الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العراق أو الإعلان الرسمي عن الهزيمة
شبكة البصرة
بقلم الأستاذ عبد الله لعماري
محام مغربي
انهزمت أمريكا في العراق على أيدي فصائل المقاومة من أبناء الشعب العراقي، ليست هذه مبالغة أو دعاية استهلاكية، للنفخ في الحماس، أو بعث الأمنيات الغالية في النفوس، إنما هو الواقع المرير الذي تقرر على الأرض والميدان، وبدا في الظهور المنكسر والحرج للرئيس الأمريكي بوش وهو يعرض استراتيجيته الجديدة.
وهو عين الواقع الذي تناقلته من قبل الدوائر الأمريكية من أهل القرار والنفوذ والرأي، سرا وعلنا، واستنفرت له، وفي أجواء من الذعر الشديد لجان الدراسات ومحافل الحل والعقد والنظر، وخلايا التفكير والتخطيط والتدبير، وسخرت لأجل الخلاص من تبعات الهزيمة، وسائط الاتصال والمفاوضات من الشرق والغرب دولا وهيئات وشخصيات فاعلة.
وبات الهم المؤرق للإدارة الأمريكية، هو البحث عن أفضل الكيفيات والطرق للهروب من محرقة العراق، وإنقاذ أمريكا من الكارثة الماحقة لتداعيات الهزيمة، فقد ترددت كلمة الكارثة في توصيف الورطة الأمريكية على لسان أكثر من مسؤول وخبير أمريكي، من جيمس بيكر الذي استنجد به لمهمة الإنقاذ، إلى هنري كيسنجر، كبير خبراء استراتيجيات التسلط الأمريكي على العالم، إلى الجنرال جون أبو زيد قائد القوات الأمريكية في العراق وفي الشرق الأوسط، إلى الجنرالات والخبراء العسكريين لحلف الناتو إلى الرؤساء السابقين لأمريكا، إلى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، شريك بوش في المؤامرة على العراق وعديله في الخسارة والهزيمة المدوية.
واضطر الرئيس بوش أخيرا أن يعترف بهذا الفشل الذريع باستحياء وصغار حين اعترف بالصعوبات البالغة التي تعترض طريق الوصول إلى نصر في العراق، متجنبا ما كان يخرج به على الملأ من عجرفة العتاة وعنجهية المستكبرين، وهو الذي كان يعد الأمريكيين بالنصر المؤزر، وبسحق الإرهاب ، ووضع العالم تحت أقدام واشنطن، ويرسل في كل أسبوع وبالخطب النارية، الوعيد للإرهاب والقاعدة، والصداميين والبعثيين، بالرغم من أنه وفي كل أسبوع، ومع كل وعد ووعيد كانت السماء تمطر الأمريكيين بالنعوش والتوابيت المحملة بقتلى المارينز، بالحجم الذي تحول به بوش في أعين الأمريكيين والعالم إلى مهرج ومحارب عنيد لطواحين الهواء.
ولأن الكارثة حلت بنذرها وعواقبها الوخيمة على المستقبل الأمريكي، ليس على مستوى التغلغل الأمريكي في الشرق الأوسط، الآيل حتما إلى الانحسار بفعل هذه الكارثة، ولكن أيضا على مستوى المكانة والموقع بين الأمم.
لأن الأمر كذلك، فقد أدركت الدوائر العليا الأمريكية المتحكمة في القرار السياسي والعسكري والاقتصادي أن الأمر يدعو إلى استراتيجية جديدة، لتلافي الهروب المدمر من العراق.
وتدرك هذه الدوائر أن مخاطر هذا الهروب، لا يصح فيه القياس، مع مثيله السابق في الفيتنام، بالرغم من الخسائر البشرية والاقتصادية والعسكرية التي تكبدتها أمريكا في مغامرة غزو الفيتنام.
فقد حسم الهروب من فيتنام في إطار الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي، في إبانه، وطوقت التداعيات بالصفقات السرية بين الطرفين في المعسكرين.
إذ تدرك هذه الدوائر أن الهروب من العراق سيشكل انكسارا قاتلا للهيبة الأمريكية على صخرة المقاومة العراقية ذات العمود الفقري المؤلف من حركات الإسلام الجهادي السني بدرجة أكبر والشيعة الوطنيين بدرجة ثانية.
وهو ما سيدفق في شرايين هذه الحركات الإسلامية المنصهرة في صلب المقاومة العراقية، زخما هائلا يتيح لها التمدد خارج العراق وعبر مفاصل العالم العربي والإسلامي، ويقلب كل الشرق الأوسط على النفوذ بله الوجود الأمريكي.
وقد سبق للجنرال جون أبو زيد قائد الجيوش الأمريكية في العراق أن أماط اللثام عن هذه النهاية المحتومة والمتوقعة فيما ذهب إليه وهو يدق ناقوس الخطر، فيما يشبه الاستغاثة بالعالم الغربي، أمام خطورة تنامي موجة المتشددين الإسلاميين في العراق، محذرا من مغبة إمكانية هؤلاء توريط العالم في حرب عالمية ثالثة.
والإستراتيجية الجديدة التي أعلن عنها بوش هي إذن إعلان رسمي عن الإفلاس والفشل والهزيمة.
وهي إذ تقوم على مضاعفة الوسائل والجهود العسكرية إنما فقط للتظاهر بفرض مزيد من الرعب والتدمير والتفتيت، وهي تعطي الدليل على أن أمريكا تلجأ إلى آخر ما تبقى في جعبة البنتاغون، من خيارات استعمال القوة المدمرة، لتمكين الجيوش الأمريكية الحبيسة في نفق العراق المرعب من الخروج،عبر ما تتيحه هذه الإستراتيجية الجديدة من فجوة للخلاص ، وتغطية انسحاب يضمن التقهقر السليم والهروب غير المذل.
وقد دشنت الإدارة الأمريكية أولى فصول هذه الإستراتيجية، بتسليم رأس صدام حسين،الرئيس الشهيد، إلى إيران العدو التاريخي لأمريكا والحليف الموضوعي في تدمير العراق، كصفقة بين الطرفين تضمن بها إيران لأمريكا بالمقابل، عبر مخابراتها واذرعها العراقية من المجموعات الشيعية الموالية لها وفرق الموت الخاضعة لتسييرها وتحكمها، تضمن لها فك الطوق عن عنق جيوشها المحاصرة بالضربات المحكمة والمتوالية والمتنامية التي تكيلها بدون هوادة، المقاومة العراقية ، وفصائلها الجهادية، من كل صوب ومكان.
وهي أيضا سلمتها رأس الشهيد صدام حسين، كهدية مسمومة، لتسعير الاحتقان والغضب في الأوساط السنية ضد إيران وأتباعها من الشيعة في العراق ممن اصطلح على تسميتهم بالصفويين الجدد، تمهيدا لاستدراجها إلى الغرق في أوحال العراق، إذ ترى أمريكا، وفي استراتيجيتها الجديدة، أن الاقتتال الطائفي في العراق هو صمام أمانها وطوق نجاة جيوشها من المحرقة العراقية.
وتهدف الإستراتيجية الجديدة، توريط إيران في العراق، وتلويثها بدم الرئيس الشهيد صدام حسين، كمقدمة لعزلها عن تعاطف جماهير الأمة الإسلامية والعربية، ومن ثم اقتطاعها عن عمقها الاستراتيجي المتمثل في البلاد الإسلامية ذات الأكثرية السنية، بما يهيئ الظروف الدولية السانحة بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران، مسنودة بالموقف والمشاركة الغربية، تحت غطاء منعها من امتلاك السلاح النووي.
الجمعة 1 محرم 1427 / 19 كانون الثاني 2007