سمعت اسمه أول مرة في الجامعة من أحد أساتذة الأدب الحديث ، كان يتكلم على وجود أدباء كبار مظلومين ، جعلهم الإعلام مغمورين على أنهم لا يقلون عن آخرين باتت أسماؤهم على كل لسان .
قال : هل منكم من يعرف الشاعر محمد الحريري ‘ فأجبناه كلنا بالصمت .
أكمل قائلاًً : شاعر لا يقل عن الجواهري .
تخيلته عندها شاعراً أصيلاً يكتب على الطراز القديم ، كغيره من الشعراء الذين انتهجوا هذا النهج فعوقبوا بالتهميش من الإعلام و مؤسسات الثقافة .
و غاب اسمه عني ردحاً حتى دخلت رابطة الواحة الثقافية ، فوجدت قصائد ذكر كاتبها باسم محمد إبراهيم الحريري ، دخلت مسرعاً لأراها فوجدت نفسي أمام شيء آخر غير ما توقعت أو ظننت .
لم أجد عراقة الجواهري و أصالته و ألفاظه الرصينة الوعرة أحياناً ، بل رأيت نفسي أمام نهر من الإبداع يجري في أدغال مسحورة ، أمام شاعر يقدر على مجاز المحدثين و عمقهم في ثوب الأقدمين و لغتهم .
وجدت نفسي أمام عملاق شعري أذهلني و آلمني أني لم أكن أعرفه ، و أن كل شعره الرائع ذاك لم يشهره بين الناس ، و لم يجعله بينهم واحداً من أمراء شعرنا المعاصر .
أدركت حينها كم هي ظالمة مؤسساتنا الثقافية و الإعلامية التي هي إما ما تزال تطبل و تزمر لشعراء أحدثهم أخنى الزمان على قبره ، و إما منشغلة بشعارير آخرين يسبقون طلاب المرحلة الابتدائية في ركاكتهم و جهلهم بأبسط مبادئ اللغة و الذوق السليم ، ثم هم عندها شعراء العصر و فحوله المفلقون !!!!!!!!!!!!!!!!!!
لم تسعفني جرأتي في مراسلته ‘ لكنني وجدته يعلق على بعض من نصوصي تعليقاً يكشف تواضعه و طيب نفسه أكثر مما يظهر جودة ما أكتب ، فسارعت للرد عليه و عصافير قلبي تغرد فرحة بشهادة الرجل الكبير .
لكنني من بعد فوجئت برسالة خاصة تأتيني من قبله ، يخاطبني فيها باعتذار و ود بالغين ، بل يرسل إلي برقم هاتفه ، فهرولت مسرعاً إلى هاتفي أنظمه عليه ، وأواعده على زيارته في بلدته ، موطن أجدادي الأُول : بصر الحرير .
في الطريق ....كنت أرسم صورته في ذهني .... رجلاً جاد السمت ، حليق اللحية ، قليل الكلام ، ثقيل الخطى ، نادر التبسم ، أكثر كلامه بالفصحى المتقعرة ، لا يخلع بزته الإفرنجية و إن في بيته .
و أخذت أهيّء نفسي لأكون على غاية من التحفظ و الاتزان في حضرته لئلا يصدر عني ما لا يليق أمامه ، و هو – لا بد – صاحب نظرة ثاقبة ، و قدر كبير ، و علم غزير .
حين نزلت من الحافلة رحت أبحث في مكان ميعادنا عن صاحب الصفات التي صنعها عقلي فلم أجده ، إلى أن أخرجني مما أنا فيه صوت ينادي عليَّ باسمي .
التفت لألقاه رجلاً غير من رسمت في ذهني ، طويلاً مبتسماً ، بجلباب أبيض ، و لحية لم تمسها الموسى منذ وقت غير قصير ، يمد كلتا يديه ليحضنني و يقبلني بشوق و محبة بالغين .
وجدته على صورة أخرى ، بسيطاً متواضعاً ودوداً لطيفاً ، لا يعرف رائيه أنه ذلك الشاعر الكبير ما لم يكن يعلم ذلك ، مغموراً بشعره بين أهله الذين لعلهم سبب ظلمه الأول و قد نشأ بينهم و عاش ، دائم الابتسام ، صاحب نكتة و فكاهة ، لطيف المعشر ، لا يبالي بأي نوع من المظاهر و التكلف ، حالته المادية متوسطة بل أقل من ذلك قليلاً ، على أنه أمضى زمناً من عمره يربو على العشرين عاماً في الخليج مدرساً .
و يا لله من ذلك اليوم الذي قضيته بجانب الشاعر الكبير ، فصار لدي عظيماً لا كبيراً فحسب ، فقد تلقيت عليه دروساً في التواضع و المحبة و معايشة الواقع و إن لم يعط المرء حقه ، و عرفت منه أشياء ما أحسبني كنت سأعرفها لولا تلك الزيارة .
فإلى متى .... إلى متى نبقى نغمط أصحاب القامات الرفيعة و الهمم العالية و النفوس الكبيرة حقوقهم ، إلى متى يدفعنا إلى رفع الناس أو إنزالهم دوافع لا علاقة لها بمكاناتهم أو قدراتهم ، إلى متى نبقى نجعل الصغير كبيراً و الكبير صغيراً .... و نعطي البعض ما لا يستحقون و نرفعهم و نرفعهم إلى أن يخروا من علوهم الذي وضعناهم عليه عند أول امتحان ....
إلى متى .... إلى متى .... إلى متى