الأحبة في مربدنا الغالي.. يتواصل جمال موسيقى شعرائنا بأشكال متنوعة وغاية في الرقة.. وحديثنا هذه المرة عن:
الإيقاع كما هو معلوم، مكون من صوت (أو حركة) وصمت (أو سكون) والإيقاع الذي يهمنا هنا ليس إيقاع الوزن العروضي، مع أنه إيقاع كذلك، لكن الشاعر الحقيقي من يضيف إلى إيقاع الوزن إيقاعا خاصا ينشأ من لفظه ومصاف حروفه وتنغيم مفرداته.. وهو أمر قد لا يتعمده الشاعر، وقد يفعل.. وأجمل الجمال ما جاء عفوا.. سهلا ممتنعا.. كقول الشاعرة الرقيقة (هند باخشوين) :
أجيبي ـ بربِّك ـ ماذا جرى لي؟
لقلبي؟ لعقلي؟ لكلِّ شـــؤوني؟
وقولها:
وعــــرَّضتُ ثلج دماك لوجدي
لشِعري ، لشوقي ، لوهج أتوني
ففي عجزي البيتين استخدمت هند تقسيما لطيفا لقلبي- لعقلي- لكل شؤوني- لشعري- لشوقي- لوهج أتوني.. وقد جاء عفوا كأن الشاعرة لم تقصدة- وإن قصدته- فقد نغمت مفرداتها لترقص مع الوزن الراقص في الأصل، لتزيد الخطوات رشاقة فريدة..
وشاعرة أخرى رائعة هي (أحلام الحميد) تقول:
خُذْ سُكُوني، خُذْ شُجُوني،مُهْجَتي
خُذْ لُحُوني، وتَرَانيمي صَـــدَى
خُذْ سَمَائِي،خُذْ طُيوري، فرحتي
فَأَنَا وحدي سَأَحْــــــيَا الكَمَــــدَا
الشاعرة أحلام لم تكتف بنتغيم صدور الأبيات بل ملأت أبياتها تماما بإيقاع متتالي تضيفه إلى إيقاع بحر الرمل الجميل.. وبحر الرمل متميز النغم يطغى على البيت ويظهر مهما خالفته المخارج والكلمات.. ولم يكن لأحلام حاجة إلى إضفاء إيقاع جديد.. لكنها فعلت ذلك لغرض شعري جلي، وهو الإلحاح في التنازل عن السكون والفرح والبهجة بل والشجن والترانيم كذلك.. إلحاح شعوري حزين مليء بالكبرياء.. مجسد لأنفة الأنثى وشموخها الراقي البديع.. وشاعرة مثل أحلام، لن يفوتها أن تلفت الأنظار إلى هذا المقطع الجمالي بالتركيز على الإيقاع الداخلي الفني..
ونجد هذا التقسيم الإيقاعي يأخذ شكل السجع غير التكلف، سجع جاء هادئا لطيفا عن (ثروت سليم) :
وأنتِ الظنونُ وأنتِ الجنونُ
وأنتِ الفُـنونُ وأنتِ الوَتَرْ
وأنتِ البلاَغَـةُ عندَ الكلامِ
وفي الصمتِ أقرأُ فيكِ الخَبرْ
أنت الظنون، أنت الجنون، أنت الفنون.. سجع يكرر فيه ضمير المخاطب (أنت) فلماذا؟ ولماذا النون هكذا ممتدة؟ ثم يسكن بشكل مفاجئ قائلا (وأنت الوترْ) .. هذا الإيقاع اللطيف هو تعبير عن جنون.. عن موج هادر من الدهشة.. دهشة حب يجتاح العقل.. حتى يثوب العقل إلى رشده فجأة- عن سكون راء الوتر- كناية عن انتهاء معزوفة صاخبة ثائرة.. ليأتي العقل والبيان وجمال الكلم عند قوله (وأنت البلاغة عند الكلام) ..
مستحيل ذلك التعبير.. لو أراد فنان صياغة صورة تعبيرية جميلة بهذا القدر من الكلمات البسيطة لما تأتى له عشر معشارها.. لكن ثروت سليم فعل ذلك..
ولعل إضفاء لمسة إيقاعية على الأبيات لا يتضح بتقسيم المفردات إلى كلمات منفصلة تتفق مع الوزن، بل إن إشباع الحركات هو إيقاع جميل وفريد قد يعمد إليه الشاعر، كما فعل (فارس الهيتي) في قوله:
خُذُوني إليهِ فَروحِي لَدِيهِ
أَخَافُ عَلَيهِ إِذا زَادَ عَطفِي !!
إليه- لديه- عليه.. هذه الكلمات جاءت مشبعة الكسر، حتى يضطر القارئ إلى الوقوف على هذه الحركة المشبعة وكأنما أراد الشاعر لفت الأنظار إلى منزلة الغائب في قلبه ومدى حنينه المستعر إليه..
بينما يلجأ (يوسف أبو سالم) إلى التلاعب بالإيقاع لأن شعر التفعيلة صعب في التركيز على الإيقاع، فالشعر العمودي دون شك ظاهر تساعده عمودية الشكل، بينما لا يحدث هذا في شعر التفعيلة، والشاعر المتمرس لن يجد صعوبة في تنغيم القصيدة فيضفي عليها إيقاعا خاصا من السكنات والمفردات والحركات والتشاكيل المتنافرة والمتناسقة أيضا.. كقول أبي سالم:
لمن أبقيتِ
حبّات الندى ...تسكرْ
لمن تُمْطِـرْ
لِمَنْ أبقيتِ....
ليلاتِ على شرفاتها....
تَسهرْ
فالإيقاع في هذا المقطع قفز جريئا جدا (الندى تسكر- لمن تمطر- لمن أبقيت- تسهر) تلاعب بديع يركز على الضرب على وتر السكون في الراء الساكنة، والسكون بشكل عام إيقاع فني طبيعي تندر فيه الصنعة، وكان أبو سالم موفقا في اختياره أيما توفيق..
والتجانس اللفظي وتكرار المفردات وإن كان واضح الصنعة إلا أنه يحقق نوعا من الإيقاع الكلاسيكي التقليدي الذي يذكرنا بأبيات ابن خفاجة الأندلسي وابن الرومي.. ومنه الجناس والتكرار اللطيف في قول (ثروت سليم) :
فأَغدو كعُصفُورٍ وتَغـدو يَمَامَـة ً
تَحِـنُّ إذا مَـا زَقْـزَقَ العُصفـورُ
أَرَتِّلُها شَوْقَـاً فَينسَـابُ هَمْسُهَـا
حريراً وفي هَمْسِ الحريـرِ عَبيـرُ
سُرورٌ بأحلامي وسَرْوَى بيَقْظَتـي
كأنـي بِهَـا مُتَـمَـرِّدٌ مَـغـرورُ
ها هنا (كعصفور- العصفور) و (همسها- همس) و (حريرا- حرير) و (سرور – سروى) ورغم التكرار الكثير لم يطرأ على الأبيات ثقل ولم تتلكأ في الانسياب عجيبة لطيفة كأنما سينها وصادها زقزقة عصفور بالفعل.
يتبع إن شاء الله تعالى