--------------------------------
مستوى الإيقاع في التائية الكبرى لابن الفارض (1)
بقلم السيد/ قليـل يوسـف باحث جامعي.جامعة سيدي بلعباس/ الجزائر
مستوى الإيقاع هو شبكة من التشكيلات اللغوية الدالة، والعلاقات اللفظية التي تتبلور في مقاطع نغمية متسقة منتظمة، يشكل مجموعها مكونات التوحد الكلي الموسيقي للنص الشعري .
وقد تميز المستوى الإيقاعي لهذه القصيدة بالروحانية والوجدانية المؤثرة واستقرار وصعود النغم، وتميزت تشكيلاتها بالتحول الدائم والتفجر الدلالي المستمر، والتفاعل الموجب بين النشيد الشعري المتقد، وحالة الصرِّاع الذي يلّف شاعرنا ابن الفارض .وهذا الفصل محاولة لرصد هذه الظاهرة الإيقاعية وتحليل تشكيلاتها اللغوية وآثارها المعنوية .
للألفاظ في اللغة العربية قيمة موسيقية إلى جانب دلالتها المعنوية، وقصيدتنا التائية هذه بنية شعرية متكاملة العناصر ذات دلالة متوحِّدة الغاية تنمّ عن قدرة الشاعر على استغلال طاقات اللغة وإيحاءاتها في خلق نص فني يمارس دوره الروحي الإيحائي. ولعل التعرّض لنقد التشكيل الموسيقى - بصفته أبرز عناصر التشكيل - يعد مغامرة غير مأمونة العواقب، لما في هذا الموضوع من جدّة وغموض أحيانًا، كما أن الشحنات الانفعالية التي تصاحب الحالة النفسية للشاعر قد تكون تأثيراتها سببًا في تغيير البنية الإيقاعية للقصيدة، الأمر الذي يُلزِمنا بضرورة الابتكار التحليلي .
ولا بد لنا من امتلاك الأدوات النقدية التي تمكننا من التأويل العميق الدال الذي يلتزم الحيادية تجاه المضامين المتنوعة، ولا ننسى في خضم التنظير النقدي أننا نتعامل مع نتاج شعري رسالي ودفقات شعورية حالمة .
تعدّ الصورة الموسيقية لبنية القصيدة من أهم جوانب التجربة الشعرية، " إذ تنساب أنغامها في وجدان الشاعر ألحانًا ذات دلالة، وتصقل موهبته النغمية وتوقظ لديه التلوين الإيقاعي الذي يستخدمه، وتخلق فيه الإحساس بجرس الكلمة ونبر اللفظ، وتطبع أذنه بطابع الانتقاء والاختيار" (2) ، وهي ضرورية لإحداث التجاوب بين المتلقي والأنغام التي تمثِّل جزءًا هامًا من التجربة الجمالية، وإطارًا انفعاليًا للغة الشعر، "إذ إن الشعر تنظيم لنسق من أصوات اللغة، وقد استجاب الشاعر للإيقاع المنظم بوحي من فطرته، وطبيعته الحساسة حين جعل تطريب النفس بالموسيقى هدفًا لرسالة شعره" (3) ، ولعل السبب في شيوع الشعر وانتشاره على ألسنة الناس هو تلك اللذة السمعية التي توفرها موسيقاه، فيطرب المتلقي للأنغام والإيقاعات قبل إدراك المعاني والصور، وتبلغ اللحظة الجمالية أوجها عندما تلتقي في النفس دلالات المعنى والموسيقى في كلٍّ متناغم يعبر عن تجربة الشاعر وقدراته .
لا شك أن صور التجاوب بين المبدع والمتلقي تختلف باختلاف الظروف الموضوعية التي يحياها كلاهما، ففي الشعر الصوفي، نجد أن موقف المتلقي قد تغير من الطرب والتلذذ الاستهلاكي بالأنغام التي يولدها الجرس الموسيقي وجماليات الوزن الشعري وتنوع القوافي، إلى التفاعل العرفاني المتحمس مع الإيقاعات الهائمة والامتزاج النفسي الكامل مع إيقاعات الحب والعروج نحو الكمال الإلهي .
لقد واكب الخطاب الشعري الصوفي تلك الحركة التي تسعى نحو الانقطاع عن الملذات والشهوات في هذه الدار الفانية، والاتصال بالحضرة الربانية الحقيقية الأبدية الخالدة التي لا تكّل فيها النفس ولا تضل ولا تشقى، بل تظل تنعم بالسعادة السرمدية، ووافقت تنويعاته النغمية وتحولاته الإيقاعية التحولات العميقة في الفكر الإسلامي الصوفي الذي بلغ ذروته في العصر العباسي، بحسبانه أبرز علامات تاريخ الاتجاه الصوفي .
وهذا المستوى يهدف إلى تبيان معالم البنية الإيقاعية وتشكيلاتها وآثارها المعنوية والنفسية من خلال تفكيك بنيتها اللغوية وتمييز وحداتها الصغرى الفاعلة في تشكيل النغم والموسيقى الداخلية .
وقد حاولنا في هذا الفصل استقراء النصوص وتفكيكها وتأويلها واستخراج قيمها الإيقاعية والجمالية عبر الحروف والألفاظ والعبارات، ضمن محورين إيقاعيين داخلي وخارجي.
الإيقاع الداخلي.
إن تشكيل القصيدة الشعرية يقوم على اكتناه العلاقات بين عناصرها ودلالاتها المرتبطة بالسياق، والشاعر يقوم بعملية التشكيل مكانيًا عبر بناء الوحدات اللغوية وتركيباتها الدالة التي تشغل حيزًا في المكان، كما يشكل النص زمانيًا عبر تعاقب المقاطع الصوتية التي تشغل حيزًا زمانيًا .
والتشكيل الزماني للقصيدة هو إطارها الموسيقي وزنًا وتقفية وإيقاعًا، فالقصيدة بنية موسيقية تتآلف عناصرها الصوتية في إيقاعات منسجمة فيصبح الشعر: بالإضافة إلى عنصر التنسيق الصوتي المجرد الذي تكفله التفعيلة العروضية مشتملا على خاصية موسيقية جوهرية وهي ذلك الإيقاع الناشئ عن تساوق الحركات والسكنات مع الحالة الشعورية لدى الشاعر(4) ، والإيقاع هو تتابع الحركة والسكون بنسب محددة ووفق معايير ذوقية إبداعية ويعود على مسافات زمنية محددة النِسب، وعلى سلامته تقوم سلامة الوزن وأي إخلال به إخلال بموسيقى الشعر (5)
إن تموُّج الحركة الموسيقية تبعًا لتموج الذات الشاعرة، والعالم المليء بالإيقاعات هو هدف الشاعر أثناء عملية التشكيل الموسيقي. إن القيمة الحقيقية للإيقاع لا تكمن في العلاقات الصوتية المجردة بل في الأثر النفسي لها من خلال شبكة من الشفرات الدلالية التي تجمع بين المبدع والنص والمتلقي "فالايقاعات الثقيلة الممتدة في الزمن تشاكل حالات الشجن والحزن، والإيقاعات الخفيفة المتقاربة تشاكل الطرب وشدة الحركة(6)"، وهذا يتوقف على تجانس الحروف المتحركة والساكنة وعلى الامتداد الزماني لأصوات المد واللين وما يقابل ذلك من امتداد في أعماق النفس .
يتضمن التشكيل الموسيقي للشعر إلى جانب الإيقاع الوزني العروضي نغمًا خفيًا رائعًا وجرسًا موسيقيًا يحققه الانسجام بين الوحدات اللغوية وما دام للشعر كيفية خاصة في التعامل مع اللغة تقوم على خلق العلاقات بينها " فإن التشكيل الصوتي يمثل أهم أسس هذه العلاقات التركيبية في تشكيل الشعر، فهو عماد الموسيقى الشعرية ومفسرها وهو الذي يتجاوز بها المقررات العروضية (7)"، هذه القيم الصوتية المتداخلة في نسيج العلاقات يمكن أن نطلق عليها اسم الإيقاع الداخلي، وقد عرَّفه أحد الباحثين بأنه: " الانسجام الصوتي الداخلي الذي ينبع من التوافق الموسيقي بين الكلمات ودلالاتها أو بين الكلمات بعضها وبعض حينًا آخر (8)".
إن الشاعر يتوسل في تشكيل البنية الإيقاعية لقصائده بطرق من شأنها إثراء النغمة المؤثرة المنبعثة من الإيقاعات الداخلية مثل التكرار الصوتي وتوالي الحركات المتجانسة وغير ذلك من الطرق التي تبرز أثناء التحليل الموسيقي للنصوص الشعرية، وسوف نتعرض في دراستنا للبنية الإيقاعية للنص الشعري الصوفي إلى دراسة هذا الإيقاع الداخلي في ثلاثة مستويات هي: مستوى الحرف-مستوى اللفظ-مستوى العبارة .
1- مستوى الحرف.
يرتبط تأثير الجرس الموسيقي لألفاظ الشعر على المتلقي بالطبيعة الصوتية لحروف اللغة العربية وطريقة تأليفها في إيقاع داخلي يناسب الحالة الشعورية للمبدع، إذ أن الحرف المجرد لا يعبر عن شيء وليس له قيمة موسيقية بمفرده، وإنما يكتسب الحرف خصائصه الإيقاعية نتيجة ارتباطه بالكلمة داخل البنية الشعرية وقد تتغير قيمته الصوتية تبعًا لاختلاف موقعه من كلمة لأخرى .
وهنا يجب التنويه إلى أنه عندما نتحدث عن الحرف أو الكلمة في الإطار الشعري لا نفصلها عن العملية الصوتية الحركية المتصلة بجهاز النطق والتي تصاحبها آثار سمعية معينة ونؤكد على وجود النبر والتنغيم وهما من الظواهر الموقعية أو المعالم السياقية للنظام الصوتي وهذا هو أساس البحث في الإيقاعات الداخلية والتي نستمد معطياتها من وجود الخلاف بين مخارج الحروف وصفاتها، وما يتصل بذلك من قضايا التكرار الصوتي ومجانسة الحروف ومزاوجتها وغير ذلك من القضايا مرتبطة بالدلالات المعنوية لها.
تعد ظاهرة التكرار الصوتي لبعض الحروف في القصيدة الشعرية من الوسائل التي تثري الإيقاع الداخلي بواسطة ترديد حرف بعينه في الشطر أو البيت أو السطر، أو مزاوجة حرفين أو أكثر وتكرار ذلك في مقطع شعري يعكس الحالة الشعورية للمبدع وقدرته على تطويع الحرف ليؤدي وظيفة التنغيم إضافة إلى المعنى .
ونبدأ التمثيل لظاهرة التكرار الصوتي بالبيت الأول من القصيدة حيث يقول الشاعر:
سقتني حميَّا الحبِّ راحةُ مقلتـــــي (001) وكأسي محيَّا منْ عنِ الحسن جلَّـــتِ
لقد نجح شاعرنا في استغلال الدلالة الموسيقية لتكرار حرفين مهموسين هما السين المرقق والحاء الحلقي (9) ، فأنشأ من الترديد الصوتي لهما إيقاعًا جذلانا منبسطا ينسجم مع حالة الراحة العميقة التي يحسها الشاعر وهو يتلقى كؤوس شراب الحب من لدن أغلى حبيب يلاقيه .
ويستغل الشاعر القيمة الإيقاعية لصفات الحروف وارتباطها بالمعنى الشعري في قصيدته حيث يقول أيضا :
فأوهمْتُ صَحبي أنّ شُرْبَ شَرَابهِم، (002) بهِ سرَّ سرِّي في انتشائي بنظرة ِ
وبالحدقِ استغنيتُ عنْ قدحي ومنْ (003) شمائلها لا منْ شموليَ نشوتي
ففي حانِ سكري، حانَ شُكري لفتية ٍ، (004) بهمْ تمَّ لي كتمُ الهوى مع شهرتي
تأمل جمالية تجانس حرف الشين في لفظ السكر المهيمن "الشراب" مع الألفاظ المتوشحة بإيقاعية التقفية "نشوتي، شهرتي" أضف إلى ذلك الإيقاع المعانق لصوت الشين" انتشائي، شكري" وما يستدعيه هذا الصوت من دلالات الوشوشة الموحية بقرب المحبوب من حبيبه وهي صوت خفي لا يستطيع ثالث أن يدخل بينهما ويفهمه.
وفي القصيدة نجد الشاعر يكرر حرف السين مع الحاء كثيرا، والكثير من الحروف المهموسة مثل الشين والثاء والصاد والتاء... وهي كلها حروف لها دلالات توحي بشيء لا يقتضي أن يبوح به الشاعر ألا وهو الحب الغالي الخاص بالمحبوب لا غير. مثل الأبيات التالية:
ولمَّا انقضى صحوي تقاضيتُ وصلها (005) ولمْ يغْشَني، في بسْطِها، قبضُ خَشيتي
وأبثثتها ما بي، ولم يكُ حاضِري (006) رقيبٌ لها حاظٍ بخلوة ِ جلوتي
وقُلْتُ، وحالي بالصّبابَة ِ شاهدٌ، (007) ووجدي بها ماحيَّ والفقدُ مثبتي
هَبي، قبلَ يُفني الحُبُّ مِنّي بقِيّة ً (008) أراكِ بها، لي نظرَة َ المتَلَفّتِ
ومِنّي على سَمعي بلَنْ، إن منَعتِ أن (009) أراكِ فمنْ قبلي لغيريَ لذَّتِ
فعندي لسكري فاقة ُ لإفاقة ٍ (010) لها كبدي لولا الهوى لمْ تفتّتِ
فحضور حرف الشين في "يغشني، خشيتي" ، وحرف الثاء"أبثثتها، مثبتي" ، وحرف الصاد"صحوي، وصلها، الصبابة"، وحرف التاء"جلوتي، المتلفت، لذت، تفتت" ، ولا يخفى ما تخفيه هذه الحروف من جماليات تحيل على القرب من المحبوب، ورِقَّة قلب الحبيب شوقا إلى محبوبه، والتلذذ بمناجاته والخشية عليه ومن الابتعاد عنه، وما يصاحب ذلك من معانات وألم يجسدها الشاعر في الأبيات التالية:
ولوْ أنَّ ما بي بالجبال وكانَ طو (011) رُ سينا بها قبلَ التَّجلِّي لدكَّتِ
هوى عبرة ٌ نمَّتْ بهِ وجوى ً نمتْ (012) به حرقٌ أدواؤها بي أودتِ
فطوفانُ نوحٍ، عندَ نَوْحي، كأدْمَعي؛ (013) وإيقادُ نيرانِ الخليلِ كلوعتي
ولولا زفيري أغرقتني أدمعي (014) ولولا دموعي أحرقتني زفرتي
وحزني ما يعقوبُ بثَّ أقلَّهُ (015) وكُلُّ بِلى أيوبَ بعْضُ بَلِيّتي
وآخرُ ما لاقى الألى عشقوا إلى الـ (016) ـرّدى ، بعْضُ ما لاقيتُ، أوّلَ محْنَتي
إن تكرار حرف الراء(طور، عبرة، نيران، الردى)، وحرف القاف(حُرَقٌ، إيقاد، يعقوب، لاقى، لاقيت، أغرقتني، أحرقتني) هنا يبعث الحركة التي تلائم حركة العذاب والصبر في سبيل الوصول إلى المحبوب، ويضفي على الإيقاع قوة وانسجامًا وحيوية، لأن الجرس الموسيقي الناشئ من تكرار حرف الراء الذي من صفاته أنه مكرر يعلو دون رتابة وبلا خفوت وحرف القاف الانفجاري يساهمان معا في توحد نغمي ينسجم مع المعنى.
ولعله من الملاحظ أن الشاعر جانس بين حرف التاء وبين حرف الروي في كامل القصيدة، ومن شأن هذا التجانس الصوتي أن يبعث في النفس ارتياحًا ويمهد السمع للقافية " فالأصوات التي تتكرر في حشو البيت مضافة إلى ما يتكرر في القافية تجعل البيت أشبه بفاصلة موسيقية متعددة النغم مختلفة الألوان، يستمتع بها من له دراية بهذا الفن، ويرى فيها المهارة والمقدرة الفنية"(10) ، ومثل هذه الملائمة بين الحرف المتكرر وحرف الروي نلمسها في قول الشاعر:
فلو سمعت اذن الدليل تأوهي (017) لآلامِ أسقامٍ، بجِسمي، أضرّتِ
لأَذكَرَهُ كَرْبي أَذى عيشِ أزْمَة ٍ (018) بمُنْقَطِعي ركْبٍ، إذا العيسُ زُمّتِ
وقدْ برَّحَ التَّبريحُ بي وأبادني (019) وأبدى الضنى مني خفيَّ حقيقتي
فنادمتُ في سكري النحولَ مراقبي (020) بجملة ِ أسراري وتفصيلِ سيرتي
ظهرتُ لهُ وصفاً وذاتي بحيثُ لا (021) يراها لبلوى منْ جوى الحبِّ أبلتِ
فأبدتْ ولمْ ينطقْ لساني لسمعهِ (022) هواجِسُ نفسي سِرَّ ما عنهُ أخْفَتِ
وظَلّتْ لِفِكْري، أُذْنُهُ خَلَداً بها (023) يَدُورُ بهِ، عن رُؤْيَة ِ العينِ أغنَتِ
فقد تكرر حرف التاء في الأبيات السابقة تسع عشرة مرة مجانسًا حرف الروي وهو التاء الذي تكرر في كل أبيات القصيدة، ومحدثًا نوعًا من الانسجام الإيقاعي والالتحام الصوتي الدال، ويلف إيقاع الأسقام والأوجاع والمعاناة سمت النص فتنفجر إشعاعات كامنة وصلت بجمالية النص إلى كامل ألقها حتى بلوغه الشعرية والإيحائية المكثفة .
وفي القصيدة يلعب تكرار حركة السكون دورا نغميا بارزا محدثا انسجاما إيقاعيا وتوافقا دلاليا، من خلال الوقوف على أواخر الكلمة مثل الأبيات التالية:
وفارِقْ ضَلالَ الفَرْقِ، فالجمْعُ مُنتِجٌ (240) هُدى فِرْقَة ٍ، بالاتّحادِ تَحَدّتِ
وصرِّحْ باطلاقِ الجمالِ ولا تقلْ (241) بِتَقْييدهِ، مَيلاً لزُخْرُفِ زينَة
ففي هذه الأبيات يعمل السكون على إيقاف الحركة (فارقْ، صرِّحْ)، تلك الحركة التي يريدها الشيخ الصوفي لأتباعه في الاكتفاء بتنفيذ توصياته من أجل النجاة، فلا همّ للمُريد سوى إتباع ما يجيء عن الشيخ. ونلاحظ في الآن نفسه تكرر حرف القاف الانفجاري ست مرات(فارق، الفرق، فرقة، إطلاق، لا تقل، بتقييده) وهي دلالة الحرص الشديد والقويّ من الشيخ على صلاح مريديه وسلوك طريق شيخهم. وهو ما تؤكده أكثر الأبيات التالية:
فطِبْ بالهَوَى نَفساً،فقد سُدتَ أنفُسَ الـ (296) ـعِبادِ مِنَ العُبّادِ، في كُلّ أُمّة ِ
وفزْ بالعلى، وافخرْ على ناسك علا ، (297) بظاهِرِ أعمالٍ ونفسٍ تزكتِ
وجُزْ مُثْقَلاً، ولو خَفّ طَفّ موُكَّلاً (29 بمنقولِ أحكامٍ، وَمَعْقولِ حِكْمة
وحُزْ بالولا ميراثَ أرفعِ عارفٍ (299) غدا همُّهُ إيثارَ تأثيرِ هِمَّة ِ
وتِهْ ساحباً، بالسُّحبِ، أذيالَ عاشِقٍ، (300) بوصلٍ على أعلى المجرَّة ِ جُرَّتِ
وجُلْ في فُنونِ الإتّحادِ ولاتَحِدْ (301) إلى فِئة ٍ، في غيرِهِ العُمْرَ أفنَتِ
فواحِدُهُ الجَمُّ الغَفيرُ، ومَنْ غَدا (302) هُ شِرذمة ٌ حُجَّتْ بأبلغِ حُجَّة ِ
فمتَّ بمعناهُ وعِشْ فيهِ أو فمُتْ (303) مُعَنّاهُ، واتْبَعْ أمّة ً فيهِ أمّتِ
فتوالي الوحدات الإيقاعية الساكنة الأواخر(طِبْ، فُزْ، افخرْ، جُزْ، حُزْ، تِهْ، جُلْ، عِشْ، مُتْ، اتبعْ) وكأنها تتابع سياط معلم يريد إرغام تلميذه على تنفيذ وصاياه دون تفريط في شيء.
وفي التائية الكبرى يكرر الشاعر حرف النداء ( يا) ليكون بداية فاصلة نغمية تحمل إيقاعات الإنشاد الإنشائي، لأن( يا) حرف متحرك يليه حرف مد مما يتيح للمنشد أن يتحكم في زمن المد المتسق مع زمن السياق الشعري يقول :
فيا مُهجتي ذوبي جوى ً وصبابة ً (340) ويا لوعَتي كوني، كذاكَ، مُذيبتي
ويا نارَ أحشائي أقيمي من الجوَى (341) حنايَا ضُلوعي فهيَ غيرُ قويمة ِ
ويا حُسنَ صبري في رِضى من أُحبُّها (342) تجمّلْ، وكُنْ للدّهرِ بي غيرَ مُشمِتِ
ويا جَلَدي في جنبِ طاعة ِ حُبِّها (343) تحمَّل عَداَكَ الكَلُّ كُلَّ عظيمة ِ
ويا جسَدي المُضنَى تسَلَّ عن الشِّفَا (344) ويا كبِدي منْ لي بأنْ تتَفتَّتي
ويا سقَمي لا تُبْقِ لي رمقاً فقدْ (345) أَبَيتُ، لبُقيْا العِزِّ، ذُلّ البَقيّة ِ
ويا صحَّتي ما كانَ من صُحبتي انْقضى (346) ووصلُك في الأحشاءِ ميتاً كهجرَة ِ
ويا كلّ ما أبقى الضّنى منّيَ ارتحِلْ، (347) فما لكَ مأوى ً في عظامٍ رَميمة ِ
ويا ما عسَى منّي أُناجي، تَوَهّماً (34 بياءِ النَّدا أُونِستُ منكَ بوحشة ِ
إن سعة الدلالة في النص السابق تتعدى مجرد رصد ظاهرة الترديد الصوتي إلى فضاء الإيحاءات الدلالية المتوهجة الكامنة في نداء المحسوسات والمعنويات الدالة على مفردات الجسد ومعطيات الجوى والصبابة(يا مهجتي، يا لوعتي، يا نار أحشائي، يا حسن صبري، يا جلدي، يا جسدي، يا كبدي، يا سقمي، يا صحتي)، إنها ملحمة شعرية موقعة تفرض وجودها الدلالي والنغمي على المتلقي .
وقد يعمد الشاعر إلى استخدام لون آخر من الألوان الإيقاعية التي تعتمد المزاوجة بين حرفين أو أكثر في المقطع الشعري سبيلا لخلق توافق نغمي متكرر، ففي هذه الأبيات يزاوج ابن الفارض بين أصوات الخاء واللام والراء من جهة وأصوات العين والذال والراء من جهة ثانية فيقول:
خلعتُ عذاري واعتذاري لابسَ الـ (077) ـخلاعة ِ مسروراً بخلعي وخلعتي
وخلعُ عذاري فيكِ فرضى وإنْ أبى اقـ (07 ـترابيَ قومي والخلاعة ُ سنَّتي
إضافة إلى تداعيات القيمة الإيقاعية للجناس الاشتقاقي في(خلعت، الخلاعة، خلعي، خلعتي-عذاري، اعتذاري)، فإن الالتحام بين صوتي اللام الجانبي والخاء الاحتكاكي من جهة، والالتحام بين صوتي العين الحلقي الاحتكاكي والذال الاحتكاكي الأسناني المرقق من جهة ثانية، مع صوت الراء التكراري، قد وجَّه حركة المعنى نحو إشعاعات الدلالة التي يحويها النص والتي تصب في نهج الشاعر نحو التجرد للظفر بالقرب من محبوبه. يقول الشاعر:
ويَمنَعُني شكوَايَ حُسْنُ تَصبّري، (044) ولو أشكُ للأعداء ما بي لأشكَت
وعُقبى اصطِباري، في هَواكِ، حمِيدَة ٌ (045) عليكِ ولكنْ عنكِ غيرُ حميدة ِ
زواج الشاعر بين حرفي الكاف والصاد وهما حرفان مهموسان، كما أن صفة الجهر والتفخيم لحرف الصاد شحنت هذا المقطع الشعري بقوة إيقاعية زاد من تأثيرها الجمالي مزاوجة حرفين متباعدين في المخرج شدة ورخاوة، تفخيمًا وترقيقًا، ومتفقين في صفة الهمس .
ولعل اللون الإيقاعي البارز في كامل بدايات أبيات القصيدة المزاوجة بين حرف الواو وحرف الفاء، كقوله في هذه الأبيات:
ولولا زفيري أغرقتني أدمعي (014) ولولا دموعي أحرقتني زفرتي
وحزني ما يعقوبُ بثَّ أقلَّهُ (015) وكُلُّ بِلى أيوبَ بعْضُ بَلِيّتي
وآخرُ ما لاقى الألى عشقوا إلي الـ (016) ـرّدى ، بعْضُ ما لاقيتُ، أوّلَ محْنَتي
فلو سمعت اذن الدليل تأوهي (017) لآلامِ أسقامٍ، بجِسمي، أضرّتِ
لأَذكَرَهُ كَرْبي أَذى عيشِ أزْمَة ٍ (01 بمُنْقَطِعي ركْبٍ، إذا العيسُ زُمّتِ
وكذلك الأبيات التالية:
وقدْ برَّحَ التَّبريحُ بي وأبادني (019) وأبدى الضنى مني خفيّ حقيقتي
فنادمتُ في سكري النحولَ مراقبي (020) بجملة ِ أسراري وتفصيلِ سيرتي
وأيضا:
وكشفُ حجابِ الجسمِ أبرزَ سرَّ ما (027) بهِ كانَ مستوراً لهُ منْ سريرتي
فكنتُ بسرِّي عنهُ في خفية ٍ وقدْ (02 خفتهُ لوهنٍ منْ نحولي أنَّتي
فأظهرني سقم به كنت خافيا (029) له، والهوى يأتي بكلِّ غريبة ِ
وأفْرَطَ بي ضُرٌّ، تلاشَتْ لِمَسِّهِ (030) أحاديثُ نَفسٍ، بالمدامِعِ نُمّتِ
فَلو هَمّ مَكروهُ الرّدى بي لما دَرى (031) مكاني ومنْ إخفاءِ حبِّكِ خفيتي
وما بينَ شوقٍ واشتياقٍ فنيتُ في (032) تَوَلٍّ بِحَظْرٍ، أو تَجَلٍّ بِحَضْرة ِ
فلوْ لفنائي منْ فنائكِ ردَّ لي (033) فُؤاديَ، لم يَرْغَبْ إلى دارِ غُرْبَة ِ
وأيضا:
وأنشَقُ رَيّاها بِكُلّ دَقيقَة ٍ، (384) بها كلُّ أنفٍ ناشقٍ كلَّ هبَّة ِ
ويسمعُ مني لفظها كلُّ بضعة ٍ (385) بها كلُّ سمعٍ سامعٍ متنصِّتِ
ويَلْثُمُ منّي كُلُّ جُزْءٍ لِثامَها (386) بكلِّ فمٍ في لَثمهِ كلُّ قبلة ِ
فلو بسطت جسمي رأت كل جوهر (387) بهِ كلُّ قلبٍ فيهِ كلُّ محبَّة ِ
إنها جمالية المزاوجة بين الواو الطبقي ذو نصف حركة(أو الهوائي حسب الترتيب الخليلي)(11) -الذي يتوسط الفم-، والفاء الاحتكاكي الأسناني الشفوي-القريب من المخرج-، التي واكبت ذلك التراكم في مسارات الصوفي والنتيجة المرحلية المتوخاة بعد كل مرحلة سير، فهي وقفة للاستراحة من عناء السفر ولتجديد العزم على الانطلاق من جديد.
وهناك ظاهرة أخرى تلفت النظر في تشكيل البنية الإيقاعية وهي تكرار حروف المد التي تشبه تنوع اللحن الموسيقي في تذبذب إيقاعاتها وتعدد نغماتها الأمر الذي يحدث لحونًا متنوعة وتأثيرات نفسية متعددة، إذ أن الحالة الشعورية للمبدع لا تنفصل عن إيقاعية أصواته اللغوية المتشكلة .
ونمثل بالمقطع التالي من التائية:
شوادي مُباهاة ٍ، هوادي تَنَبّهٍ، (550) بوادي فُكاهاتٍ، غوادي رَجِيّة
جواهرُ أنباء، زواهرُ وُصْلة ٍ، (552) طواهِرُ أبناء، قواهرُ صَولَة
مثاني مناجاة ٍ معاني نباهة ً (554) مَغاني مُحاجاة ٍ، مَباني قضيّة
نجائبُ آياتٍ غرائبُ نزهة ٍ (556) رغائبُ غاياتٍ كتائبُ نجدة
عقائقُ إحكامٍ دقائقُ حكمة ٍ (55 حقائقُ إحكامٍ، رقائقُ بَسْطَة
صوامعُ أذكارٍ لوامعُ فكرة ٍ (560) جَوامِعُ آثارٍ، قَوامِعُ عِزّة
لطائفُ أخْبارٍ، وظائفُ مِنْحَة ٍ، (562) صحائِفُ أحْبارٍ، خلائفُ حِسْبَة
غيوثُ انفعالاتٍ بعوثُ تنزُّهٍ (564) حدوثُ اتِّصالاتٍ ليوثُ كتيبة
فُصُولُ عِباراتٍ، وُصولُ تحيَّة ٍ، (566) حصولُ إشاراتٍ أصولُ عطيَّة
بشائرُ إقرارٍ بصائرُ عبرة ٍ (56 سرَائرُ آثارٍ، ذخائِرُ دعوةِ
مدارِسُ تنزيلٍ، مَحارِسُ غِبْطَة ٍ، (570) مَغارِسُ تأويلٍ، فوارِسُ مِنْعَة
أرائِكُ تَوحيدٍ، مَدارِكُ زُلْفَة ٍ، (572) مسالكُ تمجيدٍ ملائكُ نصرة
فوائِدُ إلْهامٍ، روائِدُ نِعمَة ٍ، (574) عوائدُ إنعامٍ موائدُ نعمة
لقد وافق الطول الزمني لحركات المد - التي تكاد تتكرر في كل كلمة - و التي تستغرق وقتًا أو زمنًا عند النطق بها؛ حالة النشوة التي يحسها الشاعر، وقد امتدت بشائر وصول الفيض الإلهي في أعماقه، وصنع ذلك إيقاعًا هادئًا رتيبًا يمنح المتلقي شعورًا بالراحة والاطمئنان مما يمكِّنه من مشاركة الشاعر حالته النفسية .
وهنا تظهر أيضا القيمة الموسيقية لتكرار حرف الألف الذي ليس له ولا لباقي حروف المد طول زمني محدد، إنما الذي يحدد ذلك مكان الكلمة في السياق اللغوي الذي تدخل في تأليفه، وقد أمتعنا الشاعر بتكرار حرف المد في كل هذه الأبيات ثم فاجأنا بختام الصدر والعجز بكلمة واحدة ليس فيها حرف مد واحد، وكأن المقطع ارتقاء وصعود تلاه وقفة بعد وقفة، فبعد أن كانت الأصوات حالمة سائرة جذلانة جاءت المحطة المنتظرة لتجديد الطاقة ومواصلة سلوك الطريق نحو محطة أخيرة. هذا التحول الإيقاعي هو بالضبط التحول العرفاني الذي يعيشه الصوفي من فراق الأهل والخلاّن إلى ملاقات أنوار الله العزيز الرحمن .
وتستوقفنا ظاهرة إيقاعية أخرى وهي التي تنبعث من ترديد حرف النفي( لا) في البيت الواحد وفي أكثر من بيت حسب ما يقتضيه المعنى، وفي الوقت نفسه يصبح حرف النفي أداة ربط نغمي بين الكلمة أو الجملة وما يليها، وتتوالى الحركة الموسيقية مع توالي الحروف المتكررة، ومثال ذلك قول ابن الفارض:
ولا سَعتِ الأيَّامُ في شَتِّ شملِنَـــــا (364) ولا حكمت فينا اللَّيالي بِجفــــوة ِ
ولا صبَّحتنا النَّائباتُ بِنَبْــــــوَة ٍ (365) ولا حَدَّثَتنا الحادِثاتُ بنَكبَـــــة ِ
ولا شنَّعَ الواشي بصدٍّ وهجــــرة ٍ (366) ولا أرجَفَ اللاّحي ببيْنٍ وسلـــوَة ِ
ولا استيقظتْ عينُ الرَّقيبِ ولمْ تـــزلْ (367) عليَّ لهَا في الحبِّ عيني رقيبتـــــي
ولا اختُصّ وَقتٌ دونَ وقتٍ بطَيبَــة ٍ، (36 بها كلُّ أوقاتي مواسِمُ لــــــذَّة ِ
كما يثير حرف الجر "في" المتتالي نغما موسيقيا متكررا، وإيقاعا ممتدّا(اقتران الفاء مع ياء المد) يلتحم مع الدلالة ليلفت الانتباه لهذه المتوالية المعدِّدة لمختلف الدرجات والمقامات التي يقطعها الشاعر.
وفي عالم التَّركيبِ في كلِّ صورة ٍ (643) ظهرتُ بمعنى ً عنهُ بالحسنِ زينتي
وفي كلِّ معنى ً لمْ تبنهُ مظاهري (644) تصوَّرتُ لا في صورة ِ هيكليَّة ِ
وفيما تراهُ الرُّوحُ كَشْفَ فَراسة ِ، (645) خفيتُ عنِ المعنى المعنَّى بدقَّة ِ
وفي رحموتِ القبضِ كليَ رغبة ٌ (646) بها انبَسطتْ آمالُ أهلِ بَسيطتي
وفي رهبوتِ القبضِ كليَ هيبة ُ (647) ففيما أجلتُ العينَ منِّي أجلتِ
وفي الجَمعِ بالوَصفَينِ، كُلّيَ قُرْبة ٌ، (64 فحيَّ على قربى خلالي الجميلة ِ
وفي منتهى في لمْ أزلْ بي واجداً (649) جلال شهودي عنْ كمالِ سجيَّتي
وفي حيثُ لا في، لم أزَلْ فيّ شاهِداً (650) جَمالَ وُجودي، لا بناظِرِ مُقلتي
وهناك أيضا تكرار حرف الشرط الساكن"إنْ" في الأبيات التالية:
وإنْ طَرَقتْ لَيلاً، فشَهرِيَ كُلّهُ (371) بها ليلة ُ القدرِ ابتهاجاً بزورة ِ
وإنْ قَرُبَتْ داري، فعاميَ كُلّهُ (372) ربيعُ اعتدالٍ، في رِياضٍ أريضَة ِ
وإنْ رَضيتْ عني، فعُمريَ كُلُّهُ (373) زمانُ الصّبا، طيباً، وعصرُ الشبيبَة ِ
لئنْ جمعَتْ شملَ المحاسنِِِ صورة ً (374) شَهِدْتُ بها كُلّ المَعاني الدّقيقَة ِ
فالإيقاع هنا ممزوج بين الهمزة المكسورة والنون الساكنة وهو يتلاءم مع دلالة التريث والتوقف قبل الإقدام على رد الفعل، حتى معرفة الفعل الصادر عن المحبوب. وحينئذ تكون السعادة تامّة بتوافق الفعل وردّ الفعل.
كما تظهر حالة إيقاعية تتمثل في تكرار حرف الهمزة الاستفهامي المجهور في الأبيات الموالية:
أغَيرُكَ فيها لاحَ، أمْ أنتَ ناظِرٌ (661) إليكَ بها عندَ انعكاسِ الأشعة ِ
أَهَلْ كانَ منْ ناجاكَ ثمَّ سواكَ أمْ (663) سَمِعتَ خِطاباً عن صَداكَ المُصَوّتِ
أَتحسبُ من جاراكَ في سنة ِ الكرى (667) سِواكَ بأنواعِ العُلُومِ الجليلَة
فصفة الجهر هنا في حرف الهمزة وافقت تلك الضرورة التي يراها الشاعر هامّة لتنبيه المخاطَب بإعلاء نبرة الخطاب قبل التوجه إليه بالكلام، فإذا انتبه له أمكن أن يسأله ما شاء من الأسئلة.
وتلفت نظرنا ظاهرة إيقاعية أخرى تمثلت في تضعيف الحروف(الشدّة) وهي بمثابة الضغط على الحرف والبقاء معه لزمنين عوض زمن واحد، كهذه الأبيات:
تقرَّبتُ بالنَّفسِ احتساباً لها ولمْ (16 أَكنْ راجِياً عنها ثواباً، فأدنَتِ
وقدَّمتُ مالي في مآليَ عاجلاً (169) وما إنْ عساها أنْ تكونَ مُنِيلتَي
وخلَّفتُ خلفي رؤيتي ذاكَ مخلصاً (170) ولستُ براضٍ أن تكونَ مطيَّتي
ويمَّـمتها بالفقر لكن بوصفه (171) غَنِيتُ، فألقَيتُ افتِقاريِ وثَرْوَتي
فأثنيتَ لي إلقاءُ فقري والغَنَى (172) فضيلة َ قصدي فاطَّرحتُ فضيلَتي
فورود الحروف مضعّفة في الوحدات الإيقاعية(تقرَّبتُ، وقدَّمتُ، وخلَّفتُ، ويمَّمتها، فاطَّرحتُ) قد رافق حالة الشاعر النفسية في عزمه المتواصل على تنفيذ المجاهدات مع النفس والسمو بها نحو الكمال الأبدي.
وأخيرا تبدو السمة الإيقاعية البارزة وهي غلبة حركة الكسر على كامل ألفاظ القصيدة، فجل الأبيات تحوي ألفاظا مكسورة، مثل قول الشاعر:
فطوفانُ نوحٍ، عند نوْحِي، كأدْمعِي؛ (013) وإِيقادُ نِيرانِ الخلِيلِ كلوعتِي
ولولا زفِيرِي أغرقتنِي أدمعِي (014) ولولا دموعِي أحرقتنِي زفرتِي
لأَذكَرَهُ كَرْبِي أَذى عيشِ أزْمَة ٍ (01 بمُنْقَطِعِي ركْبٍ، إذا العيسُ زُمّتِ
فكنتُ بسرِّي عنهُ فِي خفية ٍ وقدْ (02 خفتهُ لوهنٍ منْ نحولِي أنَّتِي
وما بينَ شوقٍ واشتياقٍ فنيتُ في (032) تَوَلٍّ بِحَظْرٍ، أو تَجَلٍّ بِحَضْرة ِ
ولمْ أحكِ في حُبِّيكِ حالِي تبرُّماً (042) بها لاضطِرابٍ، بل لتَنفِيسِ كُربَتِي
ويَحسُنُ إظهارُ التّجلّدِ للعِدى ، (043) ويقبحُ غيرُ العجزِ عندَ الأحبَّة ِ
وكثرة الكسر وخاصة بالتنوين اتخذت إيقاع الخفض والذل والهوان وكسر الجانب في سبيل إرضاء المحبوب والحظوة بالقرب من الحضرة الإلهية، وكأن الشاعر يتمثل الحديث القدسي:"أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي". ويمكن ملاحظة ذلك في كل أبيات القصيدة، فبغض النظر عن القافية المكسورة التي لازمت القصيدة بتمامها، فإن الكسرة شهدت حضورا كثيفا مما أضفى على الإيقاع جمالية موسيقية مؤثرة ومنحى عقائديا ملازما كرّس شعرية القصيدة الصوتية من البداية حتى النهاية.
وهكذا يمضي شاعرنا في إبداعه الإيقاعي مستغلا القيم الصوتية لحروف اللغة وطاقاتها النغمية المتنوعة في إبراز الموسيقى الداخلية، وربط التجربة الصوفية العرفانية بالإيقاع الشعري المستمر والمتميز .
2- مستوى اللفظ.
اللغة أداة لنقل الشعور و التعبير عن التجربة وهي تتسم بالسعة والمرونة التي تمكِّن الشاعر من استغلال كل طاقاتها الدلالية والنغمية، والألفاظ هي وسيلة التعبير اللغوي .
ومن دلائل مرونة ألفاظ اللغة الشعرية قابليتها للاشتقاق والتكرار والترادف وإجراء ألوان البديع اللفظي عليها، وهذه الأمور وثيقة الصلة بموسيقى اللفظ، فهي ليس إلا تفننًا في طرق ترديد الألفاظ في الكلام حتى يكون للأصوات موسيقى ونغم، ويعد الجناس من أكثر الألوان البديعية موسيقية وهي تنبع من ترديد الأصوات المتماثلة مما يقوي رنين اللفظ ويوجد الجرس الموسيقي .
لقد بلغ انفعالنا ذروته، ومتعتنا أوجها ونحن نستمع إلى الإيقاع المتيَّم لرسالة ابن الفارض إلى أتباعه ومريديه الذين لا يعشقون وهيامه الذي شاع في الأرجاء المتمثل في"الصبابة"، يقول :
وقُلْتُ، وحالي بالصّبابَة ِ شاهدٌ، (007) ووجدي بها ماحيَّ والفقدُ مثبتي
فلوْ كشفَ العوَّادُ بي وتحقَّقوا (03 منَ اللوحِ ما مني الصَّبابة ُ أبقتِ
نَعَمْ وتَباريحُ الصّبابَة ِ، إنْ عَدَتْ (04 على َّ منَ النعماءِ في الحبِّ عدَّتِ
ونفسٌ ترى في الحبِّ أنْ لا ترى عناً (059) متى ما تصدَّت للصبابة صُدَّتِ
أجَلْ أجَلي أرضى انقِضاهُ صبَابَة ً، (106) ولا وصْلَ، إن صَحّتْ، لحبّك، نسبتي
وكمْ في الورى مثلي أماتتْ صبابة ً (119) ولوْ نَظَرَتْ عَطْفاً إليهِ لأحْيَتِ
وصرتُ بِها صَبّاً، فلمّا تركْتُ ما (204) أُريدُ، أرادَتْني لها وأحبّتِ
إن دوران النص حول المرتكز الدلالي وبؤرة الانفعال"الصبابة" خلق توحدًا شعوريًا في نسيج النص، وتكثيفها شكّل استرخاءً وامتداداً في طريق نيل المحبة الإلهية، وفتورا نغميا منبسطا يطفو على جسد النص الممتلئ دلالةً وإيحاءً، إضافة إلى الإشعاع اللحني المنبعث من الأفعال المتوالية المنصهرة( أبقتِ، عَدَت، عُدَّتِ، صُدَّتِ، صَحَّت، أماتت، نظرت، أحيت، أرادتنِي، أحبَّت)، وتناثر استعدادات الشيخ الصوفي في أعجاز أبيات القصيدة تؤكِّد قبوله لهذه المُقاسات والمعانات(ماحيَّ، مثبتي، النعماء، وصل، نسبتي، عطفا) لأن المُتَّبِع لشيخه لا بد له من الصبر حتى يصل إلى هذه الدرجة العالية من المحبة الأزلية.
ولعلنا نذكر بمزيج من الهيام والعشق تكرار كلمة"الحبّ" في الأبيات الآتية:
وكان ابتدا حُبِّ المظاهِرِ بعضَها (249) لِبعْضٍ، ولا ضِدٌّ يُصَدّ بِبِغْضَة ِ
فكُلُّ فتى حُبَّ أنا هُوَ، وهيَ حِــ (261) ـبُّ كلِّ فتى والكلُّ أسماءُ لُبسة ِ
ومازلتُ إيَّاها وإيَّايَ لم تزلْ (263) ولا فرقَ بل ذاتي لذاتي أحبَّتِ
فتى الحبّ، ها قد بِنتُ عنهُ بحُكمِ مَن (294) يراهُ حِجاباً فالهوَى دونَ رُتبتي
وجاوزتُ حدَّ العشقِ فالحبُّ كالقلى (295) وعني شأوِ معراجِ اتّحاديَ رحلتي
ويا حُسنَ صبري في رِضى من أُحبُّها (342) تجمّلْ، وكُنْ للدّهرِ بي غيرَ مُشمِتِ
إن التكرار هنا يؤكد تمسك الشاعر بالمحبة الحقيقية الخالصة ويجسد عشقه لطريق التصوف، وهو إضافة إلى التوقيع النغمي الذي أنشأه هذا التوالي الجميل يحمل توقيعات نفسية ومعنوية هذا التضام المتفاعل بين تشكيل الإيقاع وتشكيل المعنى هو قمة الجمالية والشعرية، أضف إلى ذلك الاتساق الإيقاعي بين(ومازلتُ إيَّاها) و(وإيَّايَ لم تزلْ) الذي خلق اتساقًا شعوريًا، فالمحبة متبادلة وذوبان في إرادة المحبوب.
كما نلحظ الجناس الاشتقاقي في الأبيات التالية:
فأوهمْتُ صَحبي أنّ شُرْبَ شَرَابهِم، (002) بهِ سرَّ سرِّي في انتشائي بنظرة ِ
إن جناس اللفظين (شرب، شرابهم-سر، سري) وتقاربهما له نغمة إيقاعية خاصة لأن الشاعر حرص من خلال تقارب اللفظين تثبيت الشراب وإدامته حتى يطيب المقام ويحصل السرور، فوافق الإيقاع اللفظي المتقارب تلك النشوة التي أحسها الشاعر فاندمجت الدلالة مع الإيقاع لتبعث سحرا رومانسيا رائعا مما أضفى جمالية إضافية على البيت والقصيدة معا.
ويقول الشاعر أيضا:
ولا اختُصّ وَقتٌ دونَ وقتٍ بطَيبَة ٍ، (36 بها كلُّ أوقاتي مواسِمُ لذَّة ِ
إن تكرار لفظ"وقت" في هذا البيت إفرادا وجمعا أضفى على البيت إيقاعا متميزا، فتكراره مفردا مرتين له دلالة توحي بانعدام الفرق بينهما رغم ما يلحقهما من تغيير في الحركة (التنوين بالضم والكسر)، وأما إيراده في صيغة الجمع في آخر البيت فيوحي بأن جمع هذين الوقتين كلاهما أوقات واحدة، بالإضافة إلى انضمام لفظ الجمع "مواسم" الدال على الوقت أيضا بعث انفعالا شعوريا وإحساسا نفسيا بالارتياح واللذة.
وفي هذه الأبيات نلاحظ تكرار الألفاظ التالية:
فلو قيلَ من تهوى وصرَّحتُ باسمِها (127) لقيل كنى أو مسه طيف جِنّة
ولو عَزّ فيها الذّلُّ ما لَذّ لي الهوى ، (12 ولم تك لولا الحب في الذل عزّتي
فَحالي بِها حالٍ بِعَقلِ مُدَلَّه ٍ، (129) وصِحّة ِ مَجْهودٍ وعِزِّ مَذَلّة ِ
إن الإيقاع في الألفاظ (قيل-قيل، الذل-لذّ-الذل، حالي-حالٍ، مدله-مذلة) مع ورود الألفاظ (تهوى، الهوى، مجهود-باسمها، فيها، بها) جعل من هذا المقطع الشعري يوحي بالوحدة رغم الاختلاف، فالجناس هنا جاء في الأسماء والأفعال والضمائر فهو يوحي بالوحدة والانسجام، لكن الامتداد الإيقاعي في "قيل-تهوى-فيها-حالي" والإيقاع المختصر في"لذّ-مدلّه-الذّل" الذي زاده التشديد كبحًا أحالنا على الصراع والصعاب والمشقّة التي يعانيها الشاعر في مسيرته، حيث تتقاذفه الأمواج العاتية من كلّ جانب مما أضفى شعرية كبرى على المقطع الشعري وجمالية نفسية فائقة.
ولنتأمل هذه الأبيات كذلك:
وما ذاكَ إلاّ أنْ بدَتْ بِمظاهِرٍ، (245) فظنُّوا سِواهَا وهيَ فيها تجلَّتِ
بدَتْ باحتِجابٍ، واخْتَفَتْ بمظاهِرٍ (246) على صِبَغِ التّلوينِ في كُلِّ بَرزَة ِ
ففي النّشأة ِ الأولى تَرَاءَتْ لآدَمٍ (247) بمظهرِ حوَّا، قبلِ حُكمِ الأمومة ِ
فهامَ بها، كَيما يكونَ بهِا أباً، (24 ويَظْهَرَ بالزّوجينِ حُكْمُ البُنُوّة ِ
وكان ابتدا حُبِّ المظاهِرِ بعضَها (249) لِبعْضٍ، ولا ضِدٌّ يُصَدّ بِبِغْضَة ِ
وما برحَتْ تبدو وتخفَى لِعلَّة ٍ (250) على حسبِ الأوقاتِ في كلِّ حقبة ِ
وتَظْهَرُ لِلْعُشّاقِ في كُلِّ مظْهَرٍ، (251) مِنَ اللّبسِ، في أشْكال حُسْنٍ بدِيعَة ِ
إن التكرار الاشتقاقي للفظ الظهور (بمظاهر، بمظاهر، بمظهر، ويظهر، المظاهر، تظهر، مظهر) بالإضافة إلى الأفعال المرافقة المتناقضة القليلة جدا (بدت، اختفت،تراءت، تبدو وتخفى) واختتام المقطع الشعري بلفظ"أشكال حسن بديعة" بعث توحدا شعوريا وامتزاجا نفسيا راقصا ساهم في إثراء المعنى الدال على الظهور الحتمي للمحبوب ولكن بقليل من المداعبة واللعب من خلال الإطلالة الحذِرة والاحتجاب المفاجئ، مما مهّد لتوتّر أثرى شعرية النص لدى شاعرنا ابن الفارض.
والتكرار الاشتقاقي نلاحظه أيضا في الأبيات التالية:
وكيفَ، وباسْمِ الحقّ ظلّ تحَقُّقي، (279) تكونُ أراجيفُ الضّلالِ مُخيفَتي
وها دِحْيّة ٌ، وافى الأمينَ نبيَّنا، (280) بِصورَتهِ، في بَدْءِ وحْيِ النّبوءة ِ
أجبريلُ قُل لي كانَ دحيةُ إذ بدا (281) لِمُهدي الهُدى ، في هَيئة ٍ بَشَريّة
وفي علمِهِ من حاضريهِ مزيّة ٌ (282) بماهيّة ِ المرئيِّ من غيرِ مرية ِ
فالتكرار (الحق، تحققي-نبينا، النبوءة-مهدي، الهدى) بعث شعورا لدى المتلقي بأن عواطف الشاعر بدأت بالاتزان واتجهت نحو الجدية، وذلك من خلال المزاوجة بين الإيقاع الممتد بحرف الياء(تحققي) والإيقاع الثابت (الحقّ) مع التشديد على آخر الحرف وتقدم لفظ "الحق" على لفظ "تحققي"، وهذا ساهم في دعم الدلالة وإرشاد المتلقي بأن تغييرا وانزياحا سيحدث ويستمر، ومن الواجب التنبه له.
والآن تأمل تكرار لفظ"كلّ" الموحي بالشمولية والإحاطة الكلية في الأبيات التالية:
نهاري أصيلٌ كلُّهُ إن تنسَّمتْ (369) أوائيلُهُ مِنها برَدّ تحِيّتي
وليلي فيها كلهُ سحَرٌ إذا (370) سرَى لي منها فيهِ عرفُ نُسيمة ِ
وإن طَرَقتْ لَيلاً، فشَهرِيَ كُلّهُ (371) بها ليلة ُ القدرِ ابتهاجاً بزورة ِ
وإن قَرُبَتْ داري، فعاميَ كُلّهُ (372) ربيعُ اعتدالٍ، في رِياضٍ أريضَة ِ
وإنْ رَضيتْ عني، فعُمريَ كُلُّهُ (373) زمانُ الصّبا، طيباً، وعصرُ الشبيبَة ِ
لئن جمعَتْ شملَ المحاسنِِِ صورة ً (374) شَهِدْتُ بها كُلّ المَعاني الدّقيقَة ِ
فقَدْ جَمَعَتْ أحشايَ كلَّ صَبابة ٍ، (375) بها وجوى ً يُنبيكَ عن كلِّ صبوة ِ
ولِمْ لا أُباهي كُلّ مَن يدّعي الهوَى (376) بها وأُناهي في افتخاري بحُظوة ِ
لقد ساعدنا تكرار لفظ"كلّ" على ملاقاة الشاعر في أحاسيسه وعواطفه والتقمص الوجداني والاندماج معه والإيقان بأن الأوقات التي ذكرها آنفا والنداءات التي أطلقها تجاه المحسوسات والمعنويات كلّها مجسّدة هنا ومندمجة معا، وهذا ما أوحى به الإيقاع اللفظي المختصر جدا والمكون من حرفين فقط، وبهذا الجمع أثبت الشاعر قدرته على إذابة كلّ شيء في بؤرة واحدة هي هدفه الأسمى المنشود وهي مبتغاه من كلّ تلك المجاهدات.
لا شك أن ترديد الأصوات يزيد من حلاوة جرسها - خاصة إذا كان هناك ثمة عرض معنوي - واكتمال الإيقاع المطرب لها وتحقيق الانسجام بين ألفاظها المتجانسة "والجناس لما فيه من عاملي التشابه في الوزن والصوت من أقوى العوامل في إحداث الانسجام، وسرّ قوته كامن في كونه يقرب بين مدلول اللفظ وصوته من جهة، وبين الوزن الموضوع فيه اللفظ من جهة أخرى"(12). وقد تمكّن ابن الفارض في هذه القصيدة التائية الكبرى من استغلال كل طاقاته اللفظية التكرارية وخاصة الجناس
لبلورة رؤية شعرية تمتزج بحيوية الإيقاع وتبدّل الجرس الموسيقي للفظ لتبعث بالدلالات الملائمة للسياق والمشاعر الحالمة له في سبيل الوصول إلى شعرية مؤثِّرة للنص الشعري.
3- مستوى العبارة.
لا تقاس قدرة الشاعر على التشكيل الموسيقي باختياره للحرف أو اللفظ الذي يحمل دلالات نغمية فحسب، بل إن القيمة الموسيقية الحقيقية تنبع من تآلف مجموع هذه الألفاظ في جمل متناسقة التراكيب، متسقة الأوزان والتقطيعات الصوتية وهو ما نسميه بموسيقى العبارة، حيث تنتظم العلاقات الصوتية في مجموعة ظواهر لغوية بلاغية سياقية تشع بالتنغيم والتطريب .
ونمضي في اختيار أبيات من قصيدتنا التائية الصوفية لنرى إلى أي مدى استطاع شاعرنا استغلال تلك الظواهر في خدمة البنية الإيقاعية، يقول الشاعر ابن الفارض :
مَغانٍ، بِها لم يَدخُلِ الدّهرُ بيننا، (363) ولا كادَنا صرْفُ الزّمانِ بفُرقَة ِ
ولا سَعتِ الأيَّامُ في شَتِّ شملِنَا (364) ولا حكمت فينا اللَّيالي بِجفوة ِ
ولا صبَّحتنا النَّائباتُ بِنَبْوَة ٍ (365) ولا حَدَّثَتنا الحادِثاتُ بنَكبَة ِ
ولا شنَّعَ الواشي بصدٍّ وهجرة ٍ (366) ولا أرجَفَ اللاّحي ببيْنٍ وسلوَة ِ
ولا استيقظتْ عينُ الرَّقيبِ ولمْ تزلْ (367) عليَّ لهَا في الحبِّ عيني رقيبتي
ولا اختُصّ وَقتٌ دونَ وقتٍ بطَيبَة ٍ، (368) بها كلُّ أوقاتي مواسِمُ لذَّة ِ
ففي الأبيات جميعا يبرز جمال التقسيم الصوتي في الموازاة اللفظية بين لا النافية والفعل والفاعل بين الصدر والعجز، مع ملاحظة اندماج التقسيم الصوتي مع التقطيع الوزني الذي يحدث توازيًا لحنيًا بين الفقرات الموزعة على البيت. إضافة إلى إيقاع صورة صدّ العدوان والذي تشكل من المعنويات والمحسوسات( الأوقات ونوائب الدهر والأعداء) التي تحالفت ضد الشاعر للإيقاع به ولكنه في النهاية تمكن من المواجهة والثبات في إدراك مطلبه.
ونفس هذا التوازي نلحظه في الأبيات الموالية:
إذا لاحَ معنى الحُسنِ في أيّ صورَة ٍ، (410) وناحَ مُعنّى الحُزنِ في أيّ سُورَة ِ
يُشاهِدُها فِكري بِطَرفِ تَخيّلي، (411) ويسمعُها ذكري بمسمَعِ فِطنتي
ويُحضرها للنَّفسِ وهمي تصوُّراً (412) فيحسَبُها، في الحِسّ، فَهمي، نديمتي
فأعجبُ من سُكري بغيرِ مُدامة ِ (413) وأطربُ في سرِّي ومني طربتي
فيرقصُ قلبي وارتعاشُ مفاصلي (414) يصفِّقُ كالشَّادي وروحيَ قينتي
هذا التوازي وزنا وإيقاعا هو نفسه ذلك الانفعال المتزن والعواطف التي بلغت أسمى المسرّات الخالدة التي يحسها الشاعر ويتلقفها المتلقي محاولا التفاعل الايجابي معها وتمثلها.
ويستوقفنا نموذج آخر جميل لشاعرنا، حيث يقول:
فأتلُو عُلومَ العالِمينَ بِلَفْظَة ٍ؛ (589) وأجلو على َّ العالمينَ بلحظة
وأسْمَعُ أصواتَ الدّعاة ِ وسائِرَ الـ (590) لُّغاتِ بوقتٍ دونَ مقدارِ لمحة
وأحضرُ ما قدْ عزَّ للبعدِ حملهُ (591) ولمْ يرتددْ طرفي إليَّ بغمضة
وأنشَقُ أرواحَ الجِنانِ، وعَرْفَ ما (592) يُصافحُ أذيالَ الرّياحِ بنَسمَة ِ
وأستَعرِضُ الآفاقَ نحوي بخَطْرَة ٍ، (593) وأختَرِقُ السّبعَ الطّباقَ بخَطوَة ِ
هذا التكرار الإيقاعي المقطعي خلق نغمًا متكررًا ومعاني متجددة بالتركيز على أفعال الشاعر المتعددة لنكتشف مع سياق النص أن كل هذه الأفعال الخارقة للعادة هي بفضل الإتحاد مع الذات الإلهية المقتدرة. وللتأكيد على ذلك نلفي الشاعر يعاود التصريح بأن نفس الأفعال هي من ذلك الفيض الرباني المقدس التي ما كانت لتتم لولا الإتحاد مع هذه القوة الصمدية والإفادة منها، يقول:
فَمن قالَ، أو مَن طال، أو صالَ، (595) إنما يمُتّ بإمدادي لهُ برَقيقَة ِ
وما سارَ فوقَ الماءِ أوْ طارَ في الهوا (596) أو اقتحمَ النِّيرانَ إلاَّ بهمّتي
ويعود شاعرنا ليوظف الكل في عبارة الجار والمجرور من خلال هذه الأبيات:
وفي رحموتِ البسطِ كليَ رغبة ٌ (646) بها انبَسطتْ آمالُ أهلِ بَسيطتي
وفي رهبوتِ القبضِ كليَ هيبة ُ (647) ففيما أجلتُ العينَ منِّي أجلتِ
وفي الجَمعِ بالوَصفَينِ، كُلّيَ قُرْبة ٌ، (648) فحيَّ على قربي خلالي الجميلة ِ
وفي منتهى في لمْ أزلْ بي واجداً (649) جلال شهودي عنْ كمالِ سجيَّتي
وفي حيثُ لا في، لم أزَلْ فيّ شاهِداً (650) جَمالَ وُجودي، لا بناظِرِ مُقلتي
إن الشاعر وهو في غمرة النشوة والسعادة التي نالها بالاتحاد كلية مع محبوبه والإفادة من قوته، لا يغفل بأنه مجرد تابع عليه طاعة مولاه والإقرار بفضله وإنعامه عليه وأنه منصرف بالكلية إليه، متقلب بين الرغبة في النِّعم والرهبة من النقم، وهو الأمر الذي جسّده بامتياز وشاعرية في جملة الجار والمجرور مع إيراد العبارة الدالة(كلّي رغبة، كلّي رهبة)، مما أثرى غنائية هذا المقطع الشعري ووضع المتلقي في حالة شعورية متحفزة متشوقة، تخشى لحظات النكوص والابتعاد وتسعى إلى القرب والاستعداد لتؤكد الفتنة الإيقاعية التي تعوّد ابن الفارض أن يسحرنا بها .ولنتأمل العبارات الآتية:
فأجنادُ جيشِ البرِّ ما بينَ فارسٍ (690) على فَرَسٍ، أو راجِلٍ ربِّ رِجْلَة ِ
وأكنادُ جيشِ البحرِ ما بينَ راكبٍ (691) مَطَا مركبٍ أو صاعِدٍ مِثلَ صَعْدة ِ
فمِن ضارِبٍ بالبيضِ، فتكاً، وطاعِنٍ (692) بسُمرِ القَنا العَسَّالة ِ السَّمهريِّة ِ
ومنْ مغرقٍ في النَّارِ رشقاً بأسهمٍ (693) ومنْ محرقٍ بالماءِ زرقاً بشعلة
إن المستمع لهذه الأبيات يحس بالتعدد والتداخل والتنوع في الصراع القائم حيث ترتسم صورة هذا الصراع في شكل هجوم برّي وبحري وجوّي، هذا الصراع هو الذي يلفّ شاعرنا ويجعله يُقذف من كل جانب ويحاول أن ينقل لنا هذا الصراع النفسي لديه في جو شاعري مؤثِّر وجمالية إيقاعية تكوّنت من خلال تكرار عبارات متوازية ملتحمة بالدلالات المعبّرة. ومع هذا التقسيم المتوازي المتجانس إيقاعًا ومعنى نلاحظ أن تتابع المقاطع مع تساوي حركاتها الإعرابية يشعر المتلقي بلذة يبعثها النغم والرنين المنظم ويوحي بقدرة الشاعر على التشكيل الموسيقي الجميل. ولعل انتظام الحركات الإعرابية - في الأمثلة السابقة - ظاهرة موسيقية تبرز في التقسيم الصوتي فتزيده جمالا وإيقاعًا " فليس بأوفق للشعر الموزون من العبارات التي تنتظم فيها حركات الإعراب فإن هذه الحركات والعلامات تجري مجرى الأصوات الموسيقية، وتستقر في مواضعها المقدرة حسب الحركة والسكون في مقاييس النغم "(13).
الإيقاع الخارجي.
اصطلحنا على الإيقاع الخارجي لنقصد به ذلك الإيقاع الذي يظهر في كامل القصيدة ويتكرر في كل بيت من أبياتها، وهو الذي عُرف في تاريخ اللغة العربية تحت اسم الإيقاع المركب أو البحر(14) ، وندرج معه القافية بحكم مرافقتها لكل بيت.
1- البحر:
تنتمي التائية الكبرى لابن الفارض إلى البحر الطويل، وهو أشيع البحور عند العرب وأطولها واسمه يدل على معناه، وعدد حروفه ثمانية وأربعون)48(حرفا ، ويتكون من التفعيلات التالية:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن * فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
وهو عند النويهي : يقع على الأذن وقعا بطيئا متأنيا لأن كل شطر فيه يتكون من أربعة مقاطع قصيرة وعشرة طويلة، ومن هنا كان في مرتبة وسطى من حيث السرعة بعد اعتبار زحافاته وعلله، وفي العمدة: أن الخليل سماه طويلا لأنه طال بتمام أجزاءه، أما المجذوب فالطويل عنده أرحب صدرا من البسيط وأطلق عنانا وألطف نغما، فهو البحر المعتدل حقا، ونغمه من اللطف بحيث يخلص إليك وأنت لا تكاد تشعر به"(15).
ولعل اسم هذا البحر أراد أن يعبر به شاعرنا على طول طريق التصوف ومشقته، كما يظهر –نتيجة وقوعه على الأذن وقعا بطيئا متأنيا- أن شاعرنا ربما حاول التخفيف من هول الصدمة علينا بمرافقتنا خطوة خطوة وشبرا وشبرا حتى نستأنس ولا نمل من طول السير. كما أن تمام أجزاءه دليل على أن الكمال والإتحاد مع الذات الإلهية مدرك لا محالة بمداومة السير وعدم الانقطاع، ورحابته مؤشِّر على رحابة صدر الشيخ في احتضان كلّ مريديه، أما اعتداله ولطف نغمه فذلك إيحاء بضرورة التواضع وكسر الجانب للوصول إلى المحبوب الأزلي والتمتع بالخلود الأبدي.
فالنغمة الموسيقية تنعش الخاطر وتلغي الملل من النفوس في شكل تكاملي يُشعِر بالأبهة والعظمة، وتطلق العديد من الإيماءات والإيحاءات الخفية التي تغذي تصور الدلالات الممكنة التي تنتشر في كل مكان، ولهذا "كان ملارميه أحد الأوائل في تلقينه الأساتذة والنقاد أن معنى قصيدة لا ينفصل عن الموسيقى والكلمات فيها، وإذا جردناها من الكلمات والموسيقى، جردناها من الشعر، ولا فائدة بعدها من شرحها"(16)، وذلك لأن الموسيقى أو الإيقاع الخارجي للقصيدة هو بنية خطاب استطاع الوصول وفك رموزه من طرف المتلقي.
وتكمن الصعوبة الوحيدة في فهم قصيدة معينة وإدراك دلالاتها المختلفة، إذا كان فيها عدة ألوان من الموسيقى والإيقاعات المختلفة المتبدلة مع صعوبة الكلمات والمعاني، وهذا حال الشعر الصوفي، " فمنذ ،1867، في أفينيون(17)، كتب مالارميه قصائد صعبة القوافي ،وصعبة المعاني، إنما فيها الكثير من الموسيقى، فاختلف في تفسيرها النقاد، وفي حل رموزها"(18)، وهذا هو شأن قصيدتنا التائية لابن الفارض.
2- القافية:
القافية كما يتبين من اسمها هي ما يقفو الشيء أي يليه ويتبعه فيكون نهاية له ودليلا عليه بحكم تأخره عنه، كمن يمشي ويجر رداءه خلفه تاركا آثارا على الرمل أو التراب، ومن هذه الآثار نستدل على نوعية الرداء وأحيانا صاحبه أيضا، أما القافية من الشعر فهي ما تقفو البيت وتنهيه وهي آخر حرف فيه، شرط أن يكون هذا الحرف أصليًّا في الكلمة دون حرف العلة أو ياء النسبة، وذلك مثلما ورد في القصة التي حدثت للأصمعي مع الأعرابي، حيث أراد أن يختبره الأصمعي فقال له: "...أتعرف شيئا من الشعر أو ترويه؟ فقال: كيف لا أقول الشعر وأنا أمه وأبوه ! فقلت له: إن عندي قافية تحتاج إلى غطاء، فقال: هات ما عندك، فغطست في بحور الأشعار فما وجدت قافية أصعب من الواو المجزومة فقلت:
قوم بنجد قد عهدناهم * سقاهم الله من النـــو..."(19)
فقافيتنا في التائية الكبرى هي التاء المكسورة، وهي من الحروف النطعية كما رتبها الخليل بن أحمد ترتيبا تصاعديا من مؤخرة القناة النطقية إلى مقدمتها(20)، وهي مع حرف الدال من الصوامت: أسنانية لثوية مرققة(21)، وهي أيضا من الحروف المهموسة التي تُجمع في العبارة التالية:" حثّه شخص فسكت".
فطبيعة حرف التاء إذن هي الهمس وهو ضد الجهر، أي أن القافية في هذه القصيدة التائية تنتهي بصامت مهموس غير مجهور، وهو مناسب لمناجاة الحبيب والانكسار والذل والخضوع الكلّي له حتى تحصل النجاة من هذه الدار الفانية الموحشة والاتصال بالحضرة الربانية الأبدية وهو تجسيد للحديث القدسي الشهير عند أهل التصوف:"أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي".
وهكذا يتبين لنا من التطبيق على الإيقاع الداخلي والخارجي أن شاعرنا نجح في استغلال طاقات اللغة ودلالاتها الصوتية وجرس ألفاظها وإيقاعات حروفها المتناغمة وأنغام تراكيبها المتناسقة المنسجمة مع البحر والقافية في بناء المستوى الإيقاعي المتقد حيوية وجمالا للشعر الصوفي الذي أدى دوره العرفاني ولا يزال، حتى غدت بعض القصائد تراتيل محبة ومناجاة تقرّب تتردد في أصقاع العالم المأسور في ظلمة المادة حتى تلاحم النبض الصوفي العاشق مع نبض الإيقاعات الشعرية .
هوامش البحث:
- هذا المستوى هو جزء من رسالتي للماجستير الموسومة ب:" بنية الخطاب الشعري الصوفي- التائية الكبرى لابن الفارض نموذجا- مقاربة أسلوبية"، والموجودة بمكتبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسيدي بلعباس (غير منشورة).
2- عباس عجلان، عناصر الإبداع الفني في شعر الأعشى، (مصر: مؤسسة شباب الجامعة، 1985)، ص64.
3- علي إبراهيم أبو زيد، الصورة الفنية في شعر دعبل الخزاعي، (مصر: دار المعارف، 1983)، ص373.
4- عز الدين إسماعيل، التفسير النفسي للأدب، (القاهرة: مكتبة غريب، ط4، 1984)، ص62.
5 - قاسم مومني، نقد الشعر في القرن الرابع الهجري، (القاهرة: دار الثقافة، 1982)، ص157.
6 - جابر عصفور، مفهوم الشعر، (القاهرة: دار الثقافة، 1983)، ص394.
7 - عبد المنعم تليمة، مدخل إلى علم الجمال الأدبي، (القاهرة: دار الثقافة، 1978)، ص119.
8 - إبراهيم عبد الرحمن، قضايا الشعر في النقد الأدبي، (بيروت: دار العودة ، 1981)، ص 3.
9 - يرجى الاطلاع على جدول صوامت العربية الفصحى في كتاب: ديفيد ابركرومبي،مبادئ علم الاصوات العام، تر وتع: محمد فتيح، (ط1، 1988)، ص291.
10 - إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر، (القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية، ط5 ، 1981)، ص 45.
11 - ديفيد ابركرومبي،مبادئ علم الاصوات العام، ص277.
12 - عبد الله الطيب، المرشد إلى فهم أشعار العرب، ( بيروت: دار الفكر، ج 2، 1970 )، ص663.
13 - عباس العقاد، اللغة الشاعرة، ( بيروت: المكتبة العصرية ، 1980)، ص 16.
14 - عبد الملك مرتاض، بنية الخطاب الشعري- دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمانية-، (الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، 1991)، ص 137.
15 - سيد البحراوي ، العروض و إيقاع الشعر العربي ، ص 46 .
16 - هنري بير ، الأدب الرمزي، ص 40.
17- أفينيون(Avignon) مدينة في جنوب فرنسا.
18- هنري بير ، الأدب الرمزي، ص 44.
19- الإتليدي( محمد المعروف بدياب- )، إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس، (تونس: دار التجاني المحمدي، مطبعة و مكتبة المنار،1981)، ص 174-175.
20- ديفيد ابركرومبي، مبادئ علم الاصوات العام، ص277-278 .
21- المرجع السابق، ص 291، ينظر الجدول.
--------------------------------
الرسالة التالية أرسلت إليك عن طريق نموذج الاتصال بنا في منتديات أسواق المربد بواسطة قليـل يوسـف