في هذا اليوم تنتصب أمامي معاني
حياتي الغابرة ، كأنها مرآة ضئيلة
أنظر فيها طويلاً فلا أرى سوى
وجوه السنين الشاحبة كأوجه
الأموات، و ملامح الآمال و
الأحلام المتجعدة كملامح الشيوخ .
جبران خليل جبران
في يوم كهذا قبل أربعة و عشرين عاماً تماماً صرخت صرختي الأولى مستقبلاً الحياة .
في يوم كهذا قبل خمسة و عشرين عاماً استقبلتني وجوه فرحة ضاحكة ، و كنت وحدي الباكي بينهم ، كأنني أعرفهم بحقيقتي و حقيقة ما أنا قادم لألقاه .
و في يوم كهذا قبل خمسة و عشرين عاماً تلقتني وجوه كثيرة لم يبقمنها إلا القليل ، لكنَّ أكثر تلك الوجوه بشراً و انبساطاً يومها كانت هي الأولى غياباَ و مغادرة لعالمنا .
خمسة و عشرون عاماً و أنا في هذا العالم ‘ خمسة و عشرون عاماً و أنا أعد من البشر ،و خمسة و عشرون عاماً و غيري يراني بعينه و أنا أرى الدنيا بعينيَّ فيقال فيًَّ ما أعلم و ما لا أعلم .
و إذ أذكر ما انصرم من أيامي ، أجدني عاجزاً عن وصف حياتي العاجَّة بالمآسي و الأحزان و أنا فرد من أفراد هذه الإنسانية المعذبة ، هذه المآسي و الأحزان التي أثقلت كاهلي لكنها صقلت روحي ، و أحس اليوم و قد جاوزت الخامسة و العشرين و دخلت في السنة التي تليها أني لم أزدد عن الدنيا و فهم قانونها إلا بعداً ،ذلك إن كان لها قانون تسير وفقه ‘ و أشعر فوق هذا و ذاك أنني كلما ازددت بالحياة علماً لم أكن في الحقيقة إلا ازددت بها جهلاً .
مرت السنون على قلبي فتكدست فيه الآلام و حشرت حشراً ، و مرت السنون على عقلي فأخذ يتغير و يتفتق عن فلسفات جديدة غير تلك التي اعتدت عليها بادي الرأي ، و مرت السنون على عينيَّ فضعفتا عن تمييز من حولهما و معرفة الصديق من العدو ، و بت أسأل كالخنساء التي غشي قلبها الحزن : قذى بعينيك أم بالعين عوار .
فقدت في أربعة و عشرين عاماً أغلى أعز من طرقوا قلبي ، و طوفت في بلدان العالم و أنا على سريري لم أبرحه ، و عرفت عظماء العالم فصادقت بعضاً منهم و عاديت آخرين و أنا لم ألقهم ، و تتلمذت لأدباء و فلاسفة كبار بيني وبينهم عقود أو قرون ، و عاديت آخرين و وجدتني أرد عليهمو هم تحت أرماسهم غائبون ، عرفت كل هذا و شهدته ، لكنَّ قلبي الذي بين جوانحي بقي الشيء الوحيد الذي لم أفهمه و لم أدرِ كيف أفهمه ، و ظل غريباً عني و هو الذي يسيرني كعبد بين يدي سيده ، لكنني أدرك أن مثل هذا من الصعوبة بمكان ، لأن القلب يبقى أبدا ًسر الأسرار ، و لن ندركه إلا إن أدركنا سر الوجود الأعظم الأكبر من الوجود كله ، الذي يخبئ كثيراً منه في هذه الصنوبرة الحمراء المحشورة بين ضلوعنا .
فرط من عقد العمر خمس وعشرون درة ،فهل بقي في العقد درر أخر ، ذلك وحده ما لا نعرفه و لا نملك أن نعرفه ، و لكنَّ في الإمكان أن نقول إن العمر و إن فرط أكثره فإن يوماً واحداً منه قد يعدله كله بعجره و بجره ، ألا فأقبلي أيتها السنة السادسة و العشرون ، عسى أن يكون المخبأ فيك غير ما خبئ في غيرك ، و سلام عليك أيتها السنوات الخمس و العشرون ، فإن خيرك على ما كان فيك قد غلب شرك بأخرة .
و يا أيتها الحياة الخالدة على عرشها المؤتلق فوق الدهور و الأكوان ، صبرنا عليك كثيراًو سنبقى صابرين ، لأن ثمرة الحلاوة مخبوءة تحت أغشية المرارة التي تجللينها بها، و لسنا بواصلين إليها إلا بعد تخطي مغاور الآلام و جسور الندم ، فعلنا ننال ثمرة الخلاص قبل انتهاء العمر و لو بقليل قليل ، و أرجو ألا يكون ذلك مما تعدينه من المستحيل ، فنحن لم نأت إلى الدنيا عبثاً و قدرنا أن نكشف المخبوء تحت أجداث الألم و رمال العذاب ، فإذا كشفناه هان ما سبقه ، و كانت الراحة الكبرى التي ليست تنال إلا على جسر من التعب ، و نحن قد نلنا فيما مضى ما قد كفانا من التعب و أمثاله من النصب ، و ما بقي إلا الراحة الكبرى ، و ما بقي إلا أن نعطاها .