تفسير الرازي — فخر الدين الرازي (٦٠٦ هـ)
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِیࣲّ وَلَا شَفِیعٍۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [السجدة ٤]
لَمّا ذَكَرَ الرِّسالَةَ بَيَّنَ ما عَلى الرَّسُولِ مِنَ الدُّعاءِ إلى التَّوْحِيدِ وإقامَةِ الدَّلِيلِ، فَقالَ:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ “
اللَّهُ “ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ “ الَّذِي خَلَقَ “ يَعْنِي اللَّهُ هو الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ ولَمْ يَخْلُقْهُما إلّا واحِدٌ فَلا إلَهَ إلّا واحِدٌ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فِي سِتَّةِ أيّامٍ﴾
إشارَةٌ إلى سِتَّةِ أحْوالٍ في نَظَرِ النّاظِرِينَ؛ وذَلِكَ لِأنَّ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما ثَلاثَةُ أشْياءَ، ولِكُلِّ واحِدٍ مِنها ذاتٌ وصِفَةٌ، فَنَظَرًا إلى خَلْقِهِ ذاتَ السَّماواتِ حالَةٌ، ونَظَرًا إلى خَلْقِهِ صِفاتِها أُخْرى، ونَظَرًا إلى ذاتِ الأرْضِ وإلى صِفاتِها كَذَلِكَ، ونَظَرًا إلى ذَواتِ ما بَيْنَهُما، وإلى صِفاتِها كَذَلِكَ فَهي سِتَّةُ أشْياءَ عَلى سِتَّةِ أحْوالٍ، وإنَّما ذَكَرَ الأيّامَ؛ لِأنَّ الإنْسانَ إذا نَظَرَ إلى الخَلْقِ رَآهُ فِعْلًا، والفِعْلُ ظَرْفُهُ الزَّمانُ، والأيّامُ أشْهَرُ الأزْمِنَةِ، وإلّا فَقَبْلَ السَّماواتِ لَمْ يَكُنْ لَيْلٌ ولا نَهارٌ، وهَذا مِثْلُ ما يَقُولُ القائِلُ لِغَيْرِهِ:
إنَّ يَوْمًا وُلِدْتَ فِيهِ كانَ يَوْمًا مُبارَكًا
وقَدْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ وُلِدَ لَيْلًا ولا يَخْرُجُ عَنْ مُرادِهِ؛ لِأنَّ المُرادَ هو الزَّمانُ الَّذِي هو ظَرْفُ وِلادَتِهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ اعْلَمْ أنَّ مَذْهَبَ العُلَماءِ في هَذِهِ الآيَةِ وأمْثالِها عَلى وجْهَيْنِ.
أحَدُهُما: تَرْكُ التَّعَرُّضِ إلى بَيانِ المُرادِ.
وثانِيهُما: التَّعَرُّضُ إلَيْهِ. والأوَّلُ أسْلَمُ وإلى الحِكْمَةِ أقْرَبُ، أمّا أنَّهُ أسْلَمُ؛ فَذَلِكَ لِأنَّ مَن قالَ أنا لا أتَعَرَّضُ إلى بَيانِ هَذا ولا أعْرِفُ المُرادَ مِن هَذا، لا يَكُونُ حالُهُ إلّا حالَ مَن يَتَكَلَّمُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُوبِ الكَلامِ أوْ لا يَعْلَمُ شَيْئًا، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أنْ يَعْلَمَهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الأُصُولَ ثَلاثَةٌ: التَّوْحِيدُ والقَوْلُ بِالحَشْرِ والِاعْتِرافُ بِالرُّسُلِ.
لَكِنَّ الحَشْرَ أجْمَعْنا واتَّفَقْنا أنَّ العِلْمَ بِهِ واجِبٌ، والعِلْمُ بِتَفْصِيلِهِ أنَّهُ مَتى يَكُونُ غَيْرَ واجِبٍ، ولِهَذا قالَ تَعالى في آخِرِ السُّورَةِ المُتَقَدِّمَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ [لقمان: ٣٤] فَكَذَلِكَ اللَّهُ يَجِبُ مَعْرِفَةُ وُجُودِهِ ووَحْدانِيَّتِهِ واتِّصافِهِ بِصِفاتِ الجَلالِ ونُعُوتِ الكَمالِ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ وتَعالِيهِ عَنْ وصَماتِ الإمْكانِ وصِفاتِ النُّقْصانِ، ولا يَجِبُ أنْ يَعْلَمَ جَمِيعَ صِفاتِهِ كَما هي، وصِفَةُ الِاسْتِواءِ مِمّا لا يَجِبُ العِلْمُ بِها، فَمَن تَرَكَ التَّعَرُّضَ إلَيْهِ لَمْ يَتْرُكْ واجِبًا، وأمّا مَن يَتَعَرَّضُ إلَيْهِ فَقَدْ يُخْطِئُ فِيهِ فَيَعْتَقِدُ خِلافَ ما هو عَلَيْهِ، فالأوَّلُ غايَةُ ما يَلْزَمُهُ أنَّهُ لا يَعْلَمُ، والثّانِي يَكادُ أنْ يَقَعَ في أنْ يَكُونَ جاهِلًا مُرَكَّبًا، وعَدَمُ العِلْمِ الجَهْلُ المُرَكَّبُ كالسُّكُوتِ والكَذِبِ، ولا يَشُكُّ أحَدٌ في أنَّ السُّكُوتَ خَيْرٌ مِنَ الكَذِبِ.
وأمّا إنَّهُ أقْرَبُ إلى الحِكْمَةِ، فَذَلِكَ لِأنَّ مَن يُطالِعُ كِتابًا صَنَّفَهُ إنْسانٌ، وكَتَبَ لَهُ شَرْحًا، والشّارِحُ دُونَ المُصَنِّفِ، فالظّاهِرُ أنَّهُ لا يَأْتِي عَلى جَمِيعِ ما أتى عَلَيْهِ المُصَنِّفُ؛ ولِهَذا كَثِيرًا ما نَرى أنَّ الإنْسانَ يُورِدُ الإشْكالاتِ عَلى المُصَنِّفِ المُتَقَدِّمِ ثُمَّ يَجِيءُ مَن يَنْصُرُ كَلامَهُ ويَقُولُ: لَمْ يُرِدِ المُصَنِّفُ هَذا، وإنَّما أرادَ كَذا وكَذا. وإذا كانَ حالُ الكُتُبِ الحادِثَةِ الَّتِي تُكْتَبُ عَنْ عِلْمٍ قاصِرٍ كَذَلِكَ، فَما ظَنُّكَ بِالكِتابِ العَزِيزِ الَّذِي فِيهِ كُلُّ حِكْمَةٍ، يَجُوزُ أنْ يَدَّعِيَ جاهِلٌ أنِّي عَلِمْتُ كُلَّ سِرٍّ في هَذا الكِتابِ، وكَيْفَ ولَوِ ادَّعى عالِمٌ أنِّي عَلِمْتُ كُلَّ سِرٍّ وكُلَّ فائِدَةٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الكِتابُ الفُلانِيُّ؛ يُسْتَقْبَحُ مِنهُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ مَن يَدَّعِي أنَّهُ عَلِمَ كُلَّ ما في كِتابِ اللَّهِ ؟ !
ثُمَّ لَيْسَ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى بَيَّنَ كُلَّ ما أنْزَلَهُ؛ لِأنَّ تَأْخِيرَ البَيانِ إلى وقْتِ الحاجَةِ جائِزٌ، ولَعَلَّ في القُرْآنِ ما لا يَحْتاجُ إلَيْهِ أحَدٌ غَيْرُ نَبِيِّهِ؛ فَبَيَّنَ لَهُ لا لِغَيْرِهِ. إذا ثَبَتَ هَذا عُلِمَ أنَّ في القُرْآنِ ما لا يُعْلَمُ، وهَذا أقْرَبُ إلى ذَلِكَ الَّذِي لا يُعْلَمُ، لِلتَّشابُهِ البالِغِ الَّذِي فِيهِ، لَكِنَّ هَذا المَذْهَبَ لَهُ شَرْطٌ، وهو أنْ يَنْفِيَ بَعْضَ ما يَعْلَمُهُ، قَطْعًا أنَّهُ لَيْسَ بِمُرادٍ، وهَذا لِأنَّ قائِلًا إذا قالَ: إنَّ هَذِهِ الأيّامَ أيّامُ قُرْءِ فُلانَةَ، يُعْلَمُ أنَّهُ لا يُرِيدُ أنَّ هَذِهِ الأيّامَ أيّامُ مَوْتِ فُلانَةَ، ولا يُرِيدُ أنَّ هَذِهِ الأيّامَ أيّامُ سَفَرِ فُلانَةَ، وإنَّما المُرادُ مُنْحَصِرٌ في الطُّهْرِ أوِ الحَيْضِ، فَكَذَلِكَ هَهُنا يُعْلَمُ أنَّ المُرادَ لَيْسَ ما يُوجِبُ نَقْصًا في ذاتِهِ لِاسْتِحالَةِ ذَلِكَ، والجُلُوسُ والِاسْتِقْرارُ المَكانِيُّ مِن ذَلِكَ البابِ؛ فَيَجِبُ القَطْعُ بِنَفْيِ ذَلِكَ، والتَّوَقُّفُ فِيما يَجُوزُ بَعْدَهُ.
والمَذْهَبُ الثّانِي: خَطَرٌ، ومَن يَذْهَبُ إلَيْهِ فَرِيقانِ: أحَدُهُما: مَن يَقُولُ المُرادُ ظاهِرُهُ وهو القِيامُ والِانْتِصابُ أوِ الِاسْتِقْرارُ المَكانِيُّ، وثانِيهِما: مَن يَقُولُ المُرادُ الِاسْتِيلاءُ. والأوَّلُ جَهْلٌ مَحْضٌ، والثّانِي يَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَهْلًا. والأوَّلُ مَعَ كَوْنِهِ جَهْلًا هو بِدْعَةٌ وكادَ يَكُونُ كُفْرًا، والثّانِي وإنْ كانَ جَهْلًا فَلَيْسَ بِجَهْلٍ يُورِثُ بِدْعَةً، وهَذا كَما أنَّ واحِدًا إذا اعْتَقَدَ أنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ الكُفّارَ ولا يُعاقِبُ أحَدًا مِنهم، يَكُونُ جَهْلًا وبِدْعَةً وكُفْرًا، وإذا اعْتَقَدَ أنَّهُ يَرْحَمُ زَيْدًا الَّذِي هو مَسْتُورُ الحالِ لا يَكُونُ بِدْعَةً، غايَةُ ما يَكُونُ أنَّهُ اعْتِقادٌ غَيْرُ مُطابِقٍ، ومِمّا قِيلَ فِيهِ: إنَّ المُرادَ مِنهُ اسْتَوى عَلى مُلْكِهِ، والعَرْشُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ المُلْكِ، يُقالُ: المَلِكُ قَعَدَ عَلى سَرِيرِ المَمْلَكَةِ بِالبَلْدَةِ الفُلانِيَّةِ، وإنْ لَمْ يَدْخُلْها، وهَذا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] إشارَةٌ إلى البُخْلِ، مَعَ أنَّهم لَمْ يَقُولُوا بِأنَّ عَلى يَدِ اللَّهِ غُلًّا عَلى طَرِيقِ الحَقِيقَةِ، ولَوْ كانَ مُرادُ اللَّهِ ذَلِكَ لَكانَ كَذِبًا -جَلَّ كَلامُ اللَّهِ عَنْهُ- ثُمَّ لِهَذا فَضْلُ تَقْرِيرٍ، وهو أنَّ المُلُوكَ عَلى دَرَجاتٍ، فَمَن يَمْلِكُ مَدِينَةً صَغِيرَةً أوْ بِلادًا يَسِيرَةً ما جَرَتِ العادَةُ بِأنْ يَجْلِسَ أوَّلَ ما يَجْلِسُ عَلى سَرِيرٍ، ومَن يَكُونُ سُلْطانًا يَمْلِكُ البِلادَ الشّاسِعَةَ والدِّيارَ الواسِعَةَ، وتَكُونُ المُلُوكُ في خِدْمَتِهِ يَكُونُ لَهُ سَرِيرٌ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وقُدّامَهُ كُرْسِيٌّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ وزِيرُهُ، فالعَرْشُ والكُرْسِيُّ في العادَةِ لا يَكُونُ إلّا عِنْدَ عَظَمَةِ المَمْلَكَةِ، فَلَمّا كانَ مَلِكُ السَّماواتِ والأرْضِ في غايَةِ العَظَمَةِ، عَبَّرَ بِما يُنْبِئُ في العُرْفِ عَنِ العَظَمَةِ، ومِمّا يُنَبِّهُكَ لِهَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا خَلَقْنا﴾ [الإنسان: ٢]، ﴿إنّا زَيَّنّا﴾ [الصافات: ٦]، ﴿نَحْنُ أقْرَبُ﴾ [ق: ١٦]، ﴿نَحْنُ نَزَّلْنا﴾ [الحجر: ٩]، أيَظُنُّ أوْ يَشُكُّ مُسْلِمٌ في أنَّ المُرادَ ظاهِرُهُ مِنَ الشَّرِيكِ ؟ وهَلْ يَجِدُ لَهُ مَحْمَلًا، غَيْرَ أنَّ العَظِيمَ في العُرْفِ لا يَكُونُ واحِدًا وإنَّما يَكُونُ مَعَهُ غَيْرُهُ ؟ فَكَذَلِكَ المَلِكُ العَظِيمُ في العُرْفِ لا يَكُونُ إلّا ذا سَرِيرٍ يَسْتَوِي عَلَيْهِ، فاسْتَعْمَلَ ذَلِكَ مُرِيدًا لِلْعَظَمَةِ.
ومِمّا يُؤَيِّدُ هَذا أنَّ المَقْهُورَ المَغْلُوبَ المَهْزُومَ يُقالُ لَهُ: ضاقَتْ بِهِ الأرْضُ حَتّى لَمْ يَبْقَ لَهُ مَكانٌ، أيَظُنُّ أنَّهم يُرِيدُونَ بِهِ أنَّهُ صارَ لا مَكانَ لَهُ ؟ وكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الجِسْمُ بِلا مَكانٍ، ولا سِيَّما مَن يَقُولُ بِأنَّ إلَهَهُ في مَكانٍ كَيْفَ يَخْرُجُ الإنْسانُ عَنِ المَكانِ ؟ فَكَما يُقالُ لِلْمَقْهُورِ الهارِبِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَكانٌ مَعَ أنَّ المَكانَ واجِبٌ لَهُ، يُقالُ لِلْقادِرِ القاهِرِ هو مُتَمَكِّنٌ ولَهُ عَرْشٌ، وإنْ كانَ التَّنَزُّهُ عَنِ المَكانِ واجِبًا لَهُ، وعَلى هَذا كَلِمَةُ “ ثُمَّ “ مَعْناها خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ، ثُمَّ القِصَّةُ أنَّهُ اسْتَوى عَلى المُلْكِ، وهَذا كَما يَقُولُ القائِلُ: فُلانٌ أكْرَمَنِي وأنْعَمَ عَلَيَّ مِرارًا، ويَحْكِي عَنْهُ أشْياءَ، ثُمَّ يَقُولُ: إنَّهُ ما كانَ يَعْرِفُنِي ولا كُنْتُ فَعَلْتُ مَعَهُ ما يُجازِينِي بِهَذا. فَنَقُولُ: “ ثُمَّ “ لِلْحِكايَةِ لا لِلْمَحْكِيِّ. الوَجْهُ الآخَرُ: قِيلَ اسْتَوى جاءَ بِمَعْنى اسْتَوْلى عَلى العَرْشِ، واسْتَوى جاءَ بِمَعْنى اسْتَوْلى نَقْلًا واسْتِعْمالًا. أمّا النَّقْلُ فَكَثِيرٌ مَذْكُورٌ في كُتُبِ اللُّغَةِ مِنها دِيوانُ الأدَبِ وغَيْرُهُ مِمّا يُعْتَبَرُ النَّقْلُ عَنْهُ. وأمّا الِاسْتِعْمالُ فَقَوْلُ القائِلِ:
قَدِ اسْتَوى بِشْرٌ عَلى العِراقِ ∗∗∗ مِن غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراقِ
وعَلى هَذا فَكَلِمَةُ “ ثُمَّ “ مَعْناها ما ذَكَرْنا كَأنَّهُ قالَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ، ثُمَّ هَهُنا ما هو أعْظَمُ مِنهُ اسْتَوى عَلى العَرْشِ، فَإنَّهُ أعْظَمُ مِنَ الكُرْسِيِّ، والكُرْسِيُّ وسِعَ السَّماواتِ والأرْضَ. والوَجْهُ الثّالِثُ: قِيلَ إنَّ المُرادَ الِاسْتِقْرارُ. وهَذا القَوْلُ ظاهِرٌ ولا يُفِيدُ أنَّهُ في مَكانٍ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ يَقُولُ: اسْتَقَرَّ رَأْيُ فُلانٍ عَلى الخُرُوجِ، ولا يَشُكُّ أحَدٌ أنَّهُ لا يُرِيدُ أنَّ الرَّأْيَ في مَكانٍ وهو الخُرُوجُ، لِما أنَّ الرَّأْيَ لا يَجُوزُ فِيهِ أنْ يُقالَ إنَّهُ مُتَمَكِّنٌ أوْ هو مِمّا يَدْخُلُ في مَكانٍ. إذا عُلِمَ هَذا فَنَقُولُ: فَهْمُ التَّمَكُّنِ عِنْدَ اسْتِعْمالِ كَلِمَةِ الِاسْتِقْرارِ مَشْرُوطٌ بِجَوازِ التَّمَكُّنِ، حَتّى إذا قالَ قائِلٌ اسْتَقَرَّ زَيْدٌ عَلى الفُلْكِ أوْ عَلى التَّخْتِ، يُفْهَمُ مِنهُ التَّمَكُّنُ وكَوْنُهُ في مَكانٍ، وإذا قالَ قائِلٌ: اسْتَقَرَّ المُلْكُ عَلى فُلانٍ لا يُفْهَمُ أنَّ المُلْكَ في فُلانٍ.
فَقَوْلُ القائِلِ: اللَّهُ اسْتَقَرَّ عَلى العَرْشِ لا يَنْبَغِي أنْ يُفْهَمَ كَوْنُهُ في مَكانٍ ما لَمْ يُعْلَمْ أنَّهُ مِمّا يَجُوزُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ في مَكانٍ أوْ لا يَجُوزُ، فَإذَنْ فَهْمُ كَوْنِهِ في مَكانٍ مِن هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَشْرُوطٌ بِجَوازِ أنْ يَكُونَ في مَكانٍ، فَجَوازُ كَوْنِهِ في مَكانٍ إنِ اسْتُفِيدَ مِن هَذِهِ اللَّفْظَةِ يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلى نَفْسِهِ وهو مُحالٌ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى العَرْشِ بِمَعْنى كَوْنِ العَرْشِ مَكانًا لَهُ وُجُوهٌ مِنَ القُرْآنِ:
أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنَّ اللَّهَ لَهو الغَنِيُّ﴾ [الحج: ٦٤] وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ غَنِيًّا عَلى الإطْلاقِ، وكُلُّ ما هو في مَكانٍ فَهو في بَقائِهِ مُحْتاجٌ إلى مَكانٍ؛ لِأنَّ بَدِيهَةَ العَقْلِ حاكِمَةٌ بِأنَّ الحَيِّزَ إنْ لَمْ يَكُنْ لا يَكُونُ المُتَحَيِّزُ باقِيًا، فالمُتَحَيِّزُ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفاءِ الحَيِّزِ، وكُلُّ ما يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفاءِ غَيْرِهِ فَهو مُحْتاجٌ إلَيْهِ في اسْتِمْرارِهِ، فالقَوْلُ بِاسْتِقْرارِهِ يُوجِبُ احْتِياجَهُ في اسْتِمْرارِهِ وهو غَنِيٌّ بِالنَّصِّ.
الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] فالعَرْشُ يَهْلِكُ، وكَذَلِكَ كَلُّ مَكانٍ فَلا يَبْقى وهو يَبْقى، فَإذَنْ لا يَكُونُ في ذَلِكَ الوَقْتِ في مَكانٍ، فَجازَ عَلَيْهِ أنْ لا يَكُونَ في مَكانٍ، وما جازَ لَهُ مِنَ الصِّفاتِ وجَبَ لَهُ فَيَجِبُ أنْ لا يَكُونَ في مَكانٍ.
الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ مَعَكُمْ﴾ [الحديد: ٤] ووَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ هو أنَّ “ عَلى “ إذا اسْتُعْمِلَ في المَكانِ يُفْهَمُ كَوْنُهُ عَلَيْهِ بِالذّاتِ كَقَوْلِنا فُلانٌ عَلى السَّطْحِ، وكَلِمَةُ “ مَعَ “ إذا اسْتُعْمِلَتْ في مُتَمَكِّنَيْنِ يُفْهَمُ مِنها اقْتِرانُهُما بِالذّاتِ كَقَوْلِنا زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو إذا اسْتُعْمِلَ هَذا فَإنْ كانَ اللَّهُ في مَكانٍ ونَحْنُ مُتَمَكِّنُونَ، فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ [التوبة: ٤٠] وقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ مَعَكُمْ﴾ كانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ لِلِاقْتِرانِ ولَيْسَ كَذَلِكَ، فَإنْ قِيلَ كَلِمَةُ “ مَعَ “ تُسْتَعْمَلُ لِكَوْنِ مَيْلِهِ إلَيْهِ وعِلْمِهِ مَعَهُ أوْ نُصْرَتِهِ يُقالُ المَلِكُ الفُلانِيُّ مَعَ المَلِكِ الفُلانِيِّ، أيْ بِالإعانَةِ والنَّصْرِ، فَنَقُولُ: كَلِمَةُ “ عَلى “ تُسْتَعْمَلُ لِكَوْنِ حُكْمِهِ عَلى الغَيْرِ، يَقُولُ القائِلُ: لَوْلا فُلانٌ عَلى فُلانٍ لَأشْرَفَ في الهَلاكِ ولَأشْرَفَ عَلى الهَلاكِ، وكَذَلِكَ يُقالُ: لَوْلا فُلانٌ عَلى أمْلاكِ فُلانٍ أوْ عَلى أرْضِهِ لَما حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنها، ولا أكَلَ حاصِلَها بِمَعْنى الإشْرافِ والنَّظَرِ، فَكَيْفَ لا نَقُولُ في ﴿اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ إنَّهُ اسْتَوى عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ كَما نَقُولُ هو مَعْناهُ بِعِلْمِهِ.
الرّابِعُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وهو يُدْرِكُ الأبْصارَ﴾ [الأنعام: ١٠٣] ولَوْ كانَ في مَكانٍ لَأحاطَ بِهِ المَكانُ وحِينَئِذٍ فَإمّا أنْ يُرى وإمّا أنْ لا يُرى، لا سَبِيلَ إلى الثّانِي بِالِاتِّفاقِ؛ لِأنَّ القَوْلَ بِأنَّهُ في مَكانٍ ولا يُرى باطِلٌ بِالإجْماعِ، وإنْ كانَ يُرى فَيُرى في مَكانٍ أحاطَ بِهِ فَتُدْرِكُهُ الأبْصارُ. وأمّا إذا لَمْ يَكُنْ في مَكانٍ فَسَواءٌ يُرى أوْ لا يُرى لا يَلْزَمُ أنْ تُدْرِكَهُ الأبْصارُ. أمّا إذا لَمْ يُرَ فَظاهِرٌ. وأمّا إذا رُئِيَ فَلِأنَّ البَصَرَ لا يُحِيطُ بِهِ فَلا يُدْرِكُهُ.
وإنَّما قُلْنا: إنَّ البَصَرَ لا يُحِيطُ بِهِ لِأنَّ كُلَّ ما أحاطَ بِهِ البَصَرُ فَلَهُ مَكانٌ يَكُونُ فِيهِ، وقَدْ فَرَضْنا عَدَمَ المَكانِ، ولَوْ تَدَبَّرَ الإنْسانُ القُرْآنَ لَوَجَدَهَ مَمْلُوءًا مِن عَدَمِ جَوازِ كَوْنِهِ في مَكانٍ، كَيْفَ وهَذا الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِهِ هَذا القائِلُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ عَلى العَرْشِ بِمَعْنى كَوْنِهِ في المَكانِ، وذَلِكَ لِأنَّ كَلِمَةَ “ ثُمَّ “ لِلتَّراخِي فَلَوْ كانَ عَلَيْهِ بِمَعْنى المَكانِ لَكانَ قَدْ حَصَلَ عَلَيْهِ بَعْدَما لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ، فَقَبْلَهُ إمّا أنْ يَكُونَ في مَكانٍ أوْ لا يَكُونَ، فَإنْ كانَ يَلْزَمُ مُحالانِ:
أحَدُهُما: كَوْنُ المَكانِ أزَلِيًّا، ثُمَّ إنَّ هَذا القائِلَ يَدَّعِي مُضادَّةَ الفَلْسَفِيِّ فَيَصِيرُ فَلْسَفِيًّا يَقُولُ بِقِدَمِ سَماءٍ مِنَ السَّماواتِ. والثّانِي: جَوازُ الحَرَكَةِ والِانْتِقالِ عَلى اللَّهِ تَعالى وهو يُفْضِي إلى حُدُوثِ البارِي أوْ يُبْطِلُ دَلائِلَ حُدُوثِ الأجْسامِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مَكانٌ وما حَصَلَ في مَكانٍ يُحِيلُ العَقْلُ وجُودَهُ بِلا مَكانٍ، ولَوْ جازَ لَما أمْكَنَ أنْ يُقالَ بِأنَّ الجِسْمَ لَوْ كانَ أزَلِيًّا، فَإمّا أنْ يَكُونَ في الأزَلِ ساكِنًا أوْ مُتَحَرِّكًا؛ لِأنَّهُما فَرَّعا الحُصُولَ في مَكانٍ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ القَوْلُ بِحُدُوثِ اللَّهِ أوْ عَدَمُ القَوْلِ بِحُدُوثِ العالِمِ، لِأنَّهُ إنْ سَلَّمَ أنَّهُ قَبْلَ المَكانِ لا يَكُونُ فَهو القَوْلُ بِحُدُوثِ اللَّهِ تَعالى وإنْ لَمْ يُسَلِّمْ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ الجِسْمُ في الأزَلِ لَمْ يَكُنْ في مَكانٍ، ثُمَّ حَصَلَ في مَكانٍ فَلا يَتِمُّ دَلِيلُهُ في حُدُوثِ العالَمِ، فَيَلْزَمُهُ أنْ لا يَقُولَ بِحُدُوثِهِ، ثُمَّ إنَّ هَذا القائِلَ يَقُولُ: إنَّكَ تُشَبِّهُ اللَّهَ بِالمَعْدُومِ، فَإنَّهُ لَيْسَ في مَكانٍ ولا يَعْلَمُ أنَّهُ جَعَلَهُ مَعْدُومًا، حَيْثُ أحْوَجَهُ إلى مَكانٍ، وكُلُّ مُحْتاجٍ نَظَرًا إلى عَدَمِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ مَعْدُومٌ، ولَوْ كَتَبْنا ما فِيها لَطالَ الكَلامُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما لَكم مِن دُونِهِ مِن ولِيٍّ ولا شَفِيعٍ أفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ لَمّا ذَكَرَ أنَّ اللَّهَ خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ، قالَ بَعْضُهم: نَحْنُ مُعْتَرِفُونَ بِأنَّ خالِقَ السَّماواتِ والأرْضِ واحِدٌ هو إلَهُ السَّماواتِ، وهَذِهِ الأصْنامُ صُوَرُ الكَواكِبِ مِنها نُصْرَتُنا وقُوَّتُنا، وقالَ آخَرُونَ: هَذِهِ صُوَرُ المَلائِكَةِ عِنْدَ اللَّهِ هم شُفَعاؤُنا فَقالَ اللَّهُ تَعالى: لا إلَهَ غَيْرُ اللَّهِ، ولا نُصْرَةَ مِن غَيْرِ اللَّهِ، ولا شَفاعَةَ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ، فَعِبادَتُكم لَهم -لِهَذِهِ الأصْنامِ- باطِلَةٌ ضائِعَةٌ لا هم خالِقُوكم ولا ناصِرُوكم ولا شُفَعاؤُكم، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ ما عَلِمْتُمُوهُ مِن أنَّهُ خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ، وخَلْقُ هَذِهِ الأجْسامِ العِظامِ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذِهِ الأصْنامِ حَتّى تَنْصُرَكم، والمَلِكُ العَظِيمُ لا يَكُونُ عِنْدَهُ لِهَذِهِ الأشْياءِ الحَقِيرَةِ احْتِرامٌ وعَظَمَةٌ حَتّى تَكُونَ لَها شَفاعَةٌ