هذيان أستاذ سعيد
أيها الناس ... لا ... الجمهور ... لا لا ... التلاميـــ.... أنا لست في القسم حتى أخاطب العفاريت ... لن أخاطب أحدا ... أحك ذقني الذي طالت مدة إهماله ... أهرش جلدي بكلتى يدي هرشا أشعرني بلذة وسعادة ... أريد أن أخبركم جميعا أني سعيد ... منذ أيام و أنا أشعر بسعادة عارمة ما شعرت بها يوما في حياتي التعيسة ... ثلاثون عاما مرت في تعاسة من القسم إلى القبو الذي أكتريه و منه إلى المقهى ، مكان تحنثي الوحيد ... أنفرد فيه مع سجارتي الرخيصة و فنجان قهوتي السوداء .
لِمَ هذه الأيام كلما ضحكت في وجه أحدهم ابتعد عني محركا رأسه أسفا ... أسير في الشارع بمنتهى السعادة ... هل يحسدني هؤلاء حتى في سعادتي بعد أن تركت لهم كل مُتَع الدنيا لثلاثين عاما ... منذ ولوجي عالم الوظيفة تركت لهم الجمل بما حمل ... من فرط سعادتي أهملت شعر رأسي ، و وضع رجْلَيَّ في حذائي القديم ... تركته يستريح مني و أستريح منه لطول العشرة بيننا ... منحته إجازة لبعض الوقت ليشاركني بدوره سعادتي ... أريد أن تعم السعادة كل ما يحيط بي من ناس و أشياء .
جلست في ركني المعهود بالمقهى و وضعت رجلا على رجل و أشعلت سجارتي الرديئة و في ثنايا دخانها تراءى لي وجه أمي القديم الذي افتقدته منذ الطفولة حدثتها و حدثتني بصوت مسموع ... ابتسمت لي مبتعدة و أطلقت ضحكة مجلجلة تماوجت في أرجاء المقهى المغبر ... أرى رؤوسا ما التفتت لي طوال حياتي تتجه نحوي و حان قطافها ... لكن لفرط سعادتي سأمنحها عفوا عاما .
صباح اليوم كعادتي منذ ثلاثين عاما قصدت مدرستي المنسية بأقصى درب بالبلدة ... وبخني المدير شاهرا في وجهي مذكرته الوزارية حول هندام المدرس ... و لفرط سعادتي لم أرد عليه إلا بضحكة أبانت عن أسناني الصفراء التي لم يسبق له أن رآها ... منذ ثلاث عقود لم يسبق لي أن تغيبت عن عملي و لا أدليت بشهادة طبية و يستقبلني بهذه الطريقة ؟ لكن لفرط سعادتي تحاشيت الصدام معه و غافلته و اتجهت للفصل ... استقبلني الأشقياء بعاصفة من التصفيق و الصفير و المواء و النباح ... ما أبنت لهم العين الحمراء ... تركتهم على سجيتهم لمشاركتهم لي في سعادتي ... ألقيت لهم الحبل على الغارب فأحاطوا بي جميعا منهم من هنأني على سعادتي الطارئة و منهم من امسك بشاربي و لحيتي ... خلف النافذة ألمح حركة غير عادية بين حجرة الإدارة و باب المدرسة ، انتهت بوقوف سيارة بيضاء بياض الحليب الذي لم أذقه منذ فطامي ... خرج منها أربعة أشخاص بدأوا يتجهون صوب قسمي ... أمر السيد المدير العفاريت بالانصراف لحال سبيلهم ... فالتحق به الأربعة ... تذكرت وزرتي البيضاء القديمة المعلقة في آخر الفصل فاتجهت لألبسها ... تقدموا جميعا نحوي ... ربث المدير على غير عادته على كتفي مبتسما و أزال تكشيرة الصباح ليخبرني أني بحاجة لرخصة راحة مع هؤلاء السادة ... أنا الذي ما منحت طوال العقود الثلاثة من عملي رخصة للغياب تنفتح السماء في أسعد أيامي و نشاطي لتهبني عطلة ... يا لفرط سعادتي ...
أبو حسام الهواري
23/07/2011