رد : أدب الرحـــــــلة ...



من أدب الرحلة العراقي الحديث رحلة
محمد شمسي
إلى
((أرض ساخنة))
يوصف أدب الرحلة بأنه ((ملتقى لتعدد الخطابات))، وفي هذا تقع إشكاليته النوعية من حيث تحقق أدبيته من مجموعة خطابات بعضها أدبي وبعضها خارج إطار الأدب، بحكم ارتباطه بالواقع، ومن ثم فللتاريخ وللجغرافية وللسيرة وللمغامرات كلها لها دخل في تشكيل نسيجه، إلى جانب الشعر والقصة والأمثال والمقتبسات النصية المختلفة، فإن ذهبنا إلى الأخذ بسمة النقاء الممكن لجنس من الأجناس فبالتأكيد لا يعدّ أدب الرحلة من الأجناس النقية.
هذه مسألة مهمة تحكم نصوص أدب الرحلة على تفاوت الائتلاف في تعددية الخطابات ومداه. والمسألة الثانية التي يقع عليها الاهتمام في أخذنا لنص أدب رحلة عراقي هو (أرض ساخنة) لمحمد شمسي وقوع النص مع تعددية خطاباته تحت مهيمنة موضوعية موجَّهة من المؤلف، خضع لها نصه كاملاً منذ مقدمته التي استهلّها بإشاعة فضاء أسطوري تسنده مفردات الطبيعة وتدلّ عليه لتعزيز وجود الكائن البدائي الذي يريده لنفسه، والذي ينسجم بوجوده في أفريقيا مع مكوناتها البدائية، وحرارة جوّها، وطبيعة مهيمنته الموضوعية، التي تمثلت بالهدف الحسّي، إعلاء شأن الرغبة بحيث ارتبطت الرحلة إلى أفريقيا عامةً بها. هذا الجوع البدائي الأسطوري هو الذي أوجد نص رحلة شمسي، ومن الموجّهات إليه العنوان، الذي دلّ على نحو الحقيقة على أفريقيا وعلى نحو المجاز على المرأة (وبعد سنين لا تعدّ، كثيرة بعدد طيور السماء وسمك البحار وذرات الرمل ظلت الحياة في أفريقيا كما كانت قبل ملايين السنين حارة، طائشة، متدفقة، مليئة، وظلت الصيغ الإنسانية الأولى تطفح على الأرض رامية حذرها القديم كلما وجدت قشرة لينة، رقيقة)(الرحلة ص13).
تنويرية وتربوية
إلا أن المجاز لم يكن إلا في العنوان، وقد جاءت التوظيفات النصية والاستثمارات عامةً صريحة في مدلولها، أو إنها تعزز سياق الرحلة الكلي. فإلى جانب ذلك هناك خصوصية للمكان، إلا إنها مسخّرة للمعنى المهيمن، فالمكان وسيلة في تفصيلات كثيرة، لا غاية، من أجل تحقّق الحدث ولتجميل مسعى السارد البطل.
إذا كان من أدب الرحلة العربي ما كتب بدوافع تنويرية وتربوية فجعل اللغة وسيلة لا غاية بسبب من الجمع والتأليف والترجمة لنقل العلوم والمعارف المتنوعة، فرحلة محمد شمسي كتبت من أجل المتعة وهي تفترق عمّا سواها من كتابات الرحلة التي تسعى إلى التعرّف، فالمعرفة متحققة في (أرض ساخنة) والغاية في ما وراء ذلك، أي ماذا بعد المعرفة ؟ أو بم تستثمر هذه المعرفة ؟ كذلك خرجت رحلة شمسي عن أن تسخّر في إطار المقارنة بين عالمين (شرق وغرب)، ومشاكل الوقوع تحت وعي الآخر، أو النظر إلى انعكاسات موشوره، أو إقامة حوار حضارات أو بيئات متنازعة فبالرغم من كل الإشارات الملتقطة من حكايات المؤلف عن الإنسان المحروم أو المستغَل إلا أن الرحلة خالية من الدافع المسيّس ومتحررة من سلطة المستعمِر والمستعمَر. وللتوضيح يلزمنا القول أن (أرض ساخنة) المكتوبة عام 1973 كما في الإشارة المضمّنة بالكتاب، والصادرة عام 1978، هي تتمة للرحلة المبتدأة في (ألف ميل بين الغابات) للمؤلف نفسه والصادرة في طبعتين عامي 1973 و1976.
وتكشف بنية الرحلة عن إيقاعين أساسيين يحكمان السياق حيث تمثل (ألف ميل بين الغابات) بداية الرحلة وانفتاحها على البيئة الجديدة في أفريقيا، وتمثل (أرض ساخنة) رحلة العودة التي هي رحلة انفلات وإدبار عن تفصيلات المكان فكأن المؤلف يسعى بقوة إلى الانصراف عما انفتح إليه في رحلة البداية، رحلة الإقبال إلى الخارج (أفريقيا).
والادبار في (أرض ساخنة) يكتمل مع انتهاء الرحلة في الوصول إلى الوطن. ولنلاحظ أن أفريقيا بوصفها المكان المناسب ليلوَّن برمزية الرغبة البدائية الأولى كانت قد تشبّعت بهذا المعنى الرمزي عند بداية ابتعاد الرحالة عنها لا مع إقباله عليها. وهذا يعني أن ذروة الرحلة التي أرادها شمسي كانت مع بداية انتهائها، وأن الرحالة غير المحايد بالفعل أعطى صورة مكان ذاتية أكثر مما هي صورة موضوعية، وبذلك انتأى عن أن يكون جغرافياً مشغولاً بالمظهر الخارجي للمكان إلى أقصى حد ممكن (إذ بعد ذلك ينفلت منه المعيار النوعي لأدب الرحلة)، ((فالرحالة يظل مختلفاً عن الجغرافي دون إحداث قطيعة نهائية في كونه يكتب بالمكان في حين يكتب الجغرافي عن المكان (…) إنها جغرافية جديدة يزاوج فيها الرحالة بين تاريخ المكان أو تموقعه الجغرافي في العالم وبين تاريخه الشخصي)).
مع اقتران أدب الرحلة بالسيرة وأنماط التقرير والاستطلاع والمراسلة الصحفية واشتمالها على خطابات الشعر والنثر من قصص ويوميات وتاريخ وجغرافية ومغامرات، يكون توصيف (أرض ساخنة) رصداً لخصائص هذه الأنماط الداخلة في نسيجها. ويتقدم هذا رصد ثنائية السارد (الرحّالة) فهو بطل من جهة قيامه بالفعل في المساحات المستكشفة، وهو راوٍ سارد للأحداث، غير محايد بالضرورة، إذ يخطط للمغامرة من جهة الفعل بالرصد والاكتشاف والتخطيط والسعي، وفي الوقت نفسه يصف ويسرد وينتقي ما يريده محفزاً المتلقي للتوقع والانتظار. تجتمع إذن خاصيتا العرض المتضمن المراقبة، والموقف الشخصي المتبنّى تجاه المحكي، مع الوظائف الثانوية المنبثقة من هاتين الوظيفتين الرئيستين، في شخص محمد شمسي المؤلف (الكاتب) والسارد، فإذا كان الكاتب معطىً تاريخياً فإن السارد معطى نصّي، واجتمعا في (أرض ساخنة) حيث الوظيفة مزدوجة في الواقع وفي صياغته، وإلى جانب ضمير المتكلم الذي يصدر به السارد سرده يتردد اسمه (محمد) خلال نص الرحلة (ص104 مثلاً).
وتتخلل نص السارد نصوص قليلة لشخصيات في الرحلة تصاغ بطريقته نفسها، إلى جانب التضمينات التي لوّنتْ سياق الأحداث لدعم الموضوعات الأساسية والثانوية ومن ذلك يطالعنا تلخيص للحكايات، واستذكار ومونولوج داخلي، وأسطرة للمكان وللشخصية، وسرود استطلاعية وكشوف، وتضمينات أخرى أقل استعمالاً.. وكل هذه الاستعمالات محسوبة للسارد، حتى الحوار يقع ضمن إدارته، وفي هذا ما يرسم صورة الرحالة كلية في الرحلة، حتى تكاد تحتويها.
الاستذكار، والمونولوج الداخلي.
تكثر العودة في نص الرحلة إلى مواطن الطفولة لخلق جسور تصل الحاضر الموصوف ببدائيته زمن براءة الإنسان، بالطفولة زمن براءة الشخصية. وهكذا جعلت لشحنات الاستذكار طاقة حثّ للنص للإيغال في عمق مدلوله. وقد اتخذ الاستذكار أشكالاً متعددة منها ما يتعدّى مجال طفولة البطل نفسه إلى حنين لما في التراث العربي، من ذلك تمثّله بحرب البسوس على مستوى شخصي وبتداعٍ داخلي: (إن حرب البسوس أحرقت صحراء العرب أربعين عاماً، الرجال يطاردون الموت مثل قطاع الطرق لقد علّمهم قيافة الأثر وأنا ابنهم أعرف أقصر الطرق إلى الموت، أقصر الطرق إلى الإخفاق. وأنا بعد كل هذه الهموم المريرة وكل هذه الشقوق والخدوش في جسدي، سفينة عاطبة عجوز تريد أن تستريح أن تنعم بلذة الانهيار على شاطئ)(الرحلة ص22) هذا التماهي مع التراث زوّد الشخصية بطاقة دلالية كبيرة، وفي التأمل بالشاهد نجد هذه الصلة العميقة للبطل بالموت، بمعنى قيافة أثر الموت بالجسد وبإفنائه في اللذة وفي البحث عنها. لنقرأ في مكان آخر وصفه للوجوه الأربعة للشخوص وهو منهم في السيارة، ووصفه لوجهه (إن وجهي عشبة صغيرة متهورة، سريعة الجري نحو الموت وإن الأرض على امتدادها ذراعان ناعمتان تتلقى أجسادنا المتعبة)(الرحلة ص47) وإذ لا تخفى دلالة تشبيه ذراعي الأرض وتلقيها الأجساد، يستمر التداعي بصورة حية عن حيوان تنهشه النسور (كان هذا الحيوان يعيش شوق الحياة وحرارتها فيأكل ويتناسل ويخاف ويهرب ويتفيأ ظل الأشجار، ثم فجأة ختم كل ذلك بهذا المشهد المرير الدامي)(الرحلة ص47) وبهذا الإيقاع النفسي يندسّ في أحاديث الآخرين بعد أن ترك المونولوج الداخلي المتدفق آثاره على وجه الرحلة واسقاطاته على مشاهداته فيها.
من ملامح الاستذكار نلمس نوعاً من الحنين إلى الطفولة في عادات الصغار المتشابهة في كل مكان (تنظر الرحلة ص72)، وفي السرد بصورة اعترافية (تنظر ص90)، واطراد الذكريات مخترقة حواجز الزمان والمكان فتأتي على لسان عاشق من العصر الأموي (تنظر ص91). إن لهذه الاستذكارات قيمة تأكيد على الإنسان الخارق بفراسته وبصدق مجسّاته إزاء الوجود، إنها دليل إنسان مفقود تقوم رحلة شمسي في البحث عنه وعن حلم وجوده.
سرود استطلاعية وكشوف
تحتل هذه السرود أهمية في إرساء الخصيصة النوعية للرحلة فلولاها لامتنع علينا إطلاق أدب رحلة على (أرض ساخنة)، وتتوزع هذه السرود على قلّتها في مساحة النص، وتتشابك مع غيرها من استعمالات. وإذا شئنا حصرها في كتاب الرحلة المستغرق (135 صفحة) لوجدنا أنها لا تزيد عن عشرين صفحة، وبالتأكيد هذا قدر قليل مما يدخل في الموضوع المباشر الذي يميز الرحلة عن غيرها من الأجناس، على أن سياق السرد كله لا يخرج عن مناخ أفريقيا، والشخوص موجودون هنا لأجلها، مع الوصف المتناثر لبعض التفصيلات والأمور الجانبية للحياة هناك. ولقد جنّد المؤلف قدراته في ملء الفراغ الحاصل بالتنويعات السردية التي تفنّن في زجّها مع لغته الواصفة بشعرية وبتأمل ممتلئ.
المصدر



من أدب الرحلة العراقي الحديث رحلة
محمد شمسي
إلى
((أرض ساخنة))
يوصف أدب الرحلة بأنه ((ملتقى لتعدد الخطابات))، وفي هذا تقع إشكاليته النوعية من حيث تحقق أدبيته من مجموعة خطابات بعضها أدبي وبعضها خارج إطار الأدب، بحكم ارتباطه بالواقع، ومن ثم فللتاريخ وللجغرافية وللسيرة وللمغامرات كلها لها دخل في تشكيل نسيجه، إلى جانب الشعر والقصة والأمثال والمقتبسات النصية المختلفة، فإن ذهبنا إلى الأخذ بسمة النقاء الممكن لجنس من الأجناس فبالتأكيد لا يعدّ أدب الرحلة من الأجناس النقية.
هذه مسألة مهمة تحكم نصوص أدب الرحلة على تفاوت الائتلاف في تعددية الخطابات ومداه. والمسألة الثانية التي يقع عليها الاهتمام في أخذنا لنص أدب رحلة عراقي هو (أرض ساخنة) لمحمد شمسي وقوع النص مع تعددية خطاباته تحت مهيمنة موضوعية موجَّهة من المؤلف، خضع لها نصه كاملاً منذ مقدمته التي استهلّها بإشاعة فضاء أسطوري تسنده مفردات الطبيعة وتدلّ عليه لتعزيز وجود الكائن البدائي الذي يريده لنفسه، والذي ينسجم بوجوده في أفريقيا مع مكوناتها البدائية، وحرارة جوّها، وطبيعة مهيمنته الموضوعية، التي تمثلت بالهدف الحسّي، إعلاء شأن الرغبة بحيث ارتبطت الرحلة إلى أفريقيا عامةً بها. هذا الجوع البدائي الأسطوري هو الذي أوجد نص رحلة شمسي، ومن الموجّهات إليه العنوان، الذي دلّ على نحو الحقيقة على أفريقيا وعلى نحو المجاز على المرأة (وبعد سنين لا تعدّ، كثيرة بعدد طيور السماء وسمك البحار وذرات الرمل ظلت الحياة في أفريقيا كما كانت قبل ملايين السنين حارة، طائشة، متدفقة، مليئة، وظلت الصيغ الإنسانية الأولى تطفح على الأرض رامية حذرها القديم كلما وجدت قشرة لينة، رقيقة)(الرحلة ص13).
تنويرية وتربوية
إلا أن المجاز لم يكن إلا في العنوان، وقد جاءت التوظيفات النصية والاستثمارات عامةً صريحة في مدلولها، أو إنها تعزز سياق الرحلة الكلي. فإلى جانب ذلك هناك خصوصية للمكان، إلا إنها مسخّرة للمعنى المهيمن، فالمكان وسيلة في تفصيلات كثيرة، لا غاية، من أجل تحقّق الحدث ولتجميل مسعى السارد البطل.
إذا كان من أدب الرحلة العربي ما كتب بدوافع تنويرية وتربوية فجعل اللغة وسيلة لا غاية بسبب من الجمع والتأليف والترجمة لنقل العلوم والمعارف المتنوعة، فرحلة محمد شمسي كتبت من أجل المتعة وهي تفترق عمّا سواها من كتابات الرحلة التي تسعى إلى التعرّف، فالمعرفة متحققة في (أرض ساخنة) والغاية في ما وراء ذلك، أي ماذا بعد المعرفة ؟ أو بم تستثمر هذه المعرفة ؟ كذلك خرجت رحلة شمسي عن أن تسخّر في إطار المقارنة بين عالمين (شرق وغرب)، ومشاكل الوقوع تحت وعي الآخر، أو النظر إلى انعكاسات موشوره، أو إقامة حوار حضارات أو بيئات متنازعة فبالرغم من كل الإشارات الملتقطة من حكايات المؤلف عن الإنسان المحروم أو المستغَل إلا أن الرحلة خالية من الدافع المسيّس ومتحررة من سلطة المستعمِر والمستعمَر. وللتوضيح يلزمنا القول أن (أرض ساخنة) المكتوبة عام 1973 كما في الإشارة المضمّنة بالكتاب، والصادرة عام 1978، هي تتمة للرحلة المبتدأة في (ألف ميل بين الغابات) للمؤلف نفسه والصادرة في طبعتين عامي 1973 و1976.
وتكشف بنية الرحلة عن إيقاعين أساسيين يحكمان السياق حيث تمثل (ألف ميل بين الغابات) بداية الرحلة وانفتاحها على البيئة الجديدة في أفريقيا، وتمثل (أرض ساخنة) رحلة العودة التي هي رحلة انفلات وإدبار عن تفصيلات المكان فكأن المؤلف يسعى بقوة إلى الانصراف عما انفتح إليه في رحلة البداية، رحلة الإقبال إلى الخارج (أفريقيا).
والادبار في (أرض ساخنة) يكتمل مع انتهاء الرحلة في الوصول إلى الوطن. ولنلاحظ أن أفريقيا بوصفها المكان المناسب ليلوَّن برمزية الرغبة البدائية الأولى كانت قد تشبّعت بهذا المعنى الرمزي عند بداية ابتعاد الرحالة عنها لا مع إقباله عليها. وهذا يعني أن ذروة الرحلة التي أرادها شمسي كانت مع بداية انتهائها، وأن الرحالة غير المحايد بالفعل أعطى صورة مكان ذاتية أكثر مما هي صورة موضوعية، وبذلك انتأى عن أن يكون جغرافياً مشغولاً بالمظهر الخارجي للمكان إلى أقصى حد ممكن (إذ بعد ذلك ينفلت منه المعيار النوعي لأدب الرحلة)، ((فالرحالة يظل مختلفاً عن الجغرافي دون إحداث قطيعة نهائية في كونه يكتب بالمكان في حين يكتب الجغرافي عن المكان (…) إنها جغرافية جديدة يزاوج فيها الرحالة بين تاريخ المكان أو تموقعه الجغرافي في العالم وبين تاريخه الشخصي)).
مع اقتران أدب الرحلة بالسيرة وأنماط التقرير والاستطلاع والمراسلة الصحفية واشتمالها على خطابات الشعر والنثر من قصص ويوميات وتاريخ وجغرافية ومغامرات، يكون توصيف (أرض ساخنة) رصداً لخصائص هذه الأنماط الداخلة في نسيجها. ويتقدم هذا رصد ثنائية السارد (الرحّالة) فهو بطل من جهة قيامه بالفعل في المساحات المستكشفة، وهو راوٍ سارد للأحداث، غير محايد بالضرورة، إذ يخطط للمغامرة من جهة الفعل بالرصد والاكتشاف والتخطيط والسعي، وفي الوقت نفسه يصف ويسرد وينتقي ما يريده محفزاً المتلقي للتوقع والانتظار. تجتمع إذن خاصيتا العرض المتضمن المراقبة، والموقف الشخصي المتبنّى تجاه المحكي، مع الوظائف الثانوية المنبثقة من هاتين الوظيفتين الرئيستين، في شخص محمد شمسي المؤلف (الكاتب) والسارد، فإذا كان الكاتب معطىً تاريخياً فإن السارد معطى نصّي، واجتمعا في (أرض ساخنة) حيث الوظيفة مزدوجة في الواقع وفي صياغته، وإلى جانب ضمير المتكلم الذي يصدر به السارد سرده يتردد اسمه (محمد) خلال نص الرحلة (ص104 مثلاً).
وتتخلل نص السارد نصوص قليلة لشخصيات في الرحلة تصاغ بطريقته نفسها، إلى جانب التضمينات التي لوّنتْ سياق الأحداث لدعم الموضوعات الأساسية والثانوية ومن ذلك يطالعنا تلخيص للحكايات، واستذكار ومونولوج داخلي، وأسطرة للمكان وللشخصية، وسرود استطلاعية وكشوف، وتضمينات أخرى أقل استعمالاً.. وكل هذه الاستعمالات محسوبة للسارد، حتى الحوار يقع ضمن إدارته، وفي هذا ما يرسم صورة الرحالة كلية في الرحلة، حتى تكاد تحتويها.
الاستذكار، والمونولوج الداخلي.
تكثر العودة في نص الرحلة إلى مواطن الطفولة لخلق جسور تصل الحاضر الموصوف ببدائيته زمن براءة الإنسان، بالطفولة زمن براءة الشخصية. وهكذا جعلت لشحنات الاستذكار طاقة حثّ للنص للإيغال في عمق مدلوله. وقد اتخذ الاستذكار أشكالاً متعددة منها ما يتعدّى مجال طفولة البطل نفسه إلى حنين لما في التراث العربي، من ذلك تمثّله بحرب البسوس على مستوى شخصي وبتداعٍ داخلي: (إن حرب البسوس أحرقت صحراء العرب أربعين عاماً، الرجال يطاردون الموت مثل قطاع الطرق لقد علّمهم قيافة الأثر وأنا ابنهم أعرف أقصر الطرق إلى الموت، أقصر الطرق إلى الإخفاق. وأنا بعد كل هذه الهموم المريرة وكل هذه الشقوق والخدوش في جسدي، سفينة عاطبة عجوز تريد أن تستريح أن تنعم بلذة الانهيار على شاطئ)(الرحلة ص22) هذا التماهي مع التراث زوّد الشخصية بطاقة دلالية كبيرة، وفي التأمل بالشاهد نجد هذه الصلة العميقة للبطل بالموت، بمعنى قيافة أثر الموت بالجسد وبإفنائه في اللذة وفي البحث عنها. لنقرأ في مكان آخر وصفه للوجوه الأربعة للشخوص وهو منهم في السيارة، ووصفه لوجهه (إن وجهي عشبة صغيرة متهورة، سريعة الجري نحو الموت وإن الأرض على امتدادها ذراعان ناعمتان تتلقى أجسادنا المتعبة)(الرحلة ص47) وإذ لا تخفى دلالة تشبيه ذراعي الأرض وتلقيها الأجساد، يستمر التداعي بصورة حية عن حيوان تنهشه النسور (كان هذا الحيوان يعيش شوق الحياة وحرارتها فيأكل ويتناسل ويخاف ويهرب ويتفيأ ظل الأشجار، ثم فجأة ختم كل ذلك بهذا المشهد المرير الدامي)(الرحلة ص47) وبهذا الإيقاع النفسي يندسّ في أحاديث الآخرين بعد أن ترك المونولوج الداخلي المتدفق آثاره على وجه الرحلة واسقاطاته على مشاهداته فيها.
من ملامح الاستذكار نلمس نوعاً من الحنين إلى الطفولة في عادات الصغار المتشابهة في كل مكان (تنظر الرحلة ص72)، وفي السرد بصورة اعترافية (تنظر ص90)، واطراد الذكريات مخترقة حواجز الزمان والمكان فتأتي على لسان عاشق من العصر الأموي (تنظر ص91). إن لهذه الاستذكارات قيمة تأكيد على الإنسان الخارق بفراسته وبصدق مجسّاته إزاء الوجود، إنها دليل إنسان مفقود تقوم رحلة شمسي في البحث عنه وعن حلم وجوده.
سرود استطلاعية وكشوف
تحتل هذه السرود أهمية في إرساء الخصيصة النوعية للرحلة فلولاها لامتنع علينا إطلاق أدب رحلة على (أرض ساخنة)، وتتوزع هذه السرود على قلّتها في مساحة النص، وتتشابك مع غيرها من استعمالات. وإذا شئنا حصرها في كتاب الرحلة المستغرق (135 صفحة) لوجدنا أنها لا تزيد عن عشرين صفحة، وبالتأكيد هذا قدر قليل مما يدخل في الموضوع المباشر الذي يميز الرحلة عن غيرها من الأجناس، على أن سياق السرد كله لا يخرج عن مناخ أفريقيا، والشخوص موجودون هنا لأجلها، مع الوصف المتناثر لبعض التفصيلات والأمور الجانبية للحياة هناك. ولقد جنّد المؤلف قدراته في ملء الفراغ الحاصل بالتنويعات السردية التي تفنّن في زجّها مع لغته الواصفة بشعرية وبتأمل ممتلئ.
المصدر
تعليق