الجذور اللاهوتية للحداثة – مايكل آلين غيليسبي / ترجمة: فيصل الفرهود
في يوم ضبابي من عام 1326 وقف ثلاثة رجال وسط حشد من العباد في كاتدرائية نوتردام دي دومز في أفيجنون. كانت بنية الرومانسيك في حاجة واضحة للإصلاح، ولكنه ما زال مركز الحياة الروحانية بعد عقد فقط من كونه قرية ريفية. ولكن كيف تغيّر كل هذا! أصبحت القرية هي المركز الجديد للبابوية وكنتيجة أصبحت عرضة لتغيير جذري. كان هناك قصر يجري بناءه وكانت الأموال تأتي من كل حدب وصوب فيما تواجد الفرسان والبيروقراطيين والسفراء والسماسرة في كل مكان. كانت السوق ممتلئة بالبضائع من كل أنحاء أوربا وبلاد الشام. وكان الباحثون والشعراء ومنسوبي الكنيسة القريبون والبعيدون منها يقدمون إليها بشكل متواصل. بدأت القرية الصغيرة بالتحول إلى مدينة ذات أهمية كبيرة. وأولئك الرجال الثلاثة الذين حضروا القداس كانوا مؤشراً على هذا التغيّير. الأول انجليزي والثاني إيطالي والثالث ألماني والثلاثة كانوا يتحدثون اللاتينية بإتقان. كان الأول فرانسيسي بدا مرتبكاً وكان يبدو بوضوح أنه يعاني من بعض الضغط النفسي، بينما الثاني كان شاباً مهووساً بملبسه وأنيقا بتكلف، فيما كان الثالث مسناً دومينكياً بدا غارقا في تأملاته. رحل الثلاثة حال انتهاء القداس وتفرقوا. قليل من معاصريهم من كان يعلم بأن السبل الثلاثة المتفرقة التي سلكها هؤلاء الثلاثة من القداس ومن افيجنون كانت ستغير من مسيرة الإنسانية والعصر الحديث.المترجم فيصل الفرهوديعتقد الكثير هذه الأيام بأن الحداثة فقدت بريقها، ولكن في عام 1326 لم تكن حتى بصيصا في عيني أحد. لم يكن ينتظر قاطني ذلك العالم غداً مشرقاً مضيئاً بل كانوا ينتظرون نهاية العالم. لم يكونوا يستبشرون بقادم الأيام أو يسترجعون الماضي، ولكنهم نظروا فوقهم للجنة وتحتهم إلى جهنم. وأشك قليلاً بأنهم كانوا سيرون العالم الحديث حينها بانبهار. نحن لا نراه كذلك لان الاعتياد ولد فينا الازدراء، ونأخذ الحداثة على انها أمر مفروغ منه ونتملل منها أحياناً، ونعتقد كذلك بأننا نعرف ما هي الحداثة بوضوح. ولكن هل نعي ماهي الحداثة؟ هل نفهم ما يعني أن تكون حداثيا؟ يفترض هذا الكتاب بأننا لا نعي ذلك وآثار الأحداث الأخيرة تبرهن على ذلك بشدة.
ماذا يعني أن تكون حداثياً؟ أن تكون حداثياً في استعمال اللغة اليومية هو أن تكون مواكباً لعصرك ومعاصراً له. يستوعب هذا الاستعمال المنتشر كثيرا من الحقيقة في هذا الموضوع، حتى وإن كان استيعاب المعنى العميق والمهم لهذا التعريف غائبا نوعا ما. في الحقيقة، فإن من سمات الحداثة المسكوت عنها أن نركز على ما هو مقابل لنا وتتغافل عن المغزى العميق من جذورنا. الفهم الشائع للحداثي والحقيقة غير الشائعة له هو في تعريف الفرد من خلال ارتباطه بعصره. في عصور ماضية وأماكن أخرى، كان الناس يعرفون أنفسهم من خلال أرضهم ومسقط رأسهم، من خلال أعراقهم وجماعاتهم، من خلال عاداتهم وآلهتهم، ولكن ليس من خلال ارتباطهم بالزمن بشكل خاص. بالطبع فإن أي وعي للنفس يفترض مفهوما معيناً للزمن، ولكن في كل هذه الحالات ظلت هذه اللحظة الوقتية موجودة ضمنياً. حدد القدماء موقعهم زمانياً من خلال ارتباطهم بأحداث جذرية، مثل خلق العالم، تحرر من عبودية، انتصار تاريخي، أو أول أولمبياد ولكن ارتباطك مؤقتا بأي من هذه الأشكال هو أمر مختلف عن تعريف نفسك من خلال ارتباط زمني. أن تكون حداثياً هو أن تكون “جديداً”، أن تكون حدثاً غير مسبوق في الزمن، أن تكون بداية جديدة، مختلفاً عن كل ما سبقك، أسلوباً جديد من الوجود في العالم، لا أن تكون شكلاً من الوجود بل شكلا من التحقق. وعي الفرد بحداثته يعني وعيه بأنه مبدع ذاته، كشخص حر مبتكر بمعنى جذري، لا كمجرد شخص مضبوط بالعادات ومحكوم بالقدر والعناية الإلهية. أن تكون حداثياً هو أن تصبح محرراً لنفسك صانعاً لها وبالتالي لن تكون مجرد جزءاً من عادة أو تاريخ ولكن أن تصنع التاريخ أنت. وعلى إثر ذلك فأن تكون حداثياً لا يعني بأن تعرف ارتباطك بالزمن فقط ولكن أن تفهم الزمن كنتاج لحرية الانسان وتفاعلها مع العالم الطبيعي. أن تكون حداثياً كنتيجة هو أمر هائل وفريد من نوعه. ولكن ما الذي يمكن أن يبرر هذا الرأي المبهر المتغطرس؟غلاف كتاب “الجذور اللاهوتية للحداثة”لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بسهولة، ولكن فحصنا لأصول مفهوم الحداثة قد يساعدنا في رؤية ما جعلنا نعتقد هذا الاعتقاد اللافت للنظر ومن أي جهة يجب أن يبرر. تعود جذور الكلمة “حداثي” إلى الكلمة اللاتينية “modus” والتي تعني “مقياس”، كمقياس للزمان، ومع التفريع اللاتيني المتأخر ” modernus“، تفرعت عنه كل الأشكال الأخيرة. استعمل كاسيودوروس هذا المصطلح في القرن السادس ليفرق بين زمنه زمن الروم المتقدم وبين الكتاب الكنسيين، فيما استعمل مصطلح ” modernitas ” في القرن الثاني عشر للتفريق بين الأزمنة المعاصرة من الماضية. بدأ المصطلح بعدها بفترة زمنية قصيرة بالظهور في اللهجات المحلية. استعمل دانتي المرادف الإيطالي لها ” moderno ” في عام 1300 تقريبا، وفي عام 1361 استعمل نيكولاس اورسيم المرادف الفرنسي لها “moderne.”. على أي حال، لم يستعمل المصطلح للتفريق بين “القديم” و “الحديث” حتى عام 1460 ولم يستعمل في المعنى المعاصر للتفريق بين فترة تاريخية معيّنة حتى القرن السادس عشر. ظهر المصطلح الإنجليزي للحداثة والذي يشير إلى للأزمنة الحديثة أول ما ظهر عام 1585، أما المصطلح “حداثة” فلم تستعمل حتى عام 1627. كان مفهوم الحداثة كعصر تاريخي يفهم من ذلك الحين وحتى الآن كمقابل للعصور القديمة. على الرغم من أن التفريق بين القديم والحديث كان حاضرا في العصور القديمة، إلا أنه لم يستعمل بالمعنى الحديث، وذلك يعود غالباً إلى توظيف المصطلحات في سياق رؤية دورية للزمن كانت حاضرة في الرؤى الميثولوجية القديمة للطبيعة وأصل الكون والتي تم تبنيها من الفلاسفة والمؤرخين القدماء كذلك. كان مفهوم “الجديد” حينها ملازما للانحطاط والسقوط، كما في مسرحية السحب لأريستوفانيس، حينما كانت العادات الحديثة للأثينيين مضادة للتقاليد السامية للجيل الذي قاتل في الماراثون.
عملت المسيحية خلال العصور الوسطى من خلال هذا الإطار المرجعي، وقامت بإعادة تشكيله حتى يتوافق مع مفهومها اللاهوتي للعالم ككاشف عن إرادة الإله. من خلال وجهة النظر هذه، فللعالم بداية معينة ومسار تنامٍ ونهاية قدرت وأفصح عنها مجازاً في النصوص المقدسة. من خلال تأطير هذه الرؤية قام المفكرون المسيحيون بالاستناد بكامل ثقلهم على النبوءة في دانيال والتي وصفت العالم كتسلسل من أربع امبراطوريات وهي: البابلية، الفارسية، المقدونية والرومانية. يظهر المسيح في الأخرويات في بدايات نشوء آخر الامبراطوريات وسيعود لينشيء عصره الذهبي عندما تنهار. لم يعد الزمن بالنسبة للمسيحيين دائرة بتسلسل لانهائي بل بدأ منذ فقدان الجنة وسينتهي عند استعادتها. بالتالي لم يتصور المسيحي في العصور الوسطى نفسه كمنافس على القوة والشهرة في العالم بل كمرتحل غريب تقرر أفعاله على الأرض ما إذا كان سينال الخلاص أم الثبور. وكنتيجة أصبحت التقوى أكثر أهمية من الحكمة والشجاعة.
برز مفهوم “الحديث” في سياق إصلاحات الكنيسة في القرن الثاني عشر، على الرغم من أنها حملت دلالة مختلفة عما تحمله هذه الأيام. من خلال اعتقاد هؤلاء الحداثيين أو المجددين بأنهم على مشارف عصر جديد، رأى هؤلاء أنفسهم كما قال بيرنارد تشارتريس (1080-1167) كأقزام على اكتاف عمالقة، أقل شأنا من سابقيهم ولكنهم أقدر على أن يستبشروا المستقبل. اختصر هذا الفهم من خلال أعمال يواكيم الفيوري (1130/35-1201/02) والذي بشّر بدنو آخر الزمان والذي سيتحول فيه العالم إلى دير كبيرة. وهذا ما جعل معنى أن تكون حديثاً بالنسبة لهم يعني بأن تعاصر آخر الزمان على أعتاب الخلود. على الرغم من أن هذه الرؤية اليواكمية (من يواكيم) والتي تبشر بقدوم عصر روحي تبدو وكأنها تتنبأ برؤية عصر النهضة وبقدوم عصر ذهبي جديد أو تصور الحداثة عن عصر العقلانية، إلا أن مفهوم العصريّ في العصور المظلمة كان لا يزال مغروساً في المفهوم الأخروي والمجازي للزمان. بالتالي ظهرت فجوة ضخمة تفصل بين هذه الرؤية وما عقبها من اصطلاحات.
فكرة الحداثة كما نفهمها متصلة بشدة بفكرة العصور القديمة الأصيلة. يأتي التفريق بين العتيق والحديث من التفريق المستحدث في القرن الثاني عشر بين “a via antiqua “ و “a via moderna“. كان هذا التفريق في أصله فلسفياً ولم يكن تاريخياً بين موقفين مختلفين بشأن التعميمات وهي طريقتان مختلفان في قراءة أرسطو. كانت “العصور القديمة” هي المسلك الواقعي القديم والذي رأى التعميمات كحقيقة مطلقة، فيما كان “الحديث” هو المسلك الاسماني الحديث والذي رأى بأن الأشياء الفردية متحققة والتعميمات مجرد أسماء. أثمر هذا التفريق المنطقي في رسم تصور لفهم جديد للزمن والوجود.
على أن تكوين مصطلح الحداثة حدث من خلال إتصاله بمصطلح العصور القديمة، إلا أن الاثنين استخدما في بداية الأمر بمعنيين مختلفين. أقام الشاعر الإيطالي بيترارك أساس فكرة “الحديث” حينما وصف عصراً قاتما يفصل عصره عن العصور القديمة. إلا أنه لم يرمي إلى شيء “حديث” أو “جديد” بل إلى إحياء عصر ذهبي غابر. وكانت هذه الرؤية محل قبول عند الانسانويين. أشار لورينزو فالا على سبيل المثال في منتصف القرن الخامس عشر إلى أن عصره الحالي انفصل عن العصر الحديث الذي عاشه البشر إلى قريب. لم يكن يعني الحديث في هذا المعنى العالم الذي يوشك على الوجود ولكن إلى عالم العصور المظلمة المنقض. لم يعي فالا عالمه كأمر حديث غير مسبوق ولكن كمحاولة لاستعادة ما فقد، كعودة إلى شكل قديم من الوجود.
لم يستعمل مصطلح “الحديث” في معناه المتأخر حتى القرن السادس عشر، واستعمل حينها ليصف أسلوباً فنياً معيناً. في الحقيقة فإنه وفي القرن السابع عشر فقط حينما قام جورج هورن (1666) ومن بعده بشكل رئيسي كريستوفر كالاريوس (1696) قاموا بوصف رؤية ثلاثية لتاريخ العالم تستمر فيه العصور القديمة حتى عصر القسطنطين، وتستمر العصور الوسطى حتى نهاية الإمبراطورية الرومانية الشرقية والعصر الحديث والذي يبدأ من القرن السادس عشر.
كانت فكرة العصر الحديث أو كما سميت بالحداثة، كانت جزءاً من فهم ذاتي قام بتمييز الفكر الأوربي منذ وقت بيكون وديكارت. تختلف الفكرة جذرياً عن تلك التي استعملت سابقاً لأنها تتكئ على مفهوم ثوري للحرية والتقدم. إشارة إلى الاكتشافات التي جرت على أيدي كولومبوس وكوبرنيكوس، يقوم بيكون على سبيل المثال بالادعاء بأن الحداثة أسمى من العصور القديمة ويدعم ذلك بمنهجية من أجل تحصيل المعرفة في العالم والتي ستقوم برفع شأن البشرية إلى أسمى مما هم عليه. كان يعلم بأن هذه الفكرة على تناقض مع التحيز السائد في عصره إلى العصور القديمة والتي كان يرونها كمثال للكمال لا يمكن تخطيه، وقام بمواجهة هذه المشكلة مباشرة، مؤكدا على أنه وعلى الرغم من أن الاغريق كانوا قدماء، إلا أن هذا لم يكن سبباً كافيا لمنحهم السلطة. كانوا في نظره مجرد أطفال مقابل رجال في عصره لأنهم افتقروا للنضج الناتج عن القرون التي تخللتها التجربة البشرية. ما بني عليه هذا التحول الثوري في مفهوم العصور القديمة لم يكن مفهوما جديداً للمعرفة ولكن مفهوما جديداً أيضا للزمن لا كتسلسل دائري نهائي ولكن كخط طولي لانهائي. تم تصوير هذا التحول على أن جزء من التطور الطبيعي المستمر الذي يستطيع الأحرار من البشر إتقانه والتحكم به من خلال أشكال من المناهج العلمية المتقنة. يستطيعون بهذه الطريقة أن يكونون متحكمين وممتلكين للطبيعة وبالتالي يقومون بتكوين عالم أكثر أهلية لهم.
النزاع بين القدماء والحديثين
كان مفهوم الحداثة هذا محل جدل منذ البداية، فقد سيطر ميل مفرط للعصور القديمة على تصاعد مفهوم العلم الحديث والمفهوم المتطابق للتقدم في سياق محيط ثقافي والذي قاد للنزاع المشهور بين العريق والحديث والذي لفت انتباه المفكرين الفرنسيين في نهاية القرن السابع عشر. ابتدأ الديكارتيون الفرنسييون هذا النقاش من خلال قولهم بأن واقع التقدم العلمي كان مؤشراً على احتمال على أن يكون الفن والادب الحديث أسمى من القديم. دافع نيكولاس بويلي وآخرون في ردهم قاموا بالدفاع عن تفوق الفن والأدب القديم. هاجموا في المقابل تشارلز بيراولت وفونتينيل وغيرهم من الحداثيين الفرنسيين. على أي حال لم يكن هؤلاء المفكرون ناقدون للقدماء أنفسهم ولكن لمعاصريهم الذين فضّلوا تمجيد عصر النهضة للقدماء والذين نقل العراقة إلى الكلاسيكية. بالتالي فإن النزاع في أصله كان جدلاً بين الإنسانويون والديكارتيون، وإنتهى في فرنسا من خلال الاعتراف بأنه وعلى الرغم من التقدم في العلم الطبيعي إلى ان هذا لم يحدث في العلم. تم التعامل مع كل عصر على أنه يمتلك معاييره الخاصة للكمال الفني.
هذا التفريق الذي ظهر في هذا النقاش لم يتم حله بسهولة. ادعى فولتير على سبيل المثال بعد عدة سنوات في دفاعه عن الحديث والمعاصر بقوله بان الطلاب الذين يسكنون في ليسي في وقته كانوا أكثر حكمة من أي فلاسفة العصور القديمة. أشار روسو في المقابل في كتابه خطاب في الفن والعلم إلى أن الفن والعلم الحديث لم يقم إلا بالتقليل من سعادة الإنسان واستقامته، والتي ازدهرت بشدة في الجمهورية الرومانية والاسبارطية.
على الرغم من نشوء هذا النزاع في فرنسا، إلا أنه استمر أيضا في إنجلترا وألمانيا. ففي إنجلترا والتي سميت فيها معركة الكتب، تواصل النزاع فيها حتى وصل إلى العقود الأولى من القرن الثامن عشر، وغطى أغلب الجوانب ذاتها. نافح توماس بورنت وريتشارد بينتلي إلى جانب اخرين عن تفوق الحداثيين، فيما دافع كل من سير ويليام تيمبل وسويفت ودريدين عن القدماء. بينما اتخذ ويليام ووتون موقفاً وسطاً قائلا بضرورة انفصال الفن عن العلم ومحاكمتهم إلى معايير مختلفة. انتهى هذا الجدال بصعود كلاسيكية البابا، ولكن الصعود الأدبي كان عرضة للتشكيك بعد فترة وجيزة من خلال اكتشافات نيوتن المشهودة والتي بدأت في إعلان تفوق الحداثيين.
أما في ألمانيا، فقد برز عديد من الإشكالات ذاتها في النصف الأخير من القرن الثامن عشر. في هذه الحالة، كان يوجد تأييد قوي مبدئي لحضور العصور القديمة كنتيجة للتأثير الواسع لكتاب تاريخ الفن القديم لوينكل مان. في موقف معارض لهذا الرأي نافح هيردر وشليك وشيلر بضرورة التفريق بين نوعين مختلفين من الفن وبالاقرار بأن الفن الحديث يمتلك جذوراً مختلفة عن تلك في فن العصور القديمة. على الرغم من انتهاج هيجل لموقف وسط والذي رأى العصور المختلفة محكومة بمعاييرها الخاصة، إلا أنه دعم تفوق الحداثيين، مع أنه لم يخف تعاطفه العميق مع خسارة العصور القديمة لبريقها.
يشير هذا النقاش بأكمله إلى الأهمية البالغة التي توكلها الحداثة لفصل نفسها عما سبقها. أشار روبرت بيبين إلى حاجة الحداثة في إثبات فرادتها ولكن إلى سموها وتفوقها على ما سبقها. يصبح التقدم في هذا المعنى نتيجة مباشرة أو إمتداد لفكرة إستقلالية أصول المشروع الحداثي.
أهمية هاتين الفكرتين حاضرة من خلال مركزيتهما في الازمة الفكرية التي بعثت الشكوك في المشروع الحداثي. على الرغم من أن الإنفصال المبكر بين عالمي العلم والجمالي/الأخلاقي المحكومان بمعايير وقوانين مختلفة باعثا على التشكيك في الادعاء العالمي المبكر للحداثة، إلا أن تقنين كانط لهذا الانفصال في تناقض القوانين الكانطي هو ما اقتلع جذور المشروع الحداثي ككل. فقد أشار إلى أن الطبيعة والحرية كما رأتهما الحداثة لا يمكن أن يتعايشا معاً، وبأن علاقتهما متناقضة بالضرورة. ولذلك وجب التخلي عن تصور الحداثة لنظرية جامعة تستطيع تفسير حركة الإله والبشر والعالم الطبيعي. كانت دعاوى الثورة الفرنسية المفرطة في السلطة الموكلة للعقل وبالتنبه الضعيف له بدور هذه الدعاوى في حقبة الإرهاب هي ما جعلت حدود المشروع الحداثي ظاهرة للعيان.
على الرغم من الجهد الفلسفي لحل هذا التناقض من قبل العديد من المفكرين، إلا أن القرن التاسع عشر والعشرين وصما بالفجوة السحيقة بين هذا العاملين الرئيسيين للمشروع الحداثي. شدد العديد من الرومانسيين ومثالي ما بعد الديكارتية على سبيل المثال على دور الحرية البشرية ولكنهم رفضوا المفهوم القائل بأن الطبيعة قد تفسر بواسطة حركات ميكانيكية لمواد غير عاقلة أو من خلال تفاعل القوى الطبيعية المجردة. على أي حال، كل الأسئلة التي طرحت عن الحداثة تم التغاضي عنها من خلال التقدم المعاصر في العلوم الطبيعية ومن خلال التطور الكبير في الحضارة الصناعية التي شددت على منفعة تزايد القوة البشرية ولكنها لم تبال بأي السبل فاوضت على استقلالية الانسان. من الناحية العملية، فعلى الرغم من أن الضمير الفلسفي والجمالي للبعض أحدث بعض التأثير على الحياة الفكرية، إلا أنه لم يفلح في إحداث تأثير على الإيمان الجمعي المتنامي في المشروع الحداثي العلمي والذي بدى لهم واعداً بالنفع الشامل على البشرية. بلغ هذا الإيمان ذروته في النصف الأخير من القرن التاسع عشر ووجد صداه في الفن المستقبلي والأدب وفي النصب التذكارية العامة مثل برج ايفل. حتى النقد القوي لمجتمعات القرن التاسع عشر الصناعية ظل منسجماً مع التطلع العام للحداثة، من خلال الحديث فقط عن الخطوات المستقبلية الضرورية التي ستضمن توزيع ثمرات التقدم بالتساوي بين الجميع.
أزمة الحداثة
تهتكت فكرة الايمان في المشروع الحداثي وفي فكرة التقدمية بسبب الأحداث التي حصلت في النصف الأول من القرن العشرين. أظهرت الحرب العالمية الأولى على وجه التحديد بأن التطور التقدمي للقوة البشرية لم يكن بنّاءً ببساطة ولكنه هدّاماً بصورة بشعة، وأن ذلك التقدم التقني لم يكن متزامناً مع تقدم أخلاقي أو مع تطور الحالة البشرية. شهدت فترة ما بين الحربين ازدياد هذه الحالة التشاؤمية في الاعمال الفلسفية من الحداثة مثل كتاب سبينغلر “انهيار الغرب” وكتاب هسرل “أزمة العلوم الأوربية” وكتاب هايدجر “الوجود والزمن”، إلى جانب الأعمال الأدبية لمن أطلق عليها فيما بعد “الجيل الضائع”. على أي حال، على أصداء ما كان يرى حينها بأنه تطور اجتماعي واقتصادي مبهر للاتحاد السوفيتي، وللتعافي الاقتصادي الحاصل في عام 1920، بدت حينها أحداث الحرب العظيمة إنحرافا بسيطاً في الطريق إلى التطور التقدمي للقوة البشرية ولما فيه صالحهم، مع ذلك ومع بدايات الكساد الكبير ونهوض القومية الاشتراكية وبداية الحرب العالمية الثانية، بدأت العديد من الشكوك الجذرية الجديدة بالظهور فيما يتعلق بالمشروع الحداثي والتقدمية. بدت هذه الشكوك تكتسب مصداقيتها من خلال حدوث الهولوكوست، والتي جعلت من المستحيل على أكثر الحداثيين حماساً أن يستطيع التحدث عن التقدمية مجددا. ومع مجيء الحرب الباردة واحتلال السوفييت لشرق أوربا في عام 1948 وظهور خطر الإبادة النووية، بدا بأنها كانت المسمار الأخير في نعش الحادثة. المشروع الحداثي كما طرح باديء الأمر في القرن السابع عشر كان قدد حقق تطورا مبهرا في الأوجه التي تخيلها ديكارت وبيكون وهوبز، ولكنه لم ينتج ما توقعه من سلام وحرية ورخاء. في الحقيقة، هي بدت في رأي مفكري ما بعد الحرب سبباً في إظهار أسوأ ما في البشرية وفي شكل مفاجيء قامت بتطبيق حقيقة إدعاء روسو بأن التقدم في الفن والعلوم كان يزيد من قوة الإنسان ولكنه يحط من شأن استقامته وأخلاقه بشكل مساو.
اتخذ نقد المشروع الحداثي على اعقاب الحرب العالمية الثانية أشكالاً عدة، بانياً عماده على النقد القديم لسبينقلر وهسرل وهايدجر. رأى بعض اتباع هسرل كارثة القرن العشرين كأثر مترتب على خلل في مفهوم العقلانية تم تقديمه عن طريق ديكارت وجاليلو. تحدث ليو شتراوس من هذا المنطلق بأن الأزمة الحالية ماهي إلا آخر الآثار المترتبة للموجات الثلاث الناجحة للفكر الحداثي والتي غمرت العقلانية القديمة والقانون الطبيعي، مستبدلة إياهم بأسلوب جديد للسلطة وعقيدة في الحقوق الطبيعية. في سياق مقارب، رأت حنه أرندت أملاً للتجديد من خلال العودة إلى العالم القديم، على الرغم من انها ركزت كثيرا على السياسة الجمالية والحياة العامة للديموقراطية الأثينية أكثر من الفلسفة القديمة. وبموقف نقدي مماثل للحداثة، هدف ايريك فولجين إلى إحياء المسيحية الأفلاطونية كأنجع الخيارات الممكنة للتجديد.
ذهب شكل آخر من النقد إلى أن أزمة الحداثة ليست نتيجة لخلل في العقلانية الحديثة ولكن أثر مترتب لفشل التراث الغربي نفسه والذي بدأ مع أفلاطون وبلغ ذروته مع أفكار هيجل وأتباعه. لم يؤمن هؤلاء المفكرون بأن حل أزمة الحداثة هو من خلال العودة إلى شكل قديم من العقلانية. رأى هؤلاء متبعين في ذلك هايدجر بدلا من هسرل بأن التفكيك الوجودي للعقلانية الغربية هو متطلب أساسي لكل بداية جديدة. وهذا ما جعلهم يرون حل أزمة الحداثة لا من خلال العودة لما قبل الحداثة بل من خلال استكشاف محيط ما بعد الحداثة. بالنسبة للفلاسفة مثل دريدا واديرنو ودولوز كان الحل الضروري لتحريرنا من مشاكل الحداثة هو عن طريق فلسفة اختلاف ما بعد بنوية لا عن طريق فلسفة هوية أفلاطونية.
وعلى نقيض من المابعد حداثيين وما قبل الحداثيين، حاول المتحمسون للمشروع الحداثي في إظهار بأن ما يسمى بأزمة الحداثة ليست في ذاتها أمراً حداثياً. ولكنها في نظرهم نتاج لرجعية لم تولد داخل الحداثة بل في مقابلها. بهذا المعنى، فالقومية الاشتراكية لم تكن أمرا حداثياً بل من بقايا العهد الجرماني أو أنها نتاج ردة الفعل الرومانسية للحداثة أو أنها آثر مترتب للتعصب اللوثري والذي هو في أصله غير حداثي. وشبيه بذلك الطبيعة الشمولية للاشتراكية في روسيا والتي لم تكن نتيجة للأمل المستحيل للحداثة في جعل الإنسان مالكا ومتحكما على الطبيعة ولكن كان نتاجاً للسلطوية الروحية الممتدة في الأرثوذكسية الروسية والتي كانت ضداً للحداثة. بالتالي فقد كان الحل لأزمة الحداثة كما رآه هؤلاء الداعمون للحداثة لا يتطلب تخلفاً عن الحداثة وإستبدالها بأشكال سابقة من الحياة أو بالإلتفات إلى البدائل التي توفرها ما بعد الحداثة، ولكن من خلال تطهير الحداثة نفسها وتنقيتها من الرجعية ومن العوامل الدخيلة عليها (والديانات قبل الحداثية). بالتالي فقد كانوا يرون الإنتصار على الفاشية، تنامي العلمانية، والتطور الاقتصادي في آسيا وامريكا اللاتينية وقبل كل شيء سقوط الاتحاد السوفييتي كدلائل على الأثر والقوة الباقية للمشروع الحداثي.
كان انهيار جدار برلين اعلاناً عن نهاية العصر الذي اتسم بالمواجهة بين الليبرالية الفردانية والشمولية الجمعية. لم تسيطر هذه المواجهة على سياسة النصف الاخير من القرن العشرين فحسب، بل سيطرت على الحياة الثقافية. بدى سقوط جدار برلين على إثر ذلك لمساندي الحداثة كمؤشر على القوة الطبيعية شديدة الاغراء للمشروع الحداثي. كل ما تبقى للمستقبل كان هو تحول الدول الاشتراكية سابقاً إلى مجتمعات ليبرالية رأسمالية، واستمرارية تحديث العالم النامي. رأى بعض الملاحظين ممن اخذهم الحماس ذلك الوقت بأن تلك اللحظة كانت حتمية وفريدة ليصفوها بأنها نهاية التاريخ ولحظة إدراك غاية البشرية الأخيرة. ومن خلال المنطلق ذاته ولكن بأسلوب أكثر تواضع، تنبه آخرون إلى الكم الهائل من العمل اللازم من أجل تأسيس رفاه عالمي وسلام مستديم، ولكنهم اعتقدوا بأن انجاز ذلك سيكون من خلال تطور تدريجي وعولمة ولبرلة تتكيء على الدافع لا القوة. رأى آخرون لاسيما أولئك المتشبثون بالمستقبل الما بعد حداثي بأن نهاية الحرب الباردة كانت انتصارا لليبرالية الامبريالية ولكن اعتقدوا بأن هذا كله يمكن تجاوزه من خلال سياسة جمالية تنحو إلى تأسيس مجتمع متعدد الثقافات غير متعرض للهيمنة بل ميال إلى الجدل والصراع يمضي قدماً من خلال التكيّف والتوافق والتعلم المتبادل بدلاً من الحرب والغزو. لن ينتهي الاختلاف حينها والمعاناة ستستمر ولكن المستقبل سيكون مثمراً.
خبت كل دواعي التفاؤل بعد الهجوم على مركز التجارة العالمي، على أعقاب الحادي عشر من سبتمبر انحسرت فكرة العالم متعدد الثقافات واستبدلت بفكرة صراع حضارات وشيك. على الرغم من أن هذا الصراع هو في أصله مواجهة بين العقل والوحي، إلا أنه يزرع الشكوك في عقيدتنا التنويرية المتهاوية والتي تقول بأن العقل بكل وضوح وبلا شك أسمى من الوحي، وبالرغم من أن الدين قد يجد حيزاً في الحياة المعاصرة فإنه لن يكون إلا في منزلة أدنى. بالتالي يتم التغاضي عنه كملكية خاصة ولا يرى كسلطة يجدر بها أن تقوم بتكوين حياتنا العامة.
يجب أن تقودنا أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى التشكيك في الفرضية الغربية المشهورة بأن أصل الحضارة في المصلحة الذاتية لا في الإيمان الديني. على الرغم من وجود إجماع على حقيقة ذلك، إلا أن تبرير حقيقتها ليس واضحا. حقيقة أن اعتقادات الأخيرين من الشدة بمكان للحد الذي لا تعطينا فيه خيارا على المدى القريب إلا بأن نقوم بالدفاع عن العالم الحديث وأسلوب حياته، ولكن في الوقت نفسه نحن مكرهون على هذا التحدي حتى نعيد التفكير في جذور الحداثة نفسها، والقرارات المنسية التي ساهمت في تشكيل ولا تزال تشكل أسلوب حياتنا.
منشأ الحداثة
ترى الرواية التقليدية التي تعود إلى هيجل بأن العصر الحديث كان نتاجاً لأناس استثنائيين، لعلماء بارعين وفلاسفة ومكتشفين وكتاب تغلبوا على الخرافات الدينية في عصرهم وبنوا عالماً جديدا عماده العقل. تصور الحداثة في هذه الحالة كحالة إنفصال جذرية عن الماضي. تعرضت هذه الرؤية لمنشأ الحداثة للتهوين في بدايات القرن العشرين من قبل اتيني جيلسون، الذي قرر بأن هؤلاء المؤسسين المفترضين للعصر الحديث قاموا باستعارة العديد من أفكارهم الرئيسية من سابقيهم من العصور المظلمة. فلا هم ولا عصرهم الذي أسسوه كان أمراً غير مسبوق كما صوروه. حاول المؤرخون المتأخرون المهتمون بالتاريخ الاجتماعي وتاريخ العلم من خلال تأسيسهم على البدايات بأن يظهروا بأن التحول من العصور المظلمة إلى العالم الحديث كان أكثر تدرجاً مما كان يعتقد حتى أيامنا هذه. في الحقيقة فقد أكد هؤلاء المؤرخون وبعد تفحص دقيق على وجود العديد من الأوجه المشتركة بين هاتين الحقبتين، أكثر مما اقترحته الرؤية التقليدية.
من خلال هذه الأوجه المشتركة والمختلفة، جادل كارل لوويث في كتابه المعنى في التاريخ (1949) بأن الحداثة كانت نتاجاً لعلمنة الأفكار السامية المسيحية وبأنها كنتيجة لم تكن منفصلة عن العصور الوسطى. فعلى سبيل المثال، فمن هذا المنظور يبدو لنا مفهوم التقدمية وهو أساسي في الفهم الذاتي المعاصر، يبدو بأنه نتاج علمنة لمفهوم المليارية المسيحي. ومن هذا المنطلق يبدو لنا بأن قراءة نشوء الحداثة كإنتصار للعقل على الخرافة مليئة بالإشكال.
قوبلت فرضية العلمنة هذه والتي لاقت رواجاً خلال الستينات والسبعينات برفض هانز بلومبرنغ، والذي جادل بأن العصر الحديث لم يكن عالماً من العصور المظلمة تمت علمنته ولكنه كان أمراً جديداً وفريداً من نوعه. يبدو موقف بلومبنريغ على السطح بأنه إحياء للموقف التقليدي الذي يربط الحداثة بانتصار العقل، ولكنه في الحقيقة يتبنى رؤية أكثر نيتشوية والتي لا تعرف الحداثة بالعقل ولكن بإثبات الذات. سمة إثبات الذات التي يتصف بها العالم الحديث في نظره ليس نتاجاَ لمجرد إرادة القوة. ولكنه موجه نحو حل الإشكال أو السؤال الذي خلفه انهيار العصور المظلمة. وبالتالي يرى بلومينبرغ الحداثة كانتصار ثانٍ على الإشكال الذي ساهم في ولادة المسيحية وهي الغنوصية. وهذا الانتصار الثاني كان بالغ الأهمية كما يرى بلومنبرغ، لأن محاولة المسيحية للانتصار عليها كانت ناقصة منذ البادية. ظهرت الغنوصية من جديد كما يرى بلومنبرغ في نهاية العصور الوسطى في مظهر مذهب الاسمانية، والتي دمرت مذهب المدرسية وساهمت في ولادة مذهب الارادية كضد للإله المدرك. حاولت الحداثة في سعيها ضد الغنوصية الجديدة هذه إلى تأسيس جذور للبشرية من خلال مفهوم إثبات الذات البشري. الحداثة في هذه الحالة لم تكن مجرد علمنة للمسيحية ولكنها شيء حديث يمتلك شرعيته بطريقته الخاصة. لذلك فإن الظواهر التي كانت تبدو بأنها من عوامل الرؤية المسيحية للعالم التي تم علمنتها هي في حقيقتها إعادة إحتلال لما هي الآن مواقف مسيحية خاوية، بمعنى أنها محاولة للإجابة على أسئلة مسيحية قديمة بأساليب معاصرة. بالتالي فإن فكرة التقدمية من هذا الناحية ليست شكلاً معلمنا من فكرة المليارية المسيحية ولكنها “إعادة احتلال” للرغبة الحاصلة في العصور المظلمة من اجل إظهار تأثير الله في كل حادثة. يرى بلومنبرغ بأن الملاحظة الخاطئة للإجابة على ما يقرأ الآن على انه أسئلة واهية ضللت رؤيتنا عن فهم الحداثة وجعلتنا ننحو بشكل خاطيء إلى التشكيك في شرعية المشروع الحداثي.
ترشدنا مقاربة بلومنبرغ هذه إلى الاتجاه الصحيح، ولكنه لا يعي الأهمية الميتافيزيقية لمحاججته هذه ولذلك لا يتنبه إلى الطريقة التي تأخذ فيها الحداثة شكلها داخل البنية اللاهوتية والميتافيزيقية للتراث. لا تبرز الحداثة كمقابل أو في موقف متصل مع العصور المظلمة ولكن من خلال أنقاضها كما يشير إلى ذلك بلومنبرغ. لم تعلوا أفكار الحداثة المؤثرة أو تمحوا أفكار العصور المظلمة بل قامت بدفع بقايا العصور المظلمة بعد أن صيّرها الصراع بين المدرسيين والاسمانيين إلى أنقاض. استطاع “العقل” الحداثي أن يعلوا على “الخرافة” أو “الوثوقية” لأن “الوثوقية” كانت في أضعف حالاتها جراء الازمة الميتافيزيقية/اللاهوتية التي جلبت العالم الى نهايته. بلمومنبرغ محق أيضاً في قوله بأن سقوط عالم العصور المظلمة لم يفتح المجال ببساطة لأفكار جديدة وأساليب حياة جديدة ولكنه قدم البشرية بسؤال عصري جديد نجح في توجيه الفكر البشري إلى طرق جديدة من ذلك الحين. ما تفتقد له مقاربة بلومنبرغ هو ملاحظة أن الأشكال التي افترض الفكر الحداثي وجودها لم تكن إعادة احتلال اعتباطي لمواقف العصور المظلمة ولكنه كان استيعاباً للإحتمالات الميتافيزيقية واللاهوتية التي خلّفها التراث القديم. وحتى نفهم الحداثة كما هي الآن، علينا إذن أن نقوم بفحص أصول الحداثة، حتى نلحظها كما هي خلف الستار الذي صاغته الحداثة لتخفي عنا جذورها. بالتالي فجذور الحداثة لا تقع في التأكيد على الذات البشرية ولا في العقل ولكن من خلال الصراع اللاهوتي والميتافيزيقي الذي شهد نهاية عالم العصور المظلمة ونقل أوربا في الثلاثمئة سنة التي فصلت العصور المظلمة عن العالم الحديث. يقدم هذا الكتاب رؤية للجذور المخفية للحداثة في هذه القرون المنسية.
تحدث مارتن هايدجر في محاضرته الافتتاحية عام 1929 في جامعة فريبورخ بأن الأفكار والأفعال البشرية مدفوعة ومقادة بواسطة التجربة الحاصلة من خلال أسئلة أساسية تشكيكية بمعنى وطبيعة كل شيء بما فيها المتسائل. تبرز هذه الأسئلة في لحظة تنحل فيها شرعية ومعنى كل طرائق التفكير والوجود ويتحول العالم إلى عدمية وفوضى. تولد هذه التجربة شعوراً عميقا بالارتباك يدفع البشر للبحث عن الأجوبة وليقوموا بصياغة أساليب تفكير ووجود جديدة وكنتيجة يقومون بإعادة تشكيل العالم الذي يعيشون فيه. تظهر التغيرات الحقيقية في التاريخ من وجهة نظر هايدجر في هذه الحالات كنتيجة لمواجهة هذه الأسئلة التاريخية وكل شيء يعقبها وينتج عنها. هذه الأسئلة لا تحررنا ببساطة من الماضي ولكنها توجهنا إلى مستقبل جديد. اعتقد هايدجر بأن اليونانيين قبل سقراط واجهوا مثل هذه الأسئلة الأساسية وبأن التاريخ الغربي منذ ذلك الوقت لم يكن إلا محاولات من أجل الإجابة على هذه الأسئلة. كانت العدمية في نظره هي استيعاب عدم جدوى كل محاولات الإجابة هذه، حالها حال تجربة السؤال نفسها. واجهت البشرية من جديد كما يرى هايدجر مثل هذا السؤال الذي مزق نظرية الوجود وفتح على إثر ذلك إمكانية بداية جديدة، عالم جديد، وتاريخ جديد.
يعتمد هايدجر على نيتشه في سعيه لتطوير هذا الرأي، الذي رأى بروز العدمية كلحظة تاريخية مفتاحية. اعتقد نيتشه بأنه وعلى الرغم من أن موت الاله وانهيار القيم الغربية التي وعلى إثرها سيودي بالبشرية إلى هاوية من الحرب والخراب، إلا أن هذا الحدث سيكشف العالم بشكل غير مسبوق منذ العصر التراجيدي الاغريقي. على الرغم من أن موت الإله سينتج “منطقاً مرعبا من الإرهاب”، إلا انه اعتقد كذلك بأن ” بأن الأفق في نهاية الأمر يبدو حراً لنا مجدداً”. إذا كان الاله ميتاً ولا شيء يبدو حقاً، إذن “كل شيء مباح”. بالتالي جحيم العدمية متصل بشكل وثيق بعصر راديكالي انفتاحي. على الرغم من أن نيشته وهايدجر كانا محقين في رؤية الطبيعة الفاصلة والحاسمة لهذه الأسئلة، إلا أنهم بالغوا في الإنفتاح الذي تحدثوا عنه. في الحقيقة فإن تجربة هذه الأسئلة قد تقود البشرية إتجاهات جديدة وناحية أجوبة جديدة، ولكن البشر سيواصلون صياغة هذه الأجوبة داخل بنىً مفهومية سائدة والتي على إثرها ستواصل في تشكيل طرق تفكيرنا عن الأشياء بسبل عدة. وهذا ما نراه بوضوح في تطور الفكر الحديث.
تنشأ الحداثة جراء التصادم مع أسئلة تاريخية. لا يكمن العالم الحقيقي الذي قام برسم آلية تفكيرنا في نهاية الحداثة بل في بدايتها. في الحقيقة فإن النهاية “العدمية” للحداثة هي الصورة الباهتة لهذه البداية، وإذا ما أردنا فهم أنفسنا ومن أين وجدنا وماذا يقودنا وما هو الذي يستمر في توجيهنا فعلينا أن نفهم هذه البداية. وهذا الكتاب معنيٌ بهذه البداية، عن أزمة “العدمية” في فكر العصور المظلمة والتي ولّدت هذه الأسئلة التاريخية التي تقف خلف الحداثة وتوجهها. سأدافع فيما سأقوله تالياً بأن الحداثة كما نفهمها الآن نشأت عن طريق سلسلة من الإجابات المعنيّة بهذا السؤال الذي قام ببناء طرق تفكير ووجود وفعل جديدة لعالم كان يبدو متهاوياً في طريقه إلى هاوية سحيقة. سأحاول أن أظهر بأنه وعلى الرغم من أن هذه “الأجوبة” تتشارك جميعها بعض الفرضيات الوجودية، إلا أنهم يفترقون بشكل جذري وأحياناً يمتلكون رؤى في الطبيعة وعلاقة الإنسان، الاله، الطبيعة والعقل، تتضاد فيما بعضها. يفتح فهم سؤال الحداثة بهذا المعنى نظرة إلى الأساس المتضارب للحداثة.
برز السؤال التاريخي الذي ساهم في ولادة العصر الحديث من خلال أزمة لاهوتية/ميتافيزيقية داخل المسيحية عن طبيعة الإله وطبيعة الوجود كنتيجة لذلك. كانت هذه الأزمة حاضرة بتجلٍ في الثورة الاسمانية على المدرسية. هذه الثورة الفكرية مع ذلك كانت انعكاسا لتحول أعمق في التجربة الوجودية المماثلة. كان المدرسيون في أواخر العصور الوسطى واقعيين أنطولوجياً وهذا يعني بأنهم كانوا يعتقدون بالوجود الحقيقي للكون أو لنعبر عنها بشكل آخر فقد قاموا بالتعامل مع الكون كمؤسس للعقل الإلهي. كانوا يتعاملون ويؤمنون ويؤكدون على أن الواقعية المطلقة ليس للأشياء الجزئية ولكن للكليات، وقاموا بالتعبير عن هذه التجربة من خلال منطق القياس والذي كان يرى كانعكاس للعقل الإلهي. كانت نظرية الخلق نفسها تجسيداً لهذا العقل، بينما تموضع الإنسان على رأس هرم هذا الخلق بوصفه الحيوان العقلاني المقاد بواسطة الغايات الأخيرة للطبيعية وبالأهداف الروحية الموحاة له.
قامت الاسمانية بقلب هذا العالم على رأسه. بالنسبة للاسمانيين كان العالم عبارة عن أفراد وجزئيات بينما الكليات كانت مجرد خيال. لم تكن الكلمة عندهم تشير إلى ذوات كلية ولكنها كانت مجرد إشارات مفيدة للفهم البشري. كان الخلق في أصوله جزئياً وبالتالي لم يكن لاهوتياً. على إثره فلم يكن من الممكن أن يفهم الإله بواسطة العقل البشري ولا من خلال الوحي الإنجيلي او من خلال التجربة الروحية. بالتالي لم يعد البشر يمتلكون غايات أخيرة طبيعية أو روحية. بهذه الطريقة مزقت الثورة الاسمانية ضد المدرسية كل جانب من جوانب عالم العصور الوسطى. وجلب النهاية لكل الجهود الضخمة التي بدأت مع الآباء الكنسيين من اجل جمع العقل والوحي من خلال توحيد التعاليم الطبيعية والأخلاقية الإغريقية مع المفهوم المسيحي للخالق القادر على كل شيء.
إلى فترة قريبة لم يتم منح الثورة الاسمانية ولم تعطى أهمية هذا النقاش حقها. وهذا كان في بعضه عائداً لقرار الكنيسة الكاثولوكية في أواخر القرن التاسع عشر في أن توحد عقيدة الكنيسة بالعقيدة التوماوية، والتي قادت الى إهمال نقاد توما الاكويني من القرن الرابع عشر والخامس عشر والاستخفاف بهم. كان هذا التركيز على توما الاكويني مدفوعا برغبة مفهومة لتنقية العقيدة الكاثولكية، ولكنها اعتمدت كذلك على استيعاب ان هؤلاء النقاد الاسمانيين لعبوا دورا مهما في تمكين الأسس الفكرية من أجل حركة التجديد. السبب الثاني والأهم لفشل ملاحظة الأهمية لهذه الثورة التاريخية هي حقيقة أن إله الاسمانيين كان قلقاً. كان الاله الذي وصفه توما الاكويني وديكارت لانهائي، ولكن عظمة خلقه والثقة من خيريته كانت متجلية في كل مكان. بينما كان الإله الاسماني على الضد من ذلك، مطلق القدرة بشكل مخيف، خارج نطاق معرفة الإنسان، وخطر مستمر على صالح الإنسان، ومع ذلك فلا يمكن الإحاطة بهذا الإله بالمفردات وبالتالي لا يمكن اختباره إلا من خلال سؤال جبار أثار الرهبة والجزع، وأريد هنا أن اقترح بأن هذا هو السؤال الذي يقف على مشارف بداية الحداثة.
أكدت الرؤية الجديدة عن الإله والتي برزت في القرن الرابع عشر على القدرة الإلهية وعلى تعذر التنبؤ بدلا من الحب الإلهي والعقل، ولكن هذا الإله الجديد لم يكن مفهوماً إلا التغيير الضخم في العالم نفسه. مثل الإنفصال الكبير، حرب المئة عام، الموت الأسود، اختراع البارود، الحركية الاجتماعية، والحملات الصليبية، كلها لعبت دوراً مهما في تشكيل القلق وعدم الأمان الذي أسهم في الرؤية الاسمانية للمعقول في العالم.
المسلك الميتافيزيقي للحداثة
تأسست الحداثة كنتيجة لسلسلة المحاولات من أجل ايجاد حل خارج الازمة التي أحدثتها الثورة الاسمانية. لم تكن هذه المحاولات اعتباطية أو عن طريق الصدفة ولكنها كانت انعكاسا للخيارات الفلسفية المتاحة من بين الاحتمالات الميتافيزيقية. كما سنرى الآن، فإن كل محاولة لتحديد الهوة السحيقة التي تسببت بها الاسمانية كانت محاولة لبناء العالم وفق أسس ميتافيزيقية معينة. وحتى نفهم ما يعني هذا، فعلينا حينها ان نناقش باختصار طبيعة الميتافيزيقيا.
نفهم الميتافيزيقيا هذه الايام كفرع من الفلسفة، وهو فرع شوهت سمعته في عصرنا الوضعي العلماني بسبب اهتمامه بأمور تتجاوز الحواس وبسبب اتصالها بالدين. أما الميتافيزيقيا في العصر الذي نبحث فيه فقد كانت تحمل معنى اوسع. الميتافيزيقيا العامة والتي كانت تتضمن الانطولوجيا والمنطق، بينما كانت الميتافيزيقيا الخاصة والتي تضمنت اللاهوت المعقلن وعلم الكون المعقلن والأنثروبولوجيا المعقلنة. بالتالي لم تكن الميتافيزيقيا جزءاً من الفلسفة ولكن أشمل اشكال المعرفة متضمنة كلاً من دراسة الوجود والعقل والاله والانسان وطبيعة العالم. ولنضع هذا كله في مصطلحات معاصرة فقد كانت الميتافيزقيا تتضمن البحث في طبيعة الوجود وطبيعة العقل، فيما كانت الميتافيزيقيا الخاصة تتضمن البحث عن ثلاث جوانب من الوجود: الانسان، الطبيعة، والإله. وحتى نستعمل الاصلاح المشهور بسبب هايدجر، فقد كانت الميتافيزيقيا العامة مهتمة بالأسئلة الوجودية بينما اهتمت الميتافيزيقيا الخاصة بالأسئلة الموجودية.
كانت الثورة الاسمانية ثورة وجودية شككت في الوجود نفسه. وكما رأينا سابقاً، فإنها أماطت الطريق لنشوء أنطولوجيا جديدة ومنطق جديد ومفهوم جديد للانسان والاله والطبيعة. وتم من خلالها تشكيل كل الفكر الاوربي اللاحق عليها من خلال هذا التحول. على الرغم من تقليل الاسمانية للمدرسية إلا انها لم تستطع إيجاد بديل مقبول بشكل عام للرؤية الشاملة للعالم التي قامت بتدميرها. وهذا ما جعل بعض التراجع عن الاسمانية الأصولية أمرا لا مفر منه. ولكن من خلال الرؤية الانطولوجية البسيطة فلم يحدث أي تراجع فقد قبلت كل الأشكال الفكرية اللاحقة أو معظمها الفردانية الأنطولوجية التي أكدت عليها الاسمانية بالقوة. أما فيما يتعلق بالجوانب الاخرى من الميتافيزيقيا فقد وجد بعض التنوع والاختلاف الملحوظ على الرغم من أن هذا التنوع كان مقيداً ببنية الميتافيزيقا نفسها. في الحقيقة فكما سنرى، لم يركز المفكرون اللاحقون على الأسئلة التأسيسية الأنطولوجية ولكن على الاسئلة الموجودية، عن أولوية وعلو بعض جوانب الوجود داخل الميتافيزيقيا الخاصة. على إثر ذلك فإن أعمق الخلافات في الفترة مابين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر لم تكن وجودية ولكنها كانت موجودية، لم تكن الخلافات حول طبيعة الوجود ولكن عن أي واحد من الجوانب الثلاثة –الانسان، الالهي، الطبيعي – كانت له الأولوية. وحتى نختصر هذا كله فإن المفكرين مابعد المدرسيين لم يختلفوا فيما بينهم حول الوجود نفسه ولمن حول تراتبية جوانب الوجود.
وهذا جلي بوضوح حتى من خلال التفحص السطحي للانسانية والتجديد، وهما حركتان فكريتان وقفتا بين الاسمانية والعالم الحديث. وكلاهما قبل الفردانية الانطولوجية التي ادعتها الاسمانية، ولكنهما افترقا جذرياً عما إذا كانت الاولوية الموجودية للإنسان او للإله. وضع الانسانويون الانسان أولاً وقاموا بتأويل الإله والطبيعة على هذا الأساس. بينما كان التجديد على النقيض يبدأ من خلال الاله ويرى الانسان والطبيعة من منظوره فقط. على الرغم من اتفاقهم على الأمور الوجودية، إلا أن الفروقات الناشئة من خلال خلافاتهم الوجودية كانت متعذرة العلاج، وقامت بلعب دور مهم في الحروب الدينية الطاحنة والتي مزقت الحياة الاوربية في القرون السادسة عشر والسابعة عشر. كانت الحداثة كما هي في فهمنا الدقيق لها هي أثر تابع للمحاولة من أجل حل هذا النزاع من خلال التأكيد على أولوية موجودية لا الانسان ولا الإله بل للطبيعة. وكما سنرى، على الرغم من مساعدة هذه البداية الطبيعية تخفيف حدة هذا الصراع، إلا أنها لم تستطع استئصال العداوة في جذرها دون التخلص من الاله أو الانسان. لا يمكن لأحد أن يستبعد الاله دون أن يحول الانسان الى وحش ولا يمكن لأحد أن يستبعد الانسان دون الوقوع في التطرف اللاهوتي.
تهدف السلالتان الضخمتان للفكر الحديث واللتان تبدئان مع ديكارت ثم هوبز إلى إعادة بناء العالم لا كجزء من صنيع الانسان ولا كمعجزة إلهية ولكن كموجود طبيعي. إلا أنهم يختلفون على أية حال حول طبيعة ومكانة الاله والانسان في العالم كلما تبحروا فيه، يرى ديكارت الانسان كموجود طبيعي ولكنه إلهي بشكل جزئي وبالتالي يتميّز عن الطبيعة ومتحرر من قوانينها. أما هوبز فيرى الانسان طبيعي تماماً وهذا يعني بأنه حر بما يتوافق مع سببية العالم الطبيعي. وهذا ما يجعل هذان القطبان من أقطاب الفكر الحديث يتعرضان لذات الانقسام الذي فصل بين الانسانويين والإصلاح الكنسي.
شكل هذا التعارض إشكالية جذرية للفكر الحديث، وحرص المفكرون ممن كرسوا أنفسهم لهدف التنوير على حلها، ولكن في النهاية لم تؤدي هذه الجهود إلى نفع، فلم يكن ممكناً أن يحل هذا التعارض من خلال أسس الحداثة الميتافيزيقية. وملاحظة هذه الحقيقة، والتي وجدت أول بداياتها وتجلياتها من خلال مبدأ التناقض الكانطي والذي آذن بأزمة الحداثة والتي لا نزال نعيش في ظلالها حتى الآن. لا يعني الحديث عن أزمة الحداثة بأن نقوم بالتأكيد على تخلي المفكرين الحداثيين عن مشروع الحداثة. فلم تكن المثالية الالمانية في أصلها إلا محاولة ايجاد حل لهذه المشكلة. ومع فشل المشروع الحداثي الهادف الى الانسجام مع العقلانية الحديثة، فقد تم تمييز الحداثة بأنها شق كبير بين الإرادية الراديكالية والحتمية الراديكالية. رسوخ هذا الانقسام وعدم قدرة المفكرين الحديثين على ايجاد حل لعلاج هذا الجرح، نحى بالكثير إلى هجر الحداثة لصالح البدائل في مابعد الحداثة أو ماقبل الحداثة.
ما إذا كنا نستطيع التوصل إلى حل لهذا التعارض وإلى أي أحد، هو أمر يعتمد على استيعابنا للسؤال الذي تسبب في نشوء الحداثة. تعني مواجهتنا لهذا السؤال إعادة اعتبارنا لسؤال العلاقة بين الوحي والعقل. إن كانت الحداثة هي العصر الذي نقوم به بتعريف وجودنا من خلال زماننا، ونعرف زماننا من خلال وجودنا الخاص كجزء من التاريخ، سنستطيع التصالح مع أنفسنا عندما نقوم بالتصالح مع فكرة أننا فانون. يصبح للفناء معنى لدينا ضد الخلود. حتى نعي سؤال الحداثة التي تواجهنا به، علينا إذن أن نتنبه إلى سؤال الجذور اللاهوتية للحداثة. وهذا الكتاب هو محاولة لطرح هذا السؤال.
الثورة الاسمانية ومنشأ الحداثة
الأزمة اللاهوتية لفكر القرون الوسطى
على الرغم من أن العالم الحديث أصبح واعيا بنفسه في القرن السادس عشر والسابع عشر، فإنه من الخطأ أن نعتقد بأن الحداثة بدأت منذ ذلك الحين بقدر ما هو خاطئ أن نعتقد بأن الحياة البشرية بدأت عندما بدأ الإنسان بالوعي بذاته. لم تزدهر الحداثة كاملة من خلال جاليلو، بايكون، ديكارت، وهوبز ولكنها نهضت قبل وقت طويل وكنتيجة لجهود العديد من الاشخاص المختلفين من سياقات متعددة. وكما ناقشنا سابقاً، فإن من أكثر سمات الحداثة تميزاً هي في أن تظهر ذاتها كشيء جديد بشكل جوهري غير مسبوق. وهذا أثر تابع لفهم حداثي مميز لقدرات الانسان وطريقته في تجلي ذاته في العالم. مع ذلك، هناك أسباب معتبرة للتشكيك في صحة هذا لفهم الذات هذا. وكما اكتشف اوديب، فلا أحد يولد “ابناً للقدر”، كل شخص وكل شيء له أصل يقوم بتشكيله بطريقة دقيقة. وحتى نبدأ في فهم طبيعة العالم الحديث، فمن المهم أن نفحص تطور وعيها المبكر في الثلاثمئة سنة بين سقوط عالم القرون الوسطى ونهوض الحداثة.
نستطيع تعقب جذور عالم القرون الوسطى إلى التوليفة الحاصلة بين المسيحية والفلسفة الوثنية في العالم الهلنستي في أواخر العصور القديمة. بدأ هذا في الاسكندرية في القرن الأول والثاني. وهنا دمجت نزعات مختلفة من الفكر المسيحي، المعتقدات الدينية الشرقية، الأفلاطونية المحدثة، وعدد من الرؤى الفلسفية القديمة بطرق مختلفة ومتعارضة في وقتها، لتعكس التكامل الروحي والفكري في ذلك الوقت. برزت وتمأسست عملية سير هذا الدمج من خلال تبني المسيحية كالدين الرسمي للامبراطورية الرومانية بقيادة قسطنطين. ذابت النزعات المتضاربة المختلفة داخل عقيدة رسمية من خلال مجامع كنسية كان اولها مجمع نيقيا عام 323. بغض النظر عن التوحيد العقدي المفروض من قبل السلطة الامبراطورية، فإن التوتر الحاصل داخل المسيحية بين الوحي الذي يشدد على كلية القدرة الالهية وعقيدة التجسد من جهة، والفلسفة التي تشدد على العقلانية ومفهوم الكون العقلاني من جهة أخرى، لم يتم حله بسهولة وظل مشكلة ممتدة للمسيحية خلال تاريخها المديد. مما لا شك فيه بأن كثيرا من التطور المتعاقب على اللاهوت المسيحي حدث ضرورة من خلال هذا التنافر المتفاقم الدوري المستمر بين هذين العنصرين في المسيحية.
فقدت العديد من المعرفة الناجمة عن التأثير الفلسفي الاغريقي على المسيحية في أوربا الغربية خلال الفترة المبكرة من عهد القرون الوسطى ، على الرغم من تأمين الفيلسوف بوثيوس لنقطة وصل ضعيفة لهذا التراث الفكري. كان اكتشاف ارسطو هو الحدث الجوهري في مسيحية القرون الوسطى من خلال الاتصال بالعالم العربي في اسبانيا والشام بشكل كبير. وهذا ما قاد نهضة المدرسية بعد المليارية بقليل، وهي أعظم المحاولات اللاهوتية واكثرها تماسكا من اجل التوفيق بين العنصرين الفلسفي والانجيلي في المسيحية.
على الرغم من وجود تنوع ملحوظ داخل المدرسية، إلا أن بنيتها التقليدية كان واقعية. كانت الواقعية كما فهمتها المدرسية هي الايمان بالوجود الذهني الزائد للكليات. ومن خلال اعتمادهم الكبير على القراءة الافلاطونية المحدثة لأرسطو، رأى المدرسيون بأن الكليات مثل الفصائل والأجناس هي الأشياء المتحققة في النهاية وبأن الجزئيات ماهي إلا مصاديق معينة لهذه الكليات. إلى جانب أن هذه الكليات لم تكن إلا ما أراده العقل الإلهي أن يكون معلوما للبشر إما من خلال التنوير كما رأى اوغسطين، أو من خلال البحث في الطبيعة كما رأى توما الاكويني. ومن خلال الانطولوجيا الواقعية هذه أصبح العقل والطبيعة يعكس أحدهما الآخر. وحينها يمكن أن توصف الطبيعة من خلال القياس المنطقي المعرف من خلال البنية العقلانية للعلاقات بين الأنواع كلها بعضها ببعض. إلى جانب أنه وعلى الرغم من أن الإله متجاوز لخلقه، إلا أنه كان منعكسا من خلاله وقد يعرف الإله من خلالهم عن طريق القياس. بالتالي، من الممكن للمنطق واللاهوت الطبيعي أن يعوض أو يستعاض به عند البعض بالوعي. ولأسباب مقاربة، لم يحتج الانسان إلى الإنجيل حتى يعلمه أخلاقه الدنيوية وواجباته السياسية. فقد كان موجودا طبيعياً بغاية طبيعية محكوم بقوانين الطبيعة. كان الإنجيل بالطبع ضرورياً من أجل فهم كل ما يتجاوز الطبيعة وقدر الإنسان فوق الطبيعي من ضمنها، إلا أنه كان يمكن للحياة الدنيوية أن تدرك فلسفياً.
اعتمدت كاتدرائية الفكر المدرسي على توفيق دقيق بين المعتقدات المسيحية والعقلانية الوثنية، وكان فقدان هذا التوازن هو ما أدى إلا انهيارها في النهاية. تعرض هذا التوازن للتهديد من خلال تنامي تأثير العقل والعلمانية من خلال الكنيسة، والتي عززت من الانفصال عن الممارسات المسيحية، ومن خلال الاحتياج الطارئ والمتزايد إلى شكل أكثر أصالة من المسيحية يعتمد على الوحي و/أو عن طريق مماثلة حياة المسيح. اعتمد الحفاظ على مسيحية القرون الوسطى على التوفيق بين هذين الباعثين المتضادين. ولا يمكن الحفاظ على هذه التركيبة نظرياً إلا من خلال خلق لاهوت أكثر وضوحاً، وعملياً عن طريق اللجوء المتزايد للسلطة البابوية والملكية.
كان المسبب المباشر لهذا النزاع الذي مزق هذه التركيبة هو تنامي الأرسطية من خلال الكنيسة ومن خارجها. كان الاهتمام المتزايد بأرسطو من جهة هو أثر حتمي لتنامي المدرسية نفسها، ولكن نموها تسارع تحديداً من خلال إعادة تقديم العديد من النصوص الارسطية لأوربا المسيحية عن طريق تعليقات الفلاسفة المسلمين العظماء: ابن رشد وابن سينا. أكثر تجليات هذا الاهتمام الجديد بأرسطو وضوحا كان من خلال تطوير نظام فلسفي مستقل إلى جانب اللاهوت بالإضافة إلى شكل جديد من الفكر المسيحي العلماني. قرأت هذه الظاهرة بشكل تشكيكي من قبل المتورعين المدافعين عن شكل أكثر أصالة للمسيحية لا بسبب جذورها الوثنية ولكن بسبب علاقتها بالإسلام. كانت الوثنية شراً معلوما وقابلا للتحمل، ولكن الإسلام على النقيض كان نذير شؤم لاهوتي وخطر سياسي. استطاعت المسيحية على مدى 200 عام أن تعلوا على الإسلام خصوصا في الشرق، ولكن بعد خسارتها لمستعمراتها في الشام في أواخر القرن الثالث عشر وصعود القوة العسكرية الإسلامية، مما حدى بروح التفاؤل هذه أن تخفت وبالشك بوجود التأثير الإسلامي على المسيحية أن يتزايد. وهذا ما جعل تنامي الأرسطية في هذا السياق من قبل المدافعين المشككين بالإيمان يرى بوصفه صعوداً للأثر الرشدي.
حاولت الكنيسة أن تقوم بالحد مما رأته شكلا من التخريب اللاهوتي عن طريق أمر كنسي. تم اتهام الأرسطية لأول مرة عام 1270 ثم بشكل أكبر عام 1277 بواسطة أسقف باريس إتيان وعند طريق مطران كانتربوري روبرت كيلواردبي. استخدمت صفة كلية القدرة الإلهية المطلقة كسمة جوهرية في صياغة هذه الإدانة، وخلال الأعوام اللاحقة، ظهر مفهوم “حرية القادر” حتى يؤسس عماد مفهوم جديد عن الإله معارض للأرسطية. انعكست هذه الرؤية من جهة من خلال اعمال دونز سكوتز ولكنها ظهرت بوضوح ودقة من خلال أعمال ويليام اوكهام ومن خلال الحركة الاسمانية التي ولدتها أفكاره.
ولد اوكهام في إنجلترا بين 1280 و 1285. وبعد دخوله الكنيسة الفرانسيسية في عمر مبكر، أكمل دراسته في اوكسفورد. على الاغلب انه لم يكن التلميذ لخليفته المعروف دونز سكوتوز ولكنه تأثر به تأثراً بالغا بلا شك، والذي بقي أثره قوياً في أوكسفورد. أكملت أغلب اعمال اوكهام الفلسفية واللاهوتية يبن 1317 و 1324 عندما تم استدعاءه إلى أفينجون ليرد على دعاوى الهرطقة في حقه. في عام 1326 تم اعلان حظر 51 من ادعاءاته، ولكن لم تدن أي منها.
اعتمادا على أعمال المفكرين الاسمانيين الاولين مثل روسيلين وابيلارد، ومن خلال اعمال هنري وسكوتوز، خط اوكهام بتفصيل كبير الأسس للاهوت وميتافيزيقيا جديدة تتعارض بشكل جذري مع المدرسية. يرى اوكهام بأن الايمان وحده لا يخبرنا بأن الله كلي القدرة ويستطيع عمل كل ما هو ممكن، بمعنى أنه غير متناقض. بالتالي فإن كل موجود إنما يوجد كنتاج إرادته ولا يظل موجوداً على حاله هذه إلا بمحض إرادته. يصبح الخلق حينها فعلا ناجما عن مطلق النعمة والفضل ولا يدرك إلا من خلال الوحي. خلق الاله العالم ولا يزال يفعل من خلاله، ولا يقيّد بقوانين العالم ولا بأحكامه السابقة. يفعل ما يشاء بمحض إرادته ولا يدين بأفعاله إلى أي إنسان كما يردد اوكهام. بالتالي فلا وجود لنظام ثابت للطبيعة والعقل يستطيع الإنسان فهمه ولا معرفة للإله دون الوحي. يرفض اوكهام على إثر ذلك القياس المنطقي والوحي المدرسي وكنتيجة فهو بهذا قلل من أهمية الأسس اللاهوتية والميتافيزيقية لعالم العصور الوسطى.
كان مفهوم كلية القدرة الإلهية مسؤولا عن زوال الواقعية. يرى اوكهام بأن الإله لا يستطيع خلق الكليات لأن خلقه لها يقيّد من قدرته المطلقة. إذا ما كانت الكليات موجودة، فإن الإله لن يستطيع ازالة أي من مصاديقها لأنه حينها سيقوم بإزالة الكليات نفسها. بالتالي، فلا يستطيع الإله على سبيل المثال أن يلعن إنسانا دون أن يلعن البشرية كلها. إذا لم توجد الكليات فسيصبح كل فرد مختلف عن الاخر بشكل جوهري، كمخلوق فريد للإله نفسه خلق من اللاشيء عن طريق مطلق قوته واستمر في الوجود بهذه القوة وحدها. قد يقوم الإله بتوظيف أسباب ثانوية حتى تحدث وتحافظ على موجود، ولكنها ليست ضرورية ومسؤولة بالكامل عن خلق او استمرار وجود هذا الموجود.
الوجود الضروري الوحيد هو الإله عند اوكهام. وكل ما عداه من موجودات هي مخلوقات ممكنة ناجمة عن إرادته. أي أن الأشياء التي يختار الإله إخراجها إلى الوجود تملك طبيعة أصلا، ولكن هذه الطبائع ليست كلية في ذاتها بل تنطبق على كل فرد على حده. ومع ذلك فهي لانهائية في العدد واختيرت بحرية عن طريق الإرادة الإلهية. لا تقوم هذه “الطبائع” بتقييد الإرادة الإلهية بأي معنى حقيقي إلا من جهة أنها تدفع الإستحالة عنها وهي التناقض المنطقي. هذه الطبائع ليست مضمنة او مفروضة مسبقاً في أي شيء. لا تقوض إدعاءات اوكهام بشأن الأنطولوجيا الفردانية الانطولوجيا الواقعية فقط ولكنها تقوض القياس المنطقي والعلم كذلك، لأنه وعند غياب الكليات الواقعية، تصبح الأسماء مجرد إشارات أو إشارات لإِشارات. لا تكشف اللغة حينها عن الموجود بل هي عمليا تقوم بإخفاء الحقيقة عن الموجود أحياناً من خلال تبنيها للقول بواقعية الكليات. في الحقيقة إن ما يسمى بالكليات ما هي إلا مجرد درجة ثانية او أعلى من الإشارات نستعملها نحن الموجودات المتناهية حتى نقوم بجمع الموجودات الشخصية في فئات. هذه الفئات مع ذلك لا تدل على أشياء حقيقية. وإنما هي خيالات ذهنية مفيدة من أجل مساعدتنا في فهم العالم الفردي جوهريا. ومع ذلك فهي تقوم بتشويه الواقع. بالتالي فإن المفهوم المؤسس للمنطق الاسماني بالنسبة لاوكهام كان مقص أوكهام المشهور: لا تقم بمضاعفة الكليات التي تحتاجها أقل. على الرغم من أننا ككائنات متناهية لا نستطيع استيعاب العالم من دون كليات، إلا أن كل تعميم يقودنا خطوة بعيداً عن الواقع. بالتالي فكلما قل استعمالنا “للمفردات” أصبحنا أقرب للحقيقة.
بما أن كل موجود شخصي هو موجود ممكن لإرادة الإله الحرة كما يرى اوكهام، فلا يمكن أن توجد أي معرفة بموجودات مخلوقة سابقة على البحث. وكنتيجة، لا يمكن للبشر أن يفهموا الطبيعة دون اختبار الظواهر بأنفسهم. بالتالي يتم استبدال القياس المنطقي بالفرضيات كأساس للعلم. ومع ذلك فلا يمكن للمعرفة البشرية أن تذهب إلى ما وراء الفرضيات، لأن الاله حر بمعناه المطلق بمعنى أنه حر حتى من أفعاله السابقة، يستطيع حينها أن يقلب أي شيء قام بتكوينه، أن يكسر كل سلسلة سببية، أو أن يخلق العالم من جديد إذا ما أراد ذلك. وهذا يعني أنه لا وجود لأي ضرورة مطلقة إلا إرادة الإله. يرى أوكهام بأن الإله لم يضطر حتى إلى إرسال ابنه على هيئة انسان، فقد يكون المخلص على هيئة حمار أو حجر.
في الدفاع عن هذا المفهوم الجوهري لمطلق القدرة، شارف اوكهام واتباعه على انكار الوحي. لذلك نحو إلى تجنب هذه النتيجة التجديفية من خلال التفريق بين قدرته المطلقة وقدرته المعيّنة، بين سلطته المطلقة المعيّنة، بين ما يمكن للإله أن يفعله وبين ما قرر فعله. كان من الصعب على هذا التفريق ان يصمد طويلاً لأن الإله لم يكن تحت أي اضطرار لأن يحافظ على وعده أو أن يكون مضطرداً في أفعاله. وباصطلاح الاسمانيين فإن الإله “حيادي” بمعنى انه لا يميّز بين الضوابط الطبيعية والعقلية للخير والشر حتى توجه أفعاله أو تقوم بتقييدها. وهذا يعني بأن الخير خير لا لذاته بل لأن الإله اختاره. يعني بأنه وعلى الرغم من أن الإله يستطيع انقاذ الرهبان اليوم ويقوم بمعاقبة المخطئين، إلا أنه يستطيع أن يفعل العكس غداً، ليعيد خلق العالم منذ البداية إن كان ذلك ضرورياً. وحتى نكون عادلين، فإن أوكهام لم يعتقد لا هو ولا أغلب أتباعه بأن الإله قد يقوم بفعل ذلك فعلاً. فقد كانوا ترجيحيين في أغلب الأحيان، وهذا يعني بأنهم اعتقدوا بأن الإله قد يعتمد عليه في إيفاء وعوده التي قطع. بالتالي لم يعتقدوا بأن الإله قد يعاقب الرهبان ويخلص العصاة، ولكنهم أصروا على أن هذا الاحتمال لا يمكن أن يدفع بدون تجريد الإله من ألوهيته.
اعتقد أغلب الاسمانيين بأن البشر لا يستطيعون معرفة الكثير عن الإله أكثر مما أفصح لهم عنه في الكتاب المقدس. يستطيع اللاهوت الطبيعي على سبيل المثال أن يثبت وجود الإله وعلوه وكونه مطلقاً كما يرى اوكهام، ولكنه لا يستطيع أن يثبت وجود إله واحد فقط. ولد هذا الرفض الجذري للاهوت المدرسي من خلال تزعزع الثقة لا بأرسطو وشارحيه المسلمين فقط ولكن بالمنطق الفلسفي نفسه. وفي هذا المعنى، دعّم فكر اوكهام من موقع الوحي في الحياة المسيحية.
رفض اوكهام كذلك الفهم المدرسي للطبيعة. فقد تصورت المدرسية الطبيعة غائية، كعالم تظهر فيه الغائية الإلهية بإستمرار. أصبحت الموجودات الجزئية على ما هي عليه الآن من خلال سعيها لبلوغ غايتها الخاصة. بالتالي فقد لاحظوا الحركة كموجه نحو الفضيلة. أصبح رفض الاسمانيين للكليات ليس رفضا للأسباب الشكلية ولكن للغائية كذلك. إن لم توجد الكليات فلن توجد كليات غائية من أجل أن تتحقق. لا توجّه الطبيعة حينها البشر إلى الفضيلة. أو حتى نقوم بعرض هذا الرأي بإيجابية أكثر، فإن الاسمانية تفتح إمكانية حصول فهم جديد جذري لحرية الإنسان.
لا يعني عدم وجود غايات طبيعية محددة للبشر أنهم لا يمتلكون واجبات أخلاقية. يستمر القانون الأخلاقي برسم حدود للفعل البشري. يعتقد الاسمانيون مع ذلك بأن هذا القانون لا يعرف إلا من خلال الوحي. فلا وجود لدافع خلاصي أو طبيعي من أجل إطاعة القانون الأخلاقي. لا يدين الاله لأحد من البشر ولا يستجيب له. بالتالي فهو لا يخلصهم أو يعذبهم بما فعلوا أو لم يفعلوا. لا يوجد دافع نفعي للفعل الأخلاقي، فالغاية الوحيدة للفعل الأخلاقي هي الامتنان. ترى الاسمانية بأن البشر يدينون بوجودهم إلى الإله. فقد وهبهم نعمة الحياة، وعلى البشر أن يدينون له بالامتنان. سيعطي البعض حياة أبدية ثانية ولكنه لن يكون عادلاً أو ظالماً في قراره لأن أعطياته ماهي إلا من قبيل النعمة والفضل. سيكون من اللاعقلاني أن يتذمر أحد عن قدره فلا أحد له حق في الوجود، ناهيك عن الوجود الأبدي.
وكما يوضح هذا العرض البسيط، فإن إله الاسمانية لم يعد هو ذلك الإله الرحيم الذي تتنبأ أفعاله منطقياً كما هو عند المدرسيين. تزايدت حينها الفجوة بين الإنسان والإله بشكل كبير. لم يعد بإمكان البشر أن يفهموا أو يؤثروا على الاله – كان حراً في أفعاله، محايدا فيما يتعلق بعواقب ما يفعل. سن للبشر قوانين تحكم أفعالهم، ولكنه يستطيع تغييرها في أي لحظة شاء. تعرض بعض البشر للخلاص فيما لعن البعض، ولكن لا توجد إلا علاقة عرضية بين الخلاص والتقوى، وبين اللعن والخطيئة. وليس من الواضح لنا ما إذا كان هذا الإله يحب البشر. بالتالي فإن الكلمة التي خلقها هذا الإله كانت فوضى جذرية عارمة من الاشياء التي لا يستطيع البشر ايجاد اليقين والأمان من خلالها.
كيف لأحد أن يحب أو يوقر مثل هذا الإله؟ لم يكن هذا السؤال جديداً. فقد طرحه مؤلف سفر يوحنا منذ قرون عندما واجه فرضية مماثلة، ثم اهتم كالفن من بعده بظلم مثل هذا الاله الذي لم يكن يستطيع تخيله إلا شيطانا متستراً. قد لا يكون من المستغرب أن تلقى هذه النظرة للإله رواجا عند الفرانسيسيين وهم من يقفون في موقف مضاد جذرياً للجانب اللاهوتي الأرسطي. خلال الفترة الأخيرة من القرون الوسطى، كانوا هم الصوت البارز المنادي لشكل أكثر أصالة أو “بدائي” من المسيحية لم يسيّر وفقاً للأفكار الفلسفية اليونانية والأسس الفلسفية الفاسدة للدولة الرومانية ولكن من خلال مثال المسيح. رأوا بأن الحياة المسيحية لا تستلهم من قصور الباباوات والقضاء البابوي ولكن في الفقر والزهد. بل إن أكثر الفرانسيسيين أصولية رأى الوحي غير كاف، وآمن بعدم استطاعة أحد عيش الحياة المسيحية إلا من خلال مشابهة حياة المسيح وأتباعه. لم يكونوا وحيدين في سعيهم من أجل إيجاد البديل. في الحقيقة، فلم يكونوا إلا الحركة المشهورة من بين الحركات “البدائية” داخل الكنيسة التي ضمت كل من الكاثار، والولدينيسية والهيوماليتية. ولكن فرانسيس تحدث بالنيابة عن كل هؤلاء الأصوليين حينما قال بأن على من يريد أن يصبح مسيحياً بأن يمشي إلى جانب المسيح متتبعاً “طريق الألآم”. وبهذه الطريقة فقط يستطيع تقدير المعنى وراء التجسد وحب الإله للبشر. جسد فرانسيس هذا الإخلاص للمعاناة من خلال زهده (وندباته) وحافظ على قدسيتها في “القانون” الشهير الذي فرض على أتباعه التقشف والفقر.
انقسمت جماعة فرانسيس بعد وفاته في 1226 بين متعصبين طالبوا بالانصياع التام “للقانون” وبين المعتدلين الذين التمسوا إعفاءً بابوياً من أكثر كياناتها تطرفاً. وبالنظر إلى القبول العام لهذه الحركة بين العامة وبسبب الخطر الناجم عنها والذي يهدد للنظام الهرمي البابوي، لم يقم البابا جون (1249-1334) بمنحهم هذا الاعفاء فحسب، بل قام بملاحقة أكثر الفرانسيسيين تعصبا وهو ما يطلق عليهم الفراتيسليين. على الرغم من أن هذا أرضى أكثر أعضاء الجماعة براغماتية، إلا أن البابا جون لم يتوقف عند هذا الحدث. وبسبب تدخله في خلاف بين جماعة الفرانسيسيين وحاكمهم مايكيل السيسيني بسبب إشكالية الفقر (أو كما أطلق عليها نزاع الفقر)، قام حينها بإدانة اعتقادات الفرنسيسيين في السمو الأخلاقي لحياة التورع، مجادلاً بأن هذا القول يتعارض مع الكتاب المقدس.
تنبه جون إلى ان عقيدة الفقر لا تهدد سلطته داخل الكنيسة فحسب ولكنها هددت في تحول الكنيسة ككل. كانت الكنيسة في القرون الوسطى ترى نفسها كتجسد للروح القدس وبالتالي كتجلٍ لسلطة الإله وحكمه على الأرض. وهذا ما جعل رجال الكنيسة يرون بأن عليهم أن يعيشوا في هيئة تليق بمركزهم. تحدت عقيدة الفقر الفرانسيسية هذه الرؤية. فالبشر كما كان يعتقد فرانسيس ليسوا بموجودات سامية في ذاتها، وسعادة الإنسان لا تتحصل من مركزه وممتلكاته في العالم بل من قربه للإله. وهذا يعني بان مملكة الرب ليست مملكة في الأرض تمثلها الكنيسة بالمعنى الحرفي، ولكنها مملكة روحية يتلاقى البشر فيها وينتمون لبعضهم من خلال الإله فقط. وهذا ما يجعل هذه العقيدة لا تعد هجوماً على السلطة والثراء الكهني فحسب، فقد كانت إلى جانب ذلك هجوما على النظام الهرمي البابوي وعلى الكنيسة نفسها.
أحد أهم المدافعين عن الفرانسيسية في هذا النقاش كان ويليام الاوكهامي، والذي كان حينها متواجدا في افينجون من اجل الدفاع عن تهم التجديف الموجهة له من قبل انداده التوماويين. اعتمد البابا في رأيه ضد سمو الفقر على الضرورة الطبيعية للفقر من اجل الحفاظ على الحياة البشرية، مؤكدا على أن الفقر كان موجودا حتى قبل هبوط آدم. فيما اعتمد الفرانسيسون على الوحي في رأيهم المعارض، بأن الفقر لم يوجد نتاجاً للطبيعة ولكن كان نتيجة للخطيئة وهذا ما يعني بأنه كان بعد إنزال آدم. وأكدوا كذلك على أنه وعن طريق قوة الإله المطلقة استطاع المسيح وأتباعه من العودة إلى حالة ما قبل هبوط آدم، من خلال عيشهم حياة تورع دون ممتلكات. قام فرانسيس في نظرهم بفتح هذه الامكانية بشكل جديد، وعلى اثر ذلك فقد خط الأسس لتقليد مسيحي أًصيل. وهذا ما جعل اوكهام وفرانسيس يرتعبون عندما رفض البابا جون هذه الرؤية على أسس ثبات تراتبيية النظام في الطبيعة. لأنهم اعتقدوا بأن الإله لا يمكن بأن يكون راضخا لقوانين الطبيعة التي قام بخلقها. وحياة المسيح كانت تطبيقاً لهذه الحقيقة. بالتالي فإنه ووفقا لرؤيتهم فإن اعلان البابا كان احياءً لموقف ابيلارد التجديفي القائل بأن الإله مجبر على انقاذ البعض من الخلود من خلال إرادته القديمة. رأوا بأن الله غير ملزم بمثل هذه القوانين وهو عرضة لقوانين عدم التناقض فقط. وما دون ذلك فهو حر وذو سيادة، وإنكار هذه الحقيقة نكران للإله. وعلى إثر ذلك اعلنوا البابا مهرطقاً وهجروا أفيجنون طالبين حماية الامبراطور. أصبح اوكهام عضوا في المحكمة الإمبراطورية إلى جانب مارسيليوس البادوي (1270-1342) أصبحوا أدوات فاعلة في تكوين رادع فكري للإمبراطور في خلافه مع البابوية.
الاسمانية بهذا المعنى هي لاهوت فرانسيسي. قامت بإسقاط بنية العالم الذي تصورته المدرسية حتى توفق بين الإله والبشر وقامت باستبدالها بفوضى موجودات شخصية جوهرية تحكمها الفوضى. ومع ذلك فقد وحدت كل هذه الموجودات من خلال الإله مباشرة. من وجهة النظر الفرانسيسية، فإن الحياة هي عالم شخصي جوهرياً ولا يبدو عشوائيا إلا لأولئك الذين لم يتنبهوا إلى اتحاد الخلق في الإله. كل الموجودات في نظر فرانسيس ومن شاركه هذه الرؤية الصوفية الاتحادية كانوا اخوة، لأن كل الموجودات الحيوية وغير الحيوية هي مخلوقات وخلق للإله على ذات الدرجة.
حاولت الكنيسة أن تقمع الاسمانية، ولكن كل هذه الجهود كان أثرها طفيفاً. تم حظر افكار اوكهام في عام 1326 وتكررت ادانتها في 1339 و 1347، ولكن تأثيره واصل التنامي وخلال المئة والخمسين سنة التي اعقبت وفاته أصبحت الاسمانية احد أكثر الحركات الفكرية قوة في أوربا. كان هناك تراث اوكهامي في انجلترا بدأ في النصف الاول من القرن الرابع عشر تحت قيادة توماس برودواردين (رئيس أساقفة كانتوربيري) وروبرت هولكوت وآدم وودهام. كان للأوكهاميين في باريس خلال القرن الرابع عشر تأثير قوي كذلك وضموا نيكولاس الاوتريكورتي، وجون بوريدان، وجون الميركورتي وانضم لهم فيما بعد بيتر دي آيلي، وجين جيرسون ومارسيليوس الانغيني ( والذي كان ناشطاً في هيلدبرغ كذلك). كان هناك تراث اسماني قوي في ألمانيا، خصوصا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر والتي توجت بجابرييل بيل. في الحقيقة، فقد تنامى تأثير الفكر الاسماني خارج اسبانيا وايطاليا بشكل واسع لدرجة أنه وفي عهد لوثر لم يكن هناك إلا جامعة واحدة في ألمانيا لم تكن تحت سيطرة الاسمانيين.
قوضت الاسمانية الرؤية التي طورتها المدرسية عن عالم مسيحي متناغم (ضداً لوقائع أقل تناغم سياسياً ودينياً على الأغلب) وكنتيجة أحدثت ثورة في المسيحية ولكنها لم تكن هدامة. لم تقدم الاسمانية رؤية جديدة للإله فحسب بل قدمت أيضاً رؤية جديدة لما يعني أن تكون انساناً والتي وضعت فيها تركيزاً كبيراً على الإرادة البشرية. وكما لاحظ انتوني ليفي أن المدرسية لم تملك منذ القرن الثالث عشر أي نظرية نفسية تستطيع تفسير الأفعال كشيء عقلاني ومراد في الوقت ذاته. الإرادة عند المدرسيين هي للإله والإنسان بالتالي إما أن يفعل كل شيء أو لا يفعل أي شيء. ناصر توما الاكويني الموقف الأخير، فيما كد سكوتوس (معتمداً على تركيز بونوفينتورا على استقلال الله عن مخلوقاته الممكنة) ومن بعده اوكهام على حرية الإرادة الإلهية بشكل جوهري. ومن خلال مركزية الإرادة الإلهية قدم الاثنان تبريرا وأهمية جديدة للإرادة البشرية. خلق البشر على صورة الإله، وهم كالإله مخلوقات قاصدة لأفعالها بدلا من كونهم موجودات عاقلة. لطالما عدّ هذا الشكل من القدرة على الإرادة الحرة لاعبا أساسياً فيما يتعلق بالأمور الدنيوية، ولكن المسيحية الأرثودوكسية أنكرت أن البشر أحرار في قبول ورفض الفضل الإلهي الماحي للذنوب. ومع ذلك فإن كان البشر أحرار حقاً، كما اعتقد غالبية الاسمانيين، فمن أقل البداهة أن يختاروا القيام بأفعال تزيد من فرصهم في الخلاص.
على الرغم من أن هذا الموقف يعد منطقياً، كانت مثل هذه الفكرة عرضة للتشكيك قياساً بمعايير ذلك الوقت لأنها كانت قريبة بشكل خطر إلى البيلاجينية التي أدانها أوغسطين وكل لاهوتي ارثودوكسي أتى بعده. على الرغم من كل الادعاءات المتكررة من قبل اوكهام وعدد من أتباعه من أن الإله لا يتجاوب مع الإنسان بأي شكل من الأشكال وبالتالي فلا يمكن أن يتأثر بأي فعل ناجم عن الإرادة البشرية، إلا أن الاسمانيين تعرضوا لهجوم متواصل من قبل البيلاجينيين. وهذا كان في أحد جوانبه يتعلق بتأويلهم الإنسان كمختار لأفعاله بدلاً من كونه موجود عاقل، ولكنه كان بالطبع بسبب حقيقة أن عدداً من الاسمانيين وجدوا صعوبة في تأييد وجود إله مرعب وغير رحيم، مدعمين ذلك لا من جهة لاهوتية ولكن كشأن عملي من الله لن يقوم بحرمان الخلاص لكل من يقوم بكل ما يستطع وأن يعطي كل ما يملك. (إن فعلت ما في وسعك، فلن يحرمك الله الفضل) وهذا ما كان يسمى بمبدأ الفعل. بدى أن هذه الرؤية تفضي إلى القول بوجود معايير للخلاص، ولكن هذه المعايير كانت شخصية تماماً بالنسبة لكل فرد. وكل واحد منها يختلف عن تلك في الآخر. سلبت تحديد قدسية الأشياء وحرمتها من يد الكنيسة. فلم يعد التبرع ضرورة لتحصيل الخلاص، لأن الله يستطيع من خلال قوته المطلقة أن يرى كل فعل زائف على أنه تام، والأهم من ذلك أنه يستطيع أن يرى كل فعل على أنه زائف. بالتالي فإن مبدأ الفعل لا يحجم من السلطة الروحية (والأخلاقية) للكنيسة، بل يدافع عن مفهوم الخلاص القريب بشكل كبير من البيلجانية.
بصرف النظر عن المظاهر، من الخطأ اعتبار هذه الرؤية الاسمانية شكلا من البيليجانية. على الرغم من أن الاسمانيين المتأخرين من أمثال جابرين بييل قاموا فعلا بالترويج لأفكار مشابهة للبيليجانية، إلا أن أوكهام وأتباعه في القرن الرابع عشر والخامس عشر لم يفعلوا ذلك. لم يمنح مفهومهم عن كلية القدرة الإلهية مساحة كافية من أجل منح الإرادة الإنسانية أي فعالية. صحيح أن ملاحظتهم لأهمية الإرادة البشرية بدى وكأنه يلمح إلى استطاعة البشر على نيل خلاصهم، ولكن ذلك مما خففت حدته من خلال تأكيدهم على أن كل الاحداث والاختيارات مقدرة بالكامل بواسطة الإله. ورغم أن عقيدتهم بدت وكأنها تمنح مساحة أكثر للحرية البشرية، إلا أن هذا تم ابطاله من خلال التزامهم بالقول بقوة إلهية قررت كل شيء بشكل مطلق ولكنها فعلت ذلك بشكل اعتباطي تماما بالتالي لم تكن أمراً قابلاً للتنبؤ.
استطاعت الاسمانية من خلال هذا التركيز على الحتمية الإلهية أن تتجنب البيليجانية، ولكن ثمن ذلك كان غالياً، لأن مفهوم التقدير المسبق لم يكن معفياً للبشر من مسؤوليتهم الأخلاقية فحسب، ولكنه جعل الإله مسؤولا عن الشر كذلك. رأى جون الميركروتي بأن هذه النتيجة هي أثر لا مناص منه لمذهبه الاسماني، مقراً بأن الله قرر سلفاً ما سيكون معصية ومن سيكون عاصياً. فيما ذهب نيكولاس دي اوتريكورت إلى أبعد من ذلك، خالصاً إلى أن الإله نفسه كان السبب في المعصية. على الرغم من أن غالبية الإسمانيين ولسبب جيد لم يقوموا بالتركيز بوضوح على هذه النتيجة، إلا أنها كانت أهم من أن تحجب لوقت طويل، لتظهر بكل أثرها القوي في فترة التجديد.
سعت الاسمانية إلى تمزيق غشاء العقلانية عن وجه الإله من أجل الوصول إلى مسيحية أصيلة، ولكنها أظهرت من خلال ذلك إلهاً نزوياً مرعباً وغير قابل للمعرفة أو التنبؤ، غير مقيد بالطبيعة أو العقل ومحايد بين الشر والخير. حولت هذه النظرة للإله نظام الطبيعة إلى فوضى من الموجودات المتشخصة، ونظام المنطق إلى مجرد تسلسل من الأسماء. تمت تعرية الإنسان من مكانته السامية في الترتيب الطبيعي للأشياء، وترك ليعوم في عالم لانهائي دون قانون طبيعي يقوده وبلا سبيل أكيد لتحصيل الخلاص. لذلك فليس من المفاجئ أن يكون هذا الإله لغير أكثر الزهاد والصوفية تطرفاً إلا مصدراً للقلق وعدم الاطمئنان.
على الرغم من استمداد هذه الرؤية الجديدة للإله قوتها من تأثير الفكرة نفسها ومن أسسها الإنجيلية، إلا أن ظروف الحياة الصعبة في القرن الرابع عشر وبدايات القرن الخامس عشر لعبت دوراً أساسياً في نجاحها. خلال هذه الفترة حدثت ثلاثة أحداث وهي: الموت الأسود، الإنفصال الكبير، وحرب المئة عام والتي هزت أسس حضارة القرون الوسطى الواهنة جراء فشل الحملات الصليبية، واختراع البارود، والضربة القوية التي تعرض لها الاقتصاد الزراعي التي أسست للحياة الإقطاعية. على الرغم من أن هذه الرؤية للإله كان ستعتبر متهاوية في القرنين الثاني والثالث عشر، إلا أن النكبات التي حدث في الفترات اللاحقة جعلت الإيمان بهذه الإله أمرا ممكناً.
ورغم أن نهاية القرون الوسطى شهدت صعوداً للرؤية الاسمانية للإله، إلا أن المشروع المدرسي لم يتلاشى ببساطة. فقد تم إحياؤه أكثر من مرة ولكن لم ينل ذات التطلعات مرة أخرى. وحتى فرانسيشكو سواريز أحد أشهر المدافعين عن توما الاكويني وآخر المدرسيين العظماء كان اسمانيا أنطولوجياً. قام بالدفاع عن الواقعية التوماوية في مستوىً ما، مدافعاً عن الوجود الذهني الإضافي للكليات، ولكنه قام بقولبة رأيه بشكل اسماني في مستوىً أعمق، مؤكداً على أن كل موجود شخصي هو كليّ. وهذا ما يعني بأن العالم الذي وجدت فيه الحداثة لم يكن عالم الفكر المدرسي بل عالم الفكر المدرسي مقلوباً. لم يحدث هذا الانهيار للمدرسية بلحظة واحدة بالطبع وفي فترة زمنية قصيرة، ولكنه قطع شوطاً كبيراً لذلك مع نهاية القرن الرابع عشر.
من أفيجنون إلى العالم الحديث
نقل كرسي البابوية إلى أفيجنون في عام 1305 لأن البابا كان محابياً للملك الفرنسي، إلى جانب العنف الذي استوطن روما حتى أصبح البابا غير آمناً فيها بعد الآن. وظل هناك حتى عام 1378. خلال ذلك الوقت أصبحت أفيجنون موضعاً للحياة الفكرية الأوربية. على الرغم من أنها كانت أبعد ما تكون عن مركزية موقعها، إلا أن المدينة كانت على طريق تجارة كبير وكانت تمتلك طرق تواصل سهلة نسبياً من فرنسا وألمانيا واسبانا وإيطاليا وانجلترا. تهافت عليها المفكرون لأسباب مختلفة. هدف اللاهوتيون المحافظون إلى الاستفادة من سلطة الكوريا البابوية للتغلب في الصراعات الفكرية التي كانوا يخسرونها في باريس واكسفورد وغيرها من مدن الجامعات، فين حين قدم مناوؤوهم للدفاع عن مواقفهم الأصولية. وكما رأينا فقد كان هذا السبب الذي دفع أوكهام للقدوم إلى أفيجنون، ولكن كان الدفاع عن جماعته هو ما دفعه للبقاء هناك وزجت به في صراعه مع البابا. ومع ذلك فلم يكن إلا واحداً من المفكرين المهمين الذين قدموا إلى أفيجنون خلال هذه الفترة.
في الواقع، فإنه وأثناء صراع البابا وأوكهام في آخر الصراعات اللاهوتية في العصور الوسطى في أديرة ومحاكم أفيجنون وعلى بعد أحياء، خرج ابن منفىً في فلورينتينا كمشروع سيساعد في تعيين ملامح العصر الحديث. وهو فرانسيشكو بيترارك، رفض بيترارك حاله كحال اوكهام الفكر المدرسي من جهة أنه يبالغ في العقلنة، ولكنه كان رافضاً كذلك لحجج الاسمانية اللامتناهية عن العبارات وما رآه كشكوك تافهة عن القدرة الإلهية. حاله كحال الاسمانيين كان بيترارك متنبهاً إلى فساد الكنيسة ويأمل في التطهير والتجديد، ولكنه لم يسعى لهذا التجديد عن طريق الإيمان ومن خلال نص لاهوتي جديد ولكن عن طريق دمج التقاليد المسيحية بالقيم الأخلاقية القديمة.
اعتقد بيترارك بأن الحياة المسيحية لا تتطلب مجرد إيمان ومناسك بل ممارسات أخلاقية أيضا، وأن هذا الشكل من الأخلاق لا يتحقق إلا من خلال فهم أعمق لما يعني أن تكون انسانا وهذا لا يستوحى من الكتاب المقدس فحسب بل من النماذج الاخلاقية للعصور القديمة. نحى بالتالي إلى احياء حب الشرف والجمال كدوافع بشرية مرموقة، في تناقض حاد مع التورع المسيحي في أواخر العصور الوسطى. على الرغم من أن فكره ظل مسيحياً بشكل عام، إلا أنه استوحى مفهوما جديدا للإنسان بقيم جديدة، لا بوصفه مواطنا في مدينة الدولة أو الجمهورية ولكن كموجود شخصي كامل مستقل له سيادته المطلقة. ميّز بيترارك بأن مثل هؤلاء الأفراد قد يحيطون أنفسهم بأصدقاء أو ينضمون إلى آخرين كمواطنين، ولكنه كان مقتنعاً بأنهم يستطيعون فعل ذلك على أكمل وجه إذا ما كانوا أفرادا مستقلين في البداية. كان هذا المثال للفردانية البشرية الذي ألهم الحركة الإنسانوية.
لم يكن مثل هذا التركيز على الفرد في العالم القديم معهوداً . فلم يكن النموذج المثالي للفنان والمواطن الاغريقي في تكوين سمة الفرد أو شخصيته ولكن من خلال استيعابه لنموذج مثالي. لم يضع بيترارك وأتباعه الإنسانويين الإنسان بحد ذاته كمركز للأشياء بل وضعوا الإنسان بوصفه فرداً، ومن هذا المنطلق فقد دانوا للإسمانيين أنطولوجياً أكثر من العصور القديمة. فالفرد بالنسبة للإنسانويين ليس حيواناً ناطقاً يقف على قمة الخلق. فقد اعتقد الانسانويين حالهم كحال اوكهام بأن البشر لا يمتلكون تكويناً أو غاية طبيعية. بالتالي فقد توصلوا أيضاً إلى أن ما يميز البشر هو إرادتهم الحرة. وهذه الإرادة كما استوعبتها الانسانوية تختلف في اعتبار جوهري عن الإرادة التي عزاها اوكهام والاسمانيون للبشر. فهي ليست مجرد إرادة مخلوقة ولكنها إرادة خالقة بنفسها. فقد منح الإله البشر القدرة على الإرادة، ثم يقومون بتكوين أنفسهم بالطريقة التي يشاؤون. هذا المفهوم عن الموجود المريد بذاته شبيه جدا بالإله الاسماني. فهذا الإنسان صانعٌ حاله كحال الإله الذي خلقه، ولكنه صانعٌ يتجلى بديع صنعه في ذاته، هو شاعر بالمعنى الحرفي للمصطلح، قادر على الانتماء إلى أي موجود وتحويل نفسه إلى أي واحد منهم.
وهذا الفرد على أية حال ليس هو الإله. فهو مقيد بنظامه الأخلاقي وبالحركة العشوائية للمواد أو بما اصطلح عليه بالانسانويين من أعقبوا الرومان بالقدر. يستطيع الفنانون منح الهيئة للأشياء، أن يرسموا الصور، أن ينحتوا المنحوتات، يبنوا القصور، وأن يؤسسوا الدول حتى، ولكن القدر سيهوي بهذا كله إلى الخراب. فحتى أعظم الأمراء كما يرى ميكيافيلي على سبيل المثال سيستطيع النجاح في نصف المرات فقط. على الرغم من أن الفرد عند الإنسانويين هو حر وإلهي بمعنى ما، إلا أنه ليس بكلي القدرة لأنه يمر بفترة طفولة وخرف يكون فيها معتمداً على غيره، وبموت يطيح بسيادته عاجلاً أم آجلاً.
هذه الفكرة الانسانوية عن القدر تعكس مفهوماً كامنا عن الزمن كدلالة انحطاط. لا تتلازم الهيئة والغاية في الطبيعة بل هما نتاج لإرادة فنية تبني سدودا في مواجهة طوفان القدر، ولكنها سدود يتجاوزها القدر في نهاية المطاف. انعكست هذه النظرة التشاؤمية لقدرة الفن على السيطرة على الطبيعة في فهمهم لموقعهم في الزمن. فقد علموا بأن العالم البديع القديم الذي أعجبوا به قد استبدل بعصر كالح شيطاني. تمنوا أن ينجحوا في تأسيس عصر ذهبي جديد ولكنهم لم يتصورا أبداً بأنه سيستمر إلى الأبد ولم يحلموا بأن يتطور بنجاح إلى الأبد.
نمت الإنسانوية إلى جانب الاسمانية ومن خلالها. فقد عرضت حلاً لعديد من الإشكالات التي نجمت عن كلية القدرة الإلهية. تم بناء هذا الحل من خلال أسس اسمانية، وهي عن طريق فهم الإنسان كموجود فرد مريد، على الرغم من أن نجاحها لا يعزى إلا إلى تضيقيها للفروقات الأنطولوجية التي رأت الاسمانية أنها تفصل الإنسان عن الإله. كانت الرؤية الناجمة عن الفرد المهيب الهائل “كتمثال ضخم” كما تصفه شخصية كاسيوس في مسرحية شكسبير، كانت بالتالي شيئاً جديداً وخطوة جلية إلى ما وراء القرون الوسطى. أًصبحت العظمة لا التواضع هدفاً للإنسان، ولأجل هذه الغاية قام بتوظيف الفن بدلاً من الفلسفة والبلاغة بدلاً من الجدل. نحت الإنسانوية كنتيجة لذلك إلى الإجابة عن الإِشكالية الناجمة عن كلية القدرة الإلهية عن طريق تصور شكل جديد للإنسان يستطيع تأمين نفسه من خلال سلطته الخاصة في العالم الفوضوي الذي خلقته الاسمانية.
نتصور الإنسانوية هذه الأيام كعدو لدود للدين أو شكل من أشكال الإلحاد. ولكن النهضة الإنسانوية كانت تقريباً إنسانوية مسيحية. استندت الإنسانوية في سمتها المسيحية الخاصة إلى شيشرون والأفلاطونية المحدثة، وطرحت رؤية للمسيحية ركزت فيها بشدة على الممارسة الأخلاقية أكثر من الإيمان والطقوس. هذا التحول الحاضر حتى في الانسانويين الحداثيين الشماليين، دفع بالمسيحية إلى اتجاه بيليجاني كان مهيناً جداً لكثير من المسيحيين الغيورين. من هذا المنطلق أصبح التأثير الإنسانوي على المعتقد والممارسة المسيحية مهماً جدا في تأجيج ثاني الحركات الفكرية البارزة في الإجابة على الإشكال المطروح من خلال الثورة الإسمانية ألا وهو الإصلاح.
كان لوثر هو أب الإصلاح البروتستانتي، وحياته وفكره كانت بشكل أو بآخر ردة فعل للإشكالات التي طرحتها الاسمانية. ومع ذلك فإنه وفي رده على الاسمانية فقد اتبع سبيلاً مختلفاً بشكل جذري عن ذلك الذي عند الانسانويين لا يبتعد فيه من الإله إلى الإنسان بل من الإنسان عوداً إلى الإله. نحى الإنسانويين إلى إصلاح المسيحية، ولكن فكرة لوثر عن الإصلاح كانت أكثر أصولية وشمولاً.
وصف الإصلاح البروتستانتي بأنه آخر تجلي لتدين القرون الوسطى، وعلى الرغم من أن هذا الادعاء لا يعد خاطئا تماماً، إلا أنه يخفي إلى أي درجة كبيرة قام الإصلاح المسيحي برفض مسيحية القرون الوسطى وفق أصول اسمانية. ومثال لوثر يوضح ذلك. أصبح لوثر اوكهامي، ولكنه كان قلقاً منزعجا من صلابة وجمود الإله الذي وصفته الاسمانية، وعانى من آثار شكه بخلاصه الشخصي. بالكاد تخفف حدة قلق لوثر من خلاصه الشخصي من خلال اللجوء إلى إله حاد بطبعه، والذي قد يقوم بمنح الخلاص للأولياء ويمحق المذنبين اليوم ولكنه قد يفعل العكس غداً.
سعي لوثر الشخصي لليقين مقابل هذا الإله كان مرتبطاً بصراعه ضد فساد الكنيسة. كان فساد الكنيسة في تصور لوثر مرتبطاً للعمل وبيع صكوك الغفران بالتحديد. إذا كان ما هو ظاهر في الإله والإنسان كنتيجة له أيضاً، بالتالي فإن الخطيئة لا تمحى إلا من خلال الإرادة الحقة بغض النظر عن نتائجها. ولكن الإرادة الحقة لا تعتمد على الإنسان بل الإله. بالتالي فقد كانت اجابة لوثر على سؤال الغفران هي اجابته عن الإله الاسماني: “الإيمان وحده سبب للخلاص.” قبل لوثر مفهوم الاسمانية عن الانسان ككائن مريد ولكنه نقل هذا المفهوم من خلال إعادة تشكيل علاقة الالهي بالإرادة البشرية. وفقاً للوثر فإن الإيمان هو إرادة الإتحاد بالإله، ولكن الايمان لا يأتي إلا من الإله عن طريق الانجيل. الإيمان بمعنى آخر ضامن للخلاص.
من النظرة الأولى، يبدو من العصي علينا أن نرى كيف للانجيل أن يحل الإشكالات المطروحة من قبل الاسمانية، بما أن الاتكال على الانجيل يبدو بأنه يفترض ثبات ما أوجبه الإله، وهو ثبات تنكره الاسمانية صراحة. إلا أن لوثر يعطي الإنجيل مكانة مختلفة. من خلال هذه الرؤية، فالإنجيل ليس مجرد نص بل هو ما يتحدث به الإله مباشرة إلى الإنسان. يبعث الإيمان حينها من سماع صوت الإله. لا تصبح سلطة الإله حينها أمرا يعيق ويعزل ولكنها يفعل من خلالنا وفينا. أصبح لوثر قادراً هنا على نقل الإله الاسماني المرعب إلى سلطة بين البشر بوصفهم أفراد. فالمسيحي يولد من جديد من خلال الإله لأن الإله يولد فيه.
ادعى اوكهام فردانية كل موجود كمخلوق فريد للإله، ولكنه رأى الإنفصال الجذري بين الإله والإنسان كحاجب لا يمكن اختراقه من قبل الفهم الانساني وكحاجب لا يمكن إختراقه من قبل الإرادة البشرية. وكنتيجة لذلك فقد توجه إلى الإنجيل، ولكن حتى الإنجيل لم يكشف إلا اللحظة التقريرية لإرادة الإله النائي، والتي قد تكون عكس ما كانت عليه في أي لحظة. رأى لوثر الإله أيضا كإله “كامن” لا يمكن تحليله فلسفياً أو فهمه. توجه لوثر أيضاً إلى الانجيل كالمصدر الوحيد للهداية. وعلى عكس الاسمانية، فقد اعترف لوثر بأن الفرق بين الاله والانسان قد يسد من خلال غرس الكتاب المقدس للإرادة الإلهية والذي سيردم كل الشكوك. وعلى عكس الانسانويين فلم يكن هذا الأمر راجعا إلى أن الإنسان أراد بنفس الطريقة التي يريد بها الاله، أي عن طريق الإختراع، ولكن لأن الإنسان أراد ما أراده الإله، أي بشكل أخلاقي وبتورع. لا يصبح الإله نصف إله ولكنه يصبح مسكنا للإله، يصبح الإله المبدأ الداخلي الموجّه لحياته، أو الوعي كما يطلق عليه لوثر.
لم يرى الإنسانيون أو الإصلاحيون أنفسهم كمؤسسي عصر جديد أو محدثي ما هو جديد بالكلية. بل فهموا أدوارهم كمعيدي أمجاد أمر قديم تقليدي. ومن خلال ذلك وجدوا أنفسهم متشابكين في الصراع الناجم عن العلاقة بين الالهي والإنسان والتي أرقت المسيحية منذ بداياتها. اقترحت الانسانوية الايطالية بشكل بروميثي بأن الإنسان يستطيع الارتفاع إلى منزلة الاله أو أن يصبح إلها بشكل ما. وهي بهذا المعنى بيليجانية ظاهرة أو شبيهة بالبيليجانية على الأقل. أضحت رؤية الانسانوية للإنسان بالتالي غير متوافقة مع القدرة المطلقة الإلهية ولمفهوم الإله بما هو إله. أصبح من الصعب أن يرى كيف للإنسان أن يكون أكثر من مجرد حيوان بدون هذه الإله. لم يكن الإصلاح موجها لتجاوزات الكنيسة فحسب ولكن ضد البيليجانية الإنسانوية كذلك. كان إله الإصلاحيين مطلق القدرة وكان الإنسان عدماً دون الإله. وهذا ما جعل من فكرة الإنسان ذي الإرادة الحرة وهماً. ولكن هذا الموقف المضاد للإنسانوية والبيليجانية كان غير مقنعاً بذات الدرجة، لأن إرادة الإنسان إذا أصبحت واهنة، فالإله هو مصدر الشر لا الإنسان، ولا يمكن للإنسان أن يحمل جريرة أفعاله أخلاقياً. على الرغم من عدم استطاعة الإنسانوية الاحتفاظ بمفهوم عن مطلق قدرة الإله، إلا أنها لم تستطع أن توجد بدونه. وعلى هذا المنوال لم يستطع اللاهوت الإصلاحي الاحتفاظ بمفهوم للإله الخيّر وسط غياب إرادة بشرية حرة. وهذا ما جعل الانسانويين والإصلاحيين يتورطون في تناقض حاولوا الهروب منه. وهذا ما أدى بهم بالضرورة إلى الخلاف. وهذا الإختلاف يظهر بوضوح من خلال المناظرات بين اراسموس ولوثر عن حرية وتقييد الإرادة، إلى جانب الحروب الدينية الكارثية التي عصفت في أنحاء اوربا لأكثر من مئة عام.
أسست الانسانوية والإصلاح رؤاهم للعالم عن الانسان والعالم بشكل متتالي. غرست هذه الخيارات في التاريخ الممتد للمسيحية، وما برز من صراع بينهم كان من نواحي عدة انعكاساً للتعارض الحاضر في المسيحية منذ البداية. وفي خضم هذا الصراع نحت مجموعة صغيرة من المفكرين منحىً جديداً معتزلين الإله والإنسان كمؤسس لبحثهم، ومالوا بدلا عنه إلا العالم الطبيعي. تبدأ الحداثة الأصيلة بهذه الطريقة من خلال هدف الوصول إلى علم يصنع من الإنسان سيداً ومالكاً للطبيعة. كان هذا المشروع مدينا للاسمانية بطرق مختلفة ومهمة.
دمرت الاسمانية الأساس الانطولوجي للعلم في العصور المظلمة من خلال افتراض عالم عشوائي لموجودات فردية بشكل جوهري. بالنسبة للاسمانيين، فقد كان العالم مجرد دلالة أعلى ترتيباً، يساعد على فهم لا يتطابق مع أي واقع. بالتالي فقد بدى بأن الاسمانية تجعل من العلم أمرا مستحيلاً. في الواقع فإن العلم الحديث نشأ عن الاسمانية كإعادة نظر للمعنى في الانطولوجيا الاسمانية.
فهمت الميتافيزيقيا المدرسية الإله كأسمى الموجودات والخلق كترتيب معقلن للموجودات تمتد إلى الإله. وهذا الترتيب لا يمكن ملاحظته من خلال الرؤية الاسمانية ليس بسبب أن كل موجود هو مختلف شخصياً، ولكن لأن الإله ليس موجوداً بذات المعنى الذي تقصد به الموجودات كلها. على الرغم من أن اوكهام يشير إلى هذه الهوة بين الإله وخلقه، إلا أنه لم يتوسع في ذلك بتفصيل. تكفل المفكر الكبير الصوفي الألماني ميستر ايكهارت (1260 – 1328) بهذه المهمة وهو من تلاقى دربه بدرب اوكهام وبيترارك في افينجون.
تأثر ايكهارت بشدة بالأفلاطونية المحدثة، على الرغم من أن أفلاطونيته المحدثة لطّفت بتصوفه. رأى ايكهارت حاله كحال اوكهام مسافة لانهائية بين الإله والعالم. يبدو لنا الإله عدما من منظور الموجودات التي نصادفها في حياتنا اليومية. من وجهة نظر ايكهارت، يجب أن تفحص هذه الاشكالية من خلال منظور الهي لا بشري، أن لا تفحص منطقيا بل صوفيا. من حلال المنظور هذا، فالعدم هي موجودات العالم لا الإله، أو أنها بدون الإله تضحي عدما. لأن هذه الموجودات بمعنى ما يجب أن تكون إله، بمعنى أن يكون الإله في هذه الموجودات بشكل ما. وبدونه قد تضحي مجرد عدم. ومع ذلك فإن الفوارق اللانهائية بين الإله وخلقه تعني بأن الإله لا يمكن أن يكون في جواهر الأشياء وماهياتها. يرى ايكهارت بأن الإله في خلقه بمعنى آخر، كقوة موجهة تقرر لهم وجودهم. وباصطلاح الاسمانيين فالإله هو إرادة مجردة، نشاط مجرد، أو قوة مجردة، والعالم في وجوده هو إرادة إلهية. أو من خلال الاصطلاح الحديث، فالعالم حركة غير منقطعة قررتها إرادة إلهية عليّة فعالة أو آلية. العالم هو التجسد، جسد الإله، ويحضر في العالم كروح في جسد، كلية قدرته هي مبدأ غائيته.
بالتالي فالخلق ليس خرقا للنظام ببساطة. يصبح وجود الإله في العالم بمعنى جديد مختلف عن ذلك المتصور عند الفكر المدرسي والميتافيزيقيا التقليدية. لا يصبح الإله مجرد الجوهر والماهية المطلقة للوجودات كلها بل هو كيفيتها أو صيرورتها. من أجل سمة النظام الإلهي في العالم، من الضروري أن نبحث في الصيرورة، ونعني به ضرورة اكتشاف القوانين التي تحكم حركة الموجودات كلها. يصبح اللاهوت والعلم الطبيعي حينها أمرا واحداً.
تعمل حينها العقلانية والمادية معاً من خلال هذا الفهم العام للعلاقة بين الإله وخلقه، ولكنها تختلف بشكل نسبي في فهمها للمعنى الكامن في هذه العلاقة. تفهم العقلانية هوية علاقة الإله وخلقه هذه بشكل من وحدة الوجود. تصبح حركة الطبيعة على اثر ذلك هي حركة الإله، وقوانين الطبيعة هي بنى وأشكال الإرادة الإلهية. تصبح الأسس اللاهوتية للعلم العقلاني حينها لا من خلال الانجيل بل من خلال استنتاج قوانين الحركة من الإرادة المتعالية أو من الحرية.
بينما على النقيض من ذلك، تفهم المادية معنى هوية علاقة الإله وخلقه هذه بشكل إنكاري. إن القول بأن إله الاسمانية كما فهمه اوكهام هو في كل شيء بنفس الطريقة التي اقترحها ايكهارت (ومن بعده نيكولاس الكوسي) هو قول بأن كل شيء متعمد، هو حركة بلا هدف أو غاية، أو أي انتظام ضروري. من خلال هذه الرؤية لا يعود بين الكون الاسماني والكون المادي المتحرك أي فارق ظاهر. لا يعود لعدم وجود الإله أي ارتباط بفهمنا للطبيعة، لأنه لا يستطيع زيادة أو الحد من فوضى الوجود الشخصي الجوهري التي يتسم بها الوجود. لا يضطر العلم حينها لأخذ هذا الإله والإنجيل في الإعتبار في جهده من أجل فهم العالم الطبيعي ويستطيع الاتكال على التجربة وحدها بدلا من ذلك. بالتالي فإن المادية “الإنكارية” تملك أصلا لاهوتياً في الثورة الاسمانية. صحيح ان المادية تنطلق من الذرية القديمة والأبيقورية، ولكن كلا الاثنان يفهمان ويقبلان من خلال ما هو في أصله رؤية اسمانية للعالم.
هذا الفهم الجديد للصيرورة أو التغير كتجلٍ للإرادة الإلهية هو الأساس الانطولوجي للوعي الذاتي للحداثة. فهم الوجود منذ عهد أفلاطون كوجود لازماني غير متغيّر. لطالما كان التغيّر دلالة على الانتكاس والانحطاط عن الوجود. شكك الاسمانية بهذه المفهوم من خلال تأكيدها على أن الإله لم يكن عرضة للتغيّر فقط بل هو التغيّر نفسه. لم يعد يرى الكون المتغيّر كإنتكاسة عن الكمال، لم يعد “صورة الخلود المتحركة” كما يصفها أفلاطون في طيماوس. لم يعد التغيّر مجرد انحطاط. على الرغم من هذه الرؤية الجديد للصيرورة لم تكن موجودة من قبل وكانت مقلقة بشكل مستمر للمفكرين الحداثيين الذين جاهدوا مراراً وتكراراً من أجل اكتشاف أساس انطولوجي ثابت للصيرورة. إلا انها كانت خطوة مؤثرة بعيدا عن مفهومي الزمن والتغير في العصور القديمة والعصور المظلمة.
إن لم يكن التغيّر انحطاطاً، فهذا يعني بأن بعض التغيّر قد يكون تقدماً. فقد ينتج التغيّر المقاد بواسطة تنوير انساني خيراً. يفتح التقدم في هذه الحالة كإمكان بشري. فكرة قدرة الإرادة على السيطرة على العالم كانت واضحة عند الانسانويين في عصر النهضة من أمثال ميكيافيلي، ولكن اتكالهم على براعة الأفراد ورغبتهم جعل سبيل سيطرتهم على الطبيعة غير واضح لهم. عنت محدودية الانسان أن حتى أعظم الأفراد سيخضع حتماً للزمن القاهر. وهذا ما يعني بأن السيطرة على الطبيعة ستتطلب أكثر من مجرد الإرادة الفردية. جادل المفكرون الحداثيون الأوائل بأن هذه المشكلة قد تحل إذا ما وعى البشر من أن العلم ليس إنجازاً شخصياً بل هو مشروع ضخم إجتماعي أو سياسي. وبهذه الطريقة كان من الممكن أن تتصور إرادة بشرية لا محدودة العمر تستطيع أخيراً السيطرة على العالم الطبيعي.
يوصف فرانسيس بيكون (1561-1626) عادة بأنه أب العلم الحديث. رفض بيكون الواقعية بشكلها المدرسي والكلاسيكي مشابهاً سابقيه بذلك. ووافق الاسمانية على أن “لا يوجد في الطبيعة شيء إلى جانب أجسام الأفراد التي تؤدي أفعالا شخصية خالصة”. وكنتيجة لذلك يصبح الكون متاهة لا يقبل ولوج العقل البشري المجرد له. لم يفلح المفكرون السابقون في رأي بيكون في تحقيق أي تقدم خلال هذه المتاهة لأنهم لم يستعملوا ما توفر لهم من قدرة لتحقيق هذه الغاية، متكئين بدلاً من ذلك على التعميمات المتعجلة والملاحظة المجردة. هناك أسباب عدة لهذا الخطأ، ويصفها بيكون بتفصيل في كتابة الأورجانون الجديد من خلال نقاشه المشهور للمفاهيم الأربعة الخاطئة المغروسة في العقل. اعتقد البشر أن كل ما عليهم معرفته يأتيهم عن طريق تجربتهم المباشرة. وعلى اثر ذلك أصبحوا غير مستعدين أو قادرين على التحقق من تعميماتهم من خلال فحصهم للجزئيات. وهذا ما يعني بأنهم كانوا قانعين بالتخمين بدلاً عن المعرفة، ووضعوا أحلام الذهن موضع المعرفة الحقيقية. اعتقد بيكون حتى في زمنه الذي وجهت للواقعية الشكوك من ارتداع البشر عن هذا البحث بسبب لجوء غير مجدي للعصور القديمة ومن خلال الاعتقاد بأن التطور العلمي مستحيل بسبب غموض الطبيعة، وقصر الحياة، وخداع الحواس، وضعف الأحكام، وصعوبة التجربة وغيرها. كان يرى بأن ما هو في حاجة ملحة إليه هو إعادة بناء كاملة للعلم والفن والمعرفة البشرية من خلال أساس قوي.
تختلف المعرفة التي يهدف لها بيكون جذرياً مع المعرفة المدرسية. فهو لا يهتم بماهية الطبيعة وما تنحو تجاهه من خلال العلة الشكلية والغائية للأشياء، بل السمة الجزئية وحركة المادة، لا يريد بيكون معرفة ماهية الطبيعة بل كيفية عملها، بالتالي فإن هدفه ليس النظرية أو الافتراض بل اصلاح حالة الإنسان. عندما تفهم الطبيعة بهذه الطريقة، فقد ينتج عنها ما فيه صلاح للحياة البشرية، لأننا عندما نفهم خصائص الجزئيات سنصبح حينها قادرين على جمعها بشكل يحقق الأثر الذي نرومه. غاية بيكون الأخيرة هي الوصول إلى نموذج للطبيعة لا يكون نظام فئات ساكن ولكن ككل ديناميكي ومجال لتداخل الجزيئيات. وفهم الطبيعة بهذا الشكل يعني استيعاب الطبيعة كقوة.
اعتقد بيكون بأن القوة التي تصدر عن معرفة الطبيعة قد تحمل البشرية إلى آفاق لا تتصور. مع ذلك يرى بأن هذه المعرفة لا تتحصل إلا من خلال إسقاط الشخص منزلته درجة أقل من خلال خضوعه للطبيعة وتحجيمه لحدود إرادته. حتى تسيطر وتتحكم بالطبيعة يجب عليك أن تكون خادماً مفسرا لها. يرى بيكون بأن هدف العلم على إثر ذلك: “لا يتحصل بهناء التكهنات، بل شأن البشرية وحظها وكل قوتها في الممارسة. لأن الإنسان ما هو إلا خادم مفسر للطبيعة، وما يفعله وما يعلمه هو ما يلحظه في نظام الطبيعة حقيقة أو توهما، ودونه لا علم له ولا قدرة. لأن سلسلة العلل لا تكسر ولا تتخلخل، ولا يمكن أن يتحكم في الطبيعة دون أن تطاع. وهذا ما يعني بأن توأما معرفة الإنسان وسلطته يتلاقيان، ولا تفشل هذه العملية إلا من خلال الجهل بالعلل.”
التسليم بمثل هذه المعرفة هو إزدراء للروح البشرية، لأن النجاح يعتمد على هجر ايماننا المتباه بأننا نشغر مكانة أعلى في نظام الخلق. بدلاً من التصرف كآلهة الخلق كما اقترحت الانسانوية، يجب علينا أن نكون مبتدئين في معمل الطبيعة. فنحن لسنا في حاجة لفطنة عظيمة أو تفوق فردي بل اصرار صلب وانصياع إلى أوكد القوانين والأنظمة.
على الرغم من أن التواضع يفتح لنا أفقاً لدراسة الطبيعة، إلا أن القسوة هي ما توصلنا إلى غايتنا. لن تقودنا مجرد التجربة إلا إلى البلاط الخارجي للطبيعة. حتى نصل إلى حجر الطبيعة الداخلية، يجب علينا أن نمزقها إلى قطع، أن نقيدها ونهيجها ونحللها ونعذبها من أجل أن نجبرها على كشف مدخلها السري لحجرات كنوزها. لن نستطيع الفوز بمعرفة عملها وقواها المخفية إلا من خلال التعامل معها كخدم غير رحيمين من سيقوم بإخضاع وتعذيب سيدهم من أجل معرفة مصدر قوته. اعتماداً على أسس هذه المعرفة نستطيع حينها التوصل إلى “شكل ونوع من الاختراعات يستطيع أن يقمع ويتجاوز الضرورات والمآسي البشرية”.
وهذا ما جعل بيكون يعرض إجابة ثورية جديدة للإشكال المطروح بواسطة الاسمانية والإله الإسماني. واجه وقبل الرؤية الاسمانية للعالم وحاول إيجاد حل لإشكالاتها الأساسية. فهو لا يهدف إلى تجل شاعري للعالم ولا موضعاً جديدا لإله. ينحو بدلا من ذلك نحو اكتشاف القوى المخفية والتي تتحرك الطبيعة من خلاله لتكسب السيادة عليها. الإنسان كائن مريد يسعى لضمان نفسه في العالم كما يرى ذلك بيكون وبيترارك واوكهام. وعلى النقيض الزهد الفرانسيسي والمفهوم الإنساني للفردية المشابهة للألوهية، يتخيل بيكون الانسان كمخلوق خائف ضعيف لا يستطيع النجاح حتى يعمل مع أقرانه البشر خلال سنين عدة من أجل معرفة قوانين الطبيعة وتحويل هذه المعرفة إلى فائدة البشر. ما يجعل من نجاح مشروع بيكون ممكناً هي السمة الديموقراطية فيه، فهو لا يتكيء على مجهود العظماء النادرين العباقرة، ولكن على التطبيق المستمر للإدراك الاعتيادي على مجموعة من الإشكالات البسيطة التي يمكن تحليلها بسهولة. يفترق بيكون عن سابقيه من الانسانويين. فبطل المعرفة الذي يتخيله بيكون في كتابه الاطلانطيس الجديد على سبيل المثال، ليس انسانا لامعاً بروح عظيمة، بل عالم غير بطولي شبيه بالكهنة وفيه رصانة يحمل الدافع للبحث في الدنيء والخاطيء لا الجميل والراقي فقط، لأنه يعلم كما يعلم بيكون من أن ” ما يستحق الوجود يستحق إذن أن يعرف”.
على الرغم من وضع بيكون أولى اللبنات للعلم الحديث مقام على أسس اسمانية، إلا أن جاليلو وديكارت وهوبز هم من أقاموا حيطانه. في الحقيقة فإن منهجية بيكون لم تكن مناسبة للطبيعة كما فهمت كمادة متحركة. إن تركيزها الاسماني الصارم على الموجودات الفردية ومنهجها الاستقرائي هو ما جعلها غير قادرة على ادراك الحركة على هذ النحو. إن تحويل جاليلو للحركة إلى عالم هندي مجرد وفهمه الجديد للقصور الذاتي في الفيزياء كانتا خطوتان جوهريتان جعلتا من العلم الرياضي الحديث ممكنا. وعلى هذه الأسس طور ديكارت وهوبز رؤى بديلة للمشروع العلمي الحديث.
إن الفارق بين ديكارت وهوبز مهم وأساسي في تفرع الحداثة. هناك نزعة في الفكر الحداثي تبدأ بديكارت وتتضمن لايبنتز وسبينوزا وكانط وفيخته وهيجل وشوبنهور وغالبية الفلاسفة القاريين. وهناك بداية ثانية مع هوبز ولوك وهيوم وميل بالإضافة إلى العديد من المفكرين الانجلو-أمريكيين المعاصرين. هاتان النزعتان الفكريتان تقدمان أجوبة بديلة للإشكالية الجوهرية المطروحة من خلال الإله الاسماني داخل طار العلم الحديث. تحول الاختلاف بينهم إلى عدة إشكالات، ولكن كان لسؤال الطبيعة وعلاقة الانسان والاله أهميته الأساسية.
الإنسان عند بيكون جزء من الطبيعة. بالتالي فهو ” يستطيع فعل الكثير والكثير من خلال ملاحظته لسير الطبيعة فقط من خلال الواقع أو الذهن. ودون ذلك لا يستطيع معرفة شيء أو فعل شيء”. الإنسان موجود طبيعي معرض لكل قيود الطبيعة. على الرغم من مقدرته على تحسين حالته وفي معنى محدود يستطيع ترويض العالم الطبيعي، إلا أنه يبقى جزءاً من الطبيعة لا خالقها.
يقدم ديكارت رؤية مختلفة للمشروع الحديث. وفكره أيضاً كان متأثراً كثيراً بإشكالية الإله الاسماني، ولكن حله لهذا الإشكال كان مختلفاً من جانب جذري مقارنة ببيكون. على وجه الخصوص، فهو يمتلك مفهوماً مختلفاً جذرياً عن موقف الإنسان في علاقته مع الإله والطبيعة. ففي بدايات أفكاره كان ديكارت مقتنعاً بدرته على بناء علم يقيني مستند على الرياضيات. اعتقد ديكارت بأن مثل هذا العلم يستطيع انتاج مظاهر رياضية لكل الحركة التي ستسمح للبشر في ترويض الطبيعة بحق، ويستطيعون من خلاله لا مجرد تحسين البؤس الإنساني كما يطمح بيكون ولكن من اجل جعل الإنسان إلها فانياً لكل الخلق. تعرض هذا المشروع المبدئي للتشكيك عن طريق ملاحظة ديكارت أن فكرة الإله كامل القدرة تقلل من قيمة يقينية الرياضيات. وهذه الملاحظة قادت إلى البحث الروحي الذي انتهى بتوصل إلى ديكارت إلى مفهومه المشهور أنا أفكر إذن أنا موجود كأساس للمعرفة البشرية. مشروع ديكارت العلمي كما يظهر في فكره الناضج هو ردة فعل على الإشكال المطروح من قبل الاسمانية.
ما يجعل الحل الديكارتي لهذه الإشكالية مميزاً عن حل بيكون هو ما يحضر في مفهومه الأساسي، لأنها تؤسس للعلم الحديث من خلال فاعل مجهول لا يتجاوز الطبيعة فحسب بل هو قادر على مقاومة وتحدي (أو حتى استبدال) الإله نفسه. يصبح الإنسان مخضعاً للطبيعة عند ديكارت وحاكماً عليها من خلال التخلص من مالكه الحالي، وهذا يعني انتزاعه من الإله. وهذا ممكن لأن الإنسان في معنى ما هو إله، أو على الأقل هو الإرادة غير المحدودة التي تشكل الإله.
المفهوم الديكارتي للعلم يتكيء على مفهوم جديد للإنسان كموجود مريد على غرار الإله كامل القدرة الاسماني وهو قادر مثله على التحكم بالطبيعة خلال ممارسة لإرادة اللامحدودة. لا يعتمد ديكارت على الاسمانية فقط بل على مفهوم الانسانوية على الفرد الخالق المقتدر، وعلى فكرة لوثر عن تشارك الإرادة الإلهية والإنسانية. وهذه التركيبة الرصينة هي ما نجحت في إثارة مفهوم الذاتية الذي يلعب دورا رئيسياً في العقلانية والمثالية ومؤخراً في الفكر القاري كذلك.
على قدر ما أن ديكارت يترك الإنسان في الطبيعة كجسم متحرك ويقوم في الوقت نفسه برفع مكانته فوقها إلى مرتبة شبيهة بكلية القدرة، إلا أنه يضع الأساس لإستياء حتمي لا علاج له يلقي بخطر أخلاقي وسياسي كبير على الحداثة. تنحو الإرادة الإنسانية الحرة غير المتناهية باستمرار إلى ترويض وتجاوز الجسد ولكنها في الوقت نفسه لا تزال متجسدة. من خلال ميلها إلى اكتشاف جوهرها المحدود فستنحو دائماً إلى إلغاء المتناهي، وهذا الإلغاء مستحيل. على الرغم مما يبدو على المثالية من مثالية ورقي إلا أنها في شكلها العملي تواجه باستمرار اغراءً من الفكر الملياري من اجل استعمال اكثر معاني السيطرة تطرفاً من اجل تحقيق ما لا يمكن تحققه من غاياتها.
لهوبز رؤية أكثر محدودية للقدرة الإنسانية من تلك التي يمتلكها ديكارت. فالإنسان عند هوبز هو جزء من الطبيعة، جسم متحرك. يعتقد هوبز حاله كحال الاسمانيين بأن هذه الحركة لم تقدر بشكل غائي، ولكن على عكسهم فهو لا يراها حركة عشوائية بل ميكانيكية. فهي لا تعي جوهرها كما هو المفهوم الأرسطي، ولا هي المنجذبة إلى غاية طبيعية من خلال حب أو جمال، بل هي مدفوعة باستمرار إلى الأمام من خلال تصادمها مع موجودات فردية أخرى. بالتالي فالإنسان لا يتحرك وفقاً لدوافع طبيعية جوهرية، ولا بواسطة إلهام إلهي أو إرادة حرة، ولكن من خلال تعاقب لحركات سببية. على عكس ديكارت، لا يرى هوبز الانسان أعلى رتبة من الطبيعة. فالبشر هم ذوات طبيعية خاضعة لقوانين الطبيعة. وبواسطة هذه القوانين التي تحكم كل مادة، سيلازم كل واحد من هذه الذوات (البشر) حركته إلا إذا ألغيت من خلال تعارضها مع جسم آخر. وهذا التصادم بين الموجودات البشرية هو صراع، لأنه يحد من الحركة المستمرة للأفراد. وهذا ما يجعل حالة الإنسان الطبيعية في عالم مكتظ مليء هي حالة حرب. غاية العلم كما يرى هوبز هي في تنظيم حركة أجساد البشر وكل ما هو غير بشري من أجل زيادة حركة الإنسان غير المعاقة (بالتالي هي حرة).
أهمية الإرادة الحرة في فكر هوبز مهملة بشكل كبير. في الحقيقة، ينكر هوبز امتلاك البشر لإرادة حرة، واصفا الإرادة بانها آخر الميل قبل الفعل. تعاش الحياة البشرية عند هوبز خلال الطبيعة وهي محدودة دائما بالعالم الطبيعي. فالأنسان مخلوق أكثر من كونه خالق، محكوم بالقوانين أكثر من كونه مشرعا لها. فهو ليس موجودا متعالياً قد يتصور نفسه إلهاً بل ذات مجبرة غايتها الأسمى هي الاستمرار في مساقها المقرر لها مسبقا بأقل تدخل ممكن من الآخرين.
يخشى غالبية البشر من الموت في نظر هوبز ويقبلون الخضوع لدولة من اجل تحقيق السلام ويوسعون من حدود حريتهم. المخاطر الكبرى لمثل هذا الحكم والسلام الذي يجلبه هي الرغبة بالمجد (التي تميّز الانسانوية) والايمان بأن أفعالنا في هذه الحياة تستطيع التأثير على حياتنا القادمة (والتي كانت رئيسية للإصلاح). أثر الرغبة بالمجد محدود بسبب الليفياثان، والذي يصفه هوبز بـ”إله فان”، لإنعدام من قد ينافسه على الشرف. أثر التعاطف الديني يخفف بواسطة فهم صحيح بالتقدير المسبق. يوافق هوبز كلاً من كالفين ولوثر ممن أن كل شيء مقدر مسبقاً ولكنه يرى بأن هذه الحقيقة هي ما تقرر بأن ما نفعله في هذا العالم لا تملك أي تأثير على خلاصنا. إذا كان كل أمر مقدر مسبقاً، هذا يعني بأن لا شيء من الممكن لأحد فعله حتى يحوز على الخلاص أو يخسره.
عن طريق استبعاد المجد والطوبى كمحركات للفعل البشري، يؤمن هوبز بأن البشر سيكونون ميالين إلى طلب الوقاية والرخاء. وهذه أقل خيرية من المجد العملي أو الماورائي، ولكنها أيضا أقل احتمالية في مصدرا للصراع العنيف. بالتالي يهدف هوبز إلى جعل الانسان حاكماً ومالكاً للطبيعة لا من أجل بلوغ أعالي مجده بل من أجل إرضاء رغباته الطبيعية المادية.
تهدف الحداثة إلى غايتين، بأن تجعل الإنسان حاكماً ومالكاً للطبيعة وبأن تجعل الحرية البشرية أمراً ممكناً. السؤال الذي يظل معلقاً هو ما إذا كانت هاتان الغايتان متوافقتان فيما بينهما. يشير النقاش بين هوبز وديكارت في الاعتراضات والردود على كتاب التأملات بأنها ليست كذلك. ما نراه في هذا النقاش هو عودة الإشكالات في أساس النقاش بين لوثر واراسموس. يرى ديكارت حاله كحال اراسموس بوجود حرية بشرية بالإضافة إلى العلية من خلال الطبيعة. يرى هوبز حاله كحال لوثر بعدم وجود قوة غير قوة الإله المطلقة كسبب مطلق يقف خلف حركة المادة كلها. وهنا نرى عودة ظهور العلاقة المشكلة بين الانسان والإله في قلب الحداثة والتي أربكت المسيحية منذ نشوئها. إن التحول الحداثي الموجودي من الإنسان والإله إلى الطبيعة على إثر ذلك لا يزال يسلم بأهمية بنوية وميتافيزيقية مستمرة للتصنيفات التي تهدف إلى تجاوزها. عانى من أتى بعد ديكارت وهوبز في التراث الحداثي من هذا السؤال. تميز التنوير تحديداً بسلسلة من المحاولات لحل هذه الإِشكالية. مركزية هذه الإشكالية للمشروع الحداثي أصبحت ظاهرة في نظام التناقض الكانطي في الثورة الفرنسية. وفي نهاية الحداثة، أصبحنا نواجه سؤالاً عن وجود حل لهذه الإشكالية من خلال الأفق الأنطولوجي الذي تفتتحه الحداثة، وبالتالي ما إذا كانت الحداثة في أكثر أشكالها علمانية قادرة على الهروب من الإِشكالية الميتافيزيقية/اللاهوتية التي بدأت من خلالها.
يفحص أفلاطون في محاورة بارمنديس السؤال الأساسي عن الواحد والكثرة. وهذا السؤال أساسي لأنه لا يمكن الإجابة عنه، لأنه في ذاته افتراض سابق لكل تفكير، بالتالي هو افتراض سابق للسؤال والإجابة. لا نستطيع التفكير في الأشياء دون التفكير بأن هذه الأشياء كموجودات هي واحد وكثير في الوقت نفسه. هناك العديد من التفسيرات لهذه المعضلة، بعضها متجذر في الطبيعة المتناقضة للوجود بينما الآخر في عدم فعالية اللغة على ادراك الموجود، ولكننا لا نحتاج إلى الخوض في هذه المسألة هنا. من المهم في سبيل تحقيق هدفنا هنا أن نتنبه إلى عدم وجودة إجابة قاطعة لهذا السؤال. بالتالي فلا يوجد رؤية نظرية نهائية للكل حتى تعمل كحقيقة أساسية مطلقة غير متزعزعة. فلا البحث البارميندي عن الواحد ولا الفردانية الجوهرية أو الاسمانية تستطيع معالجة هذا التناقض. ولا هي يمكن لها أن تلغى بواسطة منعطف لغوي يتخيل كل شيء كمجرد كلمات وعلامات، تخلق لعبة اللغة أو ألعاب لغة العالم من جديد في كل مرة نتحدث فيها. يوضح هذا السؤال ويعيد تشكيل كل التفلسف. يجادل بلاتو في بيرمانديس بأن المحاولة لتفسير العالم بدون إحالة إلى الواحد هي محاولة مقدر لها بالفشل. ترفض الاسمانية الواقعية لأنها تذهب بعيداً في اتجاه الواحد، واضعة هوية بين الإله وخلقه. فيما تفصل الاسمانية على العكس فصلاً حاداً بين الاثنين وكنتيجة فهي تركز على الكثرة والجزئية.
واجه الأشخاص الثلاثة الذي غادروا كاتدرائية نوتردام دي دوم في ذلك اليوم من عام 1326 وهم وليام الاوكهامي وفرانسيشكو بيترارك ومايستر ايكهارت، واجهوا هذا السؤل وراموا الإجابة عنه. شكلت إجاباتهم وإجابات من أعقبوهم العالم الحديث بطرق مختلفة ومتناقضة، معيدة تعريف الطبيعة وعلاقة الإنسان والإله والكون. من خلال النزاعات التي نواجهها الآن ومن خلال النزاعات التي يخبئها لنا المستقبل عن الطبيعة والحداثة والعولمة، من الضروري ألا نفهم الطرق التي يتشكل فيها مخالفونا فحسب بل أن فهم الطرق التي لا تزال تشكلنا وتثير اعتقاداتنا وأفكارنا والتي في أساسها ليست حداثية، بل في الحقيقة هي إعادة ظهور للسؤال الذي مهد لولادة العصر الحديث.