بركاتك يا شيخ رجب !
بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
.............................................
كان مهرجاناً شاملاً ، انتقل من تلفزة النظام البوليسي الفاشي ، إلى قنوات رجال القروض ، إلى صحف لاظوغلى وطشة الملوخية ولحم البعرور وتبولة الشام .. كان المهرجان بسبب موافقة رئيس الدولة على علاج الشيخ " رجب هلال حميدة عضو مجلس الشعب ( المعارض !) على نفقة الحكومة لمدة ستة شهور في عاصمة أجنبية .. أسهبت أجهزة الدعاية الحكومية وشبه الحكومية في الحديث عن كرم الدولة وسخائها مع مواطنيها الذين لا تفرق بينهم على أساس الموالاة والمعارضة ، فمع أن الشيخ رجب ( معارض !) وصوته عال ضد الحكومة، وضد الفساد، وضد محاربتها للأحرار، فقد اتصل به سيادة الرئيس، بعد أن نقل إليه سيادة اللواء رئيس الديوان الجمهورية خبر الموافقة على العلاج .
قالت أجهزة الدعاية إن الشيخ رجب فوجئ بالرئيس يتصل به، ويتحدث معه حديثاً أبوياً ويطمئن عليه وعلى أسرته ويتمنى له الشفاء، ويُعبّر عن تضامن الدولة معه حتى يرجع بالسلامة عائداً في إهاب الصحة والعافية وطول العمر.
الشيخ رجب عبّر هو الآخر عن شكره وامتنانه واعتزازه بأبوة السيد الرئيس، وقال ذلك في الاتصالات الهاتفية التلفزيونية والصحفية التي انهالت عليه عقب إذاعة خبر علاجه على نفقة الدولة، وقال الشيخ رجب إنه كتب طلبا – مجرد طلب على ورقة بيضاء – وأرسله إلى السيد الرئيس، فجاءت الموافقة بأسرع مما يتوقع، وحققت حلمه في العلاج خارج البلاد.
فرحت – والله – لموقف الدولة ، وموافقتها على علاج مواطن مصرى ، قبل أن يكون عضواً أو نائبا بمجلس الشعب ، مؤيداً أو معارضاً ، حقيقيا أو مستأنسا ، فهذا لا يعنينى ، بقدر ما يعنينى أن من جرّب الألم وعاش محنة المرض ، يتمنى العافية لكل الناس ، ولو كانوا من خصومه وأعدائه ، فلا شىء يقهر الإنسان إلا الدّاء والدواء . كلاهما مرّ وقاس ، وكلاهما يُعيد الإنسان إلى ربّه ليستشعر قدرته وعظمته ورحمته ، حيث لا يُساوى المريض وهو سليم جناح بعوضة ، ولا يزن مثقال ذرة عند ربّه حتى وهو سليم معافى ، ولكنه كرّمه وأعطاه العقل وأفاض عليه نعمة الدين ليتعرف على خالقه ، فيسمع له ويُطيع ، ويبتعد عن الطغيان والجبروت وقهر أخيه الإنسان .
ويبدو أن بركات الشيخ رجب كانت حاضرة ، حيث غابت عن الدكتور عبدالوهاب المسيرى ، مثقف الأمة ، الذى أبت نفسه أن تذلّ لأحد غير لله ، وتعفف عن قبول التبرعات من الشعب لعلاجه ، ورضى بقدره مستسلماً لإرادة الله . فى حين صمتت السلطة البوليسية الفاشية عن نداءات من يملكون الأقلام والأصوات لمعالجته على حساب الشعب ومن ميزانيته ، لأنه فى أبسط الأحوال مواطن مصرى خدم بلاده خدمة جليلة تفوق ما يقدمه أعضاء مجلس الشعب أجمعين ، مع احترامى لهم جميعاً ، فالذى أنجزه لا يقدرون جميعاً على إنجاز بعضه ، وفى الوقت ذاته كان ينفق من جيبه وميراثه على موسوعته – كما أشرت فى المقال السابق – ثم إنه كان أكثر تطبيقا عمليا لما تعلمه ولما يؤمن به ، حين نزل إلى الشارع ليتظاهر ضد الطغيان والفرعنة وإهدار كرامة الإنسان ، مع أن من فى مثل عمره – وقد قارب السبعين – يجب أن يخلد إلى الراحة والهدوء ، ولكنه أبى أن يقعد مع القاعدين ، أو يكتفى بكلام يذهب مع الريح ، وراح يتقدم الشباب والرجال والنساء الذين واجهوا الخوذات الغبية والنبابيت البلهاء والبيادة العمياء !
المسيرى معارض للدولة ، ولكن معارضته – كما يرى النظام البوليسى – تخرجه من سياق المعارضة إلى نوع آخر ، لا أعرف كيف أسميه ، بدليل أنها فرّقت بينه وبين المؤيدين ، ورفضت أن تعالجه على نفقتها ، وتركته أو تركت أمره ، ليتولاه أمير سعودى ، أو تاجر مصرى يعرف قيمة الرجل ، فرقّ لحاله ، وتبرع من ممتلكاته أو ثروته ، ليقوم بما كان ينبغى أن تقوم به الدولة تجاه أحد مواطنيها اسمه عبدالوهاب المسيرى !
كان الرجل منتسباً إلى إحدى الجامعات المصرية ، وأستاذا بها ، ولا أدرى أظل مرتبطاً بها ، أم انفصل عنها ، وإن كانت السيدة حرمه مازالت – فيما أعلم – أستاذة بإحدى الكليات الجامعية ، ويُفترض أن الجامعة التى تنتسب إليها أو ينتسب هو إليها ، أن تعالجه وتتولى شئونه الصحية ، ولكن أمر علاج أساتذة الجامعة ، يمثل جرحاً غائراً فى أعماق هيئة التدريس عموماً ، باستثناء من التحقوا ببلاط النظام ، وعاشوا على أعتابه ، وعيّنوا أنفسهم فى وظيفة " مسوّغاتى " أو " مشعللاتى " على رأى " سعاد حسنى " حين عيّنت " فريد شوقى " فى وظيفة " مشعللاتى " !
أستاذ الجامعة البعيد عن النظام البوليسى الفاشى ، أمامه طريقان للعلاج لا ثالث لهما ، أولهما ما يُسمى بالتأمين الصحى ، نظير الخصم الإجبارى الذى يُستقطع من مرتبه الشهرى المحدود ، وعليه إذا أراد الكشف والتشخيص والعلاج ، أن يأخذ بطاقته ، ويذهب بعد طلوع الشمس – لا أبالغ – ليحجز مكانه وسط طوابير الموظفين والعمال والطلاب الذين حضروا للعلاج ، وحتى يأتى موعد الكشف عليه يكون النهار قد بدأ يميل إلى الشيخوخة والشمس تستعد للغروب ، ناهيك عن " بهدلة " الزحام و " بعثرة " الكرامة !
أما الطريق الآخر ، فهو اختراع أخذت به بعض الجامعات – أو كلها لا أعرف – وهو خصم مبلغ إضافى من المرتب ، نظير ما يُسمى الرعاية الصحية ، حيث تتعاقد الجامعة مع بعض المستشفيات الخاصة على علاج الأساتذة وحدهم دون أسرهم . فيأخذ الأستاذ خطابا من كليته ويذهب إلى المستشفى التى تُحوّله إلى طبيب متعاقد معها حيث يجلس فى انتظار دوره .. ثم يقرر له العلاج المطلوب ، وقد يسبق ذلك تحاليل وأشعة ونحوها ، فيضطر للذهاب – وهو غالباً شيخ مهدّم تجاوز الستين – إلى مستشفى الجامعة التعليمى لينتظر دوره أو أدواره وسط الزحام القادم من التأمين الصحى والأقسام الاقتصادية ( يعنى التى تعالج بالفلوس ) ثم يعود ليكتب طلباً بالعلاج إلى رئيس الجامعة الذى يُحوّله إلى لجنة طبية التى تقرر الاستحقاق من عدمه ، وبعدئذ يدخل متاهة الموافقات والمراجعات والبحث عن الأصناف الموجودة فى صيدلية الجامعة ، أو شراء البديل ، وتحرير طلب بقيمتها مع الفواتير التى تصرف أو لا تصرف بعد شهور ومشاوير تهدّ الحيل ، إذا كان هذا " الحيل " موجوداً أصلاً !
أما العلاج فى الخارج ، فأيامه "بيضاء" . " أبيض " من قرن الخروب ! وقد رأيتم ما جرى للمسيرى !
ولكن الأساتذة المحظوظين من أهل البلاط أو الحرملك ، فالطريق أمامهم مفتوح ، والتسهيلات بلا حدود ، وباقات الورد ، ولو فى باريس – بلا عدد !
لا تحدثنى عن بقية الناس من الذين أنهكتهم الأغذية المسرطنة والمياه الملوثة ، والغلاء الفاحش ، والمجارى الطافحة ، والمخدرات المنتشرة ، والمساكن الزدحمة ، والأيام الخانقة .. فهؤلاء الذين يمثلون الأكثرية الساحقة التى لا تعرف السلطة البوليسية الفاشية عنها شيئاً ، ولا تُريد ، وبالتالى ، فإن حلمهم بالعلاج المجانى أو شبه المجانى ، قد تم وأده تماماً ، فأقل تذكرة دواء لا تقل قيمتها اليوم عن مائة أو مائتى جنيه . مرتب شهر كامل للشخص المحظوظ الذي يجد عملا ؛ وربما أكثر ..ومع ذلك فإن كتاب لاظوغلى لا يذكرونهم بكلمة ، وإن كان أحدهم سخر بوقاحة من المسيرى وتمنى له الشفاء !
.................................
*المصريون ـ في 5/6/2007م.