قصائده لا تخلو من صور بديعة....وراقية...وهذا يبين مدى الخيال الذي يتمتع به.. وقد استعان في صياغته هذه الصور على الأساليب البيانية المعروفة ( التشبيهات، والاستعارات، والمجازات، والكنايات، والمحسنات البديعية)... وبالتالي استطاع أن يقدم لنا كثيرا من الصور الفنية.. وصبغها بعواطفه، وأحاسيسه، وجمال نفسه...دونما صنعة أو تصنع...
وقد برع كثيرا في خلق صور غير قابلة للتجزيء.. والتي حولت القصيدة إلى لوحة فنية شاملة.. ومن هذه القصائد ( عيناك تفاحتان)، والتي يقول فيها:
عيناك تجترحان الرشق بالخفر
وتجرحان خدود الماء والقمر
عيناك تفاحتان امتدتا وهجا
في قامة الليل أو في باحة العمر
النبض إثرهما يغفو على شغف
والقلب بينهما يصحو على سفر
سافرت كالشفق المبتل صوبهما
ما للبنفسج في عينيَّ من أثر
أشتمُّ رائحة الوقت المراق على
ثوب الطريق وفوق العشب والصور
وأشرئب وكلِّي للسنا ظمأ
ظل الأماني بساط قدَّ من شرر
يمَّمتُ شطر التباريح التي غربت
في أفق خاطرة مشدودة الوتر
حيث يصف فيها عين حبيبته.. فيشبههما بالتفاح، وبالبحر.. ويبين فيها لوعته، وشوقه وحنينه إلى رؤية هاتين العينين القتالتين...وأمام جمالهما ، يطلق لنفسه العنان لتصف كما تشاء... وهي ترى فيهما الدنيا ..فنجد صورا ووصفا جميلا يرشح صبابة.. إنها تعرية للذات، وكشف للنفس، وتعرية للخواطر... وفي هذه التعرية صدق العاطفة، والأحاسيس...
ومن الصور المبتكرة والجميلة هذان البيتان.. حيث يصور فيهما الغيم والسحاب، وقد تحولا إلى كتاب، وشرع يقرأ فيه، ويتصفحه.. كما يصور حالته الشعورية، عندما انتابته الأحلام، وتحولت إلى يد تلقي في جرابه حصوات.. وما هذه الحصوات إلا الأحلام التي تلقى في خاطره.. وذهنه.....
أقرأ الغيم سطورا++++ ماثلات في كتابي
وأكف الحلم تلقي ++++ حصوات في جرابي
وقوله أيضا، وهو يصف أسنان حبيبته بالثلج لكثرة بياضها.. كما يصف فمها بالبرقع.. عندما تبتسم تظهر ثناياها البيضاء...فيشع نور يخترق ظلمة الليل... وضحكاتها، وصوتها كاللوز المتساقط.. فهو الجمال يقطر منها ضحكا، وابتساما.. ونظرا ...وعطرا...
كما أن الضوء يعشق خطواتها، ومشيتها ، ويجد فيه جمالا.. أما الورد فيأخذ لونه وحسنه منها:
يا طفلة يتعرى الثلج إن فتحت +++++ أزرار برقعها في هدأة السحر
ويسقط اللوز من شباك ضحكتها +++++ ويستجم الندى في ظلها العطر
ويرتمي الضوء مسكونا بخطوتها +++++ ويشرق الورد من ألوانها الكثر
ويقول عن القصيدة، مصورا أوارها، وعراكها.. وكيف يستعد الشاعر لاصطيادها حيث يعد عدته..إنه يقدم لنا صورة معركة بينه وبين القصيدة.. وكيف يجاهد نفسه ليفوز بها.. إنه يحول قول الفرزدق:"لخلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر"، إلى قصيدة جميلة حالمة بالصور، والاستعارات:
إذا ظبي القصيدة صيد حيا +++++ فقد شبعت مروج الفكر ريا
وقد لبس الخيال رداء خصب +++++ زكي الروح مؤتلقا نديا
فهل أعددت للكلمات سهما +++++ بلا قوس وسيفا مشرفيا
فتردي شارد النجوى قتيلا +++++ وتصمي في الهوى كبدا طريا
وهل أسرجت خيلك باقتدار +++++ إلى جوزاء حرفك والثريا
وقدت جحافل النبضات طرا +++++ بشعر كنت فارسه الكميا
نعم جرعات قلبي من رحيق +++++ وكم من هضبة تنمو لديا
فأقبل يا وشاح النار أقبل +++++ وأحضر كل قافية إليا
ستحملني إلى خلجان بوحي +++++زوارق كنت أرعاها مليا
يلاطمها عباب في دمائي +++++ وعاطفة تدمدم في يديا
وأصوات تولول في يراعي+++++وتعزف في المدى نغما ثريا
مقامي لا يبث النَّوْرَ إلا +++++إذا كان الضياء له سميا
ويقول في قصيدته (تمرين .. بي) مصورا حبيبته في أحسن بهاء.. وهي تمربه.. ومن أمامه، كأنها الحسن الناطق... على وجنتها الورد .. وفي شفتيها دمه.. وعندما تفتران عن ابتسام .. يظهر صفان من اللؤلؤ الناصع البياض.. وهذا ما يزيد الشاعر افتتانا.. وولعا.. وصبابة...
تمرين ... في وجنتيك الأقاحي +++++ يسافر في لونهن المجون
وفي شفتيك استدارات ورد+++++يكون له الشوق أولا يكون
إذا افترتا عن بياض الأماني+++++رذاذ الرجاء تدر الجفون
ويصور سهره وأرقه، وهو يناجي نجم السماء، باحثا عن قافية، شاردا وراء صورة.. باحثا عن مدخل إلى قصيدة.. إنها لحظات المخاض والولادة.. يصورها بفنية عالية.. فلنقرأ قوله:
يا أيها القلم المصلوب فيقمر +++++ناءٍ على كل شلو منه أجزاء
آليت أن تركب الهمس المدوم في+++++ غلالة الصمت لا تثنيك أرزاء
عزَّ اقتفاء النجوم الساريات فما+++++ يغشي مداراتها إلا الأعزاء
فاستشرف الضوء من وجه تهيم به+++++كأن هامته في الحسن جوزاء
وقد أكثر عبد اللطيف غسري من استخدام التشبيهات التمثيلية، والضمنية،التي أعطت للصورة فنيتها وجماليتها.. وبعدها الدلالي المنشود.. وهذا لم يجنح به إلى الخروج عن الذوق العام، أو الإسفاف، أو الإخلال بالحياء العام...
ومن براعته في التصوير، قوله:
أنا الموج ، إن هجت فالبحرلا +++++ تؤوب قواربه ناجيهْ
كتبت تعاويذ للعشق في+++++جبيني وفي الصحن والآنيهْ
وسافرت في القوس والمستطيل+++++وبين الدوائر والزاويه
أعابث صيف المعاني فيحنو+++++وأشرق في شمسه الحاميه
ففي كل الصور التي عرضناها، نجدها لا تخلو من محسنات بديعية.. إذ تتوفر على طباق وجناس، وتورية، وكناية، ومقابلة...
[1]- د. شرف، (عبد العزيز)و ، د. خفاجي، (محمد عبدالمنعم)،النغم الشعري عند العرب، دار المريخ للنشر، الرياض، طبعة 1987