في البناء للوصول
(1) بناء فرد العقيدة
على المسلمين اليوم التقدم لتولي القيادة فى العالم وقد فشلت العلمانية أن تقيم نظاما متكاملا يلبي حاجات الإنسان وخاصة الروحية، ولكن ـ وللأسف الشديد ـ تخلى المسلمون عن هذه القيادة ـ قسراً أو طوعاً ـ وقد دخلوا فى التيه الحضاري منذ ما يقرب من قرن كامل ، وذلك عندما ضعفت هممهم ، وفترت عزائمهم عن القيام بدورهم الحضاري بعد أن ضعف سلطان الإسلام فى حسهم ووعيهم وقالوا بلسان حالهم :
{فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}
ولكن بنى إسرائيل ظلوا فى تيههم أربعين سنة ثم خرجوا ،، ونحن مانزال في التيه ...!!!!
ولكن التباشير تلوح فى تضاعيف الصحوة ، وحركة الإسلام من جديد ..فكراً.... وسلوكاً... وتطبيقاً.... وهذا ما يطمئن النفس ... ويفرض علينا مزيدا من العمل والتخطيط .
فالإسلام إنما جاء ليطبق ، والقرآن إنما نزل ليكون دستور العمل ، ومنهاج الحركة ... لا ليتلى فقط ، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان القمة السامقة في التطبيق، عن سعد بن هشام قال : سألت عائشة فقلت : (أخبرني عن خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقالت : كان خلقه القرآن). مسند أحمد
وهذه هي الميزة الكبرى التي تميز بها جيل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فقد كان الواحد منهم يحفظ العشر آيات ثم يذهب ليعمل بها حتى إذا أحكمها تلاوة وتطبيقاً جاء ليأخذ غيرها ، وكثيراً ما قرن الله تعالى ـ في كتابه العزيز بين الفكرة والتطبيق ، بين الإيمان والعمل:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ...} تنبيهاً على هذا المعنى...
فبنـاء فـرد العـقيدة هو المرتكز الأول في بناء النهضة ، وهى ذات النقطة التي انطلق منها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ انطلق ليقرر عقيدة " لا اله إلا الله " في وجدان أصحابه حيةً نابضةً ، اختلطت بهم فصنعت منهم أشخاصاً آخرين ، أشخاصاً عاشوا مع الإسلام ... وبالإسلام... وللإسلام... فاستعذَبوا الصعب، وتحملوا الهوان في سبيل نشر الدين الجديد، في صور ومشاهد مدهشة.
وهذا البناء العقائدي هو الذي سمح لهذا الجيل الفريد بعد ذلك أن يسيح في الأرض بلواء " لا اله إلا الله " لا تقف أمامه قوة ، ولا تعترض سبيله دولة ، حتى طوى ممالك ذات حضارة وسيادة في سنوات قليلة ، وأصبحت أثراً بعد عين .
وهذه العقيدة المقصودة، ليست هي المجادلات الكلامية, وعلم الكلام.
العقيدة المتلقاة من مشكاة النبوة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " لكن المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشواً ، وقولاً للباطل ، وتكذيباً للحق في مسائلهم ودلائلهم ، لا يكاد ـ والله أعلم ـ تخلوا لهم مسألة واحدة عن ذلك " ... ويقول الرازي في وصيته : " ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوى الفائدة التي وجدتها في القرآن الكريم " .
وعندما تحولت العقيدة في النفوس إلى جدليات وقياسات دب الضعف والوهن في جسد الأمة ، واستباح الأعداء بيضتها وحرمتها ، يصف ابن الأثير ـ رحمه الله ـ فتنة حدثت عام470 هـ فيقول : " وكان ببغداد فتنة عظيمة بين أهل سوق المدرسة ، وسوق الثلاثاء بسبب الاعتقاد فنهب بعضهم بعضاً " وهذه هي صورة مصغرة لما كان سائداً آنذاك من تطاحن وتهارج وسفك للدماء بسبب الخلافات الكلامية ، والنتيجة ضعف .. ووهن .. وخور.. وجعجعة بلا طحين، فما هي إلا سنوات قليلة ويدهمهم الصليبيون ليحتلوا البلدان ويشيدوا الممالك، حتى كانت النكبة وسقطت القدس في أيديهم سنة 492هـ / 1098م، واستصرخ أهل الشام بالناس فلم يجبهم أحد !! فهل هذه هى العقيدة التى جاء بها النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟؟!!
وكما يقول أ. د / مصطفى حلمي : " إننا فى حاجة إلى بناء الإنسان على أساس عقائدى إسلامى لا على أساس وطنى أو قومى مبنى على تقليد ومحاكاة لحضارة أخرى ، وإذا أردتم الدليل فادرسوا تاريخنا ، وضعوا أعينكم على العلاقة المطردة بين معرفة أجدادنا واستمساكهم بعقيدتهم ، وبين ازدهار حضارتهم ، ثم تتبعوا سبل الاستعمار الغربي العسكري والثقافي كيف حقق أهدافه مستفيدا من دروس حروبه الصليبية فى العصور الوسطى ، وجاءنا فى العصر الحديث مزوداً بحصيلة تجاربه حيث نجح فى هدم وتخريب نسيج الإنسان المسلم ، وأحل محله إنسانا غريباً عن الإسلام ، والإسلام غريب عنه ، وما لم نعالج التخريب الذي أحدثه الاستعمار داخل نفوسنا بأن نصحح عقيدتنا ، ونجعلها أساساً للحركة والبناء الحضاري ، ما لم نفعل ذلك فإننا كمن يحرث فى البحر " ا.هـ
وبناء الإنسان العقدي .. ومعالجة التخريب ليسا بالسهل الميسور .. إنها عملية صعبة شاقة تحتاج إلى قلوب مؤمنة وإرادات عازمة
{وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.