كان شارد الذهن بين طبيعة ساحرة ،يعتقد من يراه أنه أحمق عابث لايرى شيئا مما حوله ،تجده يتجول بين المروج والجنان ،سمعت جماعة من جالسي الحجارة على جوانب الطرقات يقولون :فقد هذا المسكين عقله فرفع عنه القلم ،فلا حول ولا قوة إلا بالله .....بعد غياب طويل دام لسنوات،ذات يوم وقفت سيارة ،انتظر الجميع من سينزل منها ،ظهر حذاء أسود لامع يلمس الارض أولا ،تبعته قامة منتصبة كأننا أمام بطل من أبطال الشاشة الكبيرة ،تحلق الكل حول السيارة ينظرون إليه ،رفع يده يحيي الرعاة والفلاحين والشيوخ والنساء .....،كان انحناؤه أمام الحاضرين وتقبيله الأرض التي نشأ وترعرع بين ربوعها يبين طيبوبة قلبه وصفاء نبعه ،تقدمت إليه عجوز ،مخاطبة إياه :هل أنت ابن السيد عياش ؟ أجابها قائلا :نعم سيدتي، ألا تذكرين الأيام التي كنت أجلس فيها إلى جانبك وأنت تحملين تلك القصبة ،وذلك المغزل الذي كنت أحاول أن أضبط سرعة دورانه ؟رد اخر قائلا :أنت إذن التائه وسط الطبيعة لا يكلم أحدا، يحسبك الناس أحمقا وليس للحمق أنذاك مستقر سوى عقولنا القاصرة .......كان مجيئه هذا رغبة في الوقوف على الطبيعة التي تطاير ريشه الأول بين أحضانها ،فكان كالطائر في بداية تحليقه ، يتحسس الأرض وما تحمل تربتها من صفاء وكنوز وطبيعة ساحرة ،كان في زيارته المتأخرة هذه يحمل كل ريشة من ريشه ، يتحسسها ويكلمها فتجيبه بصوت خافت عما ألم وأحاط بها من عبث، وتحطيم، وسطو، وجور، واحتلال ،كان يسألها بصدق وتجيبه بصدق، فتجلت له حقائق غائبة لم يعهد مثلها من قبل ،قال لها أظن أن الطبيعة ما تغيرت إلا لأطماع وإلا ما كان مصير تاريخ وعادات وتقاليد وطبيعة زاهية ترحل بهذه السهولة على حين غفلة من الجميع والكل يتفرج وضحكه يعلو ولا حركة..... جاء ليتفقد ريشه المتطاير بين أحضان الطبيعة التي احتضنته عصفورا صغيرا ...حضر لعله يجد بقايا من ذكرياته أو علامات أو أطلال منازل تشهد على أحد من عائلته أو جيرانه أو على حضوره الغابر بين تلك الجنان والسواقي والدروب والأزقة ،كان يظن الحياة باقية على أصولها هنا وهناك ،لكن الصدمة كانت قوية بعد التغريبة المفاجئة ،كان الهدوء وكانت الطمأنينة ،كان يظل صامتا، كأن الطبيعة كانت تطلب منه ذلك ،أو كان كذلك لأن الجدران كانت تسمع أنذاك كل صغيرة وكبيرة ، فتضطره للصمت وكأن الكلام محرم ،كان يأبى أن يعيش بين جدران سميكة لمدة طويلة جدا ،لكن ذلك ما حدث ،فكانت الجدران، وكانت القضبان الحديدية كذلك ،حتى ما إذا رأى نور الشمس وألقى، بنظره بعيدا رأى الأسلاك الشائكة التي تحجب نور العالم عنه، فتجعله يرقد في ركن منزو يحمل بعضا من دواوين درويش ودمعة منحبسة في جفنه الغائركما انحبس الماء عن قافلة وسط الصحراء .انتفض ليتخلص من بقايا الريش المتساقط ثانية ،ليعاود الكرة من جديد لعله ينجح في المهمة الثانية التي أعد لها منهجا جديدا، سخر لها كل العدة وكل ما يتطلبه اليوم الجديد من استعداد وتضحية . فهل يحمل المستقبل يوما جديدا مادمنا نسعى إليه بخيول ونبال وسيوف فقط ؟