نقف اليوم أمام رجل عظيم ، وداعية من طراز فريد .. ومجاهد صابر أدي دوره علي الوجه الأكمل .
اسمه مصعب ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي ..
ويكني أبا محمد .
أسلم قديما ، وكان يتردد علي رسول الله صلي الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وكتم اسلامه .. فلما علم قومه بإسلامه حبسوه .. وكان من أنعم الناس عيشا قبل اسلامه ، لكنه ترك ذلك كله لله ، فزهد وتقشف ، ولم يزل في حبسه حتي خرج مهاجرا الي أرض الحبشة .. فهاجر الهجرتين ..
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : نظر النبي صلي الله عليه وسلم إلي مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب كبش قد تنطق به ، فقال النبي صلي الله عليه وسلم : انظروا إلي هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه ، لقد رأيته بين أبوين يغدوانه بأطيب الطعام والشراب ، فدعاه حب الله ورسوله إلي ما ترون .
ثم اختاره رسول الله صلي الله عليه وسلم ليكون سفيره إلي أهل يثرب ، يدعوهم إلي دين الله ويقرأ عليهم ما نزل من القرآن ، فأدي دوره علي الوجه الأكمل .. عن ابن شهاب قال : لما بايع أهل العقبة رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ورجعوا إلي قومهم ، فدعوهم إلي الإسلام سرا ، وتلوا عليهم القرآن .. وبعثوا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم : معاذ بن عفراء ورافع بن مالك ، أن ابعث إلينا رجلا من قبلك فليدع الناس بكتاب الله ، فإنه قمن أن يتبع . فبعث إليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم مصعب بن عمير ، فلم يزل يدعو آمنا ويهدي الله تعالي علي يده ، حتي قل دار من دور الأنصار إلا وقد أسلم أشرافهم . فأسلم عمرو بن الجموح ، وكسرت أصنامهم .. وكان المسلمون أعز أهل المدينة ، فرجع مصعب إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وكان يدعي المقرئ .
وعنه أيضا قال : وكان أول من جمع الجمعة بالمدينة بالمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلي الله عليه وسلم .
وعن البراء ، قال : أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير .
وكما أثبتت التجارب : أن مصعب بن عمير كان داعية فذا وعالما له قدره ومكانته .. أثبتت المحن أنه كان مجاهدا صلبا مخلصا ، ومقاتلا ليس له نظير .. فقد اختاره رسول الله صلي الله عليه وسلم لمهمة جديدة ، لا يتحملها إلا أقوي الرجال .. فها هي الأيام تدور دورتها ، لنقف للحظات أمام هذا الرجل الأسطورة ، هذه الكتلة الإيمانية العجيبة : مصعب .. وقد كلفه رسول الله صلي الله عليه وسلم بحمل لوائه في يوم أحد .. ذلك الدرس القاسي الذي لا يجب أن يغيب عنا ، والذي يثبت أن الحق قد يهزم بتفريطنا .. وتضيعنا .. وتخاذلنا .. فتعالوا بنا لنري مصعبا .. !
عن محمد بن شرحبيل قال : حمل مصعب اللواء يوم أحد ، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب ، فأقبل ابن قميئة فضرب يده اليمني فقطعها ومصعب يقول : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } . وأخذ اللواء بيده اليسري وحنا عليه فقطعها ، فحنا علي اللواء وضمه بعضديه إلي صدره وهو يقول : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } . ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه .
ولم يرد الله تبارك وتعالي للواء رسوله الأمين صلي الله عليه وسلم أن يسقط أرضا ، ولم يرد أن يخذل مصعبا بعد استشهاده ، فيما أنفق فيه نفسه ، وبذل فيه روحه .. يقول ابن سعد : قال عبد الله بن الفضل : قتل مصعب ، وأخذ اللواء ملك في صورته ، فجعل النبي صلي الله عليه وسلم يقول له في آخر النهار : تقدم يا مصعب ، فالتفت إليه الملك وقال : لست بمصعب .. فعرف النبي صلي الله عليه وسلم أنه ملك أيد به .
وعن عبيد بن عمير قال : لما فرغ رسول الله صلي الله عليه وسلم من أحد مر علي مصعب بن عمير مقتولا علي طريقه فقرأ : { من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه } . الآيه .
وعن خباب قال : هاجرنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم نبتغي وجه الله ، فوجب أجرنا علي الله عز وجل ، فمنا من مضي ولم يأكل من أجره شيئا ، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد ما نكفنه فيه إلا نمرة ، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجليه خرج رأسه . فأمرنا رسول الله صلي الله عليه وسلم أن نغطي بها رأسه ونجعل علي رجليه إذخرا . ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها . " أخرجاه في الصحيحين " .
وكان رضي الله عنه رقيق البشرة ، ليس بالطويل ولا بالقصير .. استشهد وسنه يربو علي أربعين سنة أويزيد قليلا .