موقف الغزالي بين العقل والنقل :
يؤكد الغزالي هنا مبدأ مهماً وهو أن العقل والشرع لا يتعارضان تعارضاً حقيقياً من الناحية النظرية لأن كليهما نور من عند الله، فلا ينقض أحدهما الآخر، ولا من الناحية العملية، فلم يثبت أن اصطدمت حقيقة دينية بحقيقة عقلية، بل يرى الغزالي أن أحدهما يؤيد الآخر ويصدقه الغزالي بين مادحيه وناقديه . ، بل نراه في (المستصفى) وهو من أواخر ما صنف، يعتبر العقل قاضياً، والشرع شاهداً، حيث بقول بعد الديباجة :
أما بعد فقد تناطق قاضي العقل، وهو الحاكم الذي لا يعزل ولا يبدل، وشاهد الشرع، وهو الشاهد المزكى المعدل بأن الدنيا دار غرور لا دار سرور .. ومحل تجارة، لا مسكن عمارة، ومتجر بضاعتها الطاعة، والطاعة طاعتان؛ عمل وعلم، والعلم أنجحها وأربحها فإنه أيضاً من العمل، ولكنه عمل القلب الذي هو أعز الأعضاء، وسعي العقل الذي هو أشرف الأشياء لأنه مركب الديانة، وحامل الأمانة، إذ عرضت على الأرض والجبال والسماء، فأشفقن من حملها وأبين أن يحملنها غاية الإباء المستصفى . ، وها هو في الأحياء نراه يدعو إلى المزج بين العلوم العقلية والعلوم الدينية يبين الحاجة إلى كل منهما، ويقرر أن لا غنى بالعقل عن السمع، ولا غنى بالسمع عن العقل : فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين، وكن جامعاً بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية، والشخص المريض يستفر بالغذاء متى فاته الدواء، فكذلك أمراض القلوب، ولا يمكن علاجها إلا بالأدوية المستفاذة
. . ثم يحمل الغزالي بقوة على من يظن أن ثمت تناقضاً بين العقليات والشرعيات فيقول : وظن من يظن أن العلوم العقلية
متناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن، هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعز عن الجمع بينهما، فيظن أنه تناقض في الدين، فيتحير به، فينسل من الدين، انسلال الشعرة من العجين، دائماً ذلك، لأنه عجزه في نفسه خيل إليه نقصاً في الدين وهيهات الإحياء