابقة، الآن جاء دور البصيرة، فيتجمع المشهد ويتكون أمامك تماما لتري، لكن ربما المشهد يتكون أعلى قليلا من عيني، أمام جبهتي.
    شايف يا مصطفي، الناس تأكل بعضها بالخوازيق والتنكيت والتبكيت وشهادة الزور والتآمر والكتابة، وأنا لست مجنونا لأهدم جحر الثعلب وأقتله لأنه يأكل خم دجاج عدوي.
    لماذا تنظر إليّ هكذا؟
    هل كلامي لا يعجبك أم أنك اكتشفت أنني ككل الناس، أنا فقط لا أقف في وجه الأحداث ولكن أستفيد منها لصالحي دون التأثير عليها ودون ظلم لأحد.
    أحس أن حرارتي مرتفعة وأنني ربما أصيبت بالبرد، أصبح العظم دقيقا (لا أقصد مستدقا ضعيفا) أقصد كالدقيق واهنا، فتفاجأ أن زلطة تفر من تحت رجلك فتخلخل توازنك فتسقط مهشما، ككوب من الزجاج، أو جلطة بالمخ وتكون واقعة ليس بعدها قومة.
    وأحسن لك ألا تقوم لأنك ستصير بعاهة ربما تحمل يدك وهي ميتة، كأنك تتسول، وتصير يدك العاطلة كعيل ضرير تعرضه على الناس لتتسول عطفهم، فالموت رحمة يا رجل.
    أو منظرك وأنت رجل كبير في السن ومحترم وأنت تطير في الهواء وقد التفت الساق بالساق، فيختل توازنك وتسقط حسبما يراد لك فتنزل على مقعدتك، أو على ظهرك، وأرجلك مرفوعة إلى أعلى كأرجل الصرصار المقلوب على ظهره، وعصاك عصتك فارتفعت أيضا في الهواء أو طارت بعيدا عنك، باختصار صرت مفروطا مفرقا على الأرض.
    هل تتألم وتتمسكن؟
    هل تقاوم وتحاول الوقوف؟
    أنصحك ألا تفعل، فالألم لا تعبر عنه كلمة مبرح، هو تأكد بوصولك قرب الحافة أو على مشارف النهاية، في هذا الوضع القبيح.
    ومن رحمة ربنا ألا تكون ممن يلبسون الطربوش فيصير منظرك مضحكا ومبكيا ويدخل في باب الشفقة، هل تتحمل نظرات الشفقة من الناس؟ يا لهوي، يا مرّي
    اسمع غير مسمع، اسمع يا حبيبي كلام الناس حولك.
    - الرجل مسن ضعيف لا حول ولا قوة إلا بالله
    - هل ما زال حيا؟
    - ربما تفكك وتهشم تماما
    - يا روحي عليه
    - ما الذي يجعل هؤلاء الجدود يخرجون من بيوتهم، ربما ليس لهم أولاد أو أحفاد يسندونهم في الطريق
    لهذا يا مصطفي جعلت العصا حفيدي وسندي بحيث لا أحتاج إلي أحد
    - نم يا عم الحاج ستصل إلي بيتك، في المرة القادمة لا تخرج من بيتك وحيدا
    - كنت أتمشي قليلا
    - الحمد لله بسيطة
    - مشش في ركبك، عجوز ومعاند، ولابد أنه يعذب أهله بخروجه هكذا دون علمهم
    تحس أنك لا تستطيع القيام كسقف تخلت عنه الجدران الحاملة له فجأة. فانهار دفعة واحدة،
    نفس هذه الحالة التي كنت أحس بها وأنا بالإسعاف منقولا من مستشفي الحوادث إلى مستشفي الحرمين الخاص، خاصة ساعة نقلك على السقالة وصعود المصعد الذي سينقلك إلى جناحك، الذي سيزورك فيه الذين يأكلون الشكولاتة ويسرقونها في جيوبهم ويتكلمون عليك بما لا يستطيع أي منهم قوله أمامك، لأن هذا القول حسد وكذب وهم فئران مجار لا أكثر.
    وأنت تنام على النقالة بين جروحك وكسورك وحركة المعدة المستفزة، تنام (مسكينا، وحزين البال، حلفتك) الفاتحة، ويدعون لك بالرحمة بالشفاء أو بأن يكرم الله.
    حلفتك أن تري في العالم حالة من الضعف الإنساني والمهانة والمذلة، وأن تقدر وترحم الضعف الإنساني البديع
    - ومع ذلك البني آدم فرعون ومجرم، وبمجرد أن يشم نفسه، يا حفيظ يتحول إلى طاغية
    هكذا قال حنكش وهو يزورني في المستشفى
    - اسكت يا حنكش، ارحمنا من نظرياتك العميقة
    - اتق الله واسمع أخاك القاعد على (لهليب الظلم) اطلب له شايا، أو حتى طبق شوربة وقطعتين من اللحم الكندوز، اصحي يا نايم بين أيدي مولاك، سيدك، فك الكيس وزيت السوسته بدل أن يفك على المستشفيات، المسلم ناصح لأخيه المجرم أقصد المسلم، لا تزعل مني أنت حبيبي يا غالي
    - الكيس خاوي الوفاض
    - أشد ما أكرهه أن يستعين الناس باللغة العربية للكلام عما يحرجهم، ويتشدقون بها، ولكن في الهمس واللمس يهمسون بأفحش ما في العامية، مثلا باللغة العربية: ممكن نقضي وقتا لطيفا معا في الشقة، أراهن أنه بعد نصف ساعة من الوصول إلى الشقة لن تجد هؤلاء الناس، بأناقة ملابسهم إن كانت موجودة أصلا، ناهيك عن الأصوات والأقوال التي لا علاقة لها بالعربية الفصحى، هل تتخيل أن يتكلما العربية في هذا الوضع المؤذي، عيب يا رجل،
    هل امتنع وجود حل لهذه المشكلة؟
    أم أنها مؤجلة، كمشكلة محمد أبو غالية مع ولده سالم؟
    إذ قال له ربع جنيه لأشتري قصبا وكان يلعب مع العيال، فسالم عيل ومحمد أبو غالية أبوه، فقال له: عارف يا محمد يا ولدي سأعمل لك فرحا أكبر من أي فرح وسترقص فيه المغنيات والراقصات
    صرخ سالم: حرام عليك أنا صغير أريد عود قصب، فكل مرة تزوجني وتبني لي بيتا كبيرا، وتذبح العجول وتحضر الطباخين، وتضحك عليّ بالكلام، يا عم هات عود قصب فقط، واتركني بلا زواج مدي الحياة.
    وإلى الآن كبر سالم وفاته سن الزواج ولم يتزوج، ومات محمد أبو غالية ولم ينجز وعده، فما حكاية اللغة العربية التي نداري فيها ضعفنا.
    بدل أن تفتح حنكك وتقول لي خاوي الوفاض، هات لأخيك حنكش ما بدا له، أو ما تشتهي الأنفس وأنتم قادرون، لكن تكلمني بالنحوي، سأقول لك لا فض فوك، شكرا.
    كنت أريد أن تجمع لي ذكرياتك ما بين الأردن والسكاكرة لعلي أجد مناطق متشابهة أو مختلفة، ويا تري ما هي الأسباب، هذا فيما إذا وافقت سعادتك (شفت واخداني الأماني لحد فين؟ شفت بحلم، بحلم قد إيه) أنك توافق على طلب أخيك حنكش، وأنت الآن لا تصغي إليّ وتقول في عقل بالك لم يبق إلا حنكش يتكلم في الأدب، منكم نستفيد وعندما أتكلم في قلة الأدب تضحكون وتسمعون بشغف لكن لابد من اللوم لي، وأنا فاهم أنني أقول ما تريدون قوله، لكن أنتم لكم مكانتكم، أما أنا فمكانتي مع الأحذية، شكرا يا عم المريض.
    قلت لحنكش: إن له الحق في كل ما يقول فاللغة المعبر عن ثقافة وأحوال عباد الله، لكن هل يمكن صياغة الحياة في اللغة؟، لكني أقول لك اعتبر أن ما نقوله فضفضة، ربما أكتب بعض فصوله وتكتب أنت أو غيرك فصول أخرى.
    كما يكتب حنكش وكل أحبابي باقي الفصول من باب الفضول وهي فصول وغايات.
    المهم لما عرف حنكش أن خديجة رجعت بالكنافة من عند فريد قال: يعني رمضان وراءنا بالعجين والسكر والزيت، فأنا لا أحب كل الفطائر، والكعك والكنافة والقطايف وكل ما هو دقيق وسمن وزيت وسكر، الله نجا لي العيش الحافي وليس مهما الغموس، شكرا يا رب والحمد لله رب العالمين، والحمد لله العيد الكبير له أضحية.
    طبعا رمضان كالعيد الكبير كأيام السنة عند أي بعض الناس، يا حفيظ يا رب.
    يا سلام لو ربنا قال لا يصح رمضان إلا باللحم
    - الضحية للقادر
    - أعوذ بالله، تريد أن تقلل عدد الذابحين؟ يكفي أن واحدا يعطيك، وغيره لا يسأل عن أهلك
    المهم ماذا أنت فاعل في رمضان (امسك أتكلم معك بالنحوي، لأنني كنت أريد أن أقول ألن نلعب في رمضان؟)
    - رمضان صيام، ثم المسجد، المضيفة فقط
    - عارفين والله المضيفة، يا سيدي عليك اتكالي مولاي، يا مولاي، ودلائل الخيرات والفقي يسهر حتى الصباح أنا أعرف كل هذا، ثم ماذا يا خفيف الدم
    - صلاة الفجر والذهاب للبيت
    - افهم يا ظالم
    - ماذا تريد يا حنكش؟
    - اللعب والسهر ومشاغبة شلبي الطبال
    - لا لعب في رمضان، تعال في المضيفة لتشرب القرفة
    - شكرا يا عم الدرويش
    - ونشرب شاي وكنافة وقطايف نأكلها بالسمن السايح
    - شكرا يا عم المحسن، يلعن أبو كده، أنت عيل رزيل، ولن أعرفك بعد اليوم
    - حرام الخصام في رمضان
    - ابعد عن رمضان وإلا أفتح يا فوخك، أستغفر الله العظيم من هذا العيل البارد الرزيل، أبعد يا رب هذا الشخص البارد، أبعده يارب أنا سأبكي يارب
    صعب عليّ حنكش جدا وعندما مددت يدي ناحيته وناديت عليه، انتفضت واقفا وأفقت من النوم، ونظرت إلى السماء، كان الوجه مفرودا بكامل الأفق يردد كل ميسر لما خلق له.
    كانت رائحة البساتين التي هي خليط من رائحة زهر الليمون واللارنج والبرتقال، ورائحة الشواء وطبيخ فرح (فرح) أختك، ورائحة عمتي وأختي وأمك.
    قالت زوجتي عائلة العايدي قادمون لأخذ العروس ابنتك
    قمت من مكاني فقادتني حتى الحمام فتسبحت ولبست ملابسي الجديدة وأحاط بي رجال كثيرين عجائز، ونادت عليّ زوجتي ليست أم أمك ولكن التي بالأردن ووضعت الرائحة الجميلة على عمامتي وعلى ملابسي، فنظرت نحو المرآة من هذا؟
    رجع الصدى أو طاقة نور تريك المكان الذي لا تري تفاصيله.
    أتممنا الزواج ونمت لأفهم ما كان مستغلقا عليّ.
    في اليوم التالي جاءني من تحت الأشجار ضاحكا وقال: هل فهمت
    قلت: لا
    قال: لا تخدع نفسك أنت تعرف
    هل فهمت شيئا يا مصطفي، أنا لا أريد أن أعرف.
    ماذا تريدون مني أن أعرف؟
    وقع السهام ونزعهن أليم
    أي الذكريات أدع وأيها آخذ؟
    ابنتي وأمك تشبهان أختي التي بعدت عني حتى صارت عجوزا كركوبة.
    صحوت لأجدني نائما تحت شجرة التمر هندي وتهف عليّ رائحة التمر حنة التي تشبه رائحة الجنة بالضبط وأمك تقول: بابا الإفطار
    - صباح النور، أين أمك
    - تأخر بائع الجرائد فذهبت لتحضر لك الجرائد، ومصطفي نائم مع أخواله، وأنا ذاهبة إلى الشغل
    هكذا أخذتني الأيام هنا حتى صرت عجوزا، أثناء ذلك بدأت تشب عن الطوق وتلعب بالطوق، ويهيأ لي أنك كبرت أو أنك تخرجت في الجامعة وتزوجت وتفتح عيادة للأطفال أو أنك مهندس.. لا أستطيع أن أستقر على قرار، أناديك وأسحبك من ضبابي إلى المسجد لنقضي وقتا حلوا،
    أو أنك تتمرد عليّ فأذهب وحدي إلى المقهى، فأجدني عجوزا وأجد العجوز الذي يشبهني وبجواره حفيداه العكاز وولد صغير، أحس أنني هو.
    يأتي على بالي ويهف عليّ الأغاني البدوية التي كنت أسمعها بالأردن
    ((زيدوا ها القهوة وزيدوها هيل
    واسقوها للنا شامة ع ظهور الخيل
    والله
    هل أنا أهذي، لماذا لا أستطيع الخروج من ذكرياتي، أو تثبيت ذكريات معينة أحتاجها الآن
    وقع السهام، ونزعهن أليم

    (12)

    ما الذي يمكن عمله الآن مع جدي؟
    أنا أحبه، ولكني أشفق عليه، وعدم انضباط الذاكرة عنده غير مسبوق فهو يهوشها كما يشاء بخطة معينة، وكثيرا من الأحداث التي كنا نعتبرها من شطح الخيال، وجدناها صحيحة، ففي فرح أختي حضر إلينا أشقاء لنا من الأردن وشقيقات وأمهم، التي قابلتها أمي وأختي ولم تقلقا منهن.
    المشكلة ليست في هذا، المشكلة أنه يصر دائما على أنني مازلت صغير جدا، كأنما توقفت صورتي عنده على هذا المنظر، كما أنه مهما كنا في أي مكان يصر أن كل المساجد جامع الفتح، إلى جانب ربط تشابه أختي بأمي بعمة أمي وهي شقيقته وجدتي في نفس الوقت كلامه صحيح أن الشبه بينهم كبير جدا، حتى في الصوت، فلا يمكن تميز صوت أي منهن إلا عندما تراها، وهن يعرفن، فهو معذور في ذلك.
    المشكلة الثانية أنه يصر على أن عمره لا يسير في خط مستقيم، وأن عمره دائما يزيحه على جانبي الزمن مترددا بين الشباب والكهولة، كأنما الشباب عن يساره، والكهولة عن يمينه، وهو يدق بعصاه برتابة شديدة بينهما متنقلا طوعا وكرها، ماذا أفعل؟
    يتأمل حقيبتي وهو ساهم ويركز نظره ربما على نقطة تخترق الحقيبة، ويصمت ثم تتساقط دموعه على الحقيبة فيمسحها بطرق عمامته، ويرفع إليّ وجهه بعيون حمراء عميت من البكاء ويسألني: لماذا أنا هكذا؟ هل تظن أن هناك خطأ؟ أنا عجوز خرف يا مصطفي، أنا لم أقصد أن أغضب عمتك أقصد جدتك - أتهرب من الرد على سؤال جدي، فيقول ضاحكا مراوغا في الكلام، ولا ينوي إحراجي، ما علينا، حتى لو أخطأ الإنسان في مسيرته عن غير عمد، مثلا لم أكن أقصد والله الإساءة لأحد،
    وحكاية الرجال الثلاثة في وادي الأردن، فعندما صحوت من النوم ووجدت رجالا أغرابا وسط بستاني ويتوارون في الأشجار أمسكت بهم وكدت مع أولادي هناك أن نجلدهم ولولا زوجتي التي خرجت صارخة من البيت، أن هؤلاء الأفاضل هم الذين أتوا بي من نعاسي الثقيل أمام دار البلدية، وكنت أريد أن أحضر مساحا ليقيس الأرض الجديدة يحدد أماكن آبار الماء ولكني نسيت أين كنت
    - ما اسم البلدية يا جد؟
    - هل تمتحنني، أم ستذهب أنت لاستكمال الأوراق؟، على كل حال يا مصطفي باشا اسمها بلدية السلط والموظف اسمه عايد جار الله الرباط، شكرا يا عم مصطفي.
    - نعم يا جد، لا تغضب، مجرد كلام.
    - طالما أنت ذكي يا مصطفي فلتبارِ حسو الطائر قليلا قليلا، قطرة بقطرة.
    أنت تعتبر ما أقوله لك قولا مفرطا لا قبل لك به، ولكن اسمع مني هل تعتقد أن ما حدث لي حدث لمخلوق آخر على ظهر الكرة الأرضية، أو في الأفق المبين (الأفق المرئي)، أما الأخر فاسمه الأفق الأعلى وهو نهاية الجذب في إهليجية الكون التي تجعل الحركة شديدة الدوران عروجا صعودا أو نزولا)، ولذلك عندما أخذتني إلى قبة الكون صارت شمعية اللون باردة الأطراف تتساقط منها الزهور من جيوبها ومن على جلبابها ومن أسفله، واعلم أن الجيوب هي أي ثنية في الجلد سواء كان وسطها ثقبا أم لا (وليضربن بخمورهن على جيوبهن) فاهم يا حاج مصطفي.
    وعندما حملتها بين يدي كنت أعرف وأري أنه في المستقبل ستكون أكبر من ذلك وسيترهل جسدها كثيرا، وأنها ستقتل بالسم أولا، الذي سيقوم بعمل خلل في وظائف الأعضاء، ولما كانت النتيجة بطيئة فإنهم سيقتلونها بإلقائها من نفس الشرفة التي مات منها الكثيرون وربنا يخلى نادية.
    وعندما صارحتها برؤياي وهذا عرضني لتعب شديد، قالت لي: أخير سأموت ولكن المذكرات طارت من زمن بعيد، لك ألف شكر، قلت لها: لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم، ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا
    قالت: أحب قاتلك، وثق المسيح بيهوذا، رغم معرفته بما سيفعله (أحدكم هنا سيسلمني قبل صياح الديك ثلاث، كذلك قال الحسين ردا على من قال له: ارجع فستقتل، قال: لا والله قال جدي ستقطع هذه (وأشار على رقبته) وستروي هذه من هذه مشيرا إلى لحيته ورقبته ودخل الحرب في العراق وحدث ما قاله جده)
    قلت: أحبوا قاتلكم، وأعبر، لابد أن تعبر
    سأقول لك شيئا يا مصطفي، المشكاوات القناديل التي رأيتها في جامع النهضة مزهوة بالمكان وبالضياء وبالنور، وفرحة بنفسها.
    هل تعتقد بأنها لو كانت في الشارع أو في الحانة أوفي الصحراء لا يمر عليها مخلوق، هل كانت ستمتنع عن الإضاءة والزهو بنورها؟
    لو حدث لفقدت أهميتها، هل لو زاد التيار عليها واحترقت تعترض؟، بالنسبة لسعاد التي حملتها مريضة بين يديّ، زاد التيار عليها فاحترقت، كأنما ارتبك الأمر عليها،من ربط نفسه بالسلطان فايتحما هوى السلطان،
    ثم إن المقاومة تزيد العدو قوة، والمقاومة السلبية خير وسيلة لهزيمة الخصم، أحبوا قاتلكم.
    هذه جلسة ستعيد إليك شيئا جديدا وجميلا وحوادث مختلفة مثلا، أنا أحب ركوب القطار، وكنت وأنا بالأردن أضطر للذهاب إلى تركيا لركوب القطار واختراق أوروبا، ولأنني تربية السكاكرة فلي ولهٌ قديم بالقطار، خاصة أن لها أقدم محطة وكان اسمها الفريدية وهي مهر الملكة فريدة، وهذه البلاد قد وهبها لفريدة الملك فاروق قائلا نهبك ملك هذه البلاد بمن عليها من العبيد والدواب (على فكرة نحن هذه الدواب شكرا، لذا لزم التنويه) المهم هذه البلاد العبيد أصبح بها الآن عدد لا تحصره من أساتذة الجامعات والأطباء والضباط وكل أنواع التعليم يرتعون في هذه الأرض بينما فريدة مسكينة تحتاج من يدلها على الطريق، ولو عادت لوجدت في قلوب العباد في السكاكرة رحمة واسعة فنحن نحب قاتلنا.
    يرجع مرجوعنا إلى القطار، وسبحان الله يا أخي الإنجليز مدوا خطوط السكك الحديدية في مصر والهند وأفريقيا بنفس الطريقة ونفس شكل المحطات، عرفت ذلك متأخرا جدا، ولكن وأنا صغير كنت أظن أن القطار له ناس تعمل فيه راكبين وأن الحكومة أو الجيش يعين ناس عملها ركوب القطار، وتابعت الراكبين من محطة بلدنا فلم أر نفس الناس، فقلت ربما هم كالفلاحين أشكال وألوان ثم ما حكمة ركوبهم بالقطار؟
    ولما سافرت للدراسة ركبت القطار وتفتحت مداركنا فصرنا أكثر فهما قل مثلا مثل الحمير، وكنت أظن أن السكاكرة هي أخر الأرض وبعدها لا يوجد ناس، وإذا كان فلابد أنهم مواش أو على الأقل غيرنا في أشياء كثيرة.
    ثم تطورت عقلياتنا وصرنا في مراحل لا يستهان بها في الدراسة وقاربنا على الثانية عشرة، فالحمد لله حلت جميع المشاكل العويصة في المعرفة، لكن لم يبق أمامي إلا أين يذهب القطار؟ وكيف يعاود مسيره؟ من أين يلف ويرجع؟ أريد أن أراه.
    وفي محطة مصر رأيت كيف يغير القطار وجهه ويعود، وغضبت وصدمت فكانت رحلتي الأولي إلى الأردن، وكنت قد أصبحت عارفا ببواطن أمور الأشياء فما الذي سيصدمني في العالم؟ فقد تسلحت بالمعرفة وأصبحت خروفا صغير أقف على باب المعرفة أحمل لوحي الإردواز.
    وعند عودتي من الأردن أخذت جدتك وعمتي صالحة (تعرف يا مصطفي أنا أحب ياء الملكية ليس من أجلى فأنا لا أملك شيئا حتى نفسي في يد الله، لكن أحس أن كلمة عمتي صالحة تزين ياء الملكية إذا جاءت بعدها صالحة، يا حبيبتي يا عمة)
    - لا تبك يا جد
    - يا سلام تركتك تضحك وأنا أتكلم عن تطور معارفنا، والآن لا تريدني أبكي على معارفي بل عمتي، المهم أخذتهم وركبنا القطار إلى الزقازيق ثم السيارة (ربنا أعلم بها) إلى القرين لأخذ شتلات بلح (نقايل) إلى الأردن، ونسيت أنه نفس هذا القطار الذي شغلني سنوات طويلة، وكأننا ألقينا معرفتنا المتأخرة في زرائب البهائم.
    وكانت النساء يدخلن وسط الزحام فأبحث عنهن حتى يعدن لأنني عندما أفقد المرأة أعمي لا أري بتاتا، وعندما يغبن قليلا أتوه وسط الزحام، وفعلا (تهت وسط الزحام ما حد حاسس بي.)
    وثقلت عليّ شفتي وصارت عبئا كذكرياتي القديمة، ماذا أفعل بها؟ هل أبيعها ومن يشتريها؟
    هل أضعها في حجرة الفئران، في نفس اللحظة شممت رائحة أنثي فهمست بالكلام القليل الجميل فضحت ورقصت روحي وتفتحت عيناي، كانت شابة جميلة وجدتك بجوارها؟
    شيء في غاية الخجل لكن سأكرر هذا الموقف ملايين المرات، يا سبحان الله يا مصطفي على النسوان، الهوانم، وليست ذوات الجلد الأزرق والمصدي (الصدئ)، وبنات الكلاب الذين ينسون الحموم ويلبسون البونيه والبنطلون بمجرد إنجابهم للطفل الأول، وضاعت العيشة عليك يا رجل فاذهب إلى المقهى أو المسجد خوفا من غارات النساء، ولا تحسب أن النساء أمرهم جهجهونٍ، أنت أهبل هي أمك التي ولدتك وربتك وتعرفك جدا، وأنت أهبل تظن أنك مالكها وسيدها وهي التي تفعل كل شيء وأنت تأكل أرزا بماء بدون لبن مع الملائكة.
    هل تعتقد يا مصطفي أن عمري يطول سدي ربما لأقول لك ما قلته لك ليعمل فيك عمله فيتغير حال من حولك من هذه الخبرات.
    لا تظن أنني أبله أو عجوز يخرف تأمل بعمق، واحزن فالأرض والجنة للحزانى والفرحين كثيري التجارب والخبرات، وإن الله لا يحب الفرحين.
    يبدو يا مصطفي أنني أسمع صوت القطار، وله محطات بلا ركاب بل لها نازلون منه منازلهم، فقيل استعد ليوم الرحيل، ولا يكون الرحيل إلا بالسفر، خلاص مسافر
    - لماذا أنت حزين؟ ولماذا هذه التوقعات المرة؟ افرض يا جد أنه لم يحدث شيء؟
    - يا سبحان الله! هل سأظل إلى الأبد؟ الحياة ليست بهذه البساطة
    مثلا عندما كنت صغيرا كنت أعرف أن أمي تحبني، لكن ما هو الدليل على ذلك؟ وهل المطلوب دليل عن حب الأم لولدها؟
    كان شباك حجرة الصالون التي بالبلدة يفتح على الحديقة، وكنت قد رأيت صورة للمسيح مصلوبا ينادي: أبتاه
    وكان الشباك طويلا حوالي متر ونصف المتر، وكنت مريضا بعدوي من فتحي بن أنيسة، ومات فتحي وبقيت مريضا ينتظرون توقف القطار ولكنه يمضي مسرعا وتماثلي للشفاء.
    ووقفت وأنا مازلت مريضا في الشباك وأدخلت زراعيّ من خلال الحديد على امتدادهما وصرخت: أماه
    وكانت أمي تنشر الغسيل بين الأشجار فرمت الغسيل وجاءت مهرولة نحوي وأمسكتني من حديد الشباك وأغمي عليها، وجاءت عمتي صالحة من داخل الحجرة وحملتني من الشباك وقبلتني ووضعتني في حجر أمي فأفاقت باكية. كانت تبكي كثيرا عندما تجدني نائما ساكتا مريضا لا أقوي على الكلام، أخرج البلى من كيس تحت مخدتي وأدحرجه صامتا على السرير فتبكي أمي فتسيل دموعي وأدعو الله أن يشفيني حتى لا تبكي أمي.
    أخذتني عمتي صالحة على كتفها وسارت من وسط الأشجار ووقفت وأنزلتني وسلتت سروالي ورفعت جلبابي قالت افعل مثلما يفعل الناس، وأنت جالس، لا تكن قليل الحياء وتفعلها وأنت واقف كالكلاب. وقالت جفف بطوبة، وحملتني وسارت حتى بيتها فأجلستني على الحصير وخلفي وتحتي مسند، ووضعت في حجري بيضا مسلوقا ساخنا، ثم أحضرت لي رطل صفيح به لبن له رغوة عظيمة وقالت اشرب عندما تكبر ستشربه سمنا سائحا مع جدك. وسكت جدي طويلا كأنه غرق في هواجسه وذكرياته، وفي كل مرة أحاول أن أوقعه في حبائل النسيان أو اختلاط الحكايات، لكن ذاكرته حديدية ويراوح بين المدهش والعادي، وينسي بمزاجه لكي يعيد عليك حكي ما نسيه في يوم آخر بطريقة مدهشة، وعندما يحس أنك غير منتبه إليه يحكي لك عن أمك وأبيك ما لم تسمعه قبل ذلك، أو يقوم معتمدا على عصاه ليؤلمك، أو ناهضا فجأة واقفا كالصقر في قلب السماء، نافضا جلبابه زهقا منك، أو يقوم معتمدا على ركبتيه قائلا: لا إله إلا الله، آه يا زمن
    فتحس أنه يهينك ويستهزئ بك وبزمانك، هنا لا تنفع الترضية، فعليك أن تسكت وتسير وراءه إلى أن يلتفت إليك ويكلمك.
    يخرج في خط مستقيم تاركا المكان، لا يلتفت إلى أحد، ولا ينظر إلى الوراء ولا يرد على مخلوق، حتى ولو تعلقت ابنتي الصغيرة في جلبابه، فهو يمسك يدها ثم يحملها على كتفه ويظل منطلقا، ثم يقبلها وينزلها من على ساعده ويشير دون كلام، أن خذها.
    لا أستطيع أن أتابعه ولا أعرف أين يذهب، هو لا يسير في طرق متعارف عليها لكنها كلها اختصارات فيستعمل وتر المثلث عادة، وخطوط مستقيمة، ليصل قبل كل الناس إلى أهدافه، وأظن أنه استعمل هذه الطريقة في كل عمره ففعل بنا ما فعل، ونظل طوال العمر نتابعه، وغير متأكدين يقيننا مما يقال حتى يحرجنا بالبراهين بين يدينا فنخجل مما نفعل به هو يضحك هازئا بنا مضيقا عينيه من فرط استغراقه في الضحك، ويطلق قهقهته التي نسمعها كسباب بّين لنا.
    - ماذا تفعلون؟
    - نذبح للوليمة
    - خروف واحد يا ناس؟
    - لا يا جد هنا عشر ذبائح وبجوار كل واحدة طباخ، لكل قبيلة ذبيحة، والبيت والفرح والعريس عندهم ما يكفيهم
    يكون هو قد ترك محدثه، ولا يهمه إن كان يعرف هذا الصبي أو الرجل، ويكشف قدور اللحم ويلتقط من وسط الماء المغلي قطعة لحم، يسندها على أي شيء بجواره ويلتهمها قائلا: أمامها الكثير
    ثم فجأة يلتفت قائلا لأقرب واحد بجواره: من أنت؟
    - أنا عمران
    - ابن من؟
    - ابن سعيد المسيري
    - ابن فتحية بركة؟
    - لا، ابن بنتها
    - آه، أمك حلوة يا ولد
    ثم وضع يده على كتف عمران وسار معا يتضاحكان ودخلا في عمق المزرعة وكانت تصلنا أصوات ضحكاتهما، واضح أن أمامه وقتا طويلا ليعود إلى الدوار
    مضطر أذهب إلى البيت لأجد الدوار مليء بالناس وجدي أمام الدوار ووسط الجميع يرقص وقد عوج طاقيته، ورفع عصاه وأختار أقوي الشباب ليراقصه، والنساء والبنات يرونه من على أسطح الحجرات، وهو يعرف، وعندما لمحني نادي بأعلى صوته: مصطفي، تعال أرقص، أو قل لأمك تعالي لترقصي مع جدي، طالما الشباب طريّ جدا وملبن بسكر بسكر بسكر، يكررها على الإيقاع وهو يتراقص ضاحكا هازئا.
    دخلت إلى الرقص حتى أوقعني مرارا وعصرني عصرا ثم توقف وتلفت حوله، فجاءت أمي وقبلته وأعطته كوب صفيح مقدار رطل من السمن السائح.
    قال: رطل لمصطفي
    فضحكت أمي وقالت: الزمن غير بعضه يا با.
    استمر بالرقص وهو يضحك حتى تركت له الحلبة وهو ينادي، ويرقص لي حاجبه
    - العب يا غزال العب
    تركته ينادي على أصدقائه، وتنطلق ضحكاته بعيدا وانضمت النساء والبنات إلى الرقص، بينما أغادر المكان ظهر ثلاثة رجال في جرمه وشكله، كانوا يقفون تحت الأشجار حاملين خلفهم دكنة الغروب لتملأ فراغ المشهد، وبقي بين الشجر شريط رفيع من الضوء فملأه صوت المنادي يعلن الاجتماع للعقد ولزفة العروس.
    بعد العقد الذي فعل فيه الأفاعيل اصطحب أصحابه الثلاثة ومعهم من أراد هو، وضيوفه من الأردن وجلس أمام المائدة وبدأ بسم الله في تمزيق الخروف والتوزيع والتهام الطعام وكل أصحابه وضيوفه مثله، لم يصمد الطعام فنادي: يا ولد
    وكنت بعيدا عنه ولكنه لمحني: يا ولد يا مصطفي، يا حبيبي
    فجريت إليه فقال: الطعام يا دكتور
    سأصعق من هذا الجد الذي يحيرني، دخلت إلى البيت وقبل أن أتكلم قابلتني أمي تحمل صانية عليها منسف وخروف طبخ باللبن، وهي أكلته المفضلة فأجلسني إلى جواره وتولى إطعامي حتى كدت أموت.
    انتهي الحفل وذهبت العروس إلى بيتها وزارها في بيت زوجها وأهداها حجة خمسة أفدنة، وأمسك زوجها من كتفه وقال عشرة أولاد بأمر المولي وإلا أخذتها منك.
    بعد يومين أو ثلاثة كنت عائدا من المستشفي ظهرا بعد انتهاء النوباتجية، فنادي علىّ من تحت الأشجار
    - أحضرت لي الهريسة
    - حاضر يا جد لقد أوصيت عليها، وعندما يفتح رجب المحل سيرسلها إليك
    - أمك كانت هنا وتسأل عليك، زوجتك مازالت نائمة
    - أنا سأذهب لأنام
    - ومن سيحضر الهريسة
    - رجب سيحضرها
    كنت أود أن أسأله عن الرجال الثلاثة، لكنه لا يعطيني الفرصة أبدا.، وعندما هممت بالكلام قال: لعله لم يفتك ذلك الشبه الغريب الذي يضمني مع الرجال الثلاثة الذين حضروا الفرح، وهؤلاء غير الرجال الثلاثة الذين أحضروني من أمام دار البلدية، الرجال وأنا، رجل وأولاده، هؤلاء أول أولادي توءمان اثنان وواحد مفرد هو وحيد، المتجاوران في الرحم عبد الرحمن وعبد الرحيم، وهما أول أولاد لي في الأردن من سيدة فلسطينية من بيت لحم، ساعدهم الله في ما هم فيه، ولكنهم يحضرون عندما أريدهم.

    عدت إليه عصرا فوجدته انتهي من أكل الهريسة، وقال: حلوة لكن قليلة، على كل حال جربنا وهي جميلة، اجلس، ما لك لم تنم جيدا، أو ربما وقعت في المحظور هاهاي
    جلست بجواره فقال: زمان يا مصطفي، كان أثاث البيت صنعة فنان وضع روحه في العمل، حجرة النوم من الخشب الماهوجني، الصالون من خشب الورد، المطبخ والموائد من الزان، القعدة المستقبلة للضيوف في الدوار الكبير من البلوط، ولا بد من عزل البيت عن الدوار وحركة الضيوف، وترك باب الدوار في اتجاه القادم بينما باب البيت للجهة المعاكسة تماما، وحظيرة الغنم والدواجن أسفل الريح أي أنها أخر مبني يهب عليه الريح حتى لا يحمل رائحتها إلى البيت أو الضيوف، ونزرع فوق الريح أي الجهة التى يهب منها الريح الياسمين والفل المفرد والمجوز والتمر حنة، أما الماشية ففي الحقل، والخضار بالحقل لكن لوازم السلطة والمشروبات هنا في اتجاه بحري مع ألشيليك والطماطم وما هو للمطبخ.
    كانت الحياة عندما تفتح باب بيتك في الصباح تجدها تبتسم وتتمطى كالعروس في خدرها، أم اليوم فتجدها غارقة الرأس في الماء تنفضها حتى تصحو وتحتاج إلى رطل بن لترد عليك، ماذا حدث لكم؟
    حتى البنات الصغار كن عندما ينطلقن من الدور تنطلق معهن من وسط البيوت سرب من الفراشات الملونة ويصحبهن إلى الحقل والبستان والكتاب ثم بعد ذلك إلى المدارس.
    وكانت النساء كلهن تمييز فمثلا أمك عندما تسير في الطريق (أقصد جدتك) كانت تعرف من النقش الذي على الطرحة، ولا يجرؤ مخلوق على كلامها أو أن يقتني طرحة تشبهها.
    كنت أنت يا مصطفي تجلس تتأمل نقوش مفرش السفرة وتلم بيديك ثمار الفراولة من النقوش وتأكلها بنهم أو تضعها في طبق الفاكهة، فأقول لك هي مع الخضار ولا تنتمي للفاكهة، فلا تفهم، اسمع هل هذا آذان العصر؟
    - لا يا جد، لا نسمع أي آذان المهم
    - المهم كنت تتأمل أنت وغيرك من الضيوف خشب الحجرات ما بين الماهوجني، والجلادليشا، وخشب الورد، والزان، والبلوط، وخشب القرفة، تضحك، الجهل هو السبب، غدا بعد مليون سنة ستعرف.
    لكن النساء والبنات الجميلات كن يبهرن بنقش الستائر وهن يتابعن النغم الذي يعزفه العازفون في الجوقة وتتراقص عليه الراقصات.
    وكانت عمتكم اللئيمة تفتح الشباك فتلتم الستائر فتفر الفراشات والروائح فوق البنات والنساء فيتلمظن بالشهوة، لم تكن هذه الخديعة ما كانت ترمي إليه، طبعا ستسألني عما كانت ترمي، أقول لك، كانت تفرد طيات الستائر قليلا بحرص وهدوء فنجد الرقصات والأولاد العازفين يلعبون ويفعلون ويقبلون بعضهم بعضا، ولكنهم يفرون خجلين إلى أماكنهم بسرعة وهم يعدلون ملابسهم ويلمون الباقي منها بخجل، لذا كانوا كثيرا من الأوقات يتبادلون مواقعهم وتصفر الستائر ويكون لها رائحة، فنغسل الستائر، وكانت عائشة الخياطة تحضر دون أن نقول لها، يوم غسل الستائر، فتمد يدها وتسحب الراقصات والعازفين والفراشات وترصهم على الحصير، ويستحمون بإشرافها كل فريق معا، وتكون بعض النسوة قد غسلن الستائر فتعيدها إلى أماكنها بعد أن تكون صففت لهم شعرهم.
    أما طرحة أمك لم تكن حريرا، ولا جو رجيت، كانت من نوع نسيج من الهند يسمي روح البنات، فكنت تشاهد في وسط السواد بنات يبتسمن وهن يطرزن النقش الذي على أطراف الطرحة، وبعد أن يتممن النقش يعدن لنقض النقش ثم يقمن بنقشه مرة أخري.
    النساء يا ولدي كالحدائق بكل منها أحواض زهور بديعة لكن لا تراها إلا عند الحاجة إليها فيبهرك كل هذا الجمال النائم، الهادئ.
    ولكن هناك أحواض زهور تأخذك فورا من يدك وتسير وراءها مبهورا بها لا تستطيع أن تقاوم، وتفرض عنفها وجمالها وقيمتها عليك وعلى أهلك، وتسير وراءها مغمض العينين.
    ويرتبط دائما انتشار النساء الفاتنات المالكات التي تدير حسابات، يرتبط كل ذلك بهذا النشاط المحموم الذي تشهده المدن والذي يدل على أن هذا النشاط الذي يظهر لكل هذه النسور والعقبان في سماء المدينة يدل على أن هناك جثة أو جيفة ما أو أكثر يتم اقتسامها.
    ***
    - هل ممكن أن تسلفني نفسك قليلا يا مصطفي؟
    أود أن أعود شابا لأعشق وأموت فأصير شهيدا
    عاشق يقول للحمام
    سلفني جناحك يوم
    أطير به في الجو
    وأنظر به حبيبي يوم
    سأعطيك نظيرا لهذه الساعة بقية عمري، صحيح أنها سنوات عجوز (كسر) ربما تنفع بركة من جدك،
    لا تهون هذه المبادلة عليّ يا مصطفي، ولكنه قول عجوز خرف، وطبعا سنسمع
    - جدك ضحك عليك
    - أعوذ بالله رجل لم يشبع من الدنيا
    - يخرب بيتك رجل عجوز وأهبل
    - لا تمش معه أبدا يا مصطفي
    وعندما قال لي جدي هذا دمعت عيناه وقبلني ويبدو أنها أفلتت منه،
    من الغريب أن جدي لم يحك عن أولاده أبدا، ولا عن البنات اللائي رأينهن في فرح أختي، كل أولاده أخوالي، وكل بناته خالاتي يشبهوننا تماما مع فرق اللون وبناء الجسد الضخم.
    أمي تتعامل معه على أنه الحياة وضروري وواجب، وأنا أتعامل معه ككنز من المحبة الصادقة والعطف.
    أمي لا تفكر فيه، ولكن إذا احتاجته فهو موجود، يوحي لها يقينا بأنه لا يحتاج إلى شيء من أحد، وأنه باقي، أين سيذهب؟ (ح يروح فين؟)، كأنه أزلي.
    وربما اعتادت أمي وهو بعيد عندما تحتاجه يدق عليها الباب قائلا: نعم يا حلوة عمري.
    فتقوم وتعانقه تتردد أرواحهما في الخروج من تعانقهما، وفجأة تأتي جدتي وعمتي وكل من يريد كأنما رائحته تجذبهم، وعندما تري أمي وجدتي لأبي ابنته تحس أنهما توأمان وكأنها صورة تتردد في مرآة لا تعرف الأصل من الصورة، وهو ينادي عليهما يا حلوة.
    وهو كثير الضحك لكن إذا حزن تهدل شعر الكون وماتت الطيور في السماء وينقطع عن الطعام والشراب، ولا يرد علي أحد.
    تسكت أمي ودموعها تسيل وتقول طبعه كالزفت والقطران، هذا الطبع لن يخرج من جثته وسيبعث به يوم القيامة ويحاسب عليه، ثم تستمر في البكاء حتى يعود إلى طبيعته ويطلق ضحكاته، فتقول: والله، لن أكلمك أبدا فرحان، كنت ستقتلني،
    وتستشهد أمي على صدق قولها بالضفدعة والعقرب، الذي قال للضفدعة وهو على شط الماء: انقليني يا ضفدعة على ظهرك
    فقالت له: لا أنت غادر وستلسعني
    قال لن أفعل ذلك لأنني إذا لدغتك فستموتين وأغرق أنا في الماء
    فحملته الضفدعة حتى الشط الثاني على ظهرها وعند نزوله لدغها فقالت له وهي تموت: لماذا؟
    قال لها: طبعي
    لهذا فإنه قد يتغير المساجين والحكام والثورات والشعارات لكن الطغاة هم الطغاة بنفس الأخطاء والغباء والسقطات.
    اسمع يا مصطفي أنا لفيت الهند وبلاد كثيرة لم أجد بلدا ليس له زى رسمي إلا الوجه البحري في مصر، الناس من العياط حتى أم درمان لهم زى رسمي وتميز القبائل بالتشريط ولف العمامة لكن داخل الزى، الجلباب والعمامة، لكن الوجه البحري مبولة الغزاة، وتنوع الأجناس، لذلك حمدت الله كثيرا عندما قال لي أولادي في الأردن أن جمال حمدان قلب مصر الغالي يقول سوف تغرق الدلتا تماما قلت ومن فيها حتى يبقي العرق نقيا،
    - لكنك يا جدي تزوجت من الأردن
    - اسم الله عليك، هذا انتخاب سلالات، ثم لم يكن بإرادتي ثم سأقول لك في مرة قادمة عن زوجتي وأبنائي من رأيتهم في فرح أختك فرح، هل تعرف عمك شحته؟
    - شحته من؟
    - هنا الكلام الغلط؟، شحته دونما سؤال، يلبس جلبابين صوف كشمير، ويضع على كتفه آخر بجوار العباءة الصوف وفوقها الشال الهندي وعليه العمامة وشاربه كالصقر، قابلني في شارع الحمام وكنت عائدا من الأردن حديثا ولا يعرفني أحد فأقبل هاشا باشا بالأحضان وسلم عليّ وقال كيف حال عمك وأبيك؟ تفضل، وغضبت من أبي الذي أضاع وقته في عشق النساء وقراءة مدونات الرحالة ونسي بقية عائلاتنا الأبعدين.
    مال عليّ قائلا: عشرة جنيهات لعمك شحته
    فأعطيته، ورأيت الناس تضحك عليّ.
    وترددت بين الأردن ومصر وقابلني وقد بدأ يشيب وكنت عجوزا فجلس بجواري فقال له صاحبه هذا لن ينفع معه أن تقول كيف حال أبيك وعمك لأنهما أكبر منك، ثم هو نفسه أكبر منك، فمال عليّ قائلا: والله أنا أعرفك يا حاج ولكن أين رأيتك؟
    وقابلني في المرة الثالثة وأنا قد عدت شابا بعد شيب،
    فقال: يا سبحان الله أبوك أو جدك كان هنا وقد حاولت تذكره رغم أنني أعرفه من قبلها، كيف حاله؟
    فقلت: هو يذكرك من يوم العشرة جنيهات
    قال: هل قال لك هذا
    قلت له: يا عمك شحته أنا من أخذت منه العشرة جنيهات، وأنا العجوز الذي كان بجوارك وتشبه عليه
    قال بهدوء الضحية: نفس العينين، نفس الفم يا سبحان الله، ويخلق ما لا تعلمون
    ثم وقف ولكن ساقيه لم تحملاه فجلس باكيا قائلا: ابعد عني بلا قلة قيمة روح يا شيخ منك لله.
    ثم انساب الماء يجري أسفله.

    (13)

    التفت حفني إلى عثمان النجار وكذلك فعل عثمان النجار، وفاز لأنني ذكرت اسمه مرتين ولم أذكر حفني إلا مرة واحدة، رغم أن فضل حفني عليه كبير (هربت من ذكر اسمه مرة أخري)
    ونظرا في نفس اللحظة لأعلى الجميزة وقالا: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضع كل منهما في نفس اللحظة مركوبه في عبه وقفزا معا ولكن كل على فرع من الجميزة، وتسلقا بخفة الفئران حتى غابا في الأفرع الدقيقة ما بين زرقة السماء وحمرتها، ولم أستطع تتبعهما.
    تذكرت كل هذا وأنا أري حفني يمر من أمام بيت جدي في السكاكرة، أو ذاهبا إلى الجامع ويقابل عثمان النجار من الناحية الأخرى، كل من ناحية، ليدخلا المسجد كما دخلاه آلاف المرات.
    - يا جد عمي حفني، وعمي عثمان في المسجد ربما يحضران، هل أجهز لكم القهوة؟
    - أنت تحلم
    ووضع كفيه على بعضهما تحت رأسه ونام
    ثم التفت إليّ قائلا: حفني وعثمان دائما سرهما معا، ولكن الذي لا يعرف شيء، لا يعرف أي شيء ويظن أنهما أعداء، تصور وتخيل ما سأقوله لك وأنت أول شخص تعرفه، ماذا تفعل يا رجل يا مسلم لو رأيت حفني بعد حريق السكاكرة الكبير وكان الحريق ظل أسبوعا في الخارجة وكان الحريق ابتدأ في غروب الشمس حتى فجر اليوم السابع، وتبين من ضاع ومن مات ومن حرق إلا عثمان لم نعرف عنه شيئا أبدا وكان قد دخل النار في اليوم الثالث ولم يعد.
    بعد الحريق بثلاثة أيام في الفجر وكانت الخارجة مكان الحريق قد تحولت إلى رماد حريق ودخان يسد الصدور حتى أن الكثيرين خلعوا صدورهم وساروا بغير صدور.
    رأيت عمك حفني يجر من وسط رماد الحريق جثة ثور لم أتبين، لمن كانت الجثة الضخمة وأنا بعيد، وأقام الجثة على قدميها ثم نشر حولها عباءته، وسار بها إلى المصرف الميري ودفعها في الماء بينما وقفت عباءته في الهواء، وامتلأ المصرف بقطع وكتل من لحم محترق كأنه لحاء أشجار وكانت تحمل القطع ملامح إنسان، غطي اللحم المحترق كل المصرف، تنبهت الجثة كأنها كانت نائمة ثم عامت ثم قفزت إلى الشاطئ تحت العباءة مباشرة وتدثرت بها، وصحبا بعضهما وسارا، فجريت ولمحتهما وعرفتهما فقال حفني لي: أنت تحلم.
    دخلت البيت وقلت لأمي ما حكاه جدي لي فلم تلتفت لي وقالت: حاضر،
    عدت إلى الجنينة وجلست بجوار جدي النائم، دفعت باب الجنينة قائلة: صباح النور على الحلوين يا أولاد أخي، ربنا لا يحرمني منكم، وتكونوا في أحسن حال، أزيك يا دكتور مصطفي، مفيش قرصين دواء لجدتك أو أنبوبة مرهم، أمك بالدار؟
    وقبل أن أجيبها على أي سؤال كانت قهقهاتها تلاحق ما قلته: نعم يا عمة فاطمة، ثم بدأت أسمع ضحكات أمي وهذا شيء غريب!
    ثم جاءتا وجلستا في الشمس وكانت عمتي فاطمة تحمل مشنة العيش وطبق جبن وطبق بيض وحمل سريس.
    كانت عمتي فاطمة تمسح العيش في جلبابها وتناوله لي أو لأمي وكانت قليلا ما تأكل، وتلم فتات الخبز الذي يسقط منا وتقول: بسم الله الرحمن الرحيم الله يرحمك يا خديجة البيت من غيرك ساكت
    قال لها جدي وهو نائم: ازيك يا فاطمة
    - تسلم وتعيش يا حبيبي، الست الكبيرة لم أسمع صوتها
    - يا سلام، أنت عجوز لكن تتصرفين كطفلة، ذهبت إلى أم مصطفي البنت الحلوة وتركت الست الكبيرة وسأقول لها
    - أهون عليك؟ هي حبيبتي
    جاءت حميدة من داخل الدار: فاطمة الست تطلبك
    انتفضت فاطمة ودخلت إلى البيت بينما جدي يضحك: عالم غريبة تحب الخوف، يا سلام
    قالت أمي: نم يا بركة لا بد أن تشعلها نارا، لابد كل تجمع تكون الأهم أو تشعل فيه النار أو تهدها، يا سلام على طبعك الغريب
    قال جدي وهو يمد ساقيه: تعالي يا أم مصطفي دلكي لي ساقي، هذه مصالحة
    - يا سلام هذه هي هدية المصالحة
    رفع رأسه قليلا عن ساعده قائلا: أنت لا تعرفين قيمة أبيك، اسألي كم عذراء جميلة تتمنى أن تلمس قدمي أبيك يا بنت ال..
    وضحك ونام بينما أمي تدلك له ساقيه، وكان جدي إذا نام يظل يسمع ما حوله طالما لا يحلم، وعندما يحلم تحس أن طيورا كثيرة وصغيرة كالزرازير، والخضير تنهال عليه وتنقد رأسه وزوايا عينيه، ورقبته وصدره، ومنها ما تسلل تحت ملابسه، منها ما يعمل بين أسنانه، وسائر بدنه، بينما كل فترة تندفع مجموعات من عصافير خضر أو صفر أو تتدرج في التشكيل لقوس قزح وهى تنطلق من تحت ملابسه أو من فتحات الجلباب.
    ولكن هذه المرة لما ذكرت خديجة شقيقته، جاءت طيور تشبه النورس وظلت تشرب دموعه في صمت تام حتى كف عن البكاء وارتوت الطيور ونام.
    كان جدي يمسح دموعه وهو نائم وقالت أمي: لا تكلمه،لأنه كلما ذكرت خديجة يبكي ولا يرد على أحد، وينام ربما يراها في الحلم.
    - الله يرحمها كانت من طائفة الطوّافين، ولم تكن تعرف وهي صورة من عمتها صالحة ولكن برية، وهي بالصراحة تؤلم ولكن ترحم الناس من الناس، هي تقف مع كل قليل الحيلة والمهزوم حتى ترفع شأنه، وحتى زواجها كان كذلك، ولم يتوقعه أحد من الناس.
    كانت هي وشلبية وعائشة يتنافرن لأنهن مثل بعضهن فلا تضمهن جلسة واحدة، كانت تحب خديجة عيسي وجعلتنا نشتري لها جاموسة لتسرح بها مع خديجة، وتسحبها في الصباح وتحمل معها الفطور وتسير مع خديجة للغيط.
    كانت تلف العيش والمخلل والجبن القديم للفطور وتنتظر مثل كل الناس من يرسل لها طعام الغذاء، وتعود وقد غسلت قدميها في المصرف الميري ولو أنها جبانة ولا تعرف السباحة لسبحت في المصرف.
    ثم نسيت كل هذا وباعوا الجاموسة ولكن بعد زواج خديجة عيسى وسعدية شحاته فبقيت وحيدة فتعلمت الخياطة، كأنما كانت تنجز وعدا.
    بعد زواجها استمرت في الطواف علينا ولا تأتي إلا عندما نحتاجها نجدها حاضرة الله يرحمها لقد تركت فراغا كبيرا وثقبا كبيرا غائرا في مشهد السكاكرة الرئيسي.

    (14)

    ذهبت إلى عثمان النجار لأطمئن عليه، وأعرف الحكاية بالضبط، وكيف وقع في النار
    هكذا تكلم جدي
    قال عثمان: كنت سأذهب إليك وأنا أعرف أنك شاهدتني وأنا أخرج من الماء، فقط لمحت ظلك منعكسا على العباءة، وهذه المرة الثالثة التي يمس الماء جلدي، والأولى كانت للماء العذب
    - كأنك سبحت في البحر
    - السلام عليكم يا عائشة، هذه ساعة مرورها للتمام علينا
    - المهم عشرة أشهر وأنا أعوم أو أعيش في ماء البحر
    - لماذا؟
    - كنا نجرف أرض البحر، ونكومها فوق الشاطئ، ثم نفرد الكومات وندكها، حتى أضفنا إلى الأرض من حق البحر مساحة كبيرة لهذا بقيت القواقع منتشرة فوق الجبال كأن البحر غمرها، ثم سندنا أكوام التراب والرمل بالمداميك والحجارة،
    وكان إبراهيم بن سليمان يقف أعلى الردم طويلا يشبهه النخيل ويقول باقي عمل كثير، وكنت أنا وحفني والغواصون نجتهد حتى لامست رأسه السحابات العالية فسال الماء أودية بلون حلو وتسرب من على جسده للأرض فقال تمام، وأحست به الحلوة، فمادت به الأرض ثم سوي الأرض.
    وقال لها: اخرجي
    فدوّمت المياه وفارت، وارتفع البحر طودين، ظهر بينهما قاع البحر، ثم فتحت بوابة الأرض وخرجت زاحفة على قدميها ويديها كأنما خارجة من رحم أمها، وقذفوا خلفها بصناديق وأحجار كثيرة،
    كانت تطبع أكفها وأقدامها ومسح ركبها على الحجارة الأولي، وكلما تقدمت ناحية الشاطئ الجديد كبرت حتى وقفت على قدميها وطبعت أقدامها على الحجارة ثم وقفت قليلا وخرجت من الماء واعتلت الردم ووقفت مكان إبراهيم بن سليمان، وتلفتت حولها ثم تمطت كعروس في خدرها وكان الماء يسقط من حلمتي ثدييها، وقد رأيت هذا رأى العين.، ولذلك تعبت عيناي من النظر إلى كل هذه الحلاوة دفعة واحدة وأصابني ضعف النظر.
    كان الماء ينزلق متألما من على جسدها ويغور في الأرض وقد اكتسي طعمه بالعسل، لهذا فماؤها الجوفي حلو رغم أنها تركب البحر.
    - من؟
    - الإسكندرية
    - وما قيمة الإسكندرية بالنسبة للسكاكرة؟
    - هل لأن المساحة والمسافة بعيدة، يصبح لا علاقة لنا بها؟ حتى يكون لنا عين على البحر، السلام عليكم يا شلبية، بعد أن رأيناها وهي واقفة تشب على قدميها، بكي حفني وقال: سيطمع فيها الكثيرون، هي عروس الدنيا وعيننا على الماء الأزرق.
    قلت له: لم أعد أنخدع بك، وأنت تلهيني، حتى لا أسألك عن حكاية الحريق، فتجرني لتغرقني في الإسكندرية، ركز معي يا عم عثمان، لماذا تعذبني معك؟ هل تري أنني لا أصون المعرفة أو أقل من فهمها؟
    - أنا لا أعذبك، ثم هناك معرفة لا ضرورة لها معك، ثم أنك سألت طوب الأرض عن الحريق ثم جئت لتسألني وأنا كنت أنتظرك وتركتك حتى تأتى، فلا أقل من أن تدفع ثمن دورانك، قل لي أولا كيف أحوالك وأولادك بالأردن
    - أنتم تعرفون، وكل ما أفكر به أجده أمامي، وأنا لا أنساكم وروحي فيكم وشكرا لكم على كل شيء
    - نحن لا ننساك، وما حدث ليلة الحريق أنني نزلت إليهم لأسألهم عّما يحدث، فعرفت أن كل هذا الشر من عمل أيدينا فكان لابد من التطهير لتبقي منطقة الخلق الأول بكرا فلا تطهر إلا بالنار، وغدا ستعرف كل شيء، نعود إلى موضوعنا، هل تعرف أنها كان معها كنوز كثيرة، لكن بقيت في قاع البحر، ألم تسمع عن كنوز الإسكندرية الغارقة تحت الماء.
    مرت من أمامنا وهي تنظر لنا من تحت حاجبيها، السلام عليكم
    قال عثمان: كفي مرورا يا ست الناس - ثم أكمل - تجد نقش أقدامها على الصخور التى بجوار الشاطئ أما إذا اتجهت إلى عمق البحر فستجد على الصخور نقش أقدامها وأكفها ومسح أرجلها.
    ثم تنهد عثمان قائلا: لا تكذّب أحدا من الناس إلا إذا وثقت بعينيك.
    * * *
    كان جدي قد أفهم أمي وهي لم تكن تحتاج هذا الفهم، لأنها عرفت من أمها - جدتي - ذلك، فدخلت علينا: الحمام جاهز
    قام من أمامي فعبقت رائحة الزعتر والنارنج والزيتون، فعرفنا أن فريق النساء يضع قشر ثمار النباتات في ماء استحمام الجد كانت الرائحة تطاردني فجلست في آخر الدوار فدخل الرجال الثلاثة الذين يشبهون الجد
    - السلام عليكم
    - السلام ورحمة الله وبركاته
    أقبلت عليهم لأحييهم فجلسوا أماكنهم، فدخل رجل الدوار يحمل الشالية بها النار وبعد ذلك أحضر عدة الشاي والقهوة، ومحلبة السمن البقري،
    وجلس الرجال بعيدا عن النار قائلين: الدفء بالعين
    جاء خارجا من الحمام قائلا طبعا يا أحبابي وجلس أمام النار يهندس احتراقها، ثم التفت إليّ فجأة قائلا: من هؤلاء؟
    - قلت لا أعرف
    قال: إخوتي من أمي وهم من بادية الشام
    قلت: أهلا وسهلا، إذن الاتصال قديم
    قال: كنا ننتظر أن ينتهي إبراهيم بن سليمان من تجهيز المكان وصعود السكاكرة
    - لم تسمع عن معركة الذئاب
    - كنا في شرق الأردن من فلسطين قبل الهبل والتقسيم وإنشاء ممالك وعروش، السلام عليكم، هذا ابن ابنتي يا عائشة
    قلت له: طبعا عائشة الخياطة
    وهي تقول إن فيك جزءا كبيرا من روحي، ولكني لا أجده يا ولد، قلت لعثمان أنت تلاعبني حتى لا أسألك، وعلى فكرة، حكاية أن الإسكندرية عين على الماء الأزرق، أين العين الثانية؟
    قال: في النيل على الماء الحلو، جنوب الشلال والشلالات رموشها، ولأنك مثل غيرك تظن أن رأسها على البحر، وهذا كلام فيه من الخطأ ما فيه.
    فعين بالإسكندرية وعين في أبوهور جنوب الشلال، وجبال الصحراء الغربية نهودها، والبحر الأحمر مجري مائها السفلي وأفخاذها تمتد يمينا في لبنان، والقدم الثانية بعد إيران وسوريا والبلقان تنام في وضع استعراض الجسد، وهي إن نهضت ستغير خريطة العالم وستتحرك البحار والجبال والمحيطات، وتكون سماء، وتكون أرض، غير ما نراه الآن
    قلت له: المهم ماذا كنت تفعل في المصرف الميري؟
    قال عثمان: أنت رأيت ما تريد أن تراه
    وعرفت أنه يراوغني ولن يعطيني إجابة، فكان كالأرض بعد مرور الجيوش، وتدمير كل محاولات للفهم، ويشغل بالك بكلام عن المجهول الحربي، أقصد المجهود الحربي
    السلام يا شلبية
    - أنت يا جد تسأل بشوق المعرفة والعشرة
    - نعم هذه المسائل ليس مسموح بالمعرفة إلا لمن يريدون، ثم أن العشرة مع من؟، من قال لك أنهم هم؟ وماذا ستفعل بشوق المعرفة إلا الكلام الفارغ حتى يظن الناس أنك عليم ببواطن الأمور، وأنت لا تعرف مؤخرة أي أمر، هذه تلاكيك
    أنت تدون وتسجل وتصل ما انقطع
    - في حدود المسموح به، وليس لي معهم عمل آخر أجيده
    - بغرض؟
    - الحفاظ عليها، إيصالها إلى ذويها، ولا تسألني من؟ لأني لا أعرف إلا أن أحكي فقط
    * * *
    دخلت المحروسة، هل هذا ما تريده، السلام عليكم،
    في ليلة عيد الفطر المبارك قادما من راشيا الفخار في طريقي للأردن، وإلى المحروسة وهي أهم محطات الاتصال
    - ولمَ لم تختر من هذه الدنيا إلا بلدتنا هذه، ضاقت عليك الأرض بما رحبت؟
    - كانت البلاد تبدل أسماءها، وأشكالها، ولم تستقر على شيء فكيف تعرف أين أنت؟
    المكان الوحيد الذي أعرفه مهما تغيرت أسماؤه، هو المكان الذي ولدت فيه والمكان الذي شاهدته ينزع من جلده ومن هويته لينضم إلى هوية أخري، ولا تظن أن ذلك في القريب لكن كنت أراه قديما أنه مضرج بالدم في المستقبل، لم يكن عليك أن تختار، ولدنا لأننا ولدنا وكان لابد أن تكون هناك أرض وبلدان، وتاريخ يصنع من تداول الدفع، وأن يكون في الاختلاف انسجام الدورة والتكامل فهي هندسة الاختلافات، فتجد مثلا أن النموذجي عشرة على عشرة، لكن الناس تتراوح ما بين تسعة، ثمانية، حتى واحد وتمر من بعد العشرة فتكون دوائر منسجمة ومعبرة على قدرة القادر المحتوي لكل شيء بعلمه لتكتمل الدوائر
    - لكنك لم تقل لي حكاية حفني وعثمان وهما جنينان
    - أنا لم أقل أنهما كانا جنينين أبدا، أنا قلت لك ما يقال، ثم ما فائدة معرفتك هذا قدر عظيم إذا كان لك فيه فستمر به
    - أنت عنيد يا جد
    - طبعا، هل تحب أن أكون ضعيفا
    - لا
    - السلام عليكم.

    (15)

    هل لك أن تصدق هذا هل نبتت السكاكرة شرشيمة والمطاوعة بهذه الطريقة؟
    تأمل الأسماء، وطباع كل بلد، طبعا علّم آدم الأسماء كلها، كلها تأمل المطاوعة تسمع الكلام ومطاوعة غير معاكسة أو مستفزة، ناس في غاية الطيبة والسماحة، ولينة وحساسة، وتأتي بالراحة، ونساؤها مريحة وغير متعبين، هل قلت لك عنها شيئا في معرض حديثي من شدة طيبتها، تكاد تكون عرضة للنسيان، فقد انتظمت الحياة فيها على انتظام دقات ماكينة الطحين، ولم ترتبط بتوقف ماكينة الطحين كأنما كانت تريد أن تعرف الطريق ثم تنطلق.
    أما شرشيمة فيكفي أن نصف اسمها شر، فماذا تريد من الباقي؟، هل سيجتمع الشر مع الخير مثلا؟
    وللحق حاولت شرشيمة أن تعوض ذلك بأن تخرج منها العالمون والعارفون، والمشايخ والعلماء لكن شرشيمة هي شرشيمة مثلا زفتي هي زفتي ماذا نفعل ما باليد حيلة؟
    أما السكاكرة أم البدع، فالسكاكرة علقة وناكرة، وهي جمع النقيضين، كالمنافق وأبو وشين، ولكن ربك لجل حكمة حولها إلى أم المعجزات وأصل الحياة، إن لم يكن أصل الكون ويقول صلاح والي عاشقها، السكاكرة أولا ثم نبت الكون كعشبة في نعلها، وقال لي كانت ستوجد السكاكرة لو لم تكن هناك حياة، فمن عنف الشهوة وغريزة بقاء الموجودات البرية التي لم تهذب رغائبها.
    هل فهمت إذن؟
    - قال لي حفني كلاما مثل هذا، ولكن عثمان قال غير ذلك، ولم يقل لي شيئا من هذا
    - أنت تريد أن تقلب أوراق القلب، وتسأل، وتمد عنقك بأكثر مما قسم الله لها، وأنا بهذا قد أضيع من بين يديك إلى الأبد، السلام عليكم
    - اصبر قليلا
    - هل تري السلام لمن يأخذ منك السلام وهذا عمك حفني في مروره اليومي، سلام ورحمة الله على كل المخلوقات والرحمة
    - أنا لا أري شيئا
    - غدا ستري، فالغفلة حجاب، حتى على السمع
    - هل لهذا لم يسمع كل الناس الأنغام التي تشبه ضرب العود التي تنبعث من البيت المهجور وما حوله؟ وأنت لا تأتي إليك أغنيات ولكن تتذكر حكايات كثيرة مرئية
    - أنا كلما سرت هناك أحسست أنني أدوس على أحياء أو أطفال صغار، فأسير على حدودها، وكنا في الهزيع الأخير من الليل - الثلث الأخير - نسمع صوت الرق والعود والتوجع والتّفجع، ثم نسمع بكاء كبكاء الملائكة بالضبط، هو بكاء عائشة الخياطة ثم نقر درا بكها ثم تستمر هي بينما يعلو صوت النول، فأعود إلى البيت سريعا ولم أفتح الموضوع مع أحد أو حتى بيني وبين نفسي، ولا مر لي في خاطر، ولكن في الصباح لم أجد البيت، فكأنما كان حلما وهما، رغم أنني أكاد أصف لك بكل الدقة ألوانه وشكل بابه وشبابيكه - تصدق يا مسلم - شككت في عقلي، وكانت الأرض بها الهيش والبوص والحجنة كأرض الخارجة - عن الزمن - أرض الخلق الأول التي ولدت فيها عائشة وفاطمة السبع، ثم صرنا على ما نحن فيه، وهم، أه، بل هم في لبس من خلق جديد، طبعا نحن لا نري لأن الأيام طويلة ولا ندركها كلها من أجل هذا، فهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، قلت اجعل هذه القطعة من الأرض كأن لم تكن، ولكن ما عبرت ذهابا أو إياب إلا خطرت في بالي أو رأيتها وأنا في الدوران البهيج شديد الفتل، وعرفت لا أعرف كيف أن هذه الأرض تخص توفيق النساج فلم أقترب ولم أسأل.
    - يقولون إن الفأس لا تقطع هذه الأرض والمحاريث تكسر فيها، وبالليل تحس أنها مضاءة
    - وأنا مالي يا عم مصطفي؟
    - هل أنت خائف؟
    - عليك نعم، لكن أنا لا أعرف الخوف لأنني أعرف طريقي
    - ومن أجل حبيبك
    - قام أحد المخلوقات من الناس وأخذ يقطع الأرض في هذا المكان وطاوعته الأرض لكنها فتحت علينا نهرا من الدماء، وسمعنا البكاء المكتوم، والأنين، وفي الفجر سمع كل الناس هاتف يهتف
    (كوني ندا يا شمس أو غيبي، اليوم يرحل فيك محبوبي
    كوني ندا يا شمس هذا اليوم، عين الحبيب استسلمت للنوم)
    كأنما توفيق يموت كلما قطع بعض تراب هذه الأرض.
    قالت شلبية: ستري السكاكرة أهوالا بسبب تقطيع جثة توفيق النساج، وتفني عائلات كثيرة، أمام كل ضربة فأس عشرات العائلات، كان ذلك قبل أن تظهر الذئاب، التي أكلت من السكاكرة، ولم تأكل من شرشيمة والمطاوعة.
    عاشت البلدة في خوف ورحلت وقتها إلى الأردن، بعد أن عدت كان هذا الأحمق الذي فعل فعلته مات وتعفن بجوار هذه الأرض غارق في سم لسع الزنابير.
    ولكن والعهد على شكري الملط قال: إن محمد على الهطل القوي كثور، قال في معرض حديثه وأن يسوق الهبل على الشيطنة: بلا توفيق بلا غيره،
    وأحضر بابور حرث بمحراث ونزل الأرض فاحترق البابور واشتعلت النار في هدوم محمد فلم يمر من يومها بجوار هذه الأرض.
    اسمع يا ولد يا مصطفي دعنا بعيدا عن السكاكرة واسمعني، أنا خائف جدا، أحس أنني محصور بالماء والمثانة تكاد تنفجر، وبردان جدا، وكأن مفاتيحي تغلق كل الأبواب إذا جاءت تفتحها، فاهم أحس أنني سأموت غريبا عن أي أرض نمت عليها سواء خائفا أو مطمئنا، تفتح عينك فتجدك في مستشفي في بلد بعيد وأنت ضعيف، لا مجال للمقاومة مريض، وضعيف، وهان بنا الزمان،
    تحاول أن تصرخ أو تتألم فلا يخرج صوت، وعصفور محاصر يتخبط في شبكة الصياد وتدفعه الحبال أو تعرقله، يمر في صدرك ملايين المرات في الثانية، وأنت غريب في لغة غريبة واضح أن الناس هنا لا يتكلمون لغتك، ولا يعرفونك، وليس لك أي قيمة أو عز أو عزوة، مجرد شخص، شايف يا مصطفي حال جدك، أريد أن أبكي على نفسي لكنها العزة بالإثم - يا أخي أستغفر الله العظيم من طبع البني آدم.
    أحاول أن أعرف لماذا أنا هنا وبدون وطن؟، ولا أحد يسأل عنك ثم أجدني عاريا كالعصفور المنتوف الريش والجو بارد جدا، وأنا وحيد، اتركني يا مصطفي أبكي وأتشنهف، وأتشعتف، أنعي نفسي يا أخي من سينعاني؟
    لا تقل لي أنا يا جد ربما تحزن قليلا، آسف هذه هي الحقيقة، ما الذي يجعلك تحزن على رجل مسن عجوز فاته قطار الموت بزمان، وعندما ذهب إلى محطة الموت وجد الأبواب مغلقة.
    ستقولون أراح واستراح، لا نذكره إلا بالحكايات الغريبة وأصحابه وأولاده الذين يهلّون علينا من جنبات الأرض، صحيح ترك لنا مالا كثيرا وضياعا كثيرة وعقارات وتركنا في عز، لكنه عاش حتى تهدلت جفونه فوق عينيه، وكان يرفعها ليري إذا سمع صوت امرأة أو حفيف ثوبها وينادي: بنت من يا حلوة، تعالي عند جدك.
    وبعد ذلك ستتمتعون، ولن يتذكرني أحد إلا بالضحك، وستقولون: الله يرحمه كانت له أفعال كأفعال جحا.
    هنا المشاعر بالنقود، ادفع وأحصل على كل شيء، وما أريده فات أوانه، النساء بنات صغار ولونهم أبيض، صعب عليك أن تتخيل مخلوقة يشع النور من خلف عظامها، ورائحتها حلوة، فاتركني أبكي على نفسي أنعي نفسي لنفسي
    - نحن سننعاك يا جد ولن ننساك
    - يا سلام، تريدني أن أموت وتنعاني، افرض أن هذا حدث، هل تتصور يا مصطفي أن جدك حبيبك ينام في الثلاجة في هذه البلاد الباردة؟
    ثم يوضع في صندوق، ويقفلون عليه خوفا من الفرار، ثم من أدراك أن خشب الصندوق من نوع جيد، قد يكون له رائحة غير طيبة، أنت غريب وميت فمن يبحث لك عن صندوق جيد؟
    ثم الأهم تقول: نحن يا جد
    يا سيادة المهم ممكن الصندوق يضيع في مطارات العالم، الحظ دائما يخدم أصحابه، أو الطائرة تقع بالصندوق، من أجل خاطر ركاب الطائرة، يسقط الصندوق في الجو ويوزع دمي - لا يوجد إلا خفاش ميت - بين بلاد العالم.
    أو قبل أن تتكلم تغرق الباخرة، أو ينزل الصندوق خطأ في أي ميناء على أنه جبن رومي مثلا، أو يرمم الصندوق فيلقون به في البحر قائلين: ناس عالم ثالث.
    مبسوط مما سيحدث لجدك؟
    هل سافر أحد منكم معي بدلا من هذه الإهانة؟
    كل واحد نائم بجوار زوجته ويقول لها: رجل متعب أي شخص آخر يسافر معه.
    في آخر المطاف أموت وحيدا ككلب أجرب وغريب، أنا لن أدفن في هذه البلاد، هناك مناطق كثيرة سال عليها دمي فأدفن فيها هذا حقي وحقها، فليعد هذه الجسد ليستكمل ما نقص منه حتى يستطيع أن يرفع رأسه أمام خالقه قائلا: ما ضيعت الأمانة يا رب.
    هل سأحرم من كل أرض سال عليها دمي، تبة الطاسة بسيناء، ممر متلا، راشيا الفخار ومرجعيون بالجنوب اللبناني، منحدرات الضفة من جهة فلسطين، جنيفة، اليمن، الكنغو
    كان لابد أن تقف كل هذه الأراضي لتطالب بي فالأرض لا تنسي، والله يا مصطفي لا أعرف يمكن تنسي - إن كانت الأرض أمي، كيف تقبرني، وكيف تخنق أنفاسي وتطويها.
    ما علينا، المهم البشر أولاد كلاب لن يتمر فيهم معروف، ولكني سأقوم زاحفا راجعا إلى أرضي لاعنا جدودكم.
    يا مرّي يا مصطفي عندما أنام في الثلاجة وكل خمس دقائق، يأتي دكتور بطابور من شبان وشابات ليتعلموا فيك ويكشفون عورتك، ماذا تستطيع أن تفعل يا فالح؟
    كان نفسي أموت وعيني تودع آخر رشفة في كوب الشاي، آخر منظر لراكية النار وهى تهمد، آخر متعة الفرجة على الحصان الصغير وهو يتعلم مع السايس، آخر ظهر امرأة مرت من أمامي، آخر كلام حلو أقوله إلى الله شكرا على عطاياه، آخر صلاة معك والجلوس في الجامع الكبير وأنت تتأمل النقوش، لكن بهذه الطريقة، معني ذلك أن حياتي كلها فشل في فشل - اللهم لا اعتراض استغفر الله العظيم، كان نفسي أتابع تطعيم النارنج والتفاح لكن ما باليد حيلة.
    حرام يا مصطفي أموت فطيس هكذا بلا أحد أكلمه، في غربة الكلام ممنوع بحكم أنها ليست بلادك، (هل أموت مشغول البال وحزين؟) حلفتك بالغالي لا تتركني وحيدا بالقبر.
    حلفتك، حلفتك يا مصطفي بكل ما تحب ألا تتركني هكذا يا ولد
    - ما لك يا جد أنت لم تكن ضعيفا أبدا هكذا
    - أبدا أنا طول عمري ضعيف، لكنني لم يكن عندي وقت فاضي لأموت فيه، فأخذت أبعد الموت وأمر من تحت يده حتى زنقني في بلاد غريبة، هل أتركه وأجري إلى أين؟، أنا لا أعرف هذه البلاد يا عم، لا أعرف حاراتها ولا شوارعها ولا مزانقها فأين أفر من الموت؟
    هل عندما يضعونني في التابوت ويقلبون جيوبي ويكتبون على مظروف به حاجياتي (خاصة بالفقيد) تخيل اسمي الفقيد.
    أنا لا أعرف كيف سيغسلونني؟ ومن سيحضر غسلي؟
    ومن أين سيحضرون الكفن، وكيف سيكفنونني؟
    ربما يطلبون بدلة الفرح، ويحشرونني فيها، ثم يضعونني في التابوت!
    أنا ودعت البدل من زمان، من أيام عمك زكى أفندي عبد المعطى، هل تعرفه يا مصطفي
    - لا يا جد
    - ولا أنا، عالم تطقق، عمك زكي أفندي كيف لا تعرفه وهو الذي فرح بنجاح أمك في المدرسة وهي طفلة
    - كيف سأعرفه يا جد، هل أنا أكبر من أمي
    - زكي أفندي أبوه كان يعمل مع كلوت بك وهو ريس الشغل في فحت قناطر التسعة، أقصد حفر قناطر التسعة، وفحت أجمل ملعونة حفر، من أجل خاطر من لا يبلعون فحت
    - أعرفه يا جد
    - خلاص
    وقد ينظرون إلى صورة جدتك وأمك وعمتي ويتأملون هذه الحلاوة، لا أستطيع فعل أي شيئا فأنا في هذه الحالة ميت، أنظر إلى السماء لأري الوجه الذي يلاحقني من ميلادي حتى تلك اللحظة ويسهر على راحتي، آه ياني، أصرخ، امنع عيونهم يا رب عن حريمي، لا أقدر أن أفعل شيئا وأنا نائم هكذا
    - لا تبك يا جد فأنا منهار والله، وأنت صعبان عليّ، ثم أنت لا فاشل ولا حاجة
    - لقد قالتها أم السعد جدتك الأولي لأمك: لماذا كل هذه المصاريف، كنت اشتريتم أرض السهل الطيني، لكنه بسلامته - يعني أنا - فاشل
    - لا تأخذ على كلام النسوان يا جد، هل أنت خائف بجد
    - طبعا، سأموت من الخوف، ولو من رائحة الصندوق، تظل عالقة بك إلى يوم القيامة، وتقف وسط الخلق بهذه الرائحة الزفت، ولا عطر أمك يزيلها
    - أمي لا تتعطر يا جد
    - أعرف أن جدتك مسحتها برائحة عرق جدتك يوم ميلاد أمك، فهي جميلة ورائحتها حلوة
    - يا جد أنت رائحتك حلوة، ولن تموت إلا هنا
    - المطلوب أن أموت يا مصطفي؟
    - أنا لا أقصد هذا والله
    - هل سأخلد إلى يوم القيامة؟ أمرك غريب يا أخي، أظل أعيش حتى تهربوا مني، وأنا أسير بعظام تضيء كالفسفور، وأكون ماشيا فوق الأرض بشبر كالمخلوقات الطوافة،
    - حفني وعثمان من آلاف السنين ولم يحدث لهم ذلك
    - قول يا حظ، كل واحد وما هو مقدر له، حفني وعثمان وصلا في امتداد سلم العمر إلى السطح، لهذا يصعدون من فوق أفرع الجميزة التي بجوار ماكينة الطحين ويعودون، أنا رأيتهم،
    - إلى أين يا جد؟
    - إلى أين ماذا؟
    - إلى أين يصعدون؟
    - آخر حدود علمي يصعدون إلى السطح، وهو آخر حدود فروع الجميزة، ولا أعرف أعلى من ذلك
    - يا سلام
    - وحياة أمك حبيبتي كما أقول لك، هؤلاء من الطوافين بعد أن أنجزوا مهامهم الرئيسية، وحتى لا تسألني، فإن توفيق النساج جاء ليضبط إيقاع الحياة في منطقة الخارجة - عن حدود الزمن - وهي منطقة الخلق الأولى التي ولدت فيها شلبية وعائشة وحنونة وفاطمة السبعة، والحياة كانت تنتظر أن تنطلق الدقة الأولي حتى تبدأ المسير ولا تتوقف، حتى لو مات توفيق وهذا ما حدث، حتى ماكينة الطحين تسير على دق منتظم دون أن ينظمه أحد، يقولون إنه من نقر درابك عائشة
    - أنت تحب يا جد؟
    - آه
    - حلوة؟
    - وهل يحب جدك إلا كل حلوة، اسمع هذه تستطيع أن تترك قلبك بين يديها وتسافر ثم تعود لتجده يدق كما هو وبخير، ثم أنها عندما تجلس في البستان فإن النسائم تمرّ عليها ثم على الثمار والأزهار فيقطر منها الأريج وتقطر الحلاوة حتى أنك تحس بهواء سميك قبل أن تمتصهما الثمار والنساء والأزهار، فكل شيء يحلو، والنارنج يصير مربي، والزيتون يفسد من الحلاوة
    - هل أعرفها يا جد؟
    - ومتورط في حبها معي
    - أمي؟
    - أمك وليست أمك
    - سأقول لك شيئا يا جد هل تراوغني لماذا؟
    - لا تغضب، إنها الحياة
    - جميل يا جد
    - أريد كوب شاي، سأنتظرك

    (16)

    نام جدي على جانبه الأيمن بعد أن وضع يمناه أسفل رأسه، وبسمل وحوقل، وتفل ثلاثا ناحية اليسار، ووضع العمامة أمامه وفرد الشال الخفيف على وجهه ونام.
    جاءت من أقصي البستان رائحتها أنثي ربما تجاوزت الأربعين، ربما هذه أول مرة أراها!
    - السلام عليكم، هل نام؟
    - جدي؟، نعم من لحظات
    - كان الله في عونه
    ثم جلست عند قدميه وأخذت تدلك له أمشاط رجليه، وهو يطاوع ولا يعترض والشاي بالكنكة سيبرد وأنا أخاف أن أوقظه
    - هل أحضر لك الإفطار أم تشربين الشاي
    - أنا لا أكل، متشكرين
    تركت الشاي ورحلت تاركا لها المكان.
    لماذا تركني ومضي، هو لا يعرفني ولا يعرف شيئا عن علاقتي بجده، ولكن إذا ظهرت خديجة أو عائشة فسأمضي، أما غيرهم من الطواّفين فهم يعرفونني.
    وهذا الرجل الذي بين يدي أسلم نفسه لي لما شم رائحة جسدي، كان الرجل عريسي وكنت أضحك، فلا هو يعرفني، ولا أنا، لكن أروحنا تتلاقى، وحنينا في الدماء يسري لكن برقا يكون وغرقا فاكتفينا من أمشير بالبرد في العواطف وبعدنا عن غرق العالم بالطوفان وفهمنا.
    ذاكرة هذا الرجل جبل من الرمل، ولا أحد يعرف ما أقوله عنه حتى أعز أصحابه والآن جاء وقت البوح، كل حبة رمل واحدة حياة كاملة، تنتمي لمنطقة ما، وهو ينام ولكن رأسه تعمل، وعندما يصحو يكون قد وصل إلى قرارات كثيرة في مواضيع شتى.
    يعرف حياة الناس من مجرد النظر في عيونهم، ويلتقط من وسط جبل الرمل حبتهم المسطر فيها تاريخهم.
    علاقته بالنساء كعلاقة الأرض بالحشائش البرية، جميلة في توحّشها، بحلوها ومرّها، لا تقدر رغم الألم البعد عنه، هو رجل وكفي.
    هو يتقلب ويبتسم، انظر في السماء تمر العصافير الآن لا بد أنها تقول له شيئا ما.
    هو يخجل جدا من الحمام، ولا يقوي على النظر إليه، وعندما يفرد شال العمامة على رأسه تهل الحمامات على أكتافه، وفي حجره وتلتقط الحب الذي يدفق دائما في كفيه، ثم يلتقط الحمام ويسقيه من بين شفتيه كنبع ماء جارى.
    ويكون جسده كله كحبات صغيرة من الرمل كأنما ضربته قشعريرة، كأنما شعف، فشعفها حبا.
    عاد مصطفي فانتبه قائلا: نعم؟
    ابتعدت قليلا وهو ينظر بحنان
    - عمتي صالحة تريد أن تتغذى معك هنا، وقد قالت للبنات يحضرن الطعام، والشاي تركته لك وبرد
    - شربته، لا تزيد السكر، أو ضع عسل نحل بدلا منه، ثم لماذا صالحة الآن؟ لا صالحة ولا طالحة ولا غيرة، لقد فعلتها سبع مرات ثم قلنا سماح، ولكن هذه المرة لا يمكن، لو أنها غافلت الموت وعادت كنا قلنا هذا ذنب الموت، وقلنا هل يوجد أحد في الدنيا يأمن لامرأة وخاصة إذا كانت صالحة؟
    أو أن تترك الملائكة الذين يغسلونها غارقين في ماء الحموم وعرقهم وخجلهم وتنتفض من فوق المغسلة آخذة طرحتها في يدها قائلة: ما بدي أموت تذكرت مشوار لم أفعله
    ثم قالت لنا أنهم كانوا يكشفون ملابسها في الغسل ويتأملون جسدها، وهي تركتهم أول مرة، هل تعميهم مثلا أو تقوم لتنصرف لأن هذا إنذار بأن بوابات الآخرة لن تفتح ساعتها، ولا داعي للإحراج فانصرفت
    ومرة ثانية أنها نعست أثناء الغسل فأحست بأن غسلها غير شرعي فقامت،
    مرة أخري قالت أنها شمت رائحة غير طيبة، ربما من نواتج البصل أو الكرنب وحركة أمعاء بطن بعض النسوة من بعيد فأحست بالقرف فقامت.
    أما هذه المرة فقد قامت ورفعت غطاء النعش وسط الجنازة ونزلت من فوق أكتاف المشيعين لتلحق بالحاجة زبيدة التي قالت عندما شاهدت جنازتها: مع السلامة يا صالحة، لهتنا الأيام في دوّامتها ولم نشبع منك.
    فما كان من صالحة إلا أن قامت من نعشها ورفعت غطاء النعش وقالت: انتظريني يا زبيدة، والله لن أترك في نفسك شيئا من ناحيتي، ثم هل سأذهب لأطهو المائل وإنقاذه من التلف، أبدا وحياة أبيك، ليس أكثر من زهق، فقلت أطل من شباك الجهة الأخرى على الدنيا، ولكنها ملحوقة، أنت أولى يا زبيدة.
    وشدت الطرحة من فوق رأس امرأة من الجنازة وتركتنا وسارت مع زبيدة
    ماذا أفعل وسط ذهول الناس؟ وأعينهم التي يرد عليها ألف سؤال؟
    هل عجلنا بغسلها لدفنها قبل أن تموت؟
    هل نحب أن نمزح مع الناس بخفة الدم هذه التي لا تحتمل؟
    من كان يصدّق؟، من يستطيع أن يكذّب ما رآه أمام عينيه؟
    ثم تقول لك إن الكفن يخنقها، ويزهقها، كما أن القبر ليس فيه فتحات ليأتي هواء ليرد روحها إذا احتاجت للخروج مثلا.
    طلبت منا عندما تموت نأخذها بملابسها ونغمرها في ماء البئر الذي تحت شجرة المصطكة ثم لا يدهنونها بالزيت ولا يعطرونها لأنها تقرف من رائحة العطر، ثم أنا حلوة وطيبة الرائحة، يا ويل من لم يكن جميلا منذ ميلاده، ثم تسرحون شعري، وألبس طرحتي، ويكون في القبر فتحتان فقط.
    اتفقنا على كل شيء ثم نفذنا ما طلبت عندما طلبت، ووضعناها في النعش، وذبحنا الذبائح وقامت النساء بالطهو، ونشرنا الخبر في العائلات والعشائر والقبائل.
    وكان موكبا مهيبا، وسارت الجنازة وعندما قالت الحاجة زبيدة ما قالت قامت من النعش وخرجت منه وسط الجنازة وحدث ما حدث.
    هل كانت زبيدة ستعتب عليها وهي في هذه الحالة؟
    عادت بعد أسبوع وعندما نظرت إليها ضحكت وجلست بجواري قائلة بدلال: اسكت يا ولد، خلاص، الحكاية عدت، هل أموت ناقصة عمر؟
    ومضي الزمن كما ترى، ثم أنها هي التي أقامت مشكلة بينها وبين حميدة، ولم يصلحها إلا أنا ودافعت عنها.
    كانت حميدة ترسل في طلب المنخل لنخل الدقيق، فلا يخرج المنخل من البيت إلا وفيه شيء، كانت صالحة تضع فيه رغيفين من العيش، وفي يوم جاءت حميدة لتستلف المنخل فأعطتها صالحة قرص عيش بالكامل ولم تعطها المنخل، وعندما اعترضت حميدة قالت لها صالحة أنتم تستلفون المنخل لتأكلوا العيش الذي به، ليس عندكم دقيق أو قمح وفرن الخبيز الذي عندكم ولم توقد فيه نار من يوم أن سكنتم في هذه الدار، فخذي العيش ولا داعي لوجع الرأس.
    غضبت حميدة وسارت تاركة العيش فلحقتها صالحة بعدما هدأت وهي تحمل العيش على رأسها ومعها المنخل وقالت: لا تغضبي مني يا حميدة، أنا نفسي ضيق، وبنت سبعة أشهر، ثم لا يوجد فرق بيننا، وما تفعلينه خطأ، دارنا داركم فأريحي نفسك من سلف المنخل.
    ثم بكت صالحة وطلبت من حميدة السماح، وعندما قابلت حميدة قلت لها لا أحد يغضب من صالحة، هذه نوارة البيت، وأنت ابنتنا، وأعطيتها ما فيه النصيب من النقود، فقالت: لأجل خاطرك أنت
    - اقعد لتأكل معي
    - من أتي بك إلى هنا أنا لن آكل معك
    - أنت لا تقدر يا حبيبي، أنت لا تستغني عن تراب قدمي
    - مبسوط يا مصطفي تفرج على جدتك البلهاء
    كانت الصبايا قد فرشن المفارش ورصصن الأطباق، وانصرفن، وجلست صالحة تأكل فأكل معها جدي وهما يتسامران ويضحكان، فانصرفت لأنهما متشابهان ومتباعدان والطبع يختلف لكنهما يحبان بعضهما جدا، فجدي ابن أخيها الوحيد، وهي راعيته وحبيبته وأكثر الناس إحساسا به، هو ابن أخيها وهي حبيبته وراعيته.

    (17)

    - أنا أريد المفيد، من الآخر
    هكذا قال لي حنكش بعد ظهور نتيجة الإعدادية ونجاحي الباهر، وكنت وحدي في هذه المدرسة بينما باقي الطلاب بالبلدة بمدارس أخري (راجع نقيق الضفدع)
    قال له: نجحت والحمد لله، وسأذهب إلى مصر القاهرة يا حنكش بمدرسة السعيدية
    - أنا مالي ومال أم السعيدية، أنا أسأل لماذا تذهب بعيدا وباقي الخلق حولنا، على رأسك ريشة؟
    - ربما
    - يا غلبي منك، طيب يا عم، هل ستأتي إلى الكتّاب لتسمع الماضي (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل)
    - طبعا
    - طيب يا إسرائيل أين الشربات والعشاء
    - في البيت
    - دخول بيتكم أصعب من دخول الجنة، وأمك تنظر لي من تحت النظارة وتقول ابن من يا حبيبي، خذيه يا فاطمة من يده
    فتأخذني خالتك فاطمة من يدي وتجلسني في المطبخ وأنا مكسوف وتضع لي الأكل وأنا أحس أن كل البشر تتفرج عليّ، ويمكن عندما أخرج من بيتكم وعلى باب الحديقة سأجد السكاكرة واقفة لتتفرج عليّ، ثم لماذا لا تجلس لتأكل معي؟
    - أكون شبعا
    - يا سلام!، نحن أولاد كلب دائما جائعين
    - لأ أنا أكلت معك في بيتكم عيش وجبن ومش، جميلة جدا نعمة ربنا
    - والنبي صحيح أولا هذه ليست نعمة ولكنها قوت، النعمة هي اللحم والسمك والزفر، ارحمني بقي يا أخي، المهم استغفر الله العظيم سنلعب اليوم؟
    - لأ عندنا ضيوف
    - من هم؟
    - أخوالي
    - طبعا ليسوا من أهل البلد، لكن أخوالك من بلاد بعيدة، لماذا تزوج أبوك من البلاد البعيدة، هل لم تعجبه واحدة فقط من البلدة والبلاد التي حولنا، هل كان يقرف من الناس هنا، والله أنتم لكم أفعال، أقصد أفعالكم غريبة، المهم إلى أين أنت ذاهب؟
    - إلى الدكان، تعال معي
    - سأقابلك عند بيتكم
    - تعال معي يا حنكش
    - ستقول لي احمل الطلبات، وتسير أنت وأنا أسير وراءك، لا يا عم
    - سأترك الطلبات في الدكان لعمتي صالحة ستحضرهم
    - عمتك صالحة عمتك زفت هذه المرأة لا أحبها ولا أقبلها، كلما تقابلني، تقول: ازيك يا حنكش، حافظ يا حبيبي على بطنك من كلام الناس وحاجاتهم، في أول الأمر لم أفهم،ثم فهمت، حتى كرهت الطعام، وبطني وجلدي والدنيا، امرأة شبه حفني والعالم المقرفة
    - سأقول لها
    - لا يهمني
    سرت إلى الدكان، وطبعا لن أقول شيئا لعمتي، وعدت إلى البيت لكن حنكش لم يحضر.
    * * *
    جاء العيد، وكنا نسهر ليلة العيد في انتظار قدوم العيد، و نبصّ قوي من فوق سطح الدار لنتفرج على العيد وهو قادم، وكنت أتخيله يأتي بأفراح وشخاليل وزفة، ولكن دائما يغلبني النوم وأصحو ملهوفا لحضور صلاة العيد بالملابس الجديدة، وأري فرحة العيد والبائعين، والملابس الجديدة والناس ولكني لم أقابل العيد أبدا.
    وكنت كل مرة أقابل حنكش إما يهددني بأننا غير البشر لأننا كل يوم نأكل طبيخا فنحن ظالمون ومصيرنا إلى جهنم، أو يهددني بتسميع الماضي، وليس ذلك تسميع ما سبق حفظه فلحنكش أفعاله ومقالبه وخبرته في ركوب الحمير والعوم في الترع وطلوع النخيل، ورجم الكائنات بالطوب، وخبرته في الشرب من الترعة، بأن يلصق نفسه بالأرض ويمد بوزه حتى يصل سطح الماء وهو على حافة الترعة ثم يمص الماء مصا ثم يقوم قائلا: نحمد الله، ونحن نحمد الله لأنه لم يطلب منا الشرب بطريقته.
    وفي يوم كنت عائدا من عند محطة القطار وكنا يوم سبت ومعي جريدة أخبار اليوم وكنت قد اشتريتها من المحطة وكانت الناس ما تزال تذهب إلى السوق، فسمعنا صراخ وهرج في أول الطريق وعندما دققنا النظر ظهر كلام الناس بوضوح مع صورة شخص قادم يركب دراجة ويتخبط في سيرها على الطريق، فاتضح الكلام مع قدرتي على تمييز حنكش يركب دراجة ويسوقها ويرن جرسها باستمرار، وهو يتلوي كالثعبان والناس تصرخ عندما يمر بهم.
    استمر في سيره على الطريق الزراعي الذي نسير عليه ولكن عكس اتجاهنا، وقد توقفنا للفرجة عليه فوصل حتى مزلقان محطة القطار وهو يرن الجرس حتى دخل بصدره في حديد المزلقان الذي يقفل طريق المشاة من المرور فوق شريط القطار ساعة مرور القطار، فسقط على الأرض قائلا: أنتم لم تسمعوا الجرس، لكن شفتم القادم، افتحوا المزلقان، الله يخرب بيتكم يا سكة يا حديد، فصرخ فيه حارس المزلقان: العب بعيد يا ولد.
    قام حنكش وعدل العجلة عكس المرة الأولي وركبها عائدا إلى السكاكرة مارا علينا بنفس رنين الجرس، والتلوي الثعباني ومؤخرته الصغيرة التي تتأرجح راقصة فوق كرسي الدراجة، ومضي ولم نعرف سر هذه الدراجة، وعدت إلى البيت، وتلهيت بقراءة الجريدة حتى سمعت صفير حنكش، خرجت من سور الحديقة وجدته فرحا قائلا: كنت أريد أن أعطيك الدراجة تفرح بها قليلا وتركبها حول البلدة ولكنك لا تعرف السياقة
    قلت له: أنا سأركب سيارة العام القادم
    قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يا رب خذ أولاد الكلب الذين لم يتركوا لنا شيئا نفرح به
    قلت: ماذا تريد يا حنكش؟
    قال: أموت من الغيظ، الرحمة أنت حبيبي، ألست حبيبك؟، أقول لك أنت لا تعرف ركوب الدراجة فتقتلني بأنك ستركب سيارة في العام القادم، وأنت لا تعرف قيادة الدراجة!
    ممكن طالما معكم فلوس وتأكلون كل يوم طبيخا فملعون حنكش والعجلة، افعلوا ما تشاءون يا ظلمة
    سار حنكش غاضبا، ومازلت أذكر هيئته في ذهابه ولم يعد مرة أخري، حتى لقيته عندما فتحت باب السكاكرة على يد عائشة وقبيلتها والعم حفني ومن معه، وكنت وقتها طالبا إما بالثانوي أو بالجامعة أو ما بعد ذلك.
    كانت رأسي قد ملئت بالحكايات والتاريخ القديم والشك، وعرفت ما يعرفه الرجال وما تعرفه النساء، وما يكوي ويضني العاشقين فصرت أشد حزنا وكهلا ومن الصالحين.
    كنت جالسا فوق سطح الدار أتأمل جرة الجبن القديم والمش وأتساءل هل آن لدود المش أن يخرج الآن من محبسه؟
    أي مصير يلاقي الموت بالهواء الكثير، أم بالشمس؟
    كانت بعض الدودات تحاول وتخرج ثم تعود جريا إما تلحق فوهة الجرة وإما يلحقها الموت، قلت هل هذا هو ملخص ما يجري وما يكون أم أن أوهامي ترميني بعيدا فأتخيل النخيل نساء والدود بشرا ينتشرون؟
    لماذا عندما أري أرؤس النخيل أمام بيتنا في السكاكرة أتذكر رؤية النخيل في بستان يتضح بعد سنين أنه نفس الشكل الذي رأيته بالسكاكرة ولكن بالأردن؟
    لماذا أميز صوت دهس الزمن على سلم الوقت فكأني أصعد سلالم مطارات ميونخ وروما وأمريكا وزيورخ أو أدوس العشب فوق الصلت وإربد وصفد وراشيا الفخار؟
    لماذا كلما مررت بالمطبخ أشم رائحة قهوة سأشربها بعد عشرات السنين في البادية؟
    لماذا كلما سمعت الغناء البدوي أحسست بنشوة العريس يوم العرس؟
    لماذا كلما خلى لي بالي أري العجوز في المقهى يقول حفيدك عكازك، لا تحتج إلى أحد كن خفيفا على الناس؟
    لماذا أجدني نفس الطفل الذي يراقب العجوز الذي يشد أنفاس الشيشة، وكذلك أنا نفس العجوز؟
    أسمع صفير حنكش فأنزل جريا من فوق السطح لألعب الكرة، في منتصف الطريق أراني شابا أسمع سعيد أبو هميلة في دكان القصب، والحقيقة كنت طفلا محمولا على ذراع أبي ونسير في الوحل وتحت المطر لنصل إلى دكان القصب؟
    لكن لي السكاكرة، وعائشة، وحفني، وحنكش ومحمد عثمان، وعمتي صالحة، وزوجة وأولاد فأنا لست وهما؟
    وكل الحكايات والمشاهد التى ترد على بالي ليست وهما، وبها درجة من الحقيقة، فهل أنا مريض؟ هل سأموت حالا؟
    هل أموت بالسكاكرة أم بالأردن؟
    أم في المسافة بينهما؟ أنا سأموت غريبا
    أنا لا أذكر شكل زوجاتي، وكنت أتذكر جيدا شكل أولادي وبناتي فهم شكلي، وأعرف أسماءهم وأسماء أزواجهم وأولادهم، وظروف ولادة كل منهم.
    لماذا تخاتلني الحقائق وتندمج مع الخيال، وفي بعض الأحيان أتوه، وفي معظمها حاضر الذهن
    ولكنى لا أستطيع التفرقة بين أختي وعمتي وابنتي؟
    أراني عجوزا خرفا يهذي بكلام لطفل أو لشاب أو في المقهى.
    كان لا بد أن أحمل سؤالي وأعود به إلى السكاكرة.

    (18)

    عندما رأيته لأول مرة
    شعفت به حبا
    كضربة البرق مخلولا أفقت له وجدا، وتحنانا، وتكريما
    من ذا يقاسمنا في الناس مكرمة
    ويجتبيه بعيدا عن أهالينا
    هو المكرم والممدوح لذاته العظمي مواجعنا
    هو المنسّب لاجتباء المادحين له
    لا يستعير كلاما من لدي أحد
    وتجتبيه لغات الأرض قاطبة
    أوجاعه ألم تعل لذائذه على اللائذ، موجوعا لا أقول كفي
    وبأخر النفس المحمود أشهقها زدني حنانا
    وإرباكا وإيضاحا.
    كانت عائشة قد أشعلت ناري بهذه الكلمات، وكنت مازلت صغيرة، ولأول مرة يطرقني الحب، فخفت وفرحت وجلة، كنت مازلت أتهجي في السطر الأول،
    كان حبا أوليا فشغفت به بعد الشعفة الأولي كأنه مسّ الكهرباء
    وكان تخاتلني في طريقي وتنطبع صورته أمامي على الحائط أو على الماء وأنا أملأ الجرار، أو على طرحتي، فأجيب على أسئلة الناس عمن يلعب تحت طرحتى.
    شعرت يومها فقد وقف شعر رأسي فوقفت على سطح الدار عارية كما ولدتني السماء، لم أستطع البكاء، وكان دمي وكل شيء حتى الهواء قد توقف ورفعت ساعدي إلى السماء وقذفت لهفتي وضياعي وهواني على الناس ووحدتي في هذا العالم وصرختي: نريده فأرجعوه.
    كنت أراه نائما مبتسما مدقوق العظم مهروس اللحم مضرجا بالمسك والياقوت
    مددت يدي لأستلمه من السماء كأنك تأخذ هبة أو منحة أو زكاة، فوجد ملايين الأيدي تمتد وتبكي وتسيل الدموع من أصابعها.
    مددنا أيدينا وسحبناه من تحت باب السلام عليكم، فهو باب النهاية من جهة ومن الجهة الأخرى باب البداية، كان غاضبا، وكان يريد أن يفر إلى الجهة الأخرى، ويبدو أن أيدي كثيرة كانت تجذبه من الجهة الأخرى لأن ملابسه كانت ممزقة / ومحترق الأصابع لأنه كاد يلمس السر.
    قال أبي إبراهيم بن سليمان: أنا لا أجبرك على تركه، لكن أحب ألا تتعلقي به، هو عزيز عليّ، وأبن أعزّ الناس، لكن لا داعي لهذا التعلق لأنه يعلق بعلقة القلب.
    كانت الماء تصعد من أخمص القدمين إلى العين بين الشجي والسكون، ورد تيبس رغم دماء العيون لا شيء تمسكه في اليد إلا ما تبقي منه، كنا نعجنه ثم نعيده هو وليس غيره، بعد قليل عادت الأيدي بالباقي، صرنا نلصقه ببعضه، حتى ظننا أننا إلى سواء، فحضر حفني، وأبي إبراهيم بن سليمان وامسكاه من عقبي رجليه فتدلى رأسه إلى أسفل كجنين خارجا من بطن أمه، فضرباه مرتين، فرجعت كل قطعة إلى مكانها الحقيقي تاركة مكانها الخطأ كلية، مطلقة عطسا أثار هواؤه الأشجار فتناكحت مقبلة بعضها بعضا.
    كان صوته يتردد حولنا: ارحموني من هذا الحب
    قلنا بألم وفرحة بعودته: يحق لك أن تتدلل، أو ترهق قلوبنا بحبك، لكن ما أذهلنا حقيقة كثرة الدموع التي جرت فأجبرت سفنا كثيرة على الإبحار، لكن الكبار أمسكوا كل شيء بشدة وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، فلم يغض الماء لأنه ليس ماء بحر أو ماء أرض أو ماء سماء، كان حفني واقفا فألقى بملابسه الممزقة في الماء فامتصت الملابس الماء وعاد كل شيء لما نريد.
    قالت شلبية: مرة زهق مننا فجري ناحية الجميزة وصعدها حتى أعلاها وخلع ملابسه وألقي بها من أعلى، وحاول الطيران فجاءه الصوت: غير مسموح لك يا إنسان
    التفت فوجد يدي ممدودة له بملابسه فتناولها باكيا صارخا: لماذا يا شلبية لا أريد حبكم
    ثم قال: لماذا يا شفاعة؟
    لماذا يا حبيبتي
    لماذا يا بنت إبراهيم؟
    لماذا كل هذا الحب يا ناس؟
    أنا لا أستحق دموعكم ولا لهفة قلبكم عليّ
    لماذا وقفت صارخة بكل هذا الحب؟
    كنت أظن أنك قوية كأبيك إبراهيم بن سليمان
    كنت أظنه قويا فقد كنت أراه يذبح الخراف والكباش بقوة ومهارة ضاحكا، ولم أعرف لماذا لم ينحر الجمال أبدا.
    كنت أقول سأكون قويا مثله ولكن رأيته يبكي وكان قلبه يقفز خارجا من صدره يوم زواج عالية أختك يا شفاعة وانهار تماما يوم زواج مسعدة قائلا ستبعدين عني يا بنت الكلب
    فقلت له: لن توحشك، فليس بينك وبينها إلا عرض الشارع، فهي في البيت المقابل لك
    قال: ستبيت بعيدا عني، أليست بنت عائشة
    كان مسكت الجواب والرد
    لماذا يا شفاعة تفعلين معي كل هذا الحنان؟
    أنا ضعيف يا بنت الناسّ
    أنا أحبك وأقذف دمي عليك ليلا وفي الصباح أقذفك بالورد والياسمين
    قالت: أنت خطوتي الأولي في الحب وليس غيرك، وأنا كنت صغيرة وكنت أتعلم الحب وهو جديد عليّ يا قلبي، وأنا قلت لعمتي رحمة أن تلحق بك على الجميزة لكن شلبية كانت أسرع، فقال لي في هذه المرة: إذا كان يريد أن يموت فليس الموت بالكيف وعلى الهوى سنعيده سيرته الأولي، قفي عارية أمام باب الرحمة وقولي لهم: قليلا من الرحمة البكر، أعيدوه لنا
    قلت لها: صرخت حتى انتهيت إلى شاطئ الليل.
    قال الليل: من؟
    قلت أنا قاتل
    قال تبدو القتيلا
    قلت أعيدوا لنا زهر الروح
    قال الليل: أليس من حقنا أن نأخذه قليلا
    قلت: من يعبر إلى الجهة الأخرى لا يحب العودة
    فقلت لها: لماذا كل هذا الحب، لماذا تضنون عليّ بالراحة
    قالت: ما مضي قد يسويه غيرك غير أن الذي سوف يأتي لن يسويه أحد سواك
    * * *
    لماذا يا شفاعة؟ لماذا كل هذا الصخب والعنف من أجل عودتي.
    كنت أود الرحيل في هدوء، واضعا شالي فوق كتفي أمسح به ما تساقط من دموعي، ملتفتا كل عدة خطوات مودعا وملوحا وأقفل عينيّ على منظركم ومنظر السكاكرة، ومثبتا مشهد السكاكرة وسط الحقول وقد ترعرعت في عينيّ.
    أود أن أسير طويلا حتى أصير نقطة صغيرة يصعب تميزها من سائر النقط التي تملأ الشهد حتى أعود نقطة في هذا الكون البديع، هل صعب هذا عليكم كنتم ستتابعونني من فوق أسطح البيوت وتلوحون لي كثيرا وقد أضعف وأعود كما تعود عمتي صالحة، فقلت أسير وسط الأشجار وأحتمي بتداخل فروعها وعتمتها، ثم أخرج من الجهة الأخرى للحديقة وأذوب في الضوء.
    كنت سأرسل دمي ليطمئن عليكم، وهكذا أستريح
    فلماذا يا شفاعة تقفين عارية وتستمطرين السماء ماء عينيها، فتعاقب بوابي باب السلام عليكم الذي كنت سأمر من أسفله إلى هناك.
    لماذا كل هذه المنازعة والشدّ والجذب
    حاولت الهرب ولكن قيل لي غير مسموح لك فعدت، فلماذا عندما نجحت هذه المرة جريتم وأرجعتموني
    - كنا نعرف في مرة صعودك على الجميزة أنك عائد، ومع ذلك جرينا خلفك، ورفعت شلبية ملابسك أعلى من الجميزة لتستر عريك
    - ارحموني لأني لا أتمالك نفسي وأبكي، في أول الأمر كنت أبكي دما ثم تضخ العروق فراغا وخوفا ووحشة، الآن صار بعد هذا تتفتت عظامي ويتدلى قلبي وأصير شلوا ممزقا
    ما لذي بقي مني حتى تريدوا لي البقاء على هذا الحال؟
    أنا كيس جلد وحبة عظام على آهات على عين على ليل على يا لللي
    - والإرادة؟
    - ساعتها سلمت المقادير لصاحب المقادير
    - هل كان في يدك شيء
    - مطلقا
    - تريد أن تهرب
    - من؟
    - من باقي مهامك
    - أنا لست مكلفا من أحد، ولكني تورطت في التدوين وقراءة المدونات التي تركها الرجل الذي لا أعرف اسمه
    - رحيل، اسمه رحيل، وهو قد جاء ليعطيك الرسائل التي قلت مدونات ليريك الجزء الأخر من العالم وهي التي تلصص أبوك عليها فضعف نظره كما سيضعف نظرك من البحلقة في البنات، وقد وقف الخلق والنباتات والحيوانات وسائر المخلوقات
    - من أجلي؟
    - من أجل ألا تترك مكانك في مشهد السكاكرة فارغا ولم يأت من يكمله فيترتب على ذلك وقف دولاب العمل فتتعطل كل المخلوقات عن أداء دورها.
    أخذتني شفاعة إلى بيتها ووجدت سعدة أختها، وعالية شقيقتها الوسطى التي إذا سقط المطر تدعو لأبيها وتنسي أن تدعوا أولادها وزوجها.
    بينما نحن جلوس عندها أطل من الحائط مبتسما رأس كبير يحمل ملامح سعيد بن إبراهيم بن سليمان شقيقها وكانت عيناه حمراوان والشيب قل ترك رأسه مثل مجمرة نار بيضاء مطفأة، وكذلك حاجباه غزاهما منذ زمن شيب مهيب.
    نظر إليّ وقال: هو حبيبي ولكن مازال صغيرا ويتدلل، وهي سبب في دلاله وهي قادمة الآن، ثم اختفي.
    سمعنا لحظتها صوت عائشة وخرجوا ينادون عليها فدخلت وأمسكت يدي قائلة: عثمان في انتظارك.

    (19)

    الطريق الواسع أصبح ضيقا وصغيرا
    هذا الطريق المترب كان يرشه بالماء عمي (إبراهيم إيه رأيك) بلا كلل أو ملل في صبر يحسد عليه (راجع بقية الكائنات) صار اليوم شيئا لا تعرف إذا كان ترابيا أم مرصوفا.
    المصارف والقنوات الجانبية صارت ضيقة ونتنة، وكنا نخاف أن نغرق فيها.
    الحقول مضروبة بالصفرة وجدباء حتى لون تربتها باهت وكأنها مريض يحوم حوله الموت.
    كوبري الميري تآكل حديده وصار كهوة في وسط الطريق، وكنا زمان نعاني ونحن نطلع مطلع الكوبري ونفرح ونحن ننزل منزله.
    قابلتها في الطريق المؤدي إلى المقابر
    - السلام عليكم
    - آهلا يا حبيبي
    - إزيك يا خالة شلبية
    - حلوة ومبسوطة أنك مازلت تدبّ على ظهر الدنيا، كيف حالك ما بين هنا وهناك
    - لا تسأليني عن الحال والمحتال لأنني مفزّع من الحكايات وجئت أسأل، ما حكاية الذئاب، هل عادت؟
    - وهل كانت رحلت، الذئاب متخفية في صدور ناس كثيرين، وبأشكال كثيرة تظهر تجلياتها عند كل أزمة في أشكال مختلفة مثل الكلاب والحمير والوحوش، لا يغررك ما قام به الحكماء من إنتاج سلالات من نفس النوع لتقضي عليها، حدث ذلك لكن المختفي ظل مختفيا إلى وقت معلوم لهم، فيظهرون لكن لكل جلد نهاية، هذا تمدد الجلد وتغيره كجلد الآكل الحرام فيتغير جلده فيشتهي محارمه
    - وحفني وعثمان وعائشة؟
    - عائشة نغم يضبط إيقاع الكون، فتغني الكائنات في مسيرة الحياة عليه
    - وحفني وعثمان؟
    - الشيء لزوم الشيء
    - كيف؟
    - لضبط ميزان ظهور الذئاب وخلال الأشياء التي تخرج عن مداراتها، ليسوا فقط فكل سلالة الطوافين لازمة، وهي في عمل كل لحظة
    - وأنا؟
    - ما لك؟
    - تعبت من التجوال والانتقال
    - تريد أن تستريح؟
    - ليس بالضبط لكني فزعت وعندما سألني حفيدي لماذا أتيت إلى هنا؟ ألم تكن هناك بلاد أخري لتذهب إليها؟
    هل قال لتخفيف السؤال لماذا اخترت الأردن والمحروسة، في الحقيقة هو ليس اختيارا، ولكن قلت له الأمور بطريقة مخففة حتى يفهم
    - عموما هذا دورك ولا دور لك سواه، واعلم أن الطريق الذي نسير فيه سرنا فيه قبل ذلك ملايين المرات وتعرفنا عليه فما هو عذرك؟
    عذرك أنك أتيت بين بين ولست خالصا لأي منهما، إذا كنت تنسى فتلك مشكلة من اختاروك، ولا أظن أنهم أساءوا الاختيار، ولكن إذا كنت تريد بعض العزاء لنشفق عليك فهذا ليس وقته فأتم ما بدأت، ثم ما الذي لا تعرفه؟، الانتقال يتم بأسهل من التعارف ونحن نقوم بهيئتك في حالة غيابك، في كل مرة لا تري ولا تأخذ بالك أنه نفس الطريق، وفي بعض الحالات تسأل نفسك أنك رأيت شيئا مثل هذا ونحن نضحك، ونعرف أنك تتدلل علينا، وفي حالات أخري تكمل الكلام في عقل بالك لقائله لأنك سمعته قبل ذلك، اسمع لم يعد لديك وقت والقادم كثير وأنت تعرف كل هذا والتقيته كثيرا.
    - هل هذا كل شيء؟
    - عمتك لا تشغلك، رحلت رغم أنفك أو أنفها لكنها مازالت موجودة، وهي تقول أمامكم أنها لا تحتاج إلى المرآة وأنها جميلة، ولكنها تستعمل المرآة في رؤية المستقبل هي امرأة معجبة بنفسها وغندورة فتحتاج إلى من يذكرها بدورها فكانت المرآة، وتسمع حفيف الأجنحة فيغمي عليها لتصلها رسالة ما، فتقولون أنها ماتت وهي تجاريكم في الكلام.
    هي كانت تعرف أن زبيدة ستمر فأنقذت نفسها وقامت وغابت لتوصل رسائلها، كانت تعرف نص ما تقوله زبيدة، وهي تركتكم تظنون أنها ميتة لتعرف مدى حبكم لها
    - ومتى تفشل حيلها؟
    - عندما تصير المرآة بيضاء مثل اللبن الحليب أو تكسر
    - ما هذا الرعب الذي تفعلينه بي يا خالة شلبية؟
    - إن ما تفعله الآن هو الرعب، أنت تعيش أباك وتود توريث ذلك لحفيدك، وتغير خارطة الأشياء وقد يكون ما تحلم به صحيحا، فأنت ابن دم أبيك
    - أنا لا أعرف، ولا أتابع ذلك وقد يكون من هوي النفس
    - كان بودي أن أحكي ذلك لحفيدك مصطفي ولكن سأقوله لك لأنك ستقوله له، كنت أمر من تحت نخل البلح الحياني الذي أمام بيتكم فوجدته جالسا إلى الطاولة وأمامه محبرة بها حبر من القرض والصمغ وأوراق وأقلام بسط يكتب أشياء
    فقلت له: ماذا تفعل؟
    فضحك وقال أتدرب حتى لا أنسي الكتابة فقد أدمنت القراءة
    - ماذا تقرأ؟
    - أقرأ في كتب المدونين، كان المدون يخرج حاملا لفائفه ويمر على البلاد يدون فيها العادات والتقاليد، والسلالات، والأغاني والحكايات، والزرع والحيوانات، والطيور والوحوش والأسماك، والشمس والمطر والبحار والأنهار وعاداته، وكان غذاءه الصبر ثم يستمر وينتقل من صحراء إلى ثلوج إلى قري وزراعات وهو مستمر، زاده الصبر يعتمد عليه فلا يخذله أبدا، ربما كنت صغيرة أيامها يا شلبية في بدء طفولة العالم
    - أنا لم أكن طفلة في يوم من الأيام
    - سامحيني في الكلام
    - أنا أعرف هذا الرجل، وهم كثر، مات واحد منهم وترك هذه اللفائف وكان يحمل حملا كبير جدا على كاهله وهو لم يأت هنا مصادفة ولكن لتصلكم هذه المدونات، وجاء جائعا وقلت لكم لا تقدموا له الطعام والشراب لكن قدموا له الثوم والبصل أولا ثم اللبن، ولكن من شدة كرم أبيكم وجهلكم قدمتم له الطعام فمات،
    هذا الرجل جاء من بعيد خاوي البطن متعبا شغلته الكتابة والتدوين عن الطعام، وأنك دفنت الرجل ثم أخذت حمولته
    - كأنني سرقت الجمل بما حمل
    - لا تحمل هما هو كان سيوصلها إليك بطريقة أو بأخرى ولكن جهلكم اختار الطريقة المهلكة زيادة في الكرم، وأنا لا أقوله لأحد من الناس
    - أحد من الناس؟ هل أنا أحد من الناس!
    - وهل أنت كل الناس هل أغالط ضميري؟
    - ما علينا، من مدة قرأت المدونة الأولى وهي لفة من الجلد يقول فيها أنه قابل أناسا طيبين ولكن لهم لغة خضراء فمثلا يقولون عن الأرض أجمل الأمهات، ويقولون عن قوس الألوان بعد المطر ركوبة المسافر، ويقولون عن الصاحب والصديق قلبي الآخر، والمحبوب حابس روحي في دولابه، ويقولون عن البومة سيدة الليالي المظلمة، وحارسة النظام، ويقولون عن العكاز الحفيد، ويقولون عن البرق عيون السماء تري أين تمطر!
    ويقولون لأعدائهم، لقد نسينا ما كان بيننا فلا تعودوا، لأنه لا أحد منكم ينظف مكان قتلاكم ويرفعهم من أرضنا.
    - ألم يقل لك شيئا عن البحر؟
    - وهل نحن نعرف البحر؟، قال أن بلادا تعوم فيه كما الجاموس بالماء تسمي سفنا وأنها تفقس أو تلد وتحمل أولادها لونهم أحمر فوق ظهرها وتسمي زوارق ثم تنزلق بعد قليل للماء يظلون حولها يرضعون منها من تحت الماء حتى تصير مراكب وتبتعد عن الأم، والتي تلد لمرتين تسمي سفنا، وقد تكون أسماكا كبيرة،
    انتابني الرعب وقلت لمن سأترك هذا الإرث، هل أتركه لهذا الولد؟
    قالت شلبية: يقصد أنت، فقلت له وأنت تريد أن تقرأ كل ما فيه؟
    قال أبوك: آه، ولكني أخاف أن أنسي الكتابة
    قلت له: ولكن قل لي، ماذا قال لك؟
    قال أبوك: قال حتى تعرف أنها مرت من هنا، وعندما جاءني في الحلم كان في عجلة من أمره وكان يتوقع السؤال ثم مضي، وكنت قد قرأت مدونة البحار العالية ففيها أن الأسماك تعضّ المجاديف حتى تترك عليها علامات لأسنانها، فقلت في نفسي لماذا؟
    لم تكن هناك إجابة، لأننا لا نعرف البحار، فنمت وجاءني في الرؤيا وكأنها رؤية وقال حتى تعرف الأسماك أن هذه المراكب قد مرت من هنا
    قلت لأبيك: طبعا جاء بسرعة ومضي مسرعا لأن وجوده في الحلم عذاب له
    قال أبوك: ضعف نظري من كثرة القراءة يا شلبية
    قالت: فقط ضعف نظرك من كثرة القراءة؟
    قال أبوك: عيوني تؤلمني من البحلقة في الجميلات والجميلين، والقراءة سيدة الجميلات
    فتركته لحاله ومضيت.
    - كنت أود أن أعرف لماذا تشغل نفسك بحفيدك؟ أقول لك
    - حقيقة أنا أحبه رغم أنفي، ولا أعرف لماذا، وأنا أعرف أنه كبر وصار طبيبا ولكني أراه طفلا صغيرا يجلس بجواري بجامع الفتح
    - عندما تكلمه فأنت تكلم رجلا وقد يكون امتدادك فلا تعامله على أنه طفل، حتى لا يظن أنك عجوز خرف، وهذا ينسحب علينا جميعا
    لماذا لا تأتى به إلى السكاكرة؟
    - قلت له تعال وسأعود معك
    - طبعا تريد العودة معه في سيارته، ثم تتوجع وتئن وتتألم أنت العجوز، هو يحبك فلا داعي لذلك
    - لن أركب معه
    - بدأنا
    - أريد مقابلة العم حفني
    - أعرف أنك قابلت عثمان، وحفني عند السيد أبو ديب، لا تفتح معه موضوع أنك شاهدتهما وهما ينزلان من فوق الجميزة
    - لقد رأيتهما بعيني
    - اسمع، غير مسموح لك بالكلام في شأن غير شأنك

    (20)

    عدت بجدي من السكاكرة وكان متخشبا وفي غيبوبة وفي بيت الحاج السيد، وكان جدي صامتا وقافلا فمه بشدة، وعندما تنبه لي قال: ربنا يخليك يا مصطفي الشمس
    - ما بك يا جد
    - أهنت في كبري يا مصطفي، وسمحت لولد صغير مثلك أن أطلب منه مساعدتي وأنا لم أطلب من أحد شيئا طوال حياتي، وكنت دائما في خدمة الناس، السمس يا مصطفي
    - حاضر يا جد عمتي تفرش لك الفرش في الشمس لكن لم تقل لي ما سبب ما حدث؟
    - الجوع والبرد
    - الجوع وأنت بالسكاكرة، والبرد وأنت الذي يستحم بعد أذان الفجر في الترعة، لا، قل كلاما غير هذا
    - أنا لا آكل طعاما إلا من يد جدتك أو أمك أو عمتي صالحة
    - وعائشة؟
    - وعائشة، وأنت ولد خبيث
    - ماذا فعلت بالسكاكرة؟
    - قابلت شلبية وعثمان وحفني
    - هل يمكن أن تحكي لي ما قاله حفني بالذات؟
    - بالذات لن أقول لك ما قاله حفني
    - هيا ننتقل إلى الشمس
    انتقلنا إلى الشمس رافضا أن يستند عليّ واستند على عمته صالحة، وقال والله لك وحشة يا خديجة، جلس واستند إلى الحشايا والمساند والتكايا أي استند واتكأ وقال دور نعناع جبلي، وأخذ يشرب النعناع الساخن جدا ويشم رائحته وأنا أجلس على الجمر فزهقت جدا وقلت له: جد هل أنت تريد أن تعذبني
    - أنا لا أقدر يا مصطفي ولكن أخاف عليك مما قاله حفني
    سرح طويلا ثم قال متفكرا كأنما يكلم نفسه: إذا كانت الكلاب قد أكلت جثة توفيق النساج ثم تحولت إلى هذا الشرس، لماذا لم تهاجم الناس طوال الوقت، وهل أصدق أن الكلاب أحست بتحولها فتوارت في الحقول بعيدا إلى أن فتن واحد منها بأنثي ذئب فضاجعها ووضعت في وسط الحقول وتكاثروا بسرعة وبدأت الذرية الهجين الجديدة في مهاجمة القرية، كان هذا زمان، فما الذي عاد به الآن؟
    وأين كانت عائشة ولم تنتبه إلى نبش قبر توفيق النسّاج؟
    ثم أين هذا مما قالته شلبية؟.
    هنا أحاجي كثيرة لابد أن تتضح.
    لماذا توفيق النساج؟
    ومنذ متى تأكل الكلاب الجثث؟
    ثم سرح مرة أخري وسبحت عيناه تحت مياه ذاكرته، أحسست به كالمفزوع الذي يجري وسط بهو طويل به آلاف الأبواب لا يعرف إن كانت لحجرات أم لا، ولكن يطرقها جميعا ويحاول فتحها لكن كلها موصدة، فيجري حتى آخر النفق الطويل المضيء فيجده مقفلا لا باب فيه فيعود هكذا، أو ككفيف ألقوا به في بلد غير بلده بلا دليل، ولا ناس وكأنها بلد مهجورة، إذا استمر في المسير يخاف أن يكون أمامه بحر أو حفرة، وإذا توقف ربما تعرض للافتراس في وسط هذا السكوت المتآمر، أين يذهب في أي اتجاه يسير؟
    كان يجري وكان الأمل يتساقط عرقا تحت قدميه، فجأة فتح باب من هذه الأبواب وعندما دخل أقفل الباب وأكتشف أنه عصفور يحس المكيدة فأخذ يطير في سماء الغرفة التي بلا شبابيك مصطدما بالجدر صارخا ما بين النجاة والإبلاغ لتحذير القادمين، من أي شيء لا نعرف؟
    - ماذا فعلت بالسكاكرة يا جد؟
    عاد من بعيد كأنما من تحت الماء
    - نعم، كل خير
    - ماذا قال حفني؟
    - ما سمعته، وقال لي أنت تقرأ آخر صفحات كتابك
    - ماذا يقصد؟
    - أهبل.. يقصد أن السكاكرة إلى زوال ههاهاي
    - كل العالم سيزول
    ضاع مني سارحا بعيدا وتنهد وبدأ يهمس بتوجع وتفجع
    - كانت عارية تحت الملاءة ملتصقة بي، تلف ساقيها عليّ، وتهذي بكلام كثير، كانت تبدل ساقيها فتتغير نقوش الملاءة وتحرك روائح الياسمين، ويتهدل شعرها حولها كأنها خارجة توا من البحر ويتدفق منها أريج التمر حنة، وأراها مطروحة فوق صخور الشاطئ، لست واثقا من شيء لكن كما رأيتها آخر مرة نائمة وحولها لغط كثير وأحذية كثيرة عليها أرؤس غريبة تتكهن عن هويتها، كأنها الدانة في محارتها، وأنا واقف أحس بغربة لا أتكلم ورياح الوحشة تأكلني.
    كأنها تقع من بين يديّ ويتهدل ثدياها ويندلقان من فتحة القميص، فينفرط زمان طويل، فأفرش عليها جلبابي وعباءتي فتشعر بي وتبتسم فأقول أناشدك بالله والرحم لا داعي للفضائح عودي إلى البيت وفي ضميري أن أحبسها بالبيت وأتنفس كما أريد، حتى إذا مللت من كل هذا وهي لا تتحرك، قامت ووقفت مكان خروجها، وارتفعت مع أشعة الشمس وذابت في الضوء
    - من هي يا جد
    انتبه لي وقال: أمرك عجيب، ألم تسألني هل تحب يا جد وقلت لك بألم آه
    ووضع الشال على وجهه ولم يكمل ردّه عليّ
    جاءت العمة صالحة قائلة: هل جدك نائم
    - لا أعرف
    قالت: عندما يقول لك السلام عليكم، لا ترد عليه
    ثم ذهبت بعيدا، وجاءت المرأة الغريبة التي كانت تدلك رجليه فأشرت لها فاقتربت
    قالت: لا تكلمه، ولا تقاطعه، دعه يتكلم ولا ترد عليه، ولا تخبر أحدا عما يقول
    اختفت وسط الأشجار.
    تمتم وقال وهو نائم: رحلة متعبة يا عم حفني، آن للعصفور أن يعود
    - .......
    - أنا لم أختر ذلك
    - ......
    - كثيرون لا يصدقون، لا يعرفون فعلا
    - .....
    - لا تذهب هي إلى هناك، ولكن كنت أحب أن أري الأخرى، أتصفها لعيني
    - .....
    - لا تقل النساء قل البنات فإن رائحتهن عطره وهواءهن يردّ الروح وخفيف على الجسد.
    خفت وأردت أن أوقظه، فخفت، وصرت محاصرا بين خوفين ورجاء أن ينهض هو فينهي حيرتي، فنهض كأنما سمعني وسار وسط الأشجار والتفت إليّ قائلا: الشمس ذهبت يا مصطفي، وأنت ولد طيب، لم تتركني أنام وحدي كانوا سيأخذونني معهم ولكنهم استحوا منك
    - من يا جدي
    - من يا جد؟
    نظر إلى الأرض وجلس وتأمل نقش قدم صالحة
    - هل مرت صالحة من هنا؟، وأوصتك طبعا؟
    فهززت رأسي بشدة، أي نعم
    - هزة واحدة تكفي، كل هذا لأنك تخاف
    - سارت ناحية الدوار
    - كيف وهي آتية من الدوار؟، أنت تكذب عليّ يا مصطفي
    - ها ها هاي
    ضحكت ماذا أفعل
    - ....
    - ماذا قال حفني، استكمل لي ما قيل
    - الموقف الآن أفضل من قبل الناس تتلاءم مع طبيعتها لأننا عرفنا مغاليق كثيرة، وهناك أشياء كثيرة كنا نجهلها ولا نعرفها إلا بقدر حاجة الزمان، وكل مخلوق ألف معيشتها وغيرها بقدر إمكانية التغير، فكلنا نتكامل ليس هناك شيء خالص والسلام عليكم
    - ......
    - السلام عليكم يا مصطفي، لماذا لا ترد؟
    - ......
    - لماذا تترك روحي معلقة بآثار أقدام صالحة، وثقل أرداف الزائرة وهي جدتك؟ ووجهك الذي هو وجهي والمنتشر فوقي في الفضاء يرعاني ولم يتخل عني أبدا، أجده في براعم الأشجار، وفي روح الياسمين وعطر دفئك بين أحضاني، لماذا تبكي يا مصطفي، أنت ولد ضعيف، هل أقول لك أنني أحبك
    أخذني في حضنه فانهرت باكيا فبكي قائلا: حرام عليك لا أتحملك أنا كالكوب الممتلئ عن آخر وأي قطرة ستسيل عليه دموعا وأنينا، هل سأبقي مدي الحياة؟
    بكيت وانهرت في حضنه،
    قال: السلام عليكم وحضنني
    فنزعت نفسي من حضنه ووقفت بعيدا، فمال على الأرض ثم رفع رأسه لي قائلا: قل لي أين أذهب، لأذهب، اتركني وحدي.
    سرت باتجاه الدوار وأنا أبكي وجلست أمام الباب روحي مخطوفة، فقد لمحته وأنا عائد إلى البيت يرفع يديه إلى السماء كطائر بجناحين كبيرين.
    مر رجل عليّ لا أعرفه وقال لي: هل جدك النائم تحت الأشجار
    - نعم، هل كلمك؟
    - نعم عند مروري رأيت عصافير خضرا تنقر جسده وهو يضحك، فأحس بي وفتح عينيه وأشار لي السلام عليكم
    فقلت له عليكم السلام.
    - من قال لك أنه جدي؟
    - أنا أعرفه، هل معقول ألا أرد عليه السلام، وأنا لا يفوتني واجب
    قلت له باكيا: ياليته فاتك، لقد أعطيته سلما إلى السماء
    فتعجب الرجل وسار، وكانت ضحكات جدي تملأ المكان حولي.

    صلاح والي 2007



    صلاح والى

    العنوان البريدي: مصر- الزقازيق - الحكماء - 1 ش الأجزجي
    البريد الإلكتروني
    salahwaly@hotmail.com

    بكالوريوس زراعة 69، دبلوم اعلام 91
    شاعر وروائي
    عضو اتحاد كتاب مصر

    الأعمال الروائية
    1- نقيق الضفدع رواية 1988 الهيئة العامة للكتاب
    2- ليلة عاشوراء روايات الهلال أكتوبر 1992
    3- عائشة الخياطة رواية مختارات فصول 1996، ط2 مكتبة الأسرة 2001.
    4- كائنات هشة لليل رواية أصوات أدبية هيئة فصور الثقافة00 2...
    5 - الرعية رواية اتحاد الكتاب2..2
    6- فتنة الأسر رواية ميريت 2004
    7- الجميل الأخير رواية دار البستاني2004
    8- ذنوب جميلة رواية الهيئة العامة للكتاب 2005
    9ـالعم حفني رواية الناشر 2008
    10ـالسلام عليكم رواية الحضارة2009

    الأعمال الشعرية
    1 - تحولات في زمن السقوط الهيئة العامة للكتاب78
    2- الغواية / ديوان قصيدة -- سعاد الصبّاح/ 92/
    3- من أين يأتي البحر/ دار الغد /1991/ط2 مكتبة الأسرة2004
    4 - الرؤيا والوطن / أصوات / قصور الثقافة/95،ط2 ديوان الشعر الحديث2004 الهيئة العامة للكتاب
    5- تداعيات العشق والغربة / الهيئة العامة للكتاب /88
    6- تجليات حرف الصاد / الهيئة العامة للكتاب /2003.
    7ـ على باب كيسان مسرحية شعرية/الهيئة العامة للكتاب /1992


    الجوائز
    1- الجائزة الأولى عن رواية (العم حفني) جائزة إحسان عبد القدوس1992
    2 - جائزة المسرح المصري (مسرحية على باب كيسان)1991
    Reply With Quote  
     

  2. #2 رد: السلام عليكم رواية 
    كاتب عبد المنعم جبر عيسي's Avatar
    Join Date
    Aug 2008
    Location
    مصر
    Posts
    833
    Rep Power
    18
    نبارك لأديبنا وشاعرنا المتميز
    ا / صلاح والى
    صدور روايته الجديدة ..
    ونسعد بوجوده بيننا ..
    كل عام وأنتم بخير ..
    وننتظر كل جديد منكم ..
    وبالتوفيق .
    moneim
    Reply With Quote  
     

  3. #3 رد: السلام عليكم رواية 
    كاتب مسجل
    Join Date
    Mar 2007
    Posts
    21
    Rep Power
    0
    كل احبابي صباح الخير
    اريد رايكم بجد ودون مجاملات وشكر كثير لكم .صلاح والي
    Reply With Quote  
     

Similar Threads

  1. السلام عليكم
    By محمد فناطل الحجايا in forum الشعر
    Replies: 3
    Last Post: 18/12/2009, 10:51 PM
  2. رواية : ( أخبار الزمان بين القدس وعمان )
    By ايهاب هديب in forum القصة القصيرة
    Replies: 6
    Last Post: 26/09/2009, 12:27 PM
  3. رواية كم بدت السماء قريبة ـ بتول الخضيري
    By عبدالله البتيري in forum مكتبة المربد
    Replies: 2
    Last Post: 12/08/2009, 10:39 PM
  4. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    By عباس الدليمي in forum الواحة
    Replies: 14
    Last Post: 05/02/2009, 09:37 AM
  5. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    By عباس الدليمي in forum الرسائل الأدبية
    Replies: 9
    Last Post: 26/01/2009, 07:11 PM
Posting Permissions
  • You may post new threads
  • You may post replies
  • You may not post attachments
  • You may not edit your posts
  •