آتت هذه الرحلات من كبار علماء مكة العالمة إلى البلاد الإسلامية ثمارها ونتائجها الطيبة على الرغم من تعدد أسبابها، تتلخص هذه الآثار في الآتي:
أولاً: إشاعة الوعي الإسلامي وتأسيس المدارس
تجرد كثير من علماء مكة العالمة للدعوة إلى الله عز وجل، ونشر الإسلام، فكانت هذه غايتهم، وفي سبيل تحقيقها رحلوا إلى عدد من الأقطار الإسلامية في آسيا، وأفريقيا، السبيل إلى هذا هو التدريس، وتأسيس المدارس الدينية، فقد كان هذا ديدنهم إذا حلوا في البلاد التي رحلوا إليها.
اضطلع بهذه المهمة عدد كبير من العلماء ومن هؤلاء:
● العلامة الفقيه الشيخ سعيد يماني رحمه الله (1265- 1352هـ):
قام رحمه الله برحلة إلى أندونيسيا عام 1344هـ يرافقه أبناؤه العلماء: الشيخ حسن، وصالح، ومحمد علي رحمهم الله تعالى، فكانوا لا ينزلون بلداً إلا وتقام لهم حفلات التكريم، والتقدير من طلابهم المنتشرين في تلك الجهات، والذين قاموا بنشر الدين بين أبناء وطنهم.
● العلامة الشيخ محمد علي بن حسين المالكي رحمه الله تعالى (1287 - ألف وثلاثمائة وثمان وستين):
"قام برحلة إلى أندونيسيا عام 1343 هـ ومكث به ثمانية عشر شهراً زار أثناءها سومطرة، ثم رجع إلى مكة وواصل تدريسه بالمسجد الحرام.
وفي عام 1345 هـ، قام برحلة إلى أندونيسيا أيضاً وأقام بها ستة أشهر، مر في طريقه بملايا، وقابل السلطان إسكندر شاه بن سلطان إدريس شاه فأكرمه، وشمله بعطفة وإحسانه تقديراً لعلمه، ومكانته".
رافق الأستاذ عمر عبد الجبار فضيلة الشيخ محمد على بن حسين المالكي في إحدي هذه الرحلات قائلا:
"ولما قدم رحمه الله إلى أندونيسيا قابلت فضيلته في بنجر ماسين، ورافقته في زيارة طلابه العلماء المنتشرين في كل من (مرتفور، وكندا، وهليبو، وراباي، وأمنتاي)، وكانت تقام له في كل بلد ينزل فيها حفلات، تغص بطلاب العلم، فيدرسهم، ويعظهم، ويرشدهم إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة، فيقوم بترجمة دروسه أحد طلابه، ثم سافر إلى سربايا، وصولو، وجاكرتا، وغيرها من مدن أندونيسيا، فيكرم في كل بلد ينزل فيها"
● العلامة القاضي الشيخ أحمد بن عبد الله القاري (1309 - 1359 هـ): "سافر إلى الهند عام 1343 هـ، وأقام بها حوالي عامين.
● العلامة القاضي الشيخ حامد بن عبد الله القاري: رحل إلى الهند، وأندونيسيا، وسنغافورة حيث درس هناك، ثم سافر إلى بورنيو حيث عين مديراً للمدرسة الإسلامية هناك".
● العلامة المربي القدير الشيخ محمود عبد الله القاري رحمه الله
(1320 - 1397):
يتحدث الأديب الكبير الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار عن أستاذه الشيخ محمود عبد الله القاري وآثاره التي تركها في البلاد التي ارتحل إليها سنوات عديدة قائلا:
"وكان يحسن بعض اللغات مثل اللغة الأندونيسية، والأردية، وله طلاب ينتشرون في آسيا، وأفريقيا، وبخاصة في أندونيسيا، وليست كثرتهم، لأنه قضى بها أربع سنوات من سنة 1344هـ إلى 1348هـ، بل لأنه كان بين طلبته بمكة في مدارسها وطلبته بالمسجد الحرام كثير من الأندونيسيين، ويعد الشيخ محمود قاري من بناة نهضة التعليم الإسلامي في أندونيسيا، فهو من واضعي المنهج، ومن أعظم من نشروا العلم فيها، حتى انتشر تلامذته في ذلك الأرخبيل"، يضيف الأديب الكبير الأستاذ عبد الغفور عطار قائلا:ً
"وجيل شيخنا من الأساتذة جيل النابغين العباقرة، فكل مشائخنا، وأساتذتنا كانوا عظماء، كباراً في العلم، والفضل، والنبل، والأخــــلاق وهم الذين بنوا العلم، ونهضوا به..."
ثانياً: شغل المناصب الدينية الرفيعة:
شغل عدد من علماء مكة العالمة الذين رحلوا إلى بعض البلاد الإسلامية مناصب دينية وعلمية رفيعة مثل: مشيخة الإسلام، والإفتاء، والقضاء، وإدارة المؤسسات العلمية، فمن العلماء المكيين الذين تولوا مشيخة الإسلام:
العلامة السيد عبد الله بن صدقة بن زيني دحلان، وذلك ببلدة قدح، وممن تولى الإفتاء في بلاد الملايو فضيلة العلامة الفقيه السيد عبد الله زواوي المكي، فقد ظل مفتياً للبلاد لمدة طويلة، كما تولى الإفتاء بولاية ترنقانو العــلامة الفقيه الشيخ حسن يماني رحمه الله تعالى.
ثالثاً: تنمية حس الفقه الاستدلالي المقارن:
كثيرا ما يستضاف علماء مكة العالمة في مجالس علماء البلاد التي رحلوا إليها، فتجرى في تلك المجالس بعض مذاكرات في المسائل الفقهية ولما كان المجتمع العلمي المكي منفتحاً على كل المذاهب، وللفقه الاستدلالي، والمقارن رواج بين فقهائه، في معرض ذكر آراء المجتهدين، يذكر استدلال كل فريق من المختلفين، ثم ترجيح واحد من تلك الآراء.
هذا المنهج العلمي الفقهي لم تروض عليه بعض المدارس الفقهية في بعض البلاد الإسلامية، ولم يأخذ فقهاؤها أنفسهم بذلك، فيكون منهم موضع استنكار لو سلك فقيه غير مسلكهم.
مع علماء السودان
يــــذكر العلامــة الفقيه فضيلة الشيخ حسن بن محمد المشاط رحمه الله تعالى عندما رحل إلى السودان، وقد وجد من أهلها كل حب وتقدير وإكرام، كان حديثه عن بلاد السودان، وكرم أهله، وسماحة علمائه سبحة لسانه عندما تأتي المناسبة للحديث عن أهل السودان، يذكر أنه "أقام بالسودان خمسة أشهر عام 1364هـ، واجتمع بعلمائها ووجهائها، قابل الزعيم الديني السيد علي ميرغني، وكان محل الحفاوة والتقدير من أهلها، زار معاهدهم العلمية، وحاضر بالمساجد، وأحيا ندوات ومذاكرات علمية مع العلماء وطلاب العلم، وقد ذكر رحمه الله قصة طريفة لها مدلولها القريب والبعيد في مذكراته عن رحلته وانطباعاته عن السودان ذلك أنه: حضر دعوة الأستاذ الشيخ الفاتح بن قريب الله الذي جمع له كثيراً من العلماء بداره بالخرطوم "وجرت بيني وبين علمائهم مذاكرات جمة في العلم، وظهر أنهم جامدون على مسائل الفقه المجردة، ولا يرضون بذكر الأدلة، حتى إن بعضهم نصحني بعد أن ذكر أنه يحبني، وما حمله على النصح إلا الحب الخالص، ونصيحته: أنه شعر مني إذا ذكرت مسألة في الفقه ربما أذكر آية، أو حديثاً يصلح أن يكون دليلاً للمسألة، فأفادني ذلك العالم بأن هذه وظيفة المجتهد ونحن بعيدون عنها، فأفهمته بأن مرتبة المجتهد فوق ذلك بمراحل، ونحن إنما نذكر المسائل والاستنباطات نقلاً عنهم، لا من عند أنفسنا، وبذلك يبدو لنا اتساع دائرة الفقه، واتساع علوم أساتذتنا ومشايخنا في الفهم والاستنباط إلخ. فما رضي في ذلك ورأيت أن الأوفق التسليم".
ويعقب فضيلته على هذا بقوله:"وهنا يناسب أن أذكر فائدة وقفت عليها في لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية أثناء كلامه في فضل العلم والعلماء، وما جاء في ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية قال رضي الله عنه ج 1، ص 26:(كان سفيان الثوري، وابن عيينة، وعبد الله بن سنان يقولون: لو كان أحدنا قاضياً لضربنا بالجريد فقيهاً لا يتعلم الحديث، ومحدثاً لا يتعلم الفقه".
مع علماء مصر
ثم رحل منها إلى مصر وكانت له لقاءات علمية مع كبار علمائها وتبادل معهم الإجازات العلمية على عادة المحدثين والعلماء، لقي من كبار علمائها العلامة محمد زاهد الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية سابقاًً بالدولة العثمانية، والعلامة الشيخ سلامة العزامي القضاعي، والشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ مصطفى الحمامي، والشيخ أحمد عبد الرحمن الساعاتي شارح مسند الإمام أحمد، والشيخ عبد الله العربي المصري الذي بلغ من العمر مائة وأربعين عاماً، وقد أخبر الشيخ المشاط أنه أدرك الشيخ إبراهيم الباجوري. وقد كان موضع حفاوة الأوساط العلمية وتقديرهم، وألقى محاضرات ودروساً ببعض الجمعيات، والجوامع في القاهرة، ثم قام برحلة إلى الشام، لقي ببيروت العلامة محمد العربي العزوزي أمين الفتوى بالجمهورية اللبنانية، والشيخ عبد العزيز عيون السود أمين الفتوى بحمص، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة بحلب، والشيخ صالح فرفور، والشيخ عبد الوهاب الصلاحي، والشيخ محمد الكافي، والسيد زين العابدين بن الحسين شقيق السيد محمد الخضر حسين، والشيخ جميل الشطي وغيرهم من علماء الشام ممن كانت له معهم لقاءات علمية مفيدة، فأمضى بينهم ليالي وأياماً حافلة بالكرم والمناقشات والمذاكرات، وكانت مناسبة لزيارة كثير من الآثار والمعالم الإسلامية في تلك البلاد.
ومنها توجه إلى مصر وأقام بها ما يقرب من الشهر، عاد بعدها إلى مكة المكرمة وقد صحب معه نوادر المؤلفات والكتب.
رابعاً:التأليف في المناهج الدراسية:
كان من ثمار رحلات علماء مكة العالمة أن اضطلع بعضهم بالتأليف في المناهج الدراسية التي تتلاءم مع بيئة البلاد التي رحلوا إليها، يبرز في مقدمة هؤلاء:
* المربي الكبير الأستاذ عمر يحيى عبد الجبار رحمه الله (1318 - 1391هـ):
يحكي الأستاذ عمر عبد الجبار تجربته في وضع المناهج لمدارس أندونيسيا أثناء إقامته بها:"وكنت... عام 1350هـ وضعت كتباً مدرسية للمدارس العربية في أندونيسيا تتمشى مع رغبتهم، وبيئتهم فلقيت من تشجيع (السيد محمد طاهر الدباغ) رحمه الله ما حفزني إلى متابعة التأليف والنشر والطبع، ومثله من يقدر، ويشجع على ما فيه الصالح العام".
يتحدث الأديب الكبير الأستاذ عبد القدوس الأنصاري تنويهاً بنشاط الأستاذ عمر عبد الجبار في هذا المجال العلمي، وإعجاباً بكفاءته، وتقديراً لإنجازاته في مجال العلم والمعرفة قائلاً:
"الأستاذ عمر عبد الجبار بدأ حياته العلمية بالمسجد الحرام، ثم بدراسة الفنون العسكرية في زمن الدولة الهاشمية... فدخل المدرسة الحربية بمكة المكرمة، وهي أول مدرسة حربية أنشئت في بلاد العرب، وتخرج منها ضابطاً، وزاول الحياة العسكرية القاسية في تمريناتها، وأعمالها المرهقة، فلما دالت الدولة الهاشمية رأيناه ينتقل إلى أندونيسيا، فإذا بذلك الشاب الذي نشأ نشأة عسكرية في أول حياته يصبح بعدها مؤلفاً ومدرساً، بل أول مؤلف للكتب الدراسية للأطفال باللغة العربية في تلك الديار النائية التي كانت تتمخض تحت وطأة الاستعمار الهولندي الغارب بنهضتها المرتقبة.
وقد أقام عشر سنوات هنالك يمارس التأليف، ثم عاد إلى وطنه فافتتح مكتبة علمية في باب السلام عامرة بذخائر الكتب المفيدة".
خامساً: التأليف في البلاد التي رحلوا إليها
ألف بعض علماء مكة العالمة في القرن الرابع عشر مؤلفات في البلاد التي رحلوا إليها، فأصبحت مصادر يرجع إليها، من أبرز هؤلاء:
* العلامة الشيخ محمد بن العلامة الشيخ خليفة النبهاني رحمهما الله تعالى (1301 - 1370هـ): "قام برحلة إلى البحرين عام 1331 هـ فاتسعت مداركه، وزادت علومه، وكان يدرس في كل بلد ينزل فيها إلى أن وصل في رحلته إلى العراق فنزل البصرة فعين قاضياً فيها، ولما نشبت الحرب العالمية الأولى اعتقله الإنجليز، وســلبوا كتـــبه وأوراقه، ولما أفرج عنه عام 1334 هـ لم يــــؤذن له بمغادرة البصرة فظـــــل فـــيها إلى أن أدركته المنية عام 1370 هـ".
كان من نتاج رحلة هذا العالم المكي أن ألف كتاب:
(التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية)، وهي اثنا عشر جزءاً مزينة بالرسوم، وقد أصبح هذا أحد المصادر المهمة لكتاب (إفادة الأنام بذكر أخبار البلد الحرام) من تأليف العلامة المحدث الشيخ عبد الله غازي المكي رحمه الله تعالى.
يعلق الأستاذ عمر عبد الجبار رحمه الله على النشاط التأليفي للشيخ محمد بن خليفة النبهاني وما تمخضت عنه رحلاته من كتب مفيدة قائلا: "أرأيت كيف يكون النشاط في سبيل نشر العلم، ومحاربة الجهل؟ أرأيت كيف تستغل الرحلات لما فيه نفع الناس، وتخليد الذكر الطيب.
لقد هاجر الشيخ محمد بن العلامة الشيخ خليفة النبهاني من وطنه (مكة المكرمة) مسقط رأسه إلى جزر الخليج العربي، والعراق فلم يستعذب الراحة، ويركن إلى الدعة، ويندفع وراء الترف وملذاته، وإنما كان يحمل في يده بذور العلم فيخفيها في كل أرض نزل فيها، ويتعهدها بسقيه حتى تنمو، وتؤتي أكلها، وتتسع لها العقول، وتتفتح أمامها الآفاق.
ولئن فاتني الاستماع إلى درسه بالمسجد الحرام لم يفتني دراسة كتبه والانتفاع بذخائرها..."
سادساً: توفير المصادر العلمية وتبادل المطبوعات:
كان من دأب بعض علماء مكة العالمة الارتحال إلى بعض البلاد الإسلامية الشهيرة بمطابعها كالهند، وتركيا، ومصر، وبلاد الشام، وغيرها، وكان من أهداف رحلاتهم إحضار المطبوع من الكتب التي يحتاجونها شخصياً، وبعضهم اتخذ من الرحلة سبباً للتكسب في الكتب، يأخذون معهم مؤلفات علماء مكة لبيعها، وإذاعتها في البلاد التي يرحلون إليها.
من أشهر هؤلاء العلامة المحدث، مسند الشرق العلامة الشيخ أبو الخير أحمد بن عثمان العطار (1277 - 1335هـ) فقد جاء في ترجمته أنه: كان يتجر بكتب الحديث فيجلب من الهند غريبها إلى الحجاز، ويحمل إلى الهند الغريب من كتب الحجاز، استمر على هذا المنوال حوالي خمسة عشر عاماً، حتى كون له مكتبة عامرة بصنوف كتب الحديث، فأكب على التأليف.
سابعاً: التوسط بالإصلاح بين الجماعات
من الأعمال التي اضطلع بها بعض علماء مكة العالمة تطوعاً في رحلاتهم إلى البلاد الإسلامية الإصلاح بين الجماعات الإسلامية المتنازعة، فقد قام العلامة السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله بفض النزاع، والتوفيق بين جماعة السادة العلويين والإرشاديين في سنغافورة، يحكي هذه الوساطة الأستاذ عمر عبد الجبار قائلاً: "وفي عام 1531هـ تسلمت من سيادة السيد محمد طاهر الدباغ رحمه الله رسالة يستعجلني فيها بالسفر إلى سنغافورة، ونزلت بدار السيد عبد الواحد الجيلاني صاحب صحيفتي (الهدى) و(القصاص)، وكان من ألد أعداء السيد طاهر، والناقمين عليه فاستقبلني، وهو يقول: سافر الزعيم، سافر البطل، السيد طاهر الدباغ إلى عدن، بعد أن أمتلك قلوب أعدائه وأزال من نفوسهم ما علق فيها من بغض وكراهية، ثم استطرد قائلاً: (لقد أقام العلويون للسيد طاهر الدباغ حفلة تكريم، فحضرت إليها وفي نفسي من الشر وإثارة النفوس ضد السيد طاهر الدباغ أكثر مما نشرته (بالهدى والقصاص) من سباب وشتائم، ولكن لم يكد يصعد السيد طاهر على المنصة ويلقي كلمته حتى أزال من صدور أمثالي المتهورين المغرورين الناقمين على الرجل المصلح، والزعيم الحكيم ما نكنه له، فصرنا نصفق لكل كلمة ينطق بها، لقد قال في خطابه الخالد:
إن الخلاف بين العلويين والإرشاديين يرجع إلى قشور لا قيمة لها بجانب رابطتهم الدينية والوطنية، ولقد درست أسباب هذا الخلاف فلم أجد مبرراً لخروج الفريقين عن جادة الاعتدال، وإني أشفق على المندفعين لتوسيع الخرق، وقطع روابط الإخاء، وسيأتي يوم يثوب فيه الشباب إلى رشده فيحملون مشاعل الإصلاح في المهجر، والوطن، لا فرق بين علوي، وإرشادي ما دامت كلمة التوحيد تجمع بينهما.
ثم استطرد السيد عبد الواحد الجيلاني يصف دماثة أخلاق السيد طاهر، ومقابلته له بوجه باش، وابتسامة أخجلته، فاعتذر منه على كل ما نشر بالهدى، القصاص، فقال رحمه الله: لولا ما كتبته عني لما تعارفنا، وتصافينا فجزاك الله خيراً على فتح باب التعارف بنقدك اللاذع".
يعلق الأستاذ عمر عبد الجبار رحمه الله على هذه القصة قائلا: "وهكذا استطاع السيد طاهر الدباغ أن يحول قلوب أعدائه إلى أصدقاء مخلصين"
ثامناً: نشاط متنوع:
سجل التاريخ نشاطاً متنوعاً لبعض علماء مكة العالمة بالدعوة إلى الله، ونشر المعارف، وتأسيس المدارس، والجمعيات المختلفة في عدد من البلاد الإسلامية، وفض بعض النزاعات القديمة، وتأسيس صحافة إسلامية، يمثل هذا التنوع عدد من العلماء المكيين يقتصر البحث على عرض تاريخ عالمين جليلين:
الأول: العلامة الفلكي السيد عبد الله بن صدفة بن زيني دحلان:
(1288 - 1363هـ).
الثاني: العلامة الفقيه القاضي الشيخ عبد الله بن أحمد المغربي رحمه الله (1311 - 1395هـ).
وفيما يلي نبذة عن جهودهما المخلصة رحمهما الله:
● جاء في ترجمة العلامة الفلكي السيد عبد الله بن صدقة بن زيني دحلان.
● أما فضيلة الفقيه القاضي الشيخ عبد الله بن أحمد المغربي رحمه الله فقد قام بنشاط متعدد ومتنوع في بلاد الملايو: في التعليم، والقضاء، والدفاع عن الإسلام بصد افتراءات المبشرين، وإنشاء مطبعة خاصة بالمصحف الشريف، وغير ذلك مما جاء مفصلاً في مذكرة أعدتها حفيدته المصون سوسن بنت جابر عبد الله المغربي ملخصها أنه:
● في سنة 1340هـ (1921م) تولى إدارة مدرسة مشهور الإسلامية التي تعد النواة الأولى للنهضة الدينية والعلمية في الملايو.
● وفي سنة 1342هـ (1923م) تولى القضاء بجزيرة (فيننج) واستطاع أن يصلح بين فريقين متخاصمين اشتد العداء بينهما فأطفأ نار الخلاف والخصومة بينهما بعد أن تفاقم الأمر واشتد العداء بين الفريقين، وقد عرفت هذه القضية باسم (لبي موسى).
● عام 1347هـ أسندت إليه إدارة المدرسة السلطانية المسماة (المدرسة الإدريسية) في سلطنة فيرق.
● في سنة 1341هـ (1922م) استطاع بجهوده أن يعيد إلى جادة الإسلام فرقة (متهاري) المنحرفة الاعتقاد، فقد أعلنت توبتها على يديه.
● في أواخر سنة 2531 هـ (3391 م) قام بحملة صحفية ضد المبشرين، فنشر سلسلة من المقالات القوية كان من نتائجها تأسيس حركة إسلامية منظمة دخل بسببها كثير من سكان ساكي إلى الإسلام.
● في سنة 2431 هـ (3291 م) غادرت البلاد أول بعثة تعليمية إلى مصر، ثم تتابعت البعثات إلى مدارس مصر، والجامع الأزهر، ومدارس الهند.
● أسس في عام 1350هـ (1931م) مدرسة الهدى الدينية للبنين والبنات، وقد تمكن الشيخ عبد الله المغربي في سنة 1353هـ من شراء مطبعة، أطلق عليها اسم (مطبعة الهدى الدينية)، وكان من أهم إنجازاتها طباعة مصحف شريف عن نسخة تركية عرفت بالمصحف السلطاني الحميدي، وقد أشرف الشيخ على تصحيحه بنفسه، إلى غير ذلك من النشاط العلمي والاجتماعي الذي بذل نفسه له رحمه الله.
تاسعاً: مهمات رسمية
آخراً، وليس أخيرًا فإن من جملة رحلات علماء مكة العالمة ما اضطلع به بعضهم في القرن الرابع عشر الهجري من مهمات رسمية انتدبهم لها الوالي على البلاد مثل: القيام بالوساطة لإيقاف الحرب التي كانت دائرة بين الدولة التركية والمملكة اليمنية في وفد برئاسة العلامة عبد الله بن عباس بن صديق (1270 - 1353هـ):
"انتدبه الشريف علي والي مكة المكرمة إلى صنعاء مع هيئة يرأسها من كبار علماء مكة المكرمة للتوسط بين الترك والإمام، فتوفي بصنعاء وكان من أعضاء الوفد العلامة الشيخ علي بن محمد سعيد بابصيل (1273 - 1353 هـ): رافق والده في الهيئة العلمية. سنة 1325 هـ للتوسط.. لإيقاف القتال، وإزالة سوء التفاهم بينهما. يقول الشيخ عمر عبد الجبار رحمه الله:
"حدثني أحد أعضاء هذه الهيئة وهو الشيخ محمد فاضل كابلي المتوفى عام 1375هـ بقوله:
رافقت الهيئة - يا ولدي - وكان رئيسها الشيخ عبد الله بن صديق مفتي الأحناف ابن الشيخ عباس بن صديق مفتي أحناف عصره، ومن أعضائها الشيخ محمد صالح كمال، والشيخ محمد سعيد بابصيل، وولده الشيخ علي بابصيل، والشيخ عمر باجنيد، والشيخ جعفر لبني، فلما وصلنا صنعاء سمح لنا قائد الجيش التركي بالمرور، فكتبنا للإمام يحيى نشعره بمهمتنا، فبعث وفداً من كبار علماء اليمن لاستقبالنا، فلما وصلنا القصر الملكي خف الإمام فعانق كل واحد منا وهو يقول: مرحباً بعلماء بيت الله الحرام (مرحباً بوفد مهبط الوحي والنور، مرحباً بوفد أقدس البلدان، مرحباً برسل السلام، أهلاً وسهلاً بكم في بلادكم، والله ما (نشتي) للنزاع، (ولا نشتي) سفك الدماء إنما (نشتي) دين الله، وإقامة حدود الله.
فكان في كلامه جواب لمهمتنا، إذ ألمح فيه عن أسباب قتاله للترك، ولكن الهيئة رأت أن تكتب له ليكون جوابه مستنداً في مخابراتها مع أمير مكة الشريف علي بن عبد الله، فأجابهم رحمه الله ورحمهم...." يعلق الأستاذ عمر عبد الجبار على هذه القصة قائلاً: "هذه قصة إن دلت على شيء فإنما تدل على نشاط علماء العهد الماضي، واشتراكهم في جميع الميادين غير مبالين بمشاق الأسفار إلى بلاد بعيدة، حيث لا توجد في عصرهم من وسائل النقل غير الجمال، والبغال، والحمير، رائدهم الإصلاح، وفض النزاع بين المسلمين، توحيداً لكلمتهم، وجمعاً لشملهم".
ومن المهام التي قام بها علماء مكة العالمة في رحلاتهم: ما يذكر عن السيد عباس ابن عبد العزيز المالكي (1270 - 1353هـ) انتدبه الشريف حسين بن علي إلى الحبشة لبناء مسجد للمسلمين فيها، ثم إلى بيت المقدس لبناء قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وحمل معه الأموال التي تجمعت من الاكتتاب لهذا الغرض"
هذه نبذة موجزة عن بعض النتائج لرحلات علماء مكة العالمة في القرن الرابع عشر الهجري استشهاداً، وتمثيلاً وليست استقصاء، تصب جميعها في خدمة الإسلام والمسلمين، فمن ثم استحقوا الدعاء بالرحمة، والرضوان، والثناء الجميل من الأجيال اللاحقة.
خلاصة علمية
تبين من العرض السريع الموجز لنشاط علماء مكة العالمة الأجلاء في القرن الرابع عشر الهجري، بأن نشاط علمائه هو امتداد للمد العلمي في تاريخ مكة العالمة خلال القرون الماضية، يقول الأديب الكبير الشيخ عبد الله بلخير رحمه الله:
"كان الحجاز (بعامة، ومكة المكرمة بخاصة) مباءة للعلم والمعارف، كل هذا خلال أربعة عشر قرناً، علماء ما وراء النهر في أفغانستان، وجنوب شرقي روسيا، وأطراف الصين الغربية، وأقطارها بما فيها إيران كانوا كعلماء المغرب والأندلس شهداء على هذه المسيرة العلمية المنقطعة النظير في تاريخ الحضارة البشرية، بما لا مقارنة معها مع أي جهد، أو بذل، أو دراسة، بل إنها أصبحت في جميع الأصقاع النائية المترامية الأطراف مدرسة سلوك، ونمطاً من أنماط الاقتداء والاقتفاء" والذين غادروا البلاد المقدسة، ورحلوا إلى بعض أقطار العالم الإسلامي، وبخاصة بلاد جنوب شرق آسيا، حافزهم إلى ذلك أسباب عديدة، تم ذكر عدد منها:
● الرغبة في القيام بواجب الدعوة إلى الله عز وجل ونشر العلم والمعرفة.
● الظروف السياسية والأمنية.
● التخلص من المناصب الحكومية، وبخاصة القضاء.
● الحصول على الأسانيد العالية من كبار علماء العالم الإسلامي.
● العمل على توفير المصادر والكتب بين مكة وبقية العالم الإسلامي.
● دعوة الطلاب الوافدين مشايخهم المكيين لزيارة بلادهم.
● القيام بالوساطة بين الدول والجماعات لإصلاح ذات البين.
وبرغم اختلاف الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك فقد أسهم جميعهم اسهاماً كبيراً في بث الوعي الديني في البلاد التي رحلوا إليها، وسعيهم الحثيث لتثقيف الأمة الإسلامية، ونشر الوعي العلمي، وكان من ضمن ما اضطلعوا به القيام بعدد من الوظائف الدينية الرفيعة: مثل مشيخة الإسلام، القضاء، والافتاء، وإدارات المدارس الدينية، وتأسيس المؤسسات العلمية، وكان لهؤلاء العلماء رحمهم الله الدور الكبير في وطنهم مكة المكرمة وخارج بلادهم.
إن مناسبة (مكة عاصمة الثقافة)، وإعلان هذا عالمياً من المنظمة الإسلامية للعلوم والفنون (الإسيسكو) حافز كبير لأبناء مكة خصوصاً، وأبناء المملكة العربية السعودية عموماً أن تظل مكة العالمة في مقدمة عواصم الثقافة في العلوم والمعارف، وأن يكون حاضرها ومستقبلها في نمو وازدهار دائم، وأن لا يدخر أبناؤها في جميع مواقعهم وسعاً في النهوض بها علمياً، واجتماعياً، وثقافياً، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. أبو شامة المغربي