Reply to Thread
Results 1 to 6 of 6

Thread: مقالات منوعة من مجلة حراء

  1. #1 مقالات منوعة من مجلة حراء 
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    النمل، حشرات اجتماعية



    العدد: 21 (أكتوبر - ديسمبر)

    النملة حشرة اجتماعية راقية موجودة في كل مكان وفي كل وقت، بل إن أنواع النمل تزيد عن تسعة آلاف نوع. وبعض النمل يحيا حياة مستقرة في مساكن محكمة، وبعض النمل يحيا حياة الترحال كالبدو تماماً، وبعضه يكسب رزقه بجدّه وسعيه، وبعضه يكسب رزقه بالغدر والسيطرة... والنمل حشرة اجتماعية تموت إذا عُزلت عن أخواتها ولو توافر لها غذاء جيد ومكان جيد وظروف جيدة، كالإنسان؛ إذا عزلته في مكان بعيد عن الضوء والصوت والساعة والزمن والليل والنهار عشرين يوماً، فإنه يفقد توازنه العقلي.
    والنملة تعلِّم الإنسان درساً بليغاً في التعاون؛ فإذا التقت نملة جائعة بأخرى شبعى، تعطي الشبعى الجائعة خلاصات غذائية من جسمها؛ ففي جهازها الهضمي جهاز ضخ تُطعم به. كما أن للنمل ملِكة كبيرة الحجم، مهمتها وضع البيوض وإعطاء التوجيهات، ولها مكان أمين في مساكن النمل، وهي على اتصال دائم بكل أفراد المملكة.

    الحياة الاجتماعية

    والنملات العاملات لها مهمات متنوعة؛ من مهمات العاملات تربية الصغار، وهذا يشبه قطاع التعليم. وفي النمل عساكر لها حجم أكبر، ولها رأس صلب كأن عليه خوذة، وهذا يشبه قطاع الجيش في حراسة الملِكة وحفظ الأمن وردّ العدوان. ومن مهمات العاملات تنظيف المساكن والممرات، وهذا يشبه قطاع البلديات. ومن مهمات العاملات سحب جثث الموتى من المساكن ودفنها في الأرض، وهذا يشبه مكاتب دفن الموتى. ومن مهمات العاملات جلب الغذاء من خارج المملكة، وهذا يشبه قطاع المستوردين. ومن مهمات العاملات زرع الفطريات، وهذا يشبه قطاع الزراعة. ومن مهمات العاملات تربية حشرات تعيش النمل على رحيقها، وهذا يشبه قطاع مربي الماشية...
    النمل يبني المدن ويشق الطرقات ويحفر الأنفاق ويخزن الطعام في مخازن وفي صوامع. بعض أنواع النمل يقيم الحدائق ويزرع النباتات، وبعض أنواع النمل يقيم حروباً على قبائل أخرى يأخذ الأسرى من ضعاف النمل المهزوم.

    روح الجماعة والتفاني

    قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾(النمل:18).
    لقد أثبت الله سبحانه وتعالى من خلال هذه الآية للنمل الكلام ونوعاً من المعرفة، كما أن الله سبحانه وتعالى أثبت للنمل الروح الجماعية، فلم تفكِّر النملة في إنقاذ نفسها بشكل أناني، بل حذَّرت أصحابها من تحطيم سليمان وجنوده لهم، مما يدُّل على روح الجماعة والتعاون والتفاني المفطورة عليها.
    للنملة مخ صغير وخلايا عصبية وأعصاب لتقدير المعلومات والخرائط، كي تهتدي بها إلى مواقع الغذاء وإلى أوكارها. وإن النملة تملك نوعاً من التصرف العقلاني، وهي من أذكى الحشرات، كما أنها ترى بموجات ضوئية لا يراها الإنسان. ولغة النمل كيماوية لها وظيفتان: التواصل والإنذار. فلو سحقتَ نملةً فإن رائحة تصدر عنها، تستغيث بها النملات أو تحذرها من الاقتراب من المجزرة. ولا تستطيع نملة دخول وكرها إلا إذا بينت كلمة السر. وللنمل جهاز هضم مدهش فيه فم ومري ومعدة وأمعاء وجهاز مص وجهاز ضخ.

    التصرف العقلاني

    رصد العلماء طرق معيشة النمل، وأدهشهم عملهم الجاد الدؤوب في تحصيل أرزاقهم متعاونين مع بعضهم بعضاً، موزِّعين الوظائف والمهمَّات بينهم بكل دقة وجدّية.
    إن للنمل نظاماً دقيقاً في معاشه، فهو له قائد يوجهه ويأمره، وله مساكن يعيش فيها. هذه المساكن مقسمة إلى غرف معيشة ومستودعات لخزن المؤن، ولها دهاليز معقدة عليها حراسة مشددة على مدار الساعة. ويجتمع من تلك المساكن قرى كاملة، وقد تبني عدة قرى، كأنها مستعمرات تصل بينها طرق ومسالك، بحيث تهتدي بها إلى أعلى الأرض.
    كذلك هناك نوع آخر من النمل يبني بيوته فوق الأرض، من أوراق الأشجار وأغصانها، ويكثر هذا تحت شجر الصنوبر، أو ينحت هذه البيوت في الأشجار العتيقة، كما يتخذ الإنسان من الجبال بيوتاً. ومع أن النمل لا يملك الآلات والعُدَد، فإنه يبني أبراجاً في غاية الدقة والإحكام، مستعيناً بمقصِّ فمه الحاد، حيث يمضغ ما يقصه حتى يصبح كالعجين. ولعل ما بناه قدماء المصريين في مساكنهم وأهراماتهم كان تقليداً للنمل.
    وللنملة رأس ووسط وذنب أسطواني، ولها ستُّ أرجل تقدر بها على الجري السريع، ولبعضها أجنحة للوثوب، ولها خمس أعين؛ عينان مركّبتان على جانبي الرأس مكوَّنتان من أعين بسيطة تعد بالمئات، وهي ملتئمة الوضع والتركيب والترتيب بحيث ترى وكأن لها عيناً واحدة. والعيون الثلاثة الباقية موضوعة على هيئة مثلث يعلو العينين المركبتين، وهي أعين بسيطة لا تركيب فيها، غير أن عيون الذكر أكبر من عيون الأنثى، ومتقاربة من بعضها بسبب قوة المهام المنوطة به. ولكل نملة قرنان طويلان كالشعرتين، بهما تحسُّ الأشياء، حيث يقومان مقام اليدين والرجلين والأصابع في الحمل، ويسميان "الحاسَّتين".

    المربيات الراعيات

    وتضع إناث النمل بيوضها في محال تقترب من مساكن الكبار، وتخصَّص لها مربيات يلاحظنهن ليلاً ونهاراً، مع تأمين الحرارة المناسبة لها حتى تتفتح البيوض وتخرج دوداً صغيرة لا جناح له ولا أرجل. تلاحظه المربيات وتطعمه، حيث يأكل بشراهة لعدة أسابيع، ثم يغزل بفمه وينسج على نفسه كرة من الحرير وينام. فإذا مضت أيام، نهض من رقدته وقطع خيوط الكرة، وقرض حريرها المحيط به. تساعده المربيات في ذلك وتقوم بتنظيفه، حيث تظهر أرجله وأجنحته. والنمل يحب النظافة حبّاً مفرطاً.
    يعمل النمل في قراه بموجب انضباط مدهش وصارم للغاية، وبإشراف النمل الذي كبرت رؤوسه وعظمت خراطيمه.
    والصبية الصغار تبقى في الديار تحفر الحجرات، وتشكل السراديب، وتنمو وهي فيها، بالإضافة إلى وجود المربيات. وكذلك النمل المسؤول عن الحراسة أو التنظيف أو حفظ المؤن وتوضيبها التي يحضرها النمل العامل. وهو يأبى كلَّ الإباء أن يطلع أحد على أسراره، أو يتطفّل عليه لمعرفة نظامه العجيب في الحياة.

    مواد كيميائية وبرمجة عجيبة

    وقد وجد العلماء أن النمل حين يغادر قريته، يرسل في كل مسافة معيَّنة مـادة كيميائية لها رائحة صغيرة، حتى يستطيع التعرُّف إلى طريق عودته. وأنه عندما قام أحدهم بإزالة آثار هذه المادة، لم يستطع النمل الاهتداء إلى طريق عودته. فإذا رأت النملة شيئاً مفيداً لا تقوى على حمله، نشرت حوله بعض الرائحة، وأخذت منه قدراً يسيراً وكرَّت راجعة إلى أخواتها، وكلما رأت واحدة منهن أعطتها شيئاً مما معها لتدلها على ذلك، حتى يجتمع على ذلك الشيء جماعات منها، يحملونه ويجرّونه بجهد وعناء متعاونين في نقله. علماً بأن للنمل قوى عضلية بالنسبة إلى حجمه، تزري بقوة أعظم المصارعين والرياضيين، بحيث تستطيع النملة الواحدة أن تحمل بين فكّيها حملاً أثقل من وزنها بثلاثة آلاف مرة من غير عناء.
    كما وجد العلماء أن النمل ينشر عند موته رائحة خاصة، تنبّه بقية الأفراد إلى الإسراع بدفنه قبل انجذاب الحشرات الغريبة إليه. وعندما قام أحد العلماء بوضع نقطة من هذه المادة على جسم نملة حية، سارع باقي النمل إليها ودفنوها وهي حية.

    غريزة ادخار الغذاء

    والنمل من الحيوانات والحشرات القليلة التي أودع الله فيها غريزة ادخار الغذاء. فهو يحتفظ بالحبوب في مسكنه الرطب الدافئ تحت الأرض دون أن يصيبها تلف. ويتفنن النمل بطرق الادخار بحسب أنواعه، فهو يقطع حبة القمح نصفين، ويقشر البقول لئلا تنبت من جديد، أو يتركها عدة أسابيع في تهوية وحرارة معينة، ويسمح لها بعدها بالإنبات، فتنمو ويظهر لها جذر وساق صغيران، حيث يقوم بقطعها وتجفيفها لتصبح مادة جاهزة يتغذى عليها طوال مدة الشتاء.وإنه يقوم بتسميد أوراق الأشجار المقطعة ببراز نوع معيَّن من الفراشات، وعندها ينمو عليها نوع من الفطريات -يسمى خبز الغراب- يقوم النمل بالتغذي عليه. كما أن بعض أنواع النمل يجلب بيوض المنِّ إلى عشه، وعندما يفقس يحمله إلى الخارج ويضعه على النباتات التي تفرز الندوة العسلية، ثم يعيده إلى عشه في الليل ويحلب منه هذه الندوة العسلية، حيث تعطي كلُّ حشرة ما يقارب ثمانٍ وأربعين نقطة من هذه الندوة خلال أربع وعشرين ساعة، علماً بأنه يبني لهذه الحشرات حجرات خاصة لتسكن فيها.

    كيف يعرف النمل بعضه؟

    ويعرف النمل بعضه بغير علامة، والتوادد موجود بين أهل القرية الواحدة فقط، وما عدا ذلك فعداء مستحكم، حيث يمكن أن تنشب الحرب بين عدة قرى من النمل، فينتظم في صفوف قتالية وتحدث المعارك، ويقع القتلى والجرحى. ويتخذ النمل المنتصر الأسرى ليجعلهم خدماً في قراه، ويقوم بدفن موتاه في مقابر خاصة به، كما ينظف أرضه من جثث أعدائه. حتى قيل بأن النمل أقرب الحشرات إلى الإنسان في أفعاله. وقد يصبح النمل قوة مزعجة مهلكة، شديدة الخطر على الإنسان نفسه، حيث يمكن أن يقرض دعائم المساكن الخشبية حتى تتداعى عروشها، أو يكوّن مستعمرات في دور الكتب، حيث يقوم بإتلاف الورق أكلاً وتمزيقاً.
    وروي أن عدي بن حاتم رضي الله عنه خرج في نزهة إلى بستان، ثم عاد إلى بيته فوجد نملة قد علقت على ثيابه، فقال: لقد أَبعدْنا عليها المسير، ثم حملها وعاد بها إلى البستان الذي كان فيه.
    يقول الإمام علي كرم الله وجهه: "انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها، وضنّت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدها في مستقرها، تجمع من حرها لبردها، وفي وردها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوسقها، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديان، ولو في الصفا الوابت، والحجر الجامد، ولو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها، وما الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها عجباً، فتعالى الله الذي أقامها على قوائمها وبناها على دعائمها، لم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه على خلقها قادر".
    قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾(الأنعام:38).
    ــــــــــــــــــــــ
    (*) أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين / سوريا.


    Reply With Quote  
     

  2. #2  
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10

    نورانية شجرة الزيتونة المباركة

    أ.د. عبد المجيد بلعابد / علوم

    القرآن الكريم دستور المسلمين، وحضارة كاملة وشاملة لكافة الناس، وهداية ليعيش الإنسان مطمئناً مكرماً. وفي القرآن الكريم يتجلى علم الله سبحانه وتعالى بحجته على كافة البشر بأن محمداً عبده ورسوله. ومن البيان ما فيه الكفاية على صدق الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه من علم إلهي، يمكن للمسلم وغير المسلم إدراكه في كل زمان ومكان، ويواكب كل عصر بما فيه من تقدم تكنولوجي مصداقاً لقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(فصلت:53)، وقوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾(النمل:93).
    هذه الآيات القرآنية هي في حد ذاتها معجزة مستمرة للقرآن الكريم إلى يوم القيامة، وهذه الرؤيا التي يريها الله سبحانه وتعالى عباده مفتوحة في الزمان والمكان إلى يوم الدين. فالقرآن الكريم خارق للعادة في الأسلوب والبلاغة، مما يدل على صحة الدعوة. والمعجزة العلمية متجددة عبر العصور.
    في عصرنا أظهرت البشرية قبولها النتائجَ العلمية، طريقاً متميزاً إلى معرفة الحق، وهذا تأتى للإنسان بعد الاكتشافات العلمية المذهلة مع التحكم في الأجهزة الدقيقة. وأساليب الدعوة كثيرة ومتنوعة، ومن بينها لغة الخطاب الموجه إلى الإنسان الذي يؤمن اليوم بالحجة والدقة العلمية؛ فكان لزاماً على المسلمين مخاطبة الناس بلغة العلم. فلغة العلماء هي الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، لكي نبين للناس فضل الله سبحانه وتعالى الآيات حتى يتبين لهم أنه الحق. فالمسلم يزداد إيماناً مع إيمانه، وغير المسلم تكون حجة عليه.
    إذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شاهدوا بأعينهم كثيراً من المعجزات، فإن الله سبحانه وتعالى أرى أهل هذا العصر معجزة لرسوله تتناسب مع عصرهم، ويتبين لهم بها أن القرآن حق: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾(ص:87-88).
    أحد البحوث التجريبية العلمية التي قمنا بها في المغرب وفي قرطبة بأسبانيا، تتمحور حول تكنولوجيا شجرة الزيتون ومشتقاته.
    شجرة الزيتون شجرة مباركة تنتمي إلى عائلة الزيتيات، معروفة منذ القـدم لشهرة زيتونها وزيتها، وتعيش ما بين 25° و45° من خطوط العرض ومع ارتفاع يقل عن 800 م -مع العلم أننا وجدنا أشجار زيتون على ارتفاع 1100م- عن سطح الأرض. تتميز هذه الشجرة بمتوسط عمر كبير جداً، وتتأقلم مع جميع أنواع التربة، مما يجعلها في مقدمة المقاومين للظروف المناخية المتقلبة.
    هذه الشجرة هي من أصل بلدان البحر الأبيض المتوسط، وصلت إلى إسبانيا عن طريق الفينيقيين والإغريق. وإذا كان الرومان أول من نشر زراعة هذه الشجرة في كل شبه الجزيرة الإبيرية، فإن المسلمين هم الذين طوروا تقنية استخراج الزيت. وقبل ميلاد المسيح كانت هذه الشجرة موجودة في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية. وفي المغرب الشرقي يشكل الزيتون ومشتقاته أحد الركائز الاقتصادية المهمة للساكنة.
    إن أزيد من 800 مليون شجرة من الزيتون في العالم تحتل 10 ملايين هكتار تقريباً. والكثافة الزراعية لشجرة الزيتون، موجودة في حوض البحر الأبيض المتوسط بنسبة 98% من المساحات المزروعة لهذا الغرض، مما يبين أهمية هذه الشجرة في هذه البقعة من العالم.
    شجرة الزيتون قصيرة عادة، ولا تتجاوز 15 م، ذات جذع سميك -ويزداد سمكاً بزيادة عمر الشجرة- مليء بالعروق والتعرجات. شجرة الزيتون دائمة الخضرة وأوراقها قصيرة وحادة.
    هناك أنواع كثيرة من ثمار الزيتون، فمنها ما هو أخضر وأسود وبنفسجي داكن (قريب للأسود) وغيرها من الأنواع الهجينة. شجرة الزيتون معمرة، ومعدل نموها بطيء. يتراوح معدل العمر عند شجرة الزيتون من 2000 إلى 3000 سنة. الشجرة مباركة حيث إننا نستفيد من زيتونها وزيتها وخشبها وورقها. وزيت الزيتون من أفخم الزيوت، وهو مفيد جداً.


    الزيتون في القرآن الكريم والحديث النبوي
    الزيتون من الأشجار المباركة والتي ورد ذكرها صراحة في القرآن الكريم ست مرات، والمرة السابعة غير صريحة. وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يأكلوا من زيتها ويدهنوا به. وقد ثبت علمياً فوائد أكل زيت الزيتون والدهان به.
    قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(الأنعام:99)، وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(الأنعام:141)، وقال تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(النور:35)، وقال تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ﴾(التين:1-3)، وقال تعالى: ﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(النحل:11)، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾(عبس:26-32)، وقال تعالى: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾(المؤمنون:20).
    عن أبي أسيد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا الزيت وأدهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة" (رواه الترمذي)، وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان، ودهنه بزيت غير كثير.
    يتكون الزيت من الأحماض الدهنية (Fatty Acids) والجليسرول (Glycerol). وترجع القيمة الغذائية والطبية العالية لزيت الزيتون، لاحتوائه على نسبة عالية من الأحماض الدهنية غير المشبعة الأحادية، والتي تصل إلى 83% من زيت الزيتون، وهي تفوق نسبتها في الأشجار الأخرى بكثير، كما يحتوي زيت الزيتون على نسب عالية من الفيتامينات وخاصة فيتامين E.B والكاروتين، لذلك قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: "كلوا الزيت وأدهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة".
    تكنولوجيا الدورة الحياتية للزيتون

    التجارب
    في تكنولوجيا شجر الزيتون المبارك، الحصول على نبيتات أحادية الصيغة الصبغية (n chromosomes) يشكل منعطفاً تجريبياً وتقنياً جد مهم. عزل البويضة أو حبات اللقاح، وزرعها في وسط زراعي متكامل مكون من: مواد ضرورية ومواد معدنية وفيتامينات وهرمونات نباتية. وقد وقع الاختيار على زرع حبات اللقاح لسهولتها من جهة ونضجها المبكر "نواتين". في البداية لزم تفحص حبة اللقاح تحت المجهر الفلوري، وهو مجهر يمكن بواسطته للمواد امتصاص أشعة المجهر، وبعد ذلك انعكاس ضوء آخر مختلف تماماً عن الأول يسمى الـ"إشعاع الفلوري".

    خاصية الضوء
    الضوء هو إشعاع كهرومغناطيسي ذو طول موجي، يمكن للعين البشرية أن تراه إذا وقعت طول موجته بين نحو 750 نانومتر (الضوء الأحمر) و370 نانومتر (الضوء البنفسجي). والعين تستطيع رؤية الأجسام غير الشفافة من خلال انعكاس الضوء عليها. كلمة الضوء تطلق على هذا الحيز الوسطي من طيف الإشعاع الكهرومغناطيسي، الذي يمتد من موجات الراديوية (أي موجات الراديو) المستعملة في إرسال الراديو بطول موجة بين السنتيمتر وعدة كيلومترات، ويمتد من الناحية الأخرى للطيف المرئي من الأشعة الفوق بنفسجية إلى الأشعة السينية، ثم إلى أشعة "جاما" التي تصدر من أنوية الذرات، ولها طاقات عالية ودرجة نفاذ عالية.
    ينتشر الضوء في جميع الاتجاهات وبسرعة فائقة جداً، لدرجة لا يوجد في حياتنا اليومية أي شيء يدعونا للقول إنه يتحرك أسرع من الضوء. يكون انتشار الضوء في خطوط مستقيمة. تختلف حساسية العين باختلاف الطاقة الإشعاعية المستقبلة من الأجسام المضيئة أو المرئية. والعين قادرة على التمييز بين الألوان المختلفة المكونة للضوء العادي، ضوء الشمس المرئي الواصل لسطح الأرض، حيث إنه لكل لون خواص مختلفة عن اللون الآخر، حيث تقع حد حساسية العين في التمييز أو الرؤية للألوان أي للموجات الضوئية بين الضوء الذي طول موجته 400 نانومتر إلى 700 نانومتر، أي هاتان القيمتان هما حدود الإحساس بالرؤية. لكن للعين أيضاً أن تكشف الضوء بطول موجة خارج عن هذه الحدود إذا كانت شدة الضوء عالية لدرجة كافية. وتستخدم الألواح الفوتوغرافية والكاشفات الإلكترونية الحساسة للكشف عن الإشعاع، بدلاً عن العين البشرية وخاصة خارج الحدود المذكورة. هذه الحدود تعرف بحدود الضوء المرئي (Domaine du visible).
    هذه النتائج المذكورة تبين جلياً بالصورة حبة اللقاح وكأنها ثريا مضيئة بمصابيح، وهي في الحقيقة تمت تسميتها بالحبيبات المضيئة الفلورية، وسبحان الله حين قال: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾.
    والتجربة التالية هي عبارة عن عزل هذه الحبيبات المضيئة الفلورية، بعد عزل حبات اللقاح لأزهار شهر مايو 2009 وتحليلها بتقنية التحليل الكروماتوغرافي في الطور الغازي.

    0.2 غ من محلول الحبيبات المضيئة الفلورية +4 مل من heptane + 0.4 مل من الخليط KOH في Méthanol. هذه العملية تتبع بارتجاج طاقي مهم. مستخلص الميتيل يمر عبر قناة التحليل الكروماتوغرافي في المجال الغازي مما يعطينا مخططاً لونياً (أنظر أسفل):

    الرسم رقم 1: مقارنة تحليل مستخلص الميتيل للحبيبات الضوئية الفلورية لشجر الزيتون مع حبات اللقاح لزهر أركان لمنتوج 2009.

    يظهر التحليل الكروماتوغرافي تحت المجال الغازي في الرسم رقم 1 والرسم رقم 2. النتائج تبين أن الحبيبات الفلورية المضيئة لحبات لقاح الزيتون تحتوي على أحماض دهنية octadecanoic acid methyl ester و cyclopropanedecanoic acid 2-octyl methyl ester


    الأحماض الدهنية المشبعة تشكل سلاسل على التوالي، مما يسمح للكائنات الحية تخزين المواد الكيميائية والطاقة بنسبة مهمة جداً. الأنسجة الدهنية للحيوانات تحتوي على كميات كبيرة من سلسلة طويلة والأحماض الدهنية المشبعة.
    جسم الإنسان لا يمكن أن ينتج اثنين من الأحماض الدهنية التي يحتاجها، هما حامض Linoleic وحامض Linolenic ألفا (LNA) يتم توزيعها على نطاق واسع في الزيوت النباتية. أحماض أوميغا 3 الدهنية Eicosapentaenoic حمض وحامض Docosahexaenoic لا يمكن أن تتكون في الجسم من المواد الأخرى، وينبغي إضافتها في الغذاء، وأنها تسمى الأحماض الدهنية الأساسية للبشر في الجسم. والأحماضُ الدهنية الأساسية هي في المقام الأول تستخدم لإنتاج مواد مثل الهرمونات التي تنظم مجموعة كبيرة من الوظائف، بما في ذلك ضغط الدم، وتخثر الدم، ومستويات الدهون في الدم، والاستجابة المناعية. يحتوي الدماغ على 60% من الدهون والأحماض الدهنية الأساسية لاحتياجات العمل بصورة سليمة، وهي متاحة فقط من خلال النظام الغذائي، أو من خلال التكميلية.
    ورغم أن الجسم يحتاج إلى كل من أوميغا 3 وأوميغا 6 والأحماض الدهنية، ويوفر النظام الغذائي عادة كميات وفيرة من الأحماض الدهنية أوميجا 6. وعند مناقشة فوائد الأحماض الدهنية، فإن معظم الخبراء يركزون على الأحماض الدهنية أوميجا 3 التي تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على الدماغ من نمط الأفكار. أوميغا 3 والأحماض الدهنية جيدة للقلب، ويمكن أن يخفض معدل الوفاة من النوبات القلبية. هذه الأحماض الدهنية يمكن أن تخفض الكولسترول وTriglyceride لمستويات ضئيلة مما يؤدي إلى خفض ضغط الدم.
    ــــــــــــــــــــــ
    (*) جامعة محمد الأول، كلية العلوم - وجدة / المغرب.
    Reply With Quote  
     

  3. #3  
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10

    الإعجاز العلمي في وصف مشاهد الساعة في القرآن والسنة النبوية

    أ.د. زغلول النجار / علوم

    جاء ذكر "الساعة" (بمعنى: آخر الوقت من الحياة الدنيا الذي عنده يبدأ هدم النظام الكوني) 40 مرة في القرآن الكريم، وعشرات المرات في الأحاديث النبوية الشريفة. ومن ذلك قول ربنا سبحانه وتعالى:
    ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(الأعراف:187).
    ومن أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يلي: "لا تقوم ا لساعة حتى يظهر الفحش والتفحش وحتى يعبد الدرهم والدينار" (رواه أحمد). وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا هبت ريح شديدة تغير لونه فقال: "تخوفت الساعة" (رواه البخاري). كما جاء التعبير بلفظ "الساعة" عن جزء من أجزاء الزمان 8 مرات في كتاب الله سبحانه وتعالى.
    وهناك ثلاثة أحداث كونية كبرى هي: "الساعة" و"القيامة" و"الآخرة"، تُجمع كلها تحت اللفظ الأخير "الآخرة" لتسارع وقوعها تباعاً كأنها حدث واحد.
    أما "القيامة" فجاءت الإشارة إليها في القرآن الكريم 70 مرة بتعبير "يوم القيامة". والقيامة أصلها ما يكون من الإنسان من القيام دفعة واحدة، وأدخلت فيها "الهاء" تنبيهاً على وقوعها دفعة واحدة. والتعبير القرآني "يوم القيامة" يقصَد به؛ يوم البعث من الأرض الجديدة التي يخلقها ربنا سبحانه وتعالى مع السموات الجديدة بعد إتمام هدم الكون الحالي، وذلك لقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾(إبراهيم:48).

    انهدام النظام الكوني

    وكل ما بعد تهدم النظام الكوني الحالي، هو من الأمور الغيبية التي نقبل ما جاء عنها في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي أحاديث خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- دون محاولة تفسيرها بقوانين الدنيا، لأن البعث والحشر والنشور والعرض الأكبر والميزان والصراط والجنة والنار، كل ذلك له من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا تماماً.
    وأما "الآخرة" أو "الدار الآخرة"، فقد جاء ذكرها في القرآن الكريم 115 مرة للتعبير عن النشأة الثانية في مقابلة النشأة الأولى، وهي الدنيا أو الدار الدنيا. وقد توصف النشأة الثانية بـ"الآخرة" تارة، وبـ"الدار الآخرة" تارة أخرى، وتقديرها: دار الحياة الآخرة، وهي كلها في عالم الغيب المطلق الذي لا تستطيع المعارف المكتسبة أن تبدي فيها قولاً، إلا الذي جاء عنها في كل من كتاب الله سبحانه وتعالى وأقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم. ومن هنا كان اقتصارنا على الإعجاز العلمي في وصف مشاهد الساعة في كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، لإمكانية تفسير ذلك بواسطة المعارف المكتسبة في الدار الدنيا. وهذه المراحل الثلاث: "الساعة"، "القيامة"، "الآخرة"، كثيراً ما تُجمع تحت مسمى "الآخرة" أو "يوم القيامة" لسرعة تتابعها كأنها حدث واحد.
    من أوجه الإعجاز القرآني والنبوي في وصف بعض مشاهد الساعة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾، و﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾، و﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾" (رواه أحمد).
    يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾(التكوير:1). الشمس نجم عادي متوسط الحجم، يبعد عن الأرض مسافة تقدّر بحوالي 150 مليون كيلومتر في المتوسط. ونتيجة لهذا البعد الهائل نراها من سطح الأرض مكورة وهي في الحقيقة ليست مكورة، لاندفاع ألسنة طويلة من الطاقة من على سطحها، لأنها على هيئة فرن نووي عملاق، يتم بداخله عملية الاندماج النووي بين نوى ذرات الهيدروجين منتجة نوى ذرات الهيليوم. وتنطلق الطاقة التي ترفع درجة حرارة قلب الشمس إلى 15 مليون درجة مطلقة. و"الهالة الشمسية" (Corona) قد تمتد إلى أكثر من عشر مرات قدر نصف قطر الشمس، ويصاحبه العديد من الظواهر على سطح الشمس التي منها:
    1- ظاهرة الوهج أو الومض الشمسي (Solar Flares): وهي ظاهرة تصحب تكوّن البقع الشمسية، ويصاحبها انبعاث كمية هائلة من الطاقة المستمدة من المجال المغناطيسي المحيط بالبقع الشمسية، وهناك انفجارات في مدى واسع من المجالات الراديوية، وهناك ومضات خلال الهالة الشمسية بسرعة قد تتراوح بين 1000 كم/ث-100,000 كم/ث، وهي ومضات من النوع الانفجاري، وقد يصل ذلك إلى حدود العاصفة التي تمكث طويلاً.
    2- ظاهرة الشطوط الشمسية (Solar Plagues): وهي تشكيلات لامعة من النشاط الشمسي على هيئة ألسنة اللهب، مندفعة من حافة قرص الشمس، وعادة ما تقترن بالبقع الشمسية وقد تبقى لعدة أسابيع.
    وذلك فإن الشمس حاليًّا ليست كرة كاملة الاستدارة نتيجة لهذا النشاط، وأن تكورها بانسحاب ألسنة اللهب إلى داخلها هو إشارة إلى بداية ضعف النشاط النووي في داخلها. وفي ذلك إشارة إلى بدء انهدام النظام الكوني أي بداية "الساعة".
    3- ظاهرة الرياح الشمسية ( Solar Winds): وهي عبارة عن جسيمات كونية مستمرة الاندفاع من الشمس بسرعات كبيرة تصل إلى خارج حدود بلوتو على هيئة نفاثات متواترة عالية السرعة قد تصل إلى 1000 كم/ث. وفي ذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الشمس والقمر يكوران يوم القيامة" (رواه البخاري).
    4- ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾(التكوير:2): لمعان الشمس هو مقياس لإشعاعه، ويعرف من ذلك اللمعان الحقيقي "المطلق"، واللمعان الظاهري، والأخير هو مقياس لشدة ما يصل إلى الأرض من إشعاع النجم. والنجوم تتفاوت في درجات لمعانها (Brightness)، وذلك لتباين النجوم في كل من قوة إشعاعها وبعدها عن الأرض. وعن طريق معرفة درجة لمعان النجم يمكننا معرفة الأبعاد الأخرى له، من مثل طول قطره وبعده عنا. ويسمى اللمعان الظاهري باسم "قدر النجم"، وتتغير شدة لمعان النجم. وعند احتضار النجم يبدأ في الانكدار، أي فقدان قدر كبير من درجة لمعانه. ومن هنا كانت الإشارة في هذه الآية الكريمة إلى أن انكدار النجوم، هي من علامات الساعة ومضةً معجزة، لأن هذه الحقيقة لم تدرك إلا في أواخر القرن العشرين.
    والأقدار النجمية (Stellar Magnitude) هو مقياس عددي يعبر عن درجة لمعان النجوم، وهو مقياس لوغاريتمي ينبني على أن النجوم الألمع يعبَّر عن درجة لمعانها بأرقام أقل. واستضاء النجم (Stellar Luminosity) هي إنتاجه من الطاقة في الثانية الواحدة إما بوحدات السعر الحراري أو الوات الكهربائي أو بوحدات استضاءة الشمس.
    5- ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾(المرسلات:9). في سنة 1971 للميلاد اكتشف علماء الفلك أن بعض النجوم العادية تصدر وابلاً من الأشعة السينية، ولم يجدوا تفسيراً علميًّا لذلك إلا وقوعها تحت تأثير أجرام سماوية غير مرئية ذات كثافات خارقة للعادة، ومجالات جاذبية عالية الشدة، وذلك لأن النجوم العادية ليس في مقدورها إصدار الأشعة السينية من ذاتها. وقد سميت تلك النجوم الخفية باسم "الثقوب السود" (Black Holes) لقدرتها الفائقة على ابتلاع كل ما تمر به، أو يدخل في نطاق جاذبيتها من مختلف صور المادة والطاقة. وقد سماها القرآن باسم ﴿الْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾(التكوير:15-16)، واعتبرها الفلكيون مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم العملاقة، وهي مرحلة طمس حقيقية تسبق انفجارها وتحولها إلى دخان السماء، ولذلك اتخذها القرآن الكريم علامة على الساعة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾.
    6- ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ﴾(المرسلات:9). السماء الدنيا متينة البنيان، شديدة الترابط، ترتبط أجرامها كلها بخطوط الجاذبية، والتي إذا انهارت تفككت تلك الروابط فتحدث الفرج في السماء قبل انهيارها على ذاتها بالكامل.
    7- ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ﴾(المرسلات:10). تترابط اللبنات الأولية للمادة في داخل الذرات بواسطة قوتين نوويتين: هما القوة النووية الشديدة، والقوة النووية الضعيفة. وتترابط الذرات في داخل جزيئات المادة بالقوة الكهربائية/المغناطيسية. فإذا زالت تلك القوى، نرى صخور الجبال تتطاير في الهواء كالعهن المنفوش، وهذا هو وصف نسفها، ولذلك جاء في سورة التكوير قول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾(التكوير:3).
    8- ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾(التكوير:6). تقوم محيطات الأرض كلها اليوم وأعداد من بحارها على خسوف أرضية عميقة تصل أعماقها إلى 65 كم، فتخترق الغلاف الصخري لقاع المحيط أو البحر لتصل إلى نطاق يسميه العلماء باسم "نطاق الضعف الأرضي"، توجد فيه الصخور في حالة منصهرة فتندفع بملايين الأطنان لتسجر قيعانها بصهارة تزيد درجة حرارتها عن ألف درجة مئوية. وإذا كان ذلك يحدث في الدنيا فالله سبحانه وتعالى قادر على مضاعفة هذا النشاط البركاني فوق قيعان المحيطات والبحار، حتى يرى هذا النشاط فوق مستوى سطح الماء.
    9- ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾(القيامة:9). بقياسات دقيقة بواسطة أشعة الليزر، ثبت أن القمر يتباعد عن الأرض بمعدل 3-4 سم سنوياً، وباستمرار هذا التباعد يمكن للشمس أن تبتلع القمر فتجمع مادتيهما في جرم واحد. والحدث سيتم في الآخرة بأمر من الله سبحانه وتعالى وليس بهذه السنة. ولكن من رحمته بنا أبقى ربنا سبحانه وتعالى لنا ظاهرةَ تباعُد القمر عن الأرض، حتى نفهم إمكانية حدوث ذلك في وقت تهدُّم النظام الكوني، أي في وقت الساعة.
    10- ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾(الرحمن:37). من مراحل احتضار النجوم ما يعرف باسم "السدم الكوكبية" التي تظهر في المنظار على هيئة وردة حمراء مدهنة، تتكون من طبقات غازية متوهجة ومتمددة بسرعات تتراوح يبن 10-15 كم/ث في المتوسط، وإن وصلت أحياناً إلى 1000 كم/ث، وفي درجات حرارة تصل إلى أكثر من مائة ألف درجة مطلقة حول النجم الذي تكدس على ذاته في داخل جسم السديم.
    11- ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾(الانفطار:1). الانفطار هو الانشقاق والتصدع والانفراج الذي يحدث نتيجة لانفصام عرى الجاذبية العظمى التي تربط كل شيء في السماء الدنيا بأمر من الله سبحانه وتعالى القائل: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾(الانشقاق:1). والقائل: ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ﴾(المرسلات:9)، والقائل:
    ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾(النبأ:19).
    12- ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾(الانفطار:2). تنقسم كواكب المجموعة الشمسية إلى كواكب صخرية هي: عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، بلوتو، والكويكبات، وسيدنا؛ وكواكب غازية هي: المشتري، زحل، يورانوس، ونبتون. وكل من الصنفين ينتهي أجله بالانفجار والانتثار. وهنا تتضح ومضة الإعجاز العلمي في التمييز بين نهاية النجوم بالانكدار ثم الطمس ثم الانفجار للعودة إلى دخان السماء.
    13- ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾(الأنبياء:104). في مطلع القرن العشرين ثبت لعلماء الفلك، أن المجرات من حولنا تتراجع متباعدة عنا وعن بعضها البعض، بسرعات تتراوح بين 60.000-272.000 كم/ث. وقالوا إنه إذا عدنا بهذا التوسع إلى الوراء مع الزمن، فلابد من تكدس الكون على ذاته في نقطة متناهية الضآلة في الحجم تكاد تقترب من الصفر، انفجرت فتحولت إلى سحابة من الدخان خلقت منها الأرض وباقي أجرام السماء، وسموا هذه النظرية باسم نظرية "الانفجار العظيم" (The Big Bang). وسبق القرآن الكريم بذكرها تحت مسمى "فتق الرتق". والانخفاض الشديد في درجة حرارة الكون من ملايين الدرجات عند فتق الرتق إلى 3 درجات مطلقة الآن، يشير إلى تناقص القوى الدافعة لتوسع الكون، مما يحتم توقفها في أية لحظة من المستقبل. وحينئذ تبدأ قوى الجاذبية في تكديس الكون على ذاته، حتى يعود إلى سيرته الأولى، وسموا ذلك باسم "نظرية الانسحاق الشديد" (The Big Crunch). وقد سبق القرآن الكريم بأكثر من 1400 سنة في الإشارة إلى طي السماء وإعادتها سيرتها الأولى قبل فتق الرتق، وهذا من أوضح المعجزات العلمية في كتاب الله، ومن أعظم أوصاف الساعة.
    14- ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾(إبراهيم:48). هذه الآية الكريمة هي الفارقة بين أحداث الساعة والدار الآخرة، لأنها تحدد أن البعث (القيامة) سوف يتم من أرض غير أرضنا الحالية، وتحت سماوات غير السماوات المحيطة بنا في دار الدنيا. ولكن من طلاقة القدرة الإلهية أن الأرض الجديدة سوف تحتوي كل ذرات أرضنا الحالية التي تحمل بقايانا بعد الموت، والتي سوف نُبعث منها كما فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عجب الذنب. وهذه الآية الكريمة من أمور الغيب الذي لا تستطيع المعارف المكتسبة أن تقول فيه شيئاً. ولكن من المنطقي أن الكون بعد طيه على ذاته على هيئة الرتق الأول، لابد وأن يعاود الفتق والتحول إلى سحابة من الدخان، يُخلق منها أرض غير أرضنا، وسماوات غير السماوات المحيطة بنا كما فَصلت هذه الآية الكريمة.

    ملخص

    تستخدم التعبيرات القرآنية الثلاثة: "الساعة"، "القيامة"، و"الآخرة" كمرادفات لأمر واحد.
    و"الساعة" هي آخر الوقت من الحياة الدنيا الذي يبدأ به "انهدام الكون"، وعلى ذلك فإنه من الممكن تفسير كل الأحداث المرافقة لها باستخدام المعارف المكتسبة.
    أما تعبير "القيامة" أو "يوم القيامة" فيقصد به "يوم البعث من القبور". والقرآن الكريم يؤكد على أن ذلك سيتم من أرض جديدة وتحت سماوات جديدة، يَستبدل ربنا سبحانه وتعالى بهما أرضنا الحالية، والسماواتِ المحيطة بنا اليوم في دار الدنيا الفانية. ومن طلاقة القدرة الإلهية، أن الأرض الجديدة ستحوي كل مكونات أرضنا الحالية التي سوف نبعث منها. ويعتبر يوم البعث فاصلاً حقيقيًّا بين كل من "الساعة" و"الدار الآخرة" التي سيتم فيها الحشر والحساب والجزاء بالخلود، إما في الجنة أبداً أو في النار أبداً.
    ومن أعظم المعجزات العلمية في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- وصفُ مشاهد الساعة التي لم يسبق أنْ تعامل معها علميًّا أيُّ من المفسرين أو المشتغلين بالإعجاز العلمي.
    وهذه المشاهد للساعة التي جاءت في عشرات الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، تؤكد على صدق القرآن الكريم وسبقه في كل إشارة علمية جاء بها، وصدق النبي الخاتم الذي تلقاه في كل كلمة نطق بها.
    ــــــــــــــــــــــ
    (*) أستاذ علوم الأرض ورئيس لجنة الإعجاز العلمي بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية / مصر.
    Reply With Quote  
     

  4. #4  
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10

    الإعجاز العلمي في وصف مشاهد الساعة في القرآن والسنة النبوية

    أ.د. زغلول النجار / علوم

    جاء ذكر "الساعة" (بمعنى: آخر الوقت من الحياة الدنيا الذي عنده يبدأ هدم النظام الكوني) 40 مرة في القرآن الكريم، وعشرات المرات في الأحاديث النبوية الشريفة. ومن ذلك قول ربنا سبحانه وتعالى:
    ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(الأعراف:187).
    ومن أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يلي: "لا تقوم ا لساعة حتى يظهر الفحش والتفحش وحتى يعبد الدرهم والدينار" (رواه أحمد). وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا هبت ريح شديدة تغير لونه فقال: "تخوفت الساعة" (رواه البخاري). كما جاء التعبير بلفظ "الساعة" عن جزء من أجزاء الزمان 8 مرات في كتاب الله سبحانه وتعالى.
    وهناك ثلاثة أحداث كونية كبرى هي: "الساعة" و"القيامة" و"الآخرة"، تُجمع كلها تحت اللفظ الأخير "الآخرة" لتسارع وقوعها تباعاً كأنها حدث واحد.
    أما "القيامة" فجاءت الإشارة إليها في القرآن الكريم 70 مرة بتعبير "يوم القيامة". والقيامة أصلها ما يكون من الإنسان من القيام دفعة واحدة، وأدخلت فيها "الهاء" تنبيهاً على وقوعها دفعة واحدة. والتعبير القرآني "يوم القيامة" يقصَد به؛ يوم البعث من الأرض الجديدة التي يخلقها ربنا سبحانه وتعالى مع السموات الجديدة بعد إتمام هدم الكون الحالي، وذلك لقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾(إبراهيم:48).

    انهدام النظام الكوني

    وكل ما بعد تهدم النظام الكوني الحالي، هو من الأمور الغيبية التي نقبل ما جاء عنها في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي أحاديث خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- دون محاولة تفسيرها بقوانين الدنيا، لأن البعث والحشر والنشور والعرض الأكبر والميزان والصراط والجنة والنار، كل ذلك له من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا تماماً.
    وأما "الآخرة" أو "الدار الآخرة"، فقد جاء ذكرها في القرآن الكريم 115 مرة للتعبير عن النشأة الثانية في مقابلة النشأة الأولى، وهي الدنيا أو الدار الدنيا. وقد توصف النشأة الثانية بـ"الآخرة" تارة، وبـ"الدار الآخرة" تارة أخرى، وتقديرها: دار الحياة الآخرة، وهي كلها في عالم الغيب المطلق الذي لا تستطيع المعارف المكتسبة أن تبدي فيها قولاً، إلا الذي جاء عنها في كل من كتاب الله سبحانه وتعالى وأقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم. ومن هنا كان اقتصارنا على الإعجاز العلمي في وصف مشاهد الساعة في كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، لإمكانية تفسير ذلك بواسطة المعارف المكتسبة في الدار الدنيا. وهذه المراحل الثلاث: "الساعة"، "القيامة"، "الآخرة"، كثيراً ما تُجمع تحت مسمى "الآخرة" أو "يوم القيامة" لسرعة تتابعها كأنها حدث واحد.
    من أوجه الإعجاز القرآني والنبوي في وصف بعض مشاهد الساعة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾، و﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾، و﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾" (رواه أحمد).
    يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾(التكوير:1). الشمس نجم عادي متوسط الحجم، يبعد عن الأرض مسافة تقدّر بحوالي 150 مليون كيلومتر في المتوسط. ونتيجة لهذا البعد الهائل نراها من سطح الأرض مكورة وهي في الحقيقة ليست مكورة، لاندفاع ألسنة طويلة من الطاقة من على سطحها، لأنها على هيئة فرن نووي عملاق، يتم بداخله عملية الاندماج النووي بين نوى ذرات الهيدروجين منتجة نوى ذرات الهيليوم. وتنطلق الطاقة التي ترفع درجة حرارة قلب الشمس إلى 15 مليون درجة مطلقة. و"الهالة الشمسية" (Corona) قد تمتد إلى أكثر من عشر مرات قدر نصف قطر الشمس، ويصاحبه العديد من الظواهر على سطح الشمس التي منها:
    1- ظاهرة الوهج أو الومض الشمسي (Solar Flares): وهي ظاهرة تصحب تكوّن البقع الشمسية، ويصاحبها انبعاث كمية هائلة من الطاقة المستمدة من المجال المغناطيسي المحيط بالبقع الشمسية، وهناك انفجارات في مدى واسع من المجالات الراديوية، وهناك ومضات خلال الهالة الشمسية بسرعة قد تتراوح بين 1000 كم/ث-100,000 كم/ث، وهي ومضات من النوع الانفجاري، وقد يصل ذلك إلى حدود العاصفة التي تمكث طويلاً.
    2- ظاهرة الشطوط الشمسية (Solar Plagues): وهي تشكيلات لامعة من النشاط الشمسي على هيئة ألسنة اللهب، مندفعة من حافة قرص الشمس، وعادة ما تقترن بالبقع الشمسية وقد تبقى لعدة أسابيع.
    وذلك فإن الشمس حاليًّا ليست كرة كاملة الاستدارة نتيجة لهذا النشاط، وأن تكورها بانسحاب ألسنة اللهب إلى داخلها هو إشارة إلى بداية ضعف النشاط النووي في داخلها. وفي ذلك إشارة إلى بدء انهدام النظام الكوني أي بداية "الساعة".
    3- ظاهرة الرياح الشمسية ( Solar Winds): وهي عبارة عن جسيمات كونية مستمرة الاندفاع من الشمس بسرعات كبيرة تصل إلى خارج حدود بلوتو على هيئة نفاثات متواترة عالية السرعة قد تصل إلى 1000 كم/ث. وفي ذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الشمس والقمر يكوران يوم القيامة" (رواه البخاري).
    4- ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾(التكوير:2): لمعان الشمس هو مقياس لإشعاعه، ويعرف من ذلك اللمعان الحقيقي "المطلق"، واللمعان الظاهري، والأخير هو مقياس لشدة ما يصل إلى الأرض من إشعاع النجم. والنجوم تتفاوت في درجات لمعانها (Brightness)، وذلك لتباين النجوم في كل من قوة إشعاعها وبعدها عن الأرض. وعن طريق معرفة درجة لمعان النجم يمكننا معرفة الأبعاد الأخرى له، من مثل طول قطره وبعده عنا. ويسمى اللمعان الظاهري باسم "قدر النجم"، وتتغير شدة لمعان النجم. وعند احتضار النجم يبدأ في الانكدار، أي فقدان قدر كبير من درجة لمعانه. ومن هنا كانت الإشارة في هذه الآية الكريمة إلى أن انكدار النجوم، هي من علامات الساعة ومضةً معجزة، لأن هذه الحقيقة لم تدرك إلا في أواخر القرن العشرين.
    والأقدار النجمية (Stellar Magnitude) هو مقياس عددي يعبر عن درجة لمعان النجوم، وهو مقياس لوغاريتمي ينبني على أن النجوم الألمع يعبَّر عن درجة لمعانها بأرقام أقل. واستضاء النجم (Stellar Luminosity) هي إنتاجه من الطاقة في الثانية الواحدة إما بوحدات السعر الحراري أو الوات الكهربائي أو بوحدات استضاءة الشمس.
    5- ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾(المرسلات:9). في سنة 1971 للميلاد اكتشف علماء الفلك أن بعض النجوم العادية تصدر وابلاً من الأشعة السينية، ولم يجدوا تفسيراً علميًّا لذلك إلا وقوعها تحت تأثير أجرام سماوية غير مرئية ذات كثافات خارقة للعادة، ومجالات جاذبية عالية الشدة، وذلك لأن النجوم العادية ليس في مقدورها إصدار الأشعة السينية من ذاتها. وقد سميت تلك النجوم الخفية باسم "الثقوب السود" (Black Holes) لقدرتها الفائقة على ابتلاع كل ما تمر به، أو يدخل في نطاق جاذبيتها من مختلف صور المادة والطاقة. وقد سماها القرآن باسم ﴿الْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾(التكوير:15-16)، واعتبرها الفلكيون مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم العملاقة، وهي مرحلة طمس حقيقية تسبق انفجارها وتحولها إلى دخان السماء، ولذلك اتخذها القرآن الكريم علامة على الساعة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾.
    6- ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ﴾(المرسلات:9). السماء الدنيا متينة البنيان، شديدة الترابط، ترتبط أجرامها كلها بخطوط الجاذبية، والتي إذا انهارت تفككت تلك الروابط فتحدث الفرج في السماء قبل انهيارها على ذاتها بالكامل.
    7- ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ﴾(المرسلات:10). تترابط اللبنات الأولية للمادة في داخل الذرات بواسطة قوتين نوويتين: هما القوة النووية الشديدة، والقوة النووية الضعيفة. وتترابط الذرات في داخل جزيئات المادة بالقوة الكهربائية/المغناطيسية. فإذا زالت تلك القوى، نرى صخور الجبال تتطاير في الهواء كالعهن المنفوش، وهذا هو وصف نسفها، ولذلك جاء في سورة التكوير قول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾(التكوير:3).
    8- ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾(التكوير:6). تقوم محيطات الأرض كلها اليوم وأعداد من بحارها على خسوف أرضية عميقة تصل أعماقها إلى 65 كم، فتخترق الغلاف الصخري لقاع المحيط أو البحر لتصل إلى نطاق يسميه العلماء باسم "نطاق الضعف الأرضي"، توجد فيه الصخور في حالة منصهرة فتندفع بملايين الأطنان لتسجر قيعانها بصهارة تزيد درجة حرارتها عن ألف درجة مئوية. وإذا كان ذلك يحدث في الدنيا فالله سبحانه وتعالى قادر على مضاعفة هذا النشاط البركاني فوق قيعان المحيطات والبحار، حتى يرى هذا النشاط فوق مستوى سطح الماء.
    9- ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾(القيامة:9). بقياسات دقيقة بواسطة أشعة الليزر، ثبت أن القمر يتباعد عن الأرض بمعدل 3-4 سم سنوياً، وباستمرار هذا التباعد يمكن للشمس أن تبتلع القمر فتجمع مادتيهما في جرم واحد. والحدث سيتم في الآخرة بأمر من الله سبحانه وتعالى وليس بهذه السنة. ولكن من رحمته بنا أبقى ربنا سبحانه وتعالى لنا ظاهرةَ تباعُد القمر عن الأرض، حتى نفهم إمكانية حدوث ذلك في وقت تهدُّم النظام الكوني، أي في وقت الساعة.
    10- ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾(الرحمن:37). من مراحل احتضار النجوم ما يعرف باسم "السدم الكوكبية" التي تظهر في المنظار على هيئة وردة حمراء مدهنة، تتكون من طبقات غازية متوهجة ومتمددة بسرعات تتراوح يبن 10-15 كم/ث في المتوسط، وإن وصلت أحياناً إلى 1000 كم/ث، وفي درجات حرارة تصل إلى أكثر من مائة ألف درجة مطلقة حول النجم الذي تكدس على ذاته في داخل جسم السديم.
    11- ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾(الانفطار:1). الانفطار هو الانشقاق والتصدع والانفراج الذي يحدث نتيجة لانفصام عرى الجاذبية العظمى التي تربط كل شيء في السماء الدنيا بأمر من الله سبحانه وتعالى القائل: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾(الانشقاق:1). والقائل: ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ﴾(المرسلات:9)، والقائل:
    ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾(النبأ:19).
    12- ﴿وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾(الانفطار:2). تنقسم كواكب المجموعة الشمسية إلى كواكب صخرية هي: عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، بلوتو، والكويكبات، وسيدنا؛ وكواكب غازية هي: المشتري، زحل، يورانوس، ونبتون. وكل من الصنفين ينتهي أجله بالانفجار والانتثار. وهنا تتضح ومضة الإعجاز العلمي في التمييز بين نهاية النجوم بالانكدار ثم الطمس ثم الانفجار للعودة إلى دخان السماء.
    13- ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾(الأنبياء:104). في مطلع القرن العشرين ثبت لعلماء الفلك، أن المجرات من حولنا تتراجع متباعدة عنا وعن بعضها البعض، بسرعات تتراوح بين 60.000-272.000 كم/ث. وقالوا إنه إذا عدنا بهذا التوسع إلى الوراء مع الزمن، فلابد من تكدس الكون على ذاته في نقطة متناهية الضآلة في الحجم تكاد تقترب من الصفر، انفجرت فتحولت إلى سحابة من الدخان خلقت منها الأرض وباقي أجرام السماء، وسموا هذه النظرية باسم نظرية "الانفجار العظيم" (The Big Bang). وسبق القرآن الكريم بذكرها تحت مسمى "فتق الرتق". والانخفاض الشديد في درجة حرارة الكون من ملايين الدرجات عند فتق الرتق إلى 3 درجات مطلقة الآن، يشير إلى تناقص القوى الدافعة لتوسع الكون، مما يحتم توقفها في أية لحظة من المستقبل. وحينئذ تبدأ قوى الجاذبية في تكديس الكون على ذاته، حتى يعود إلى سيرته الأولى، وسموا ذلك باسم "نظرية الانسحاق الشديد" (The Big Crunch). وقد سبق القرآن الكريم بأكثر من 1400 سنة في الإشارة إلى طي السماء وإعادتها سيرتها الأولى قبل فتق الرتق، وهذا من أوضح المعجزات العلمية في كتاب الله، ومن أعظم أوصاف الساعة.
    14- ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾(إبراهيم:48). هذه الآية الكريمة هي الفارقة بين أحداث الساعة والدار الآخرة، لأنها تحدد أن البعث (القيامة) سوف يتم من أرض غير أرضنا الحالية، وتحت سماوات غير السماوات المحيطة بنا في دار الدنيا. ولكن من طلاقة القدرة الإلهية أن الأرض الجديدة سوف تحتوي كل ذرات أرضنا الحالية التي تحمل بقايانا بعد الموت، والتي سوف نُبعث منها كما فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عجب الذنب. وهذه الآية الكريمة من أمور الغيب الذي لا تستطيع المعارف المكتسبة أن تقول فيه شيئاً. ولكن من المنطقي أن الكون بعد طيه على ذاته على هيئة الرتق الأول، لابد وأن يعاود الفتق والتحول إلى سحابة من الدخان، يُخلق منها أرض غير أرضنا، وسماوات غير السماوات المحيطة بنا كما فَصلت هذه الآية الكريمة.

    ملخص

    تستخدم التعبيرات القرآنية الثلاثة: "الساعة"، "القيامة"، و"الآخرة" كمرادفات لأمر واحد.
    و"الساعة" هي آخر الوقت من الحياة الدنيا الذي يبدأ به "انهدام الكون"، وعلى ذلك فإنه من الممكن تفسير كل الأحداث المرافقة لها باستخدام المعارف المكتسبة.
    أما تعبير "القيامة" أو "يوم القيامة" فيقصد به "يوم البعث من القبور". والقرآن الكريم يؤكد على أن ذلك سيتم من أرض جديدة وتحت سماوات جديدة، يَستبدل ربنا سبحانه وتعالى بهما أرضنا الحالية، والسماواتِ المحيطة بنا اليوم في دار الدنيا الفانية. ومن طلاقة القدرة الإلهية، أن الأرض الجديدة ستحوي كل مكونات أرضنا الحالية التي سوف نبعث منها. ويعتبر يوم البعث فاصلاً حقيقيًّا بين كل من "الساعة" و"الدار الآخرة" التي سيتم فيها الحشر والحساب والجزاء بالخلود، إما في الجنة أبداً أو في النار أبداً.
    ومن أعظم المعجزات العلمية في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله -صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين- وصفُ مشاهد الساعة التي لم يسبق أنْ تعامل معها علميًّا أيُّ من المفسرين أو المشتغلين بالإعجاز العلمي.
    وهذه المشاهد للساعة التي جاءت في عشرات الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، تؤكد على صدق القرآن الكريم وسبقه في كل إشارة علمية جاء بها، وصدق النبي الخاتم الذي تلقاه في كل كلمة نطق بها.
    ــــــــــــــــــــــ
    (*) أستاذ علوم الأرض ورئيس لجنة الإعجاز العلمي بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية / مصر.
    Reply With Quote  
     

  5. #5  
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    ابن الشاطر، عالم الفلك وصانع أدوات الرصد والقياس


    أ.د. بركات محمد مراد / تاريخ وحضارة

    ابن الشاطر، علَمٌ من أعلام مدرسة دمشق لعلم الفلك، وواحد من كبار علماء الفلك المسلمين المجددين الذين قادوا البشرية إلى تصورات جديدة للكون، وهيأوا السبيل لحضارة عصر الفضاء والإنجازات التكنولوجية الفلكية.
    وهو "علاء الدين علي بن إبراهيم بن محمد بن حسان الأنصاري المؤقت الفلكي الدمشقي"، اشتهر بـ"ابن الشاطر"، ويعرف أيضاً بـ"بالمطعّم الفلكي" نظراً لاشتغاله في صباه بحرفة تطعيم الخشب بالعاج. ولعل هذه الحرفة أكسبته المهارة اليدوية في صنع الآلات الفلكية.
    عاش ابن الشاطر بين سنتي 1304-1375م، وهو من مواليد دمشق وفيها توفي. قضى معظم حياته في وظيفة التوقيت ورئاسة المؤذنين في المسجد الأموي بدمشق. وقد نال شهرة عظيمة بين علماء عصره في المشرق والمغرب كعالم فلكي.
    توفي والده وهو في السادسة من عمره، فكفله جده ثم ابن عم أبيه وزوج خالته الذي علّمه فن تطعيم العاج، فكان يكنى بـ"المطعّم". وقد أكسبته هذه المهنة ثروة كبيرة، لأن صناعة تطعيم العاج تحتاج إلى ذوق رفيع ومهارة ودقة في العمل. وقد مكنته ثروته العظيمة، من زيارة كثير من بلاد العالم، ومنها مصر التي قضى فيها ردحاً من الزمن. درس ابن الشاطر في القاهرة والإسكندرية علمَي الفلك والرياضيات. وقد برع في علمَي الهندسة والحساب، ولكنه لم يلبث أن اتجه إلى علم الفلك فأبدع فيه. وهذا يظهر من ابتكاراته للأجهزة والأدوات الفلكية من الإسطرلاب، وتصحيحه للمزاول الشمسية، وشرحه لكثير من نظريات بطليموس وانتقاده لها وتعليقه عليها.

    تحديده مدارَي "عطارد" و"القمر"

    استفاد ابن الشاطر من إنجازات مدرسة "مراغة" لعلم الفلك التي قادها الفلكي الكبير "نصير الدين الطوسي"، وتمكّن من تحديد مدارَي "عطارد" و"القمر" اللذين حيّرا علماء الفلك طويلاً. والنموذجان اللذان وصفهما لحركتهما، يعدان أول ابتكار غير بطلمي يتحقق على الطريق المؤدي إلى العلم الحديث. ويعترف -الآن- الكثير من علماء الغرب لابن الشاطر، بأن الفلكي البولندي الشهير "كوبرنيكس" (Copernicus)، أخذ عنه هذين النموذجين -نموذج عطارد ونموذج القمر- وأدخلهما في نظامه الفلكي الذي وضعه بعد ابن الشاطر بقرن ونصف من الزمان، وهو النظام الذي يشتهر باسمه "النظام الكوبرنيكي" (Copernican System).
    وهذا الاكتشاف ليس بعيداً عن جهود علماء المسلمين البارعين، الذين اعتمدوا في اكتشافاتهم على الرصد الدقيق والتحقيق البارع، بفضل المراصد التي أسسوها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وعلى رأسها مرصد مراغة الذي بناه نصير الدين الطوسي (657هـ). وقد اشتهر هذا المرصد بعظمته وكثرة أجهزته وآلاته، وتفوّقِ المشتغلين فيه، ودقةِ أرصاده التي اعتمد عليها علماء أوربا في عصر النهضة وما بعده في بحوثهم الفلكية.
    ومن الجدير بالذكر أن هذا المرصد لا تزال بقاياه قائمة حتى الآن. وكانت هناك -عدا هذا المرصد- مراصد أخرى في مختلف الأنحاء؛ كمرصد ابن الشاطر، ومرصد البتاني في بلاد الشام، ومرصد الدينوري بأصبهان، ومرصد البيروني، ومرصد أولغ بك بسمرقند، ومراصد أخرى عامة وخاصة في مصر وفاس والأندلس وغيرها.

    نماذجه الفلكية في الزيج الجديد

    وقد طلب الخليفة العثماني "مراد الأول" الذي حكم الشام في الفترة بين سنتي 761-791هـ أن يصنف له زيجاً يحتوي على نظريات فلكية ومعلومات جديدة، فألف ابن الشاطر له "الزيج الجديد" الذي قال في مقدمته: "إن كلاً من ابن الهيثم ونصير الدين الطوسي وغيرهما من علماء العرب والمسلمين، قد أبدو شكوكهم في نظريات بطليموس الفلكية، ولكنهم لم يقدموا تعديلاً لها..". ولكنه قدم نماذج فلكية في الزيج الجديد، قائمة على التجارب والمشاهد والاستنتاج الصحيح. على أن كوبرنيك لم يتورع عن ادعاء هذه النماذج لنفسه، وسايره مَن جاء بعده في أوربا في هذا الادعاء حتى القرن العشرين.
    وذكر المستشرق الإنجليزي الذي اهتم بإنتاج علماء العرب والمسلمين في الفلك، الدكتور "ديفيد كنج" في مقالة نشرت في "قاموس الشخصيات العلمية"، أنه ثبت في عام 1950م، أن كثيراً من النظريات الفلكية المنسوبة لـ"كوبرنيك"، قد أخذها هذا الأخير من العالم المسلم ابن الشاطر. وفي عام 1973م عثر على مخطوطة عربية في بولندا مسقط رأس كوبرنيك، اتضح فيها أنه كان ينقل تلك المخطوطات العربية وينتحلها لنفسه. وقد صنف ابن الشاطر أزياجاً كثيرة، وقام بأعمال جليلة تدل على عبقريته الفذة وذكائه الحاد ومهارته وطول باعه في علم الفلك.

    ابتكاراته من أدوات الفلك والقياس

    ابتكر ابن الشاطر الكثير من الأدوات المستخدمة في الرصد الفلكي، والأدوات المستخدمة في القياس الحسابي، ومنها الساعتان الشمسية والنحاسية، والربع العلائي والربع التام المستخدمان في حل مسائل علم الفلك، بكيفية يسهل معها الحصول على النتائج، والإسطرلاب الذي ابتكره.
    لقد ابتكر ابن الشاطر كثيراً من الآلات التي وصفها أتم وصف في مؤلفاته الفلكية، إضافة إلى نظرياته الفلكية ذات القيمة العلمية الرفيعة. وقد اعترف للمسلمين بإتقان صناعة هذه الآلات الفلكية؛ فقد صنعوا من الإسطرلاب نماذج بديعة ومتقنة، حتى لقد أصبح بفضلهم أداة عملية وتحفة فنية في آن واحد. فالإسطرلاب: أداة فذة للمراقبة، قابلة للحمل، تحاكي في تصميمها ما يبدو من مسار النجوم حول القطب السماوي، كما يمكن بواسطتها تقدير أبعاد النجوم والشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة، ويمكنها أيضاً أن تبين الوقت، وأن تقيس مدى ارتفاع جبل من الجبال أو مدى انخفاض الآبار، وهي -فضلاً عن ذلك- ذات قيمة عظيمة حتى للملاحين.
    وقد استُعملت هذه الإسطرلابات في البلدان الإسلامية منذ القرن التاسع الميلادي، إلى أن حلت محلها مخترعات حديثة. ويوجد من الإسطرلاب الإسلامي نماذج جميلة في مختلف متاحف أوربا، ويعتبر صندوق اليواقيت آلة فلكية من صنع ابن الشاطر، وتحتفظ به مكتبة الأوقاف بحلب، وأهم أجزائها، إبرة مغناطيس لامتدادها في الجهات الأربع، ثم رسوم لمعرفة القبلة في بعض البلدان، ثم ساعة شمسية كلية تُمال إلى الأفق بقدر عرض البلد، ثم دائرة استوائية كلية يقاس بها الوقت ليلاً ونهاراً، ثم أقواس لعروض مختلفة لقياس المطالع الفلكية.
    وقد قارن "جانان" (Louis Janin) و"دافيد كنغ" (David King) في مجلة "تاريخ العلوم العربية" هذه الآلة، بالإسطرلاب الذي صنعه العالم الفلكي السوري "ابن السراج" قبل عصر ابن الشاطر، والذي كان أيضاً آلة كلية من نواح عدة، وبحث في أثر هذه الآلة في ابتداع آلة كلية أخرى سميت بـ"دائرة المعدل" لمخترعها الفلكي المصري عز الدين الوفائي من بعده.

    جداوله للمواقيت الفلكية

    وقد بقيت رسائل ابن الشاطر المتخصصة في الأجهزة؛ مثل الإسطرلاب والمزاول الشمسية، تتداول لعدة قرون في كل من الشام ومصر والدولة العثمانية وبقية البلاد الإسلامية، كما كانت مرجعاً لضبط الوقت في العالم الإسلامي. وعلى سبيل المثال، صنع آلة لضبط وقت الصلاة سماها "البسيط"، ووضعها في إحدى مآذن المسجد الأموي بدمشق.
    ويقول "دونالد هيل" في كتابه "العلوم الهندسية في الحضارة الإسلامية": "وإبان القرن الرابع عشر الميلادي، أنجز في سوريا أهم عمل في علم المواقيت الفلكية، فقد عاد "الميزي" بعد دراسته في مصر إلى سوريا، ووضع مجموعة جداول للزاوية الساعية، وجداول لمواقيت الصلاة في مدينة دمشق على غرار جداول مدينة القاهرة، ووضع ابن الشاطر جداول لمواقيت الصلاة في مكان غير محدد عند خط عرض 34 درجة، على الرغم من أن أهم إنجازاته كانت في مجال علم الفلك النظري. وعلى طريق الميزي، وابن الشاطر، أحرز شمس الدين الخليلي أهم الإسهامات في "علم الميقات"، فأعاد حساب جداول الميزي للمعاملين الجديدين: "الارتفاع المحلي، وميل فلك البروج" اللذين استنتجهما ابن الشاطر. وظلت جداوله للمواقيت، بالنسبة إلى الشمس وإلى تحديد أوقات الصلاة في دمشق، مستخدمة هناك حتى القرن التاسع عشر الميلادي".

    رؤية فلكية مختلفة

    وجّه ابن الشاطر اهتمامه الشديد إلى قياس زاوية انحراف دائرة البروج، فانتهى إلى نتيجة مفرطة الدقة وهي 23 درجة و31 دقيقة. وصدق المؤلف المعروف "جورج سارتون" إذ يقول في كتابه "المدخل إلى تاريخ العلم": "إن ابن الشاطر عالمُ فلكٍ فائق الذكاء، فقد درس حركة الأجرام السماوية بكل دقة، وأثبت أن زاوية انحراف دائرة البروج تساوي 23 درجة و31 دقيقة في عام 1365 م، علماً بأن القيمة المضبوطة التي توصل إليها علماء القرن العشرين بواسطة الآلات الحاسبة هي: 23 درجة و31 دقيقة و8 و19 ثانية".
    وقد كانت نظرية بطليموس ترى خطأ أن الأرض هي مركز الكون، وأن الأجرام السماوية تدور حول الأرض دورة كل 24 ساعة. ووضع بطليموس لهذه النظرية حساباً فلكياً لا تحتمل جداولاً، ولكن الأرصاد الفلكية التي قام بها العالم المسلم ابن الشاطر، برهنت على عدم صحة نظرية بطليموس، ويعلل ابن الشاطر ذلك بقوله: "إن الأجرام السماوية لا يسري عليها هذا النظام الذي وضعه بطليموس، فعلى سبيل المثال ذكر أنه إذا كانت الأجرام السماوية تسير من الشرق إلى الغرب، فالشمس إحدى هذه الكواكب تسير، ولكن لماذا يتغير طلوعها وغروبها؟ وأشد من ذلك، إن هناك كواكب تختفي وتظهر سمّوها الكواكب المتحيزة، لذا الأرض والكواكب المتحيزة تدور حول الشمس بانتظام، والقمر يدور حول الأرض".
    وهذا -بنصه- هو الاكتشاف الذي نسب إلى كوبرنيك بعد ابن الشاطر بعدة قرون، ثم جاء غاليليو الذي تشبع بفكرة ابن الشاطر، فابتكر أول تلسكوب، وأخذ يراقب حركة النجوم باستخدام هذا الجهاز، وأقام أكثر من دليل علمي على أن نظرية ابن الشاطر صائبة.

    آثاره ومؤلفاته

    اهتم ابن الشاطر بالتأليف مع عمله كمؤذن في الجامع الأموي بدمشق، فألف أكثر من ثلاثين مؤلفاً ما زال عدد منها مفقوداً، ومن مؤلفاته: زيج نهايات الغايات في الأعمال الفلكيات، رسالة في تعليق الأرصاد، رسالة في نهاية السؤال في تصحيح الأصول، الزيج الجديد، كتاب الأشعة اللامعة في العمل بالآلة الجامعة، رسالة عن إيضاح المصيب في العمل بالربع المجيب، كتاب المختصر في الثمار البالغة في قطوف الآلة الجامعة، أرجوزة في الكواكب، رسالة عن صنع الإسطرلاب، كتاب المختصر في عمل الإسطرلاب، مقالة عن النفع العام في العمل بالربع التام، رسالة نزهة السامع في العمل بالربع الجامع، رسالة كفاية القنوع في العمل بالربع الجامع، رسالة العمل بالربع الهلالي، رسالة في الربع العلائي، رسالة في أصول علم الإسطرلاب.
    يقول الدكتور علي عبد الله الدفاع في كتابه "العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية": "إن ابن الشاطر ركز كل جهوده على علم الفلك، فترجم كثيراً من إنتاج علماء اليونان وغيرهم، ودرس بعناية ما ورثه عن علماء العرب والمسلمين في هذا المجال، فأبدع وأحسن النقل وصحح الأخطاء، وابتكر كثيراً من النظريات الفلكية التي صححت ما كان مشهوراً على خطئه قبلها... ولم يخف ابن الشاطر أهمية علم الفلك الذي يعد من العلوم الضرورية في البحرية والأرصاد الجوية. وجدير بالذكر أن أعمال ابن الشاطر العلمية والفنية، تنحصر في أمرين رئيسيين هما: تطوير الآلات الفلكية، ونظرية حركة الكواكب".
    ومن هنا فليس غريباً أن نجد المؤرخ العلمي "أ. س. كندي" يؤكد على أن ابن الشاطر: "عمل أكثر من تنقية نظام بطليموس؛ إذ برهن على خطئه، وفسر النظام الحقيقي للجهاز الشمسي. ولم تعرف حقيقة ابن الشاطر إلا في وسط القرن العشرين، لأن نظرياته الفلكية القيمة سيطر عليها كوبرنيك وادعاها لنفسه، وأيّده في ذلك علماء الغرب في الفلك مدة تضاهي خمسة قرون، أما اليوم فإن المنصفين من المتخصصين في علم الفلك في العالم أجمع، يسهرون ليل نهار على دراسة أعمال ابن الشاطر، محاولين بكل إخلاص رد الحق إلى أهله، ونتوقع أن يحمل لنا المستقبل مفاجآت مذهلة عن أعمال ابن الشاطر وإنتاجه العلمي".
    ــــــــــــــــــــــ
    (*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.
    Reply With Quote  
     

  6. #6  
    المدير العام طارق شفيق حقي's Avatar
    Join Date
    Dec 2003
    Location
    سورية
    Posts
    13,621
    Blog Entries
    174
    Rep Power
    10
    فن المعمار الإسلامي جسر للتواصل الحضاري الإنساني


    د. مريم آيت أحمد
    إن التقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضاري للإنسانية، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه. وقد تمّ دائماً وأبداً وفق قاعدة "التمييز بين ما هو مشترك إنساني عام، وبين ما هو خصوصية حضارية"، وبقدر ما تعظم الحاجة إلى حوار جدي بين الثقافات والحضارات لإقامة جسور التفاهم بين الأمم والشعوب، تقوم الضرورة القصوى لتهيئ الأجواء الملائمة للبحث عن آليات هذا اللقاء والتواصل. والحضارة الإسلامية منذ نشوئها وتكوّنها، لم تخرج عن هذا الإطار التواق إلى التفاعل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاءً تأثراً وتأثيراً. لقد حمل المسلمون قيم الإسلام العليا وأخذوا في نشرها وتعميمها في كافة أرجاء المعمورة، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات الفارسية والهندية والمصرية والحضارة الأوروبية الغربية فيما بعد. ومع مرور الزمن نتجت حضارة إسلامية جديدة، أسهمت بتلاقحِ وتفاعلِ تراثها الفكري والمعرفي والفني الإبداعي في إنضاجها لمكونات حضارات الشعوب والأمم التي دخلت في الإسلام. ولم يلبث هذا النضج أن أنتج فناً إسلامياً رائعاً، قُدِّر له أن يكون من أطول الفنون عمراً ومن أوسعها انتشاراً. فنٌّ ازدهر في شتى المجالات، سواء في العمارة أو في الفنون الزخرفية والتطبيقية وفي الفنون التشكيلية بمختلف جوانبها. فنٌّ يتسم بخاصية التنوع في الوحدة، ويتميز بالحيوية والتفاعل مع غيره من الفنون تأثراً وتأثيراً.

    التراث والتأكيد على الهوية
    وبصفة عامة، فإن القراءة التاريخية لتطور العمارة الإسلامية من حيث النشأة والنمو، وتشكيلها الحضاري ونماذجها المعمارية وأنشطتها المزدهرة وذكرياتها الحية، يجعلها ظاهرة ذات خصوصية متميزة، تحمل العديد من المعاني والرموز الثقافية الهامة للتواصل الحضاري، بما يعكسه تجسيدها المادي لروح الثقافة الإسلامية في جميع مراحل تطورها وتحولاتها. لذلك ومن دون الاستعانة بالعنصر الثقافي كمكون أساسي لتدويل هذه الإبداعات حضارياً على المستوى العالمي، ستبقى خصوصية وتميز العمران الإسلامي منقوصة وباهتة، وغير قابلة للمشاركة والنتاج في عالم وحدته سوق العولمة بوسائل الاتصال المختلفة، وطغت عليه أساليب الدعاية المبهرة في أشكالها ومحتوياتها.
    إن التأمل في المشهد المعماري الإسلامي اليوم، يثير العديد من التساؤلات الجوهرية والملحة، عن مدى قدرة فاعلية واستمرارية العمارة الإسلامية في مجتمعاتنا، كظاهرة حضارية اجتماعية معاصرة. لا سيما في إطار المتغيرات العالمية المعاصرة، وتزايد التحديات التي تواجهها هذه المجتمعات في ظل زمن العولمة والحداثة وما بعدها. ولعل أهم سؤال يطرح أمام المشهد المعماري المعاصر في البلدان الإسلامية هو: هل ستتمكن العمارة الإسلامية من تحصين نموذجها الثقافي أمام تحديات العصرنة والمعاصرة لنماذج وأنماط ثقافية عولمية؟ هل ستوفّق في إبراز ملامحها الحضارية على الساحة العالمية، كما جسدتها وأتحفت بها إطارات جغرافية واسعة في الماضي؟ وهل يمكن القول بأن زمن العمارة الإسلامية انتهى في مخيلة العقل الجمعي لأبناء العالم الإسلامي، وعوض بالنماذج الغربية؟ كيف يمكن الحديث عن الحوار والتواصل الحضاري، في ظل غياب دعم المؤسسات الإعلامية العالمية لأسس ومرتكزات هذا الحوار الثقافية والفنية والحضارية؟ وبالتالي هل تملك المؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية والدوائر الحكومية في بلداننا، بُعداً استراتيجياً لخطاب فكري ثقافي يؤهلها لبلورة رؤى مستقبلية تسهم في رسم صورة المعمار الإسلامي في ذاكرة الأجيال، وتؤهلهم للمساهمة به في النتاج العالمي؟ هذه أسئلة وأخرى تطرح نفسها في سياق إشكالية الأصالة والمعاصرة.
    إن المحافظة على صناعة وتطوير الفن المعماري، باتت تمثل مطلباً تسعى إليه الكثير من دول العالم تأكيداً لهويتها الوطنية. وفي إطار التنظيرات والاجتهادات التي تهدف للمحافظة على تراثنا الحضاري، ينبغي الوعي بالدور الذي يمكن أن يساهم به فن المعمار الإسلامي في بناء جسور التواصل الإنساني والحوار الحضاري العالمي.

    فن المعمار أقدر على التواصل مع الآخر
    فن المعمار الإسلامي أي دور يمكن أن يلعبه في حوار الحضارات؟ يمكننا القول: إن الفن عموماً والمعماري منه خصوصاً، هو أصدق أنباء التاريخ وهو واحد من أهم علوم هندسة الروح والجسد وأكثرها سمواً ورقياً، ذلك لأنه قادر كموسوعة وقوة خازنة لخيال الأمم، على تحقيق التواصل والتفاعل الحضاري. ولكن ما هو الدور الذي يمكن للمعماري الإسلامي أن يلعبه الآن، بعد أن تزعزعت نظرية حوار الحضارات؟ هل ما زال المعماري قادراً على إعطاء الصورة الصحيحة لحضارته من خلال العمارة؟ ما هي اللوحة المعمارية القادرة على إيصال حضارتنا وهويتنا الحقيقية للآخر؟ وهل يختلف الآخر في تعامله مع فن المعمار الإسلامي قياساً بفنون المعمار للحضارات الأخرى؟
    إن الفن المعماري أقدر من غيره على التواصل مع الآخر، والحضارةُ الإسلامية تواصلت مع مختلف الحضارات في الشام والعراق والهند والصين والأندلس، وأفادتها أكثر مما استفادت منها. وقد لعب الفن المعماري الإسلامي دوراً كبيراً في خلق حوار فني حضاري متميز، لأنه انطلق من هويته وحافظ على خصوصيته الثقافية فاستطاع من خلال جمالية إبداعه الفني تقديم الوجه الحقيقي لحضارته. لكن إلى أي حد يمكن للفن المعماري الإسلامي أن يسهم في النتاج الحضاري العالمي، ويؤسس لبناء جسور التواصل الحضاري بين الشعوب، في ظل غياب دعم إعلامي عالمي تسويقي لمنتجاتنا الحضارية؟
    لا سيما وأن المساهمة الرئيسية لتعزيز حوار الثقافات والحضارات في عصرنا، موكولة لمؤسسات وجهات لها طابعها الإعلامي التسويقي والثقافي التبادلي، والذي تستطيع من خلاله نقل إبداعات الفنون المعمارية، وفتح المجال أمام الحضارات الأخرى لمشاهدة الإبداعات المعمارية الإسلامية. وأعتقد أن هذا الأمر كان ينبغي أن ييسر مع ثورة الاتصال والقرية الكونية الواحدة، لكن الحقيقة أنه وضعت في طريق تدويله زمن العولمة عراقيل، لأن الفن والثقافة يخضعان في مفهومهما لشروط سياسة تنطلق من مفهوم التمكين السياسي. ونستطيع القول إنه منذ عهد ليس بقريب، كان الاستشراق يسعى لتقديم صورة عن ثقافاتِ وحضاراتِ وإبداعاتِ الشرق، بما يخدم غاياته وأهدافه السياسية الاستعمارية، لا غايات التفاعل والتواصل بين الحضارات. ومن هذا المنطلق يمكن القول: إن قيام الفن بدور في الحوار الحضاري، منوط فعلاً بوجود مؤسسات قوية لها حضور عالمي، ومعنية بغايات ثقافية وحضارية إنسانية تحترم الإبداع الإنساني، لا أن تكون محكومة بغايات سياسية.

    فن العمارة الإسلامي جسر للتلاقح الحضاري
    إن العالم الإسلامي مليء بتجارب ومهارات فنية هندسية معمارية بالغة الأهمية، إلا أنه لم يتح لها المجال للدخول في مشروعات عالمية وأن تقدم لشعوب العالم، بسبب هيمنة قوى سياسية تؤمن بعقلية الصدام مع الحضارة الإسلامية، ولا تقبل بمد جسور الحوار والتواصل الثقافي والفني والحضاري مع أي مسمى إسلامي. فهناك عدد كبير من المؤلفات ومنها الموسوعات، سواء الأوروبية منها أو الأمريكية أو السوفييتية سابقاً... التي تستعرض الفنون العالمية، وتبالغ في الحديث عن الفنون الإغريقية والرومانية والبيزنطية وفنون عصر النهضة، لكنها لا تشير إلى الفن المعماري الإسلامي إلا بشكل عابر، وتنظر إليه بمنظار المعايير الغربية الناتجة عن تطور آراء فلسفية، وأوضاع تنموية، ومواقف ثقافية، وأنظمة اجتماعية لا علاقة لها بالمنهج الإسلامي ومعايير حضارته وطرازه المعماري الفني... لذا جاءت تلك الدراسات قاصرة وبعيدة عن الواقع، خاصة وإنها غالباً ما توظف التفسيرات تبعاً لمصالح نخبة سياسية متعصبة، تهدف إبعاد علاقة الإبداع الهندسي الإسلامي بالثقافة الإسلامية، والنيل من الصورة الفنية التي قدمها الإسلام والمسلمون إلى تاريخ الحضارة الإنسانية.
    وهذه الصورة لا نجدها في ثقافة المنظومة الإسلامية؛ فأهم ما ميز فن العمارة الإسلامي في سلسلة التطور الحضاري، هو التأصيل لبناء جسور التواصل والتلاقح الحضاري. ففن العمارة في تاريخ الإسلام لم يطمس النشاط الحضاري لغير المسلمين، إذ استفاد من الفنون في جميع الحضارات، سواء السابقة للإسلام أو الموازية له، على قاعدة الإيمان بأن الحضارات على كوكب الأرض عملٌ إنساني خلاق قام بمؤثرات متفاعلة بين مختلف الشعوب والأقوام. واستطاع من خلال هذه القاعدة أن يتفرد بطابع مميز وفريد في سلسلة التطور الحضاري للعمارة العالمية.

    آفاق المعمار الإسلامي في القرن الواحد والعشرين
    إن تعددية الحضارات واحترام تراث الآخرين والاستفادة منه، من شأنه موازنة العالم. ويمكن للغرب إذا تحول نحو التسامح والوضوح والنظرة الإنسانية، أن يتحاور مع الآخرين في سبيل تقدم المسيرة الإنسانية. فالحوار خير من القسر واستغلال التمكين السياسي لفرض "هيمنة التغريب الأوروبية" أو عولمة المنظومة الفلسفية الأمريكية. وكما أن الترويج لمفاهيم العنصرية والعزل والإقصاء والتهميش للتراث الفني الحضاري الإسلامي قد يؤثر سلباً على المسلمين، فإنه يؤثر أيضاً على مصالح القوى العالمية، لأنه يقف في وجه التسلسل الطبيعي للتطور الحضاري والتواصل بين الأمم والشعوب.
    ومن هذا المنطلق ينبغي الاهتمام والوعي بتاريخنا الحضاري، لأنه السبيل الوحيد لتصحيح الصورة النمطية التي أريد لها لأغراض سياسية أن تشوه الإسلام؛ ثقافة وفناً وحضارة داخل العالم الإسلامي وخارجه. وذلك عبر المحافظة على التراث الحضاري بدراسته ورعايته واستخلاص إيجابياته في تطورنا المعاصر. وهذا سينعكس على العالم الخارجي ليعيد تعزيز التواصل واللقاء بين الحضارات، ويبرهن لمن أراد عزل الإبداع الفني الإسلامي عالمياً، على أن حضارة الإسلام قادت الإنسانية وكان لها بما سجلته من وثائق عمرانية مادية شامخة وناطقة باسم عبقرية الحضارة العربية الإسلامية، أكبر الأثر في التطور الحضاري الإنساني. وفي الوقت الذي لا نستطيع فيه استنطاق المعماريين الذين أبدعوا في تلك التحف الإسلامية التي تتمتع بها فنون العمارة الإسلامية، وفنون الرقش والزخرفة والخط، فهي تنطق معبرة عن نفسها على قدرة المعماري المسلم على ابتكار أشكال هندسية فنية لا حدّ لها، تتجلى في تلك المنشآت الضخمة التي نراها في أغرا وأصفهان وبغداد وتركيا ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة... والتي تعود إلى خمسة عشر قرناً من تاريخ الحضارة الإسلامية.

    سمة التكامل ومخاطبة المجتمع الإنساني
    إن أهم ما يميز آفاق فن العمارة في الإسلام هي سمة التكامل التي تمثل جميع الأقاليم الإسلامية، بامتداده على رقعة جغرافية واسعة من العالم الملايوي شرقاً عبر وسط وغرب آسيا، ثم شبه جزيرة العرب حتى إفريقيا، دون إغفال الوجود الإسلامي في أوروبا، سواء في الأندلس وصقلية أو في دول البلقان، فأصلت منظومة هندسية معمارية راقية للرؤية الجمالية الإسلامية التي كونت -ولا تزال- الذوق السائد في المجتمعات الإسلامية، وقد ظلت تعطي لفترة طويلة من الزمن دون انقطاع أو انكسار مما أهّلها للتأثير في جميع فنون العالم فناً وعمارة وزخرفة... وبذلك استطاع فن العمارة الإسلامي مخاطبة المجتمع الإنساني قديماً وحديثاً عبر ما جسده من عمق تراثِ وثقافة الشعوب الإسلامية.
    والدليل المادي الشاهد بشموخ عمارته يختلف عن الخطاب الأدبي والسياسي؛ إذ إن للأدلة المادية دوراً حاسماً في ضبط الميزان الصحيح للرأي العام العالمي، وعندما لا يستطيع المرء التعبير بالقلم واللسان والإعلام، يكون المنتج الفني عجزا مادياً يدركه العقل بلا وصف، إذ ينتقل تأثيره من التحفة الفنية المعمارية بشموخها، إلى قلب وروح المتلقي متحديا بذلك عجز اللغة وقصور الإعلام. وأكبر دليل على ذلك الخبرات الهندسية المعمارية العربية التي وصلت بعد سقوط الأندلس إلى قلب أوربا، وساعدت على المساهمة في ظهور عصر النهضة، وكذلك الفنانون العرب الذين استخدمتهم أوربا في تشييد العمارة أمثال المهندس السوري "آبولو دور الدمشقي"، الذي صمم جسر دوبروجا وساحة الفاتيكان في روما. كما أن المهندس المعماري العثماني "سنان" (1489-1588م) الذي عاصر أشهر فناني النهضة الأوروبية أمثال "مايكل أنجلو" و"بلاديو" و"فنيولي"، خلّف أروع الآثار المعمارية في الأراضي العثمانية؛ ومنها جامع السليمانية وعدد من المساجد والمدارس والمستشفيات والفنادق والقناطر وقنوات المياه.. وكلها معالم لا تزال قائمة تشهد بعبقرية الرجل وحسن إدماجه في نسق المعمار والبناء، مما جعل المختصين الأوروبيين يعدون المهندس "سنان" من أعلام النهضة الحديثة.
    وبذلك يخلد هذا الفن أكثر من غيره بصمات شاهدة على الرقي الحضاري للشعوب على اختلاف درجات نموها وتقدمها، رغم محاولات التهميش والعزل التي تحتكم إلى منظومة الصراع والاستعلاء في مصاف دوائر الهيمنة العالمية.

    استشراف مستقبل العمارة الإسلامية
    منظومة التحليل والاستنباط من فن العمارة الإسلامية يجب أن توصل إلى منتج جيد يحقق الهدف المرجو حضارياً، وهو الارتقاء بتقنيات هذا الفن عبر الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة مع تأكيد الهوية الحضارية، دون الإخلال بوظيفةِ ومرتكزات هذا التراث. والحفاظ على فلسفة الحضارة الإسلامية يتطلب الحفاظ على الهوية الإسلامية، بحيث لا ينفصل بناء العمران عن بناء الإنسان في ظل القيم الإسلامية.وقد يتطلب منا تحقيقُ هذا الهدف على المستوى الواقعي والعملي، استشرافَ بدائل فكرية تنظيرية وعملية قد تعيد المكانة العالمية لهذا الفن التراثي الأصيل، وذلك من خلال:
    • البحث عن الذات كبديل للتبعية الثقافية والفكرية في العمارة والعمران، وتوعية الأجيال بأهمية مميزات التراث الحضاري والموروث العمراني الحضاري الإسلامي.
    • العمل على تشكيل لجان تربوية متخصصة لإدخال هذه الأنشطة والمعلومات حول أهمية تراث الفن المعماري الإسلامي في مناهج التعليم المختلفة في الأوطان الإسلامية، بدءً من المرحلة الابتدائية حتى الدراسات العليا، وإنشاء متاحف مدرسية، وتنبيه الأجيال على ضرورة الاعتزاز بهذا التراث، مع إعادة قراءته وتوظيفه في النظرية المعمارية المعاصرة.
    • وضع النظرية الإسلامية في العمارة وتقديمها للعالم كنظرية عالمية، وشرح دور هذا التراث المادي والروحي وأثره الكبير والفعّال على حضارات العالم؛ مثل الاستفادة من خبراء عرب الأندلس في تأسيس حضارة عصر النهضة، وتبادل الخبرات ودور العبقرية العربية الإسلامية في تطوير الحضارة الغربية.
    • تفعيل التواصل مع المعماريين العالميين من خلال الاهتمام بالفنون المعمارية في المراكز الثقافية العالمية، والعمل على دعم مراكز البحوث الدولية التي تتناول قضايا الفن المعماري الإسلامي بموضوعية، والتوسع في إقامة معاهد ومراكز مماثلة في أهم العواصم العالمية، وإقامة الندوات المشتركة، وتنظيم القوافل والمعارض للتعرف بفن المعمار الإسلامي وتكثيف التعاون مع الشبكات الفضائية والإلكترونية الناشطة في العالم.
    • تشجيع ودعم ورعاية مراكز التوثيق العربية والمتاحف ودور الآثار المعنية بذلك، والعمل على إصدار كتب وأفلام ودعم مؤسسات إعلامية ونشرات ووثائق عربية موحدة؛ كالموسوعات العربية الكبيرة لتدويل هذا الفن وتسويقه عالمياً بكل اللغات.
    • تشجيع السياحة الثقافية للفنون المعمارية بصفتها شكلاً من أشكال الحوار الثقافي والحضاري بين الشعوب، وعقد الندوات والمؤتمرات للعمل على تنمية التواصل الثقافي، سعياً إلى التعرف المباشر على ثقافة الآخرين واحترام التنوع والتعددية في الوسائل والمضامين الإبداعية والتعريف بفن العمارة الإسلامية وضمان الحضور في الفضاء الاتصالي العالمي.
    • مجابهة تيار العولمة بكل الإمكانيات التقنية الحديثة المتوافرة لإيصال الفن المعماري الإسلامي إلى جميع أنحاء العالم، ونشر ذلك بكل الوسائل الإعلامية المرئية والمقروءة والمسموعة، ووضع خطة مرحلية مبرمجة بالتنسيق مع الهيئات العربية المعنية في جامعة الدول العربية، ومراكز التوثيق العربية والمراكز الصديقة والداعمة للتراث العربي في الخارج لمواجهة الهجمة الشرسة التي تسعى لطمس معالم تراث الحضارة الإسلامية.
    • وضع التشريعات والقوانين التي تمنع العبث بالتراث المعماري أو سرقته أو إتلافه أو الاعتداء عليه أو الاتجار غير المشروع به واعتبار مثل هذه الممارسات تمس بالأمن الثقافي.
    • تفعيل دور الجامعات في نشر إبداعات هذا الفن، وذلك من خلال إجراء البحوث والدراسات وإبرام اتفاقيات الشراكة والتوأمة وتصميم المناهج والبرامج المناسبة وإنشاء الكراسي المتخصصة في فن العمارة الإسلامي.
    • اعتبار الحق في التنوع والتعدد الثقافي، والاحترام المتبادل للمقومات الحضارية والثقافية شرطاً لا غنى عنه للحوار المتكافئ والتعايش السلمي، ودعم منظومة الحقوق الثقافية للشعوب عبر إدراج موضوع التنوع الثقافي في فن العمارة والحوار بين الحضارات محوراً في برامج الاحتفال بالعواصم الثقافية الإسلامية.
    ــــــــــــــــــــــ
    (*) كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل بـ"القنيطرة" / المغرب.
    Reply With Quote  
     

Similar Threads

  1. هل زواج المتعة حلال ام حرام؟خاصة
    By أبوأويس in forum إسلام
    Replies: 11
    Last Post: 22/06/2010, 11:11 AM
  2. قصائد منوعة
    By الشاعر لطفي الياسيني in forum الشعر
    Replies: 17
    Last Post: 08/08/2009, 09:03 AM
  3. أحمد خيري والحب الذي لا يراه إلا في المقابر
    By أمل أحمد in forum القصة القصيرة
    Replies: 3
    Last Post: 03/06/2007, 01:15 PM
  4. قصيدة: حرام عليك
    By عبد السلام العبوسي in forum الشعر
    Replies: 5
    Last Post: 08/04/2007, 11:56 PM
  5. دروس منوعة في التنسيق
    By طارق شفيق حقي in forum حاسب
    Replies: 8
    Last Post: 24/11/2006, 04:19 PM
Posting Permissions
  • You may post new threads
  • You may post replies
  • You may not post attachments
  • You may not edit your posts
  •