الحرباء الذكية
بدأ سواد الليل يغطي أرجاء السفح الأخضر ، فغادرت الأسرة المكان قبل أن تتوه في غياهب الظلمة الحالكة ، وخلَّفتْ وراءها جذوة من نار ، كانت قد أعدَّتْها للشواء ، ونسيتْ أنْ تطأها بأقدامها لتنطفئ ، أو تريق عليها فضلة ماء لتستأصل شأفتها .
فخرجت الحرباء من جحرها وهي تتلمظ ، وأخذت تلوك لسانها مرة وترسله أخرى ، واقتربت من الجذوة وقد سال لعابها ، علها تجد عندها فتاتاً من شواء تسدُّ به رمقها ، وتُسكتُ أنين جوعها ، فحرَّكَ الهواءُ لسانَ النار ، فأصابها من شواظه ، فخشيتْ على نفسها الاحتراق ، فوقفتْ بعيدةً ، وقادها ذكاؤها الحاذق إلى أن تقف مكانها ، وتتقمَّص شخصيَّة الخطيب الفذِّ ، فتمتدح الشعلة ، وتُسهِبَ في النسيب وتطنب ، وتخلع عليها من صفات العظماء ، فلربما أشفقتْ عليها ورقَّتْ ، ورمتْ لها بمضغة طعام تقتاتُ بها حتى الصباح ، فتنحنحتْ وقالت :
أيها القبس المضيء ، ما أعظم نورك ، وما أروع طلعتك !
أيها الكوكبُ المنير ، ما أبهى وجهك ، وما أذكى وجنتيك !
أيها القمر المشع ، ما أدفأ بريقك ، وما ألطف محياك !
أيتها الشمس المشرقة ، ما أشدَّ لهيبك ، وما أكبر هيبتك !
أنتِ أيتها الجذوة ، نارٌ ونورٌ ، جحيمٌ و نعيمٌ ، ترهيبٌ وترغيبٌ ، نذيرٌ و بشيرٌ ، لو رأتكِ الشمس في سمائها لأفلتْ ، ولو نظرتْ إليك النجوم لغارتْ ، ولو لمحك البدر لاختفى ، ..
وكلما لعب الهواء ببقايا الجذوة فحرَّكها ، ظنت الحرباء أن سيدتها قد طربتْ من حديثها ، فتزداد تملقاً ونفاقاً ، وظلتْ على هذه الحالة حتى أصبحتْ ، ولم تشعر إلا وقطيع من البهائم يمرُّ في ذاك المكان ، فيدوس حافر أحدها على بقايا الرماد فيجعله أثراً بعد عين ..