دمشق - ابراهيم حاج عبدي
أربعون ألف عنوان تعرضها أكثر من 400 دار نشر وفدت من عشرين دولة، تشكل قوام معرض دمشق للكتاب في دورته الخامسة والعشرين. لكن الملاحظة الرئيسة تتمثل في قلة الإقبال، ولعل مندوب «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» كان محقاً حين قال بمرارة وسخرية، وهو يشير إلى كتبه المعروضة: «كل هذه العناوين لا تجذب أحداً». هذه الجملة العابرة تكاد تختزل حال الكتاب في العالم العربي حيث الأمية طاغية، والتشجيع الرسمي لصناعة الكتاب وتسويقه غائب وسط هيمنة ثقافة الصورة المتمثلة في الانترنت والفضائيات والفيديو والكتاب الالكتروني «السطحي»... ولعل هذا ما انتبه إليه الناشرون الذين راحوا يبتكرون طرقاً جديدة لجذب الجمهور كما فعلت دار «الآداب» التي عرضت الرواية الأخيرة لأحلام مستغانمي «نسيان. كوم» وأرفقته بقرص غنائي مدمج لجاهدة وهبي، وكتبت على الغلاف عبارة غريبة تقول «يحظر بيعه للرجال». وتستكتب هذه الدار، سنوياً، الروائي حنا مينه، فكانت ثمرة هذه السنة رواية «امرأة تجهل أنها امرأة». وفضلاً عن الملصقات والعبارات الدعائية كأن تكتب دار «الفكر»: «عقيقة هذا اليوم هو كتاب كذا...»، فإن مشهد حفلات التوقيع صار مألوفاً في أروقة المعرض بغية جذب القراء، بل هناك من يوزع الكاتو والعصائر...
عوائق الكتاب التي أضحت معروفة، تضاف إلى عوائق خاصة بالمعرض الدمشقي للكتاب، فما إن تسأل عن سبب الإقبال الخفيف، حتى يرد الناشر بأن نقل نشاطات المعرض من فناء مكتبة الأسد وسط دمشق إلى ارض المعارض الجديدة على طريق المطار خلق مشكلة لدى الزائر الذي راح يفكر في كيفية الوصول إلى هذا المكان البعيد نسبياً عن المدينة. ومع أن إقامة المعرض في هذا المكان قد أرضت بعض الناشرين الذين رأوا ان معرض الكتاب يستطيع بذلك أن ينافس المعارض الدولية المعروفة في التنظيم، أو توزع الأجنحة والصالات على مساحة واسعة تتيح الحركة السهلة، ورؤية العناوين جيداً، غير أن هذا الانتقال حيّر الكثير من الزوار الذين وجدوا صعوبة في الوصول إلى المكان الجديد، وثمة من رأى ان توقيت افتتاح المعرض، الذي تزامن مع الاستعداد لشهر رمضان، أقصى شريحة واسعة عن المعرض، «ذلك أن هذه الشريحة، التي تعتبر من ذوي الدخل المحدود، آثرت ادّخار المال القليل الذي تحصل عليه شهرياً، لتوفير مستلزمات أو احتياجات شهر رمضان، بدلاً من اقتناء الكتب»، كما أشار رضا عوض (دار رؤية المصرية) الذي طالب بالاهتمام باللوحات الإرشادية، وتذليل جميع العقبات التي تحول دون وصول القارئ إلى الكتاب».
ونفى عوض أن تكون الرقابة منعت له كتاباً، وذلك لأن منهجية الدار، التي بدأت من سور الأزبكية المشهور في القاهرة، واضحة. ولئن استطاع السور أن يؤدي دوراً ثقافياً منذ عصر النهضة، فإن دار «رؤية» «تحاول التأسيس لنهضة ثانية عبر خلق حوار فكري بين المشرق والمغرب». وأكد عوض ان داره «تراهن على الأجيال الشابة التي يتم استغلالها، معرفياً، على يد المفكرين المكرسين». ويرى نوفل صالح (دار الجمل) أن «مواعيد البيع الممتدة من الساعة الواحدة ظهراً إلى العاشرة ليلاً لم تكن موفقة، إذ أرهقت البائعين الذين ينتظرون من الواحدة إلى السادسة بلا بيع، وحين يقبل الزوار في المساء، وتبلغ الحركة ذروتها عند العاشرة، نسمع نداءات تطالب الناشرين بالتوقف عن البيع، وتدعو الزوار إلى المغادرة لأن الوقت انتهى». وهذا ما أكده مهيار الكردي (المركز الثقافي العربي) الذي طالب بضرورة «مشاورة الناشرين في هذه التفاصيل الجزئية، لا التفرد في اتخاذ القرار».
وهناك من أشار إلى غلاء سعر الأجنحة التي «تصل قيمتها إلى نحو ألف دولار للجناح الواحد»، كما يقول سراج عثمان (دار الزمان السورية) ووصف تعامل مدير المعرض علي العائدي مع الناشرين بـ «التجاري»، و «القائم على أساس جني أكبر قدر ممكن من الأرباح في غياب متعمد للمبدأ الذي يميز الكتاب، بصفته مادة معرفية، عن السلع التجارية الأخرى». ويتفق مع هذا الرأي أيمن الغزالي (دار نينوى السورية) الذي رأى ان «مكتبة الأسد، التي تنظم هذا المعرض، ليست شريكاً ايجابياً في عملية تسويق الكتاب، لأنها تعامل الناشر السوري معاملة التاجر، علماً بأن الناشر السوري يقدم للمكتبة خمس نسخ من كل عنوان جديد كإيداع مجاني»، وأضاف الغزالي: ان وزارتي الإعلام والثقافة لا تساهمان، مطلقاً، في عملية صناعة الكتاب، ناهيك عن دعم الكاتب، ووزارة الاقتصاد، المعنية بتخفيض الرسوم الجمركية المترتبة على المواد المتعلقة بصناعة الكتاب، لا تزال تعامل هذه المواد معاملة السلع التجارية الأخرى». ولم يعفِ الغزالي القارئ من المسؤولية، إذ نفى أن يكون للمستوى المادي دور في عزوف القارئ عن الكتاب. «فثمة نحو مليوني شاب سوري، مثلاً، يصرفون مبالغ طائلة على مكالمات الهواتف الخليوية غير الضرورية، وهؤلاء في وسعهم، إن أرادوا، توفير تلك المبالغ لشراء الكتاب».
وانتقد الغزالي الإنتاج الثقافي السوري، فعدد الروايات السورية لا يتجاوز خمس عشرة رواية في السنة، أما الدراسات النقدية والفلسفية والفكرية فهي ضعيفة المستوى، ويبقى الشعر طاغياً، بمعزل عن قيمته وجودته، إذ يصدر نحو مئة ديوان شعري سنوياً». وردا على سؤال، عزا الغزالي سبب رواج الكتاب الإسلامي إلى أن «الإسلام، كعقيدة، هو البديل عن الكثير من الفلسفات والأفكار، فضلا عن أن سعر هذا الكتاب رخيص، وصار إهداؤه في المناسبات تقليداً شائعاً». وأبدى الغزالي رضاه عن تنظيم المعرض، وقلل من خطورة الرقابة، وتساءل: «ما الضرر من منع كتب عدة وسط آلاف العناوين؟». وهو ما أشار إليه جبران أبو جودة (دار الساقي) الذي أقر بمنع رقابة المعرض كتب حازم صاغية، وبعض الكتب الأخرى المتعلقة بالجنس والدين. لكنه في المقابل أشاد بعقلية الرقيب التي سمحت بعرض بعض الروايات الجريئة مثل رواية «العتمة» للكاتبة السعودية سلام عبد العزيز. وخالف أبو جودة غالبية الناشرين الذين شكوا من الانتقال، إذ رأى ان «هذا الانتقال تمهيد لأجل تحويل معرض دمشق إلى معرض محترف يضاهي المعارض العالمية». لكنه شكا من طريقة توزيع دور النشر على الصالات، فثمة دور احتلت أمكنة بارزة، ودور أخرى أقصيت بعيداً، خصوصاً ان زواراً كثراً يمكن اعتبارهم عشوائيين، لا يقصدون دوراً معينة، فيدخلون أول صالة تصادفهم، وبالتالي فإن دوراً وضعت في أمكنة بعيدة عن المدخل الرئيس خسرت هذا الزائر العشوائي». ونفى أبو جودة أن تكون لدار «الساقي» سياسة تهدف إلى استقطاب الكتابات السعودية، قائلاً انها «تسعى إلى نشر الكتاب النقدي، وتطرح الأفكار التي من شأنها إثارة الجدال والنقاش بعيداً من أي اعتبار آخر».
هيثم زياد (دار المدى) يوافق زملاءه في انتقاد المعايير التي تعتمد لدى توزيع الدور، متسائلاً: «هل يعقل أن توضع دور نشر معينة، حتى وإن كانت مهمة، في الصدارة دائماً، بينما تهمل دور نشر أخرى؟»، وهو بذلك يلمح إلى دار «الفكر»، مثلا، التي تحتل عدداً من الأجنحة، وتحتل أبرز مكان في المعرض. وقد برر أحد الناشرين، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، هذه الحظوة التي تتمتع بها دار «الفكر» بـ «الاتفاق الفكري الذي يجمع بين صاحب الدار محمد عدنان سالم ومدير المعرض». وكذلك تحظى دار «الكتاب العربي: بتقدير خاص، إذ تحصل على مكان لائق على رغم بعض العناوين العادية التي تعرضها من قبيل «فضائح فيس بوك»، و «مقالب آخر روشنة»، و «نكت وفرفشة تطول العمر»، ورسائل حب بالإنكليزية sms ، و «كيف تكسبين حماتك»... والمفارقة أن هذه الكتب تجاور كتباً أخرى للدار ذاتها، تتحدث عن محمود أحمدي نجاد، وحسن نصر الله، وتشي غيفارا. والمفارقة الثانية، هنا، أن الرقابة تسمح بعرض مثل هذه الكتب «السخيفة»، بينما تمنع كتباً ذات قيمة معرفية مثل كتاب «الجسد المخلوع: من هز البطن إلى هز البدن» (دار الريس) للباحث ابراهيم محمود، وكذلك رواية روزا ياسين حسن «حرّاس الهواء» (الريس)، وكتباً مماثلة أخرى لا يجرؤ الناشر على الإفصاح عنها لئلا يبعد عن دورات المعرض المقبلة.
وتكتمل فصول التقصير لدى الحديث عن الأنشطة الثقافية «الباهتة»؛ المرافقة لأيام المعرض، إذ تجاهلت الجهة المنظمة مواضيع ثقافية مهمة مثل حلول الذكرى السنوية الأولى لرحيل الشاعر محمود درويش التي تزامنت مع انطلاق المعرض، وتجاهلت طفرة واضحة في شأن الكتابة الروائية السورية الشابة التي غامرت دور نشر معروفة في تبنيها مثل «الريس» و «الآداب»، وراحت تقترح عناوين مكررة، ومملة.
ودعمت هذه العناوين بأمسيات شعرية لشعراء غير معروفين، ولم تنسَ، بالطبع، أن ترفع اسم القدس، هنا وهناك، للتذكير بأنها عاصمة للثقافة العربية هذه السنة.
المصدر