رسائل الطاحونة
( الرسالة السادسة )
Lettres de mon moulin
Alphonse Daudet
فتاة من بنات الآرل
(الآرل مدينة فرنسيّة عريقة يزخرفها الفنّ الرومانيّ العتيق )
للكاتب: ألفونس دوديه
• عربها: فيصل الملوحي
L'ARLÉSIENNE
في الطريق من طاحونتي إلى القرية بيت يتربّع قلبَ غابة تزينها شجيرات الميس، مصوّراً بروعة هندسة البيت البروفانسيّ، بأرضيّته الحمراء، وواجهته البنّيّة الواسعة المحفّرة، وبكرته التي ترفع عجلات الطاحونة وفتحة تهوية مخزن الغلال ، وحفنة القشّ الأسمر التي تتسلل خلالها. ثم في الجزء العلوي مروحة العلية وبكرة سحب العجلات،
سوف تتساءل في نفسك: ماذا يعجبني في هذا البيت؟ ولماذا تهزّ هذه البوّابة المسدودة مشاعري؟ اعذرني، فليس لديّ أيّ جواب يُلبّي رغبتك، سوى أنّي كلما نظرت إلى هذا البيت اقشعرّ بدني، فالصمت من خارجه يلفّه: كلابه إذا مررت بها لن تهرّك، وأصوات ديكة الحبش(الديكة الروميّة) فيه لن تسمعها وهي تهرب من عابر سبيل غريب، ولا حسّ من داخله تسمعه، ولا جلجلة بغل تُشنّف بها أذنيك، ولولا ستائر نوافذه البيضاء ودُّخَيْنته المتصاعدة من سطحه فلن يخطر ببالك أن البيت مأهول!!
في أثناء عودتي من القرية ظهيرة يوم أمس، ألجأتني حرارة الشمس إلى سور المزرعة لأحتميََ بظلال شجيرات الميس وأنا أعبر، فرأيت قبالة البيت بعض الخدم يملؤون عربة القش، لا تصدر منهم نأمة. وقُدّرلي أن تكون البوّابة مفتوحة، ويشدّ نظري في جوف البهو منظر شيخ كبير ابيضّت هيئته، يجلس على طاولة حجريّة و يرتدي سترة تهدّلت، و سراويل تمزّقت، يتّكئ على مرفقيه، ويلقي برأسه بين راحتيه. فتسمّرت في مكاني، فقال رجل ممّن في المكان – و قد خفض صوته -:
- صه ( هس )، إنّه المعلّم، وهو على هذه الحال منذ مصيبته في ولده.
-
وتمرّ قربنا امرأة وصبي كساهما السواد، يصحبهما كوكبة من رعيّة الأبرشيّة،ويلجون المزرعة.
ثمّ يتابع الرجل حديثه:
- أمّا المعلّمة والصغير اللذان عادا من القدّاس فلم يتخلّفا عن حضوره يوماً واحدا منذ مقتل الولد.. آه، ثمّ آه، ما أبشعها من مصيبة!.. انظر إلى الأب، إنّه لايستطيع أن يتحرّك ليغيّر ملابسه منذ ذلك اليوم المشؤوم.. مسكين ما أقسى لوعته!!
تحرّكت عربة القش لتغادر المكان، فشدّني الفضول إلى أن أطّلع على المزيد، و طلبت من الحوذيّ أن أركب بجانبه. وهناك في أعلى تلك العربة، نمّ لي القشّ بأسرار تلك المأساة..:
الاسم: جان، العمل: مزارع ماهر، العمر: عشرون، العلامات المميزة: حييّ كالفتاة في خدرها، قويّ الجسم، طلق المحيّا،باهر الجمال، كلّهنّ يرغبن به،وهوعنهنّ راغب،إلا فتاة بائسة من سُكّان مدينة آرل في ثوبها المخمليّ المخرّم (dentelle)، هي الوحيدة التي شغلت باله، وهزّت كيانه، بعد أن التقى بها في مضمار المدينة، تمرّ وهي تتثنّى في غنج ودلال مع أبويها الغريبين عن المدينة. في البدء لم تحرّك مشاعره، ثمّ تعلّقها قلبه، وقال: إمّا الموت دونها، وإماّ موافقتهما على الاقتران بها، وصمّم أن يكون بعد الحصيدة.
وفي يوم من أيّام الآحاد حين كانت الأسرة في ساحة المزرعة، وهي تفرغ من عشائها(عشاء أقرب إلى وليمة عرس، سوى أنّ الخطيبة لم تكن حاضرة، ولم يمنع غيابها أن يُدار الراح على شرفها بدون توقّف)، حضر رجل عند الباب وتكلّم في صوت مضطرب، سائلا أن يتكلّم مع المعلّم إستيف وحده، فقام إستيف وخرج إلى الطريق.
- و قال له الرجل: أيّها المعلّم، سوف تزوّج ابنك من بغيّ، كانت خديني خلال عامين، وسوف أثبت ما أذكره: هذه رسائلها! وأبواها لايجهلان الأمر. كانوا على العهد ، حتى ظهر ابنك وأخذ يطاردها فأداروا لي ظهورهم، فركبني العناد وصمّمت ألا تكون لأحد سواي!
- فقال إستيف- بعد أن نظر في الرسائل–( طيّب )،ادخل وشاركني كأساً من خمرة العنب الممسّك.
- أجاب الرجل: إنّي أشعر بالمرار في نفسي أكثر ممّا أشعر بالعطش. ثمّ غادر المكان.
- في هدوء وسكينة وكأنّ شيئاً لم يكن، رجع الأب إلى مكانه على المائدة، وفرغ الجميع من عشائهم لايُعكّر صفوهم كدر.
وفي المساء رافق الأب ولده إلى الحقول، وطال غيابهما، فقلقت الأمّ ولم يغمض لها جفــن، وبقيت ساهرة حتى عادا.
- قال راعي البيت- وهو يردّ لها ولدها-: ضمّيه إلى صدرك فهو مُلتاع.
ثمّ أرَوْه الآرليّة رأي العين بين ذراعَيْ رجل، فانقطع حبل كلامه معها، لكنّ نارالغرام لم تنطفئ، بل ازدادت التهاباًعمّا كانت من قبل. كلّ ماكان يفعل إخفاء هوانه، وانقطاعه عن الاسترسال في الكلام، وكانت العاقبة أن قُتل هذا الولد المسكين!!
لقد ألف فترة من الزمان أن يعتزل الناس يوماً كاملا في زاوية ساكناً لا يتحرّك، وأن يهيج يوماً آخرهيجانا يدفعه إلى العمل في الأرض بهمّة عشرة رجال.
في مساء يوم أخذ سبيله يطرق فجاج الآرل حتّى إذا بلغ بصيص الشمس وهي تغرب عند أبراج المدينة قفل راجعاً، فهو لم يتجاوز هذا الحدّ أبدا!!
لم يتسنّ لسكّان المزرعة أن يعرفوا ما يصنعون وهو يرَوْنه دائماً على تلك الحالة حزيناً منعزلا، وكانوا يخشَوْن أن يقع فيما هو أعظم.
مرّةً كانت الأسرة على المائدة، فقالت له أمّه وهي ترى عينيه مغرورقتين بالدمع: اسمعني يا جان، إنْ كنت مصمّما عليها، فسنزوّجها لك..
احمرّ وجه الأب محاولاً على مضض أن يُخفيَ شعوره بالاستياء من هذه الفكرة، و خرج..
أومأ جان برأسه أنْ: لا، و لحق بأبيه!!
منذ ذلك الوقت تغيّر سلوكه في الحياة، فأخذ يبدي المرح على الدوام، محاولاً أنْ يُحلَ السكينة في نفسَيْ والديه: عاد إلى اللعب بالكرة،وارتياد الملهى في المواسم، وكان اللولب في حلقة الدبكة التي أقيمت يوم الانتخابات في فونفييل.
قال أبوه: لقد برئ ولدي، أمّا الأمّ فقد اشتدّ قلقها، وضاعفت ملاحظتها له.كان جان ينام مع كاديت قرب خُصّ دودة القزّ، فاضطرّت المسكينة إلى وضع سرير لها خارج غرفة النوم. فقد يحتاجان إليها في الليل.
ثمّ جاء عيد القديس ايلوا راعي الأسرة.( يقع مرّتين في العام: /٢٩ ٦ و١٢/١ )
انتشت المزرعة سعادة، حين تناول كلّ واحد حظّه الوافر من خمرة شاتونوف ومن خمرة غيرها، يُطاف عليهم بها كأنّها وابل من المطر، ترافقها المفرقعات و الأسهم والفوانيس المتعدّدة الألوان: عاش القديس ايلوا! لقد دبكنا حتى تقطّعت أنفاسنا، وأحرقت كاديت صدّارتها الجديدة.. وبدت السعادة على جان حتى إنّه أراد أن يُراقّص أمّه، فبكت المسكينة فرحا!!
وحين انتصف الليل أحسّ الجميع برغبة في النوم، فآوَوْا إلى مضاجعهم، إلا جان لم ينم، فقد أبلغتنا كاديت أنّه بقي كلّ الليل يبكي.. أقول لكم الحقيقة: كان مقهورا.
في اليوم التالي – حين بزغ الفجر – أحسّت الأمّ أنّ أحداً أو شيئاً دخل غرفتها وهو يجري، فأقلقتها الحركة، و نادت: جان، هذا أنت؟
لم يجبْ ، فقد كان على الدرج، فنهضت الأمّ بسرعة، وقالت: أين تذهب يا جان؟
صعد إلى العُلّيّة ( الغرفة العليا )، فصعدت خلفه، وقالت:ولدي،أستحلفك بالله!.. فأغلق الباب خلفه بالمزلاج.. جان، حبيبي جان، أجبني، ماذا ستفعل؟ وأخذت تبحث بيديها المرتعشتين الواهنتين عن المزلاج.. ثمّ سمعت قرقعة شبّاك يُفتح، وخبطة جسم يسقط على الأرض.
فردّدت في نفسها: ذلك الولد المسكين...ما أحبَّه إلى نفسي... أنا خارجة...هذه هي الكارثة الشديدة المرار التي شقينا بها واحترقت بها قلوبنا! وماكان لازدراء الأخرين أن يغيّر من الأمر شيئا، أو أنْ يقتل الحبّ في قلوبنا!!
في ذلك الصباح أخذ أهل القرية يتساءلون: ترى، أبقي أحد من أهل بيت استيف قادراً على البكاء؟!
هذا رسم البيت في خيالي
:
...
مصطبةَ حجريّة في ساحة البيت غطّاها دم قان نديّ، وأمّ تجرّدت من ثيابها تحمل بين ذراعيها ولدها الميت
.