بين مشروعين : روما - واشنطن
مهداة مني للموقع
بداية, إن أي أمة من الأمم تحاول أو ستحاول بناء مشروعها الإمبراطوري على غرار الإمبراطوريات السابقة, أقل سؤال يمكن طرحه وبشكل مباشر: أين هي تلك الإمبراطوريات؟ ثم ما الأسباب التي أدت إلى زوالها؟ وما العوامل الكامنة وراء صعود وسقوط تلك الإمبراطوريات, أسئلة تحتاج الإجابة عنها إلى المزيد من البحث والدراسة من أجل الوصول إلى قراءات ضرورية لفهم ما يجري معنا وحولنا.
قد تكون كلمة وهم أنسب ما يمكن وصف النظام الإمبراطوري به, وشكل من أشكل السلطة التي تختلط فيها الرغبة بالمستحيل والخيال بالجنون, ويرادف مصطلح المشروع الإمبراطوري كثير من البؤس لما يتسبب به من تدمير لإمكانات هائلة خرافية في سبيل الحفاظ على ما نهبه من خيرات المجتمع والطبيعة.
رغم الفظاعة التي مرت بها التجربة الإمبراطورية الرومانية, لا تزال هذه الرغبة قائمة في واشنطن, ومع أن المحاولة التي تحاول أمريكا القيام بها قد مرت في فرن النهضة الأوربية أو الفرن الحداثيّ الذي انتهى بتعليق موسوليني الخارطة الكاملة للإمبراطورية الرومانية في مكتبه, ثم انتحر مع حلمه الأوربي في صراع دموي مرعب (الحرب العالمية الثانية) كاد يدمر العالم برمته (أزمة كونية كاملة), وساهمت به السلطة في واشنطن بوحشية عندما ألقت سلاحها النووي فوق الأبرياء في هيروشيما وناغازاكي, ولتتصدر رأس الحرية في التوسع نحو بناء ما يسمى الإمبراطورية, بعدما كان التنافس بين الطرفين حاداً على الأقل لمدة نصف قرن ـ من نهاية القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين ـ هذا إذا تجاوزنا فترة ما بعد مبدأ مونرو 1823م ومحاولة أمريكا الانعزال فيما وراء الأطلسي والاستحواذ على مقدرات الأمريكيتين ـ الشمالية والجنوبية, وابتعاد أوربا عن محاولاتها للسيطرة على العالم الجديد بسبب انشغالها بمعاركها ضمن فضاء العالم القديم ودافعة بحنينه الماضوي ـ النوستالجي ـ إلى الآخر بعد سقوطها المريع تحت الضربات الارتدادية لتوسع السلطة المركزية, ولتتبنى سلطة واشنطن هذا المشروع. بين الإمبراطورية الرومانية والمحاولة الأمريكية: ـ التشابه في الولادة والنشأة:
ربما يعود الاستيطان البشري الأولى في روما إلى 1000 عام قبل الميلاد, لكن إقامة أول مستوطنة على تل البالاتين من قبل الأخوين التوأم رومولوس وريمون كانت سنة 753ق.م. يرتبط بهذا التاريخ بداية التأسيس على نهر التيبر وسط إيطاليا النواة الأولى للإمبراطورية الرومانية (يشبه ولادة جيمستاون) أول مستعمرة أمريكية.
انتمى المؤسسون إلى مجموعات رعاة الغنم واعتمدوا على الرعي والزراعة في تنمية الثروة اللازمة للتوسع والانتقال من مرحلة التماهي مع الطبيعة إلى مرحلة تراكم الثروة, وبعد أن نجحوا في ذلك من جراء عمل الرعاة, أنشئت قوات غير نظامية للدفاع عن هذه الثروة بحجة أن تلال روما في خطر (أي دفعت السلطة المتشكلة إلى التخويف من العدو بسبب خشيتها على ما تملكه), ما لبثت أن تحولت تلك القوات إلى أداة أساسية في دعم التوسع, وانتقلت من طابع اللاتنظيم إلى التنظيم مستفيدة من الأسلحة اليونانية وهي أول ما ورثته عن أثينا كقاذفات الأحجار والسيوف, وعملت جاهدة على تطويرها لتصنع السيوف القصيرة والعريضة المميزة, ترافق تطور السلاح مع بناء قوة عسكرية مدربة, كانت استجابة لرغبة السلطة الناشئة (نلاحظ منذ البداية كيف تتشكل أداتا السلطة: الثروة والجيش), ونفذت سلسلة من العمليات العنفية بغية تحقيق المكاسب المباشرة لدعم مؤسسة السلطة التي انتهت بتأسيس الجمهورية سنة 509 ق.م وطرد الرومان الاترسكانيين (يشبهون المجتمع الأصلي في أمريكا) إلى خارج أسوار البلاد التي تمكنت من السيطرة عليها كاملة سنة 275 ق.م.
بعد تأسيس الداخل وعزله عن الآخر ـ العدو, انطلقت نحو ـ الخارج ـ لتحقيق المزيد من الثروة, وكان ذلك الخارج الطبيعة وقرطاج الغنية, دخلت مع الطرف الثاني في ثلاثة حروب متتالية: * حرب بونية أولى: 264 ـ 241 ق.م وضم صقلية وسردينيا وكورسيكا. * حرب بونية ثانية: 218 ـ 201 ق.م وهزيمة القائد القرطاجي هانبيال الذي مهد لحرب بونية ثالثة وسقوط قرطاج نهائياً بأيدي الرومان والانتهاء من الحرب عام 126 ق. م.
الخلاف على الثروة, وكما يبدو ظاهرياً خلاف على السلطة, وتوزيع الأدوار اشتعلت الحرب الأهلية ـ وهي في جوهرها صراع عنفي يفجره اختلال التوازن (المادي والعسكري) داخل مؤسسة السلطة, ليكون الحسم في النهاية عسكرياً وتولد سلطة غالباً ما تكون عسكرية ـ وهكذا انتهت هذه الحرب بقيام ما أسموه الإمبراطورية ـ أي كانت مقدمة لحسم النزاعات الداخلية, وإعلان أوغسطس نفسه إمبراطوراً سنة 27 ق.م, ويبدأ معه فصل جديد من فصول تحول السلطة في روما انتهت بتقسيمها إلى قسمين سنة 395م: شرقية بيزنطية عاصمتها القسطنطينية, وغربية.
لم تتمكن السلطة في العاصمة الغربية ـ روما ـ من الاستمرار فسقطت سنة 476م على يد الزعيم الجرماني إدواكر الذي هزم آخر حاكم روماني وهو روسولوس أوغسطس, ثم تلتها القسطنطينية التي سقطت على يد العثمانيين سنة 1453م, ومع هذا السقوط أسدل الستار على سلطة عملت الكثير من أجل السيطرة على العالم كله (أزمة كاملة وسقوط شامل للسلطة).. بالتأكيد يدخل في سياق هذا العرض التاريخي السريع جوانب كثيرة أخرى غير الصعود والهبوط والحروب والتوسع ثم الانهيار, لم أتعرض لها, وقد تم دراسة تاريخ هذه السلطة بكثير من الاهتمام كونها عمرت طويلاً, ومن الباحثين في تاريخ روما ميكافيلي واشتهر في عمله (الأمير) الذي أرجع أسباب انهيار روما إلى الدين, إذ يقول: "إن الدين المسيحي هو الذي قوض روما", من الصعب الاتفاق معه حول هذا التفسير كون سبب الانهيار يعود إلى بنية السلطة ذاتها التي لا تحتمل الاستمرار, لكنني أتفق معه عندما نصح أميره ببناء دولة حرة مشيراً وبوضوح إلى بنية السلطة, هذا، توضح قراءته المنطقية لأدوات وآليات عمل النظام الإمبراطوري (إن بناء أي مجتمع جديد من القاعدة يتطلب "المال" و"السلاح" ويجب البحث عنهما في الخارج), وتكمن في هاتين الأداتين جذور أزمة السلطة, كما أنهما تشكلان جسد السلطة, وتستخدمهما في خلق انسجام قسري ـ عنفي بين الفضاءات الأخرى ـ الاجتماعية ـ الفكرية ـ الاقتصادية ـ السياسية.. بنية السلطة في روما:
بدأ التوسع يزداد مع تحقيق المزيد من تراكم الثروة بالسيطرة على الأراضي الزراعية, وتحول الجيش إلى أداة تلبي حاجة هذا الغزو, فظهرت طبقة الفرسان الذين هم ملاك الأراضي والذين راحوا يستغلون المزارعين والعبيد وأسرى الحرب لتحقيق المزيد من الثروة, واستفاد الأثرياء من عائدات الضرائب, ومن غنائم الحروب, أدى هذا التراكم إلى شعور الأثرياء بالقوة والجبروت, فطردوا المزارعين الصغار من مزارعهم ليحل محلهم العبيد ولتعود ملكية الأراضي بالكامل لهم, ولد ذلك مجتمعاً شديد الانقسام:
1 ـ طبقة عليا حاكمة ومالكة يمثلهم أعضاء مجلس الشيوخ.
2 ـ طبقة دنيا وضيعة من المزارعين وعمال المدن وأسرى الحروب والعبيد.
أدخل هذا الوضع المجتمع في صراع حاد مع السلطة قاد في النتيجة إلى تشكيل مجلس للعامة تحت اسم "الترابنة" وانتخبوا زعيماً لهم, ومُثلوا في "جمعية القبائل" وحققوا بعض المكاسب السياسية (أمة جزئية).
ازدياد الفجوة في البنية الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء دفع بالأخوين تيبروس وجايوس جراكوس /133 ـ 123ق. م/ بتقديم برنامج لتوزيع الأراضي على الفقراء, لكن أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ عارضوه وقُتِلَ الأخوان, أدى هذا الصراع إلى اضطرابات حادة, أنهاها القائد الروماني "سولا" بالقمع ونصّب نفسه دكتاتوراً سنة 79ق.م. نجم عن هذا الوضع الاقتصادي والانقسام الطبقي الحاد فيه قلاقل سياسية انتهت إلى شكل جديد من أشكال السلطة, سلطة أكثر تمكناً وبالتالي أكثر قوة وقمعاً, حيث أمسك الأباطرة بالسلطة العليا وتحكموا بالجيش والقانون وأبعدوا المؤسسات الدستورية: مجلس الشيوخ والمجالس الشعبية التي أصبحت مؤسسات صورية.. وهكذا انتقل الجيش من حام لسلطة الجمهورية إلى سلطة الإمبراطورية تحت اسم كتائب الحرس الإمبراطوري (البريتوريا) وخلق ما يسمى النزعة البريتورية في الحكم, وبمقدار التراكم وضرورة الحفاظ على الإمبراطورية, اضطر الحكام لنقل وظيفة الجيش من مجرد الحماية والسطو إلى وظيفة المساهمة في الشؤون السياسية والتدخل في كل شيء والاستحواذ على ما تمت مراكمته, ترافق ذلك مع توسيع المؤسسة العسكرية تلبية للحاجات التوسعية وأصبح عدد الجيش سنة 20ق. ق 300.000 جندي مدرب ومنضبط, تسعفنا هذه المقدمة في فهم ما جرى للسلطة التي بدأت بامتلاك للثروة يتعاونون مع الجيش في إدارتها, ولتنقل إدارة الثروة للجيش نفسه, وهذا تحول حتمي باتجاه تمركز السلطة ونقلها من مدنية إلى عسكرية التي تستحوذ على كل شيء وبالتالي تنهار, إذ إن الجيش يستهلك وبشكل مفرط إمكانات المجتمع والطبيعة وهما اللذان يقوضان هذا التسلط, فالقوة العسكرية استهلكت المزيد من الثروات لدرجة أنها أصبحت عاجزة عن تلبية حاجات الجيش والطبقة الحاكمة معاً, وهذا العجز هو الذي أدى إلى تعميق الخلاف الاجتماعي وهيأ الظروف لسقوط الإمبراطورية, رغم توسعها وإمكاناتها الخارقة التي بلغت أقصاها تحت ظل الإمبراطور تراجان سنة 117م, حيث ضمت أوربا بكاملها تقريباً وشمال أفريقيا وشرق المتوسط بالكامل, وفي النهاية انهارت هذه السلطة الهائلة لتترك كل ما راكمته في مهب الريح, ثم يبدأ المجتمع من جديد منطلقاً من حالة التماهي مع الطبيعة إلى السماح بالاعتداء عليه بتشكيل سلطة جديدة تمتص قوته وتنهكه ولا تسمح له بالعودة إلى فطرته التي نشأ عليها. ماذا عن أمريكا؟
(مثير للدهشة, حقاً أن هناك تشابهاً قوياً بين هذه التجربة الأمريكية والتجربة الدستورية القديمة وبخاصة النظرية السياسية المستهلكة من روما الإمبراطورية)(1) منذ أن وطئ كريستوف كولومبس جزيرة سان سلفا دور في الباهام عام 1492م تشكل أمريكا أرض رغبة بالنسبة للأوربيين وللإنسان القديم الذي قطع شوطاً كبيراً في تدمير علاقته بالطبيعة وبالآخر, وجاء إلى أمريكا معبأ بالخراب الذي لحق به جراء قبوله تحطيم السلطة لسماته التي وُلِد عليها, ولدى وصوله إلى أمريكا جاء كإنسان ساع لمزيد من التملك بعد سنة 1760 مُنح فريق من أبناء المستعمرات الذين شاركوا في حرب السنوات السبع أراضيَ في الغرب مكافأة لهم"(2) فكان أول اختبار له في أمريكا هو الإمعان في القتل والتنكيل بالسكان الأصليين, ووصف المنصّر الدومينيكاني بارتو لومي دي لاس كازاس المعاملة الوحشية التي تعرض لها السكان الأصليون على يد الغزاة الجدد, كما وصف كتاب تدمير الأنديز (1552م) آلية وبشاعة تدمير الغازي للمجتمع الأصلي وإحلال ذاته مكانه, وأوضح مدى قسوته وجشعه وطمعه بالثروة وبالتوسع..
شكل المستوطنون الجدد 13 مستعمرة بقيت تابعة للبلد الأم فترة من الزمن ما لبثت أن تمردت عليها في حرب استقلال بزعامة المتمرد جورج واشنطن.
وبعد تصفية السكان الأصليين (إنجاز مهمة القضاء على الآخر الذي يمكن أن يقاسمهم الثروة) عملوا على استقدام الأفارقة كعبيد للعمل في مزارعهم (بمعنى الإمعان في استغلال الطبيعة دون أية مقاومة من السكان الأصليين) هذا الاستغلال المزدوج: ـ للعبيد الذين أصبحوا أداة مجانية لجمع الثروة. ـ وللطبيعة الغنية.
أدى إلى قيام مزارع واقطاعات واسعة هيأت لقيام دولة ذات طابع قومي ـ تمايزي, وهو الهدف المباشر لأي سلطة تعبر عن ذاتها بالكم الذي تمكنت من جمعه وتراكمه, وبالتالي العمل على زيادته وترسيخه والدفاع عنه, وتطويع المجتمع تحت مسميات مختلفة ـ الوطنية والعدو غيرهما ـ كي تتمكن من امتصاص كمونه إلى أقصى حد. تمثلت نواة السلطة القمعية والناشئة بمجموعات رعاة البقر المسلحة (تشبه رعاة الماشية "الغنم والماعز" الرومان) في تحقيق التراكم الأولى عبر تدمير السكان الأصليين, واستعباد الزنوج, والإسراف في استغلال العبيد جاعلة منهم قطعاناً لتحقيق التوسع الضروري لتأمين احتياجات السادة الجدد "تقوم الإمبراطورية على بناء علاقات القوة الخاصة بها القائمة على الاستغلال"(3). ويتفق بوليبوس ومونتسكيو وغيبون بأن الإمبراطورية منذ نشأتها تكون فاسدة, ويقدم رعاة البقر هؤلاء نموذجاً صارخاً لسلطة ستعبر عن نفسها لاحقاً بوحشية لا مثيل لها في التاريخ البشري, مما دفع بمفكر مثل مايكل هاردت إلى إعلان (مواجهة الإمبراطورية بإمبراطورية مضادة)(4) وإن كنت ضد مثل هذا الطرح, لأنني ضد فكرة الصراع, لكن القراءة الخاطئة لمفهوم الصراع, يدفع بالمفكرين للبحث عن الخلاص من داخل الصراع ذاته, وهذا خطيئة كبرى تحتاج إلى مراجعة جدية وقراءة منطقية لما حدث ويحدث في واقعنا.
بين فساد الإمبراطورية ومواجهتها تبدو المجتمعات الإنسانية والطبيعة أعجز من احتمال الهزيمة, لأن نصر السلطة في النهاية مستحيل, ويقدم لنا التاريخ نماذج كثيرة لأنظمة إمبراطورية قد انهارت, ويمكن الاستفادة من تجاربها إلى أقصى حد واستخلاص العبر, وتقدم لنا واشنطن الآن إحدى هذه النماذج, خاصة بلغ الأمر بها حداً فاصلاً من التأزم علينا الانتباه إليه بجدية دون الانغماس في أية أوهام لابلاسية لفهم ما يدور حولنا, وعدم الانشغال كثيراً بالعنصرية الجديدة أو العنصرية التفاضلية كما عبر عنها إيتيان باليبار ونقل التمايز من البنية البيولوجية إلى البنية الثقافية, إذ توصلت القناعة لدى الأمريكيين بأن الله يحبهم ولا يحب غيرهم وبلغت هذه النسبة من البشر الذي يشعرون بالتمايز أو الذين تم أدلجتهم عرقياً إلى 80%, وهذه الأدلجة تخدم في النهاية المؤسسة الساعية لتحقيق بنية كونية خاضعة لها عبر الأسيجة لأملاكها مقابل فتح أسوار الآخرين عبر ضغوط جبارة ومدمرة في آن معاً (العولمة), وإن كانت الدولة تتعامل غريزياً مع مبدأ الاستحواذ, فإن التوسع في جوهره يستلزم الصراع وهو بالضرورة سبب جوهري لإنقاذ الحكم من الوقوع في الفساد حسب تعبير مونتسكيو, وهو سبب زوال السلطة بالتأكيد, إذْ لا يمكنها الاستمرار دون التوسع الذي يستلزم الصراع كما هو ضرورة لاستمرار الحكم, وفي روما القديمة, ما احتدم الخلاف حول الصراع بين التوسع أو اللاتوسع إلا وحسم لصالح التوسع, ويعرّف توماس جفرسون الحدود "بأنها كل عقبة أمام الحرية ويجب إزالتها" لتصبح الحرية (مذهب حقوق الإنسان) هي الأصولية ـ القومية ـ التمايزية والتي يُخاض باسمها التوسع, ويصبح السكان الأصليون طغاة وفق مفهوم الغزاة, ويُحول العبيد إلى سلع تباع وتشترى, ويقدر العبد بثمن زهيد يساوي ثلاثة أخماس الشخص الحر بشكل يكاد يكون التطبيق حرفياً لما مرت به التجربة الرومانية التي نعرف جيداً ما حدث لها, ثم ليتحول العالم بأسره إلى هدف تعمل على تطويعه وإخضاعه بما فيه الفضاء الخارجي (أقمار التجسس الاصطناعية).
تابعت التجربة الأمريكية خطاها مرغمَة نحو مرحلة لاحقة من تطور السلطة وفق تدرج تراكمي تمثل بمرحلة الإمبريالية (الإمبريالية الروزفلتيه) التي عملت على المزيد من تحطيم التوازن القائم ما بين الداخل والخارج في سبيل ترسيخ قيم التسليع والتهافت وراء الثروة, وتمكنت من تحقيق مكاسب مؤقتة بسبب إمكانية المجتمع والطبيعة على تحمل هذه الأعباء, وما دام الخارج (الطبيعة والمجتمع) قادراً على تلبية مطالب السلطة ستبقى موجودة, وتصرفاتها التي تعتبر مكاسب للمجتمع (كالنشاط البرلماني والرقابة المشروطة لسلوكها..) إلى حدٍ ما لا تُمس, وعندما يعجز هذا الخارج عن تلبية مطالبها, تكشف عن أنيابها عبر مؤسستها العسكرية وتبدأ بالتدمير الذي يتجلى بالاستحواذ إلى أقصى حد, دون أن يحقق لها المتوافر احتياجاتها, فتنهار وتموت أو تلجأ إلى افتعال أزمة تنقذها من ورطتها.
إن أية سلطة كبيرة كانت أم صغيرة تتشابه في جوهرها بغض النظر عن الهامش الذي تتنازل عنه للمجتمع من حريات وغيرها, ومن السهل ملاحظة التشابه الشديد في النشأة, ثم التطور اللاحق بين التجربتين الرومانية والأمريكية, وبدا هذا التماثل عندما انطلق النظام الناشىء التأسيس وفق المدرسة الرومانية التي ألهمته, وكانت مثاله الذي اقتدى به من خلال الممارسة الفعلية, واستقطب أيدلوجيا تلك المؤسسة بجعل السياسة حركية عبر المؤسسات البرلمانية: مجلس الشيوخ ومجلس النواب, هذه الحركية تُمثل فعلاً إنسانياً لائقاً للمجتمع البشري يحق له أن يعيش هذه الحرية التي صُودرت منه أصلاً وكان يتمتع بها قبل انطلاقة السلطة كمؤسسة تدير العلاقة بين المجتمع والتراكم ـ الثروة, وهنا تبقى هذه الحركية السياسية مصابة بالشلل كونها تعبر عن إرادة النخبة المتسلطة ولا تعبر عن المجتمع الخلاق الذي يستحق أكثر بكثير من لعبة (انتخابية) يدخل فيها شخصان يدفعان ما يقارب المليار دولار, يخسر واحد, ويجلس آخر على كرسي الحكم بفارق أصوات قليلة جداً, ثم تؤخذ الناس من أيديهم كي يصفقوا لهذا الإنجاز الحركي الذي هو في جوَهره روماني ـ سلطوي ـ اغتصابي. أما لعبة التوازن بين السلطات الثلاث: القضائية, النيابية, والتنفيذية, فلا تمثل إلا النخبة وأقل نقد لها يتمثل في ملفاتها السرية التي لا يمكن للمجتمع المشاركة بها. لا تزال السلطة في واشنطن تتباهى بإنجازها المتمثل في تجاوز أزماتها الجزئية وتمكنها من عبور مرحلة الإمبريالية بفوز كبير حققته من خلال جعل الخارج أكثر طاعة لها بعد الحرب الكونية الطاحنة (الثانية) وجعله أكثر خضوعاً من خلال وسيلتين: ـ المال ـ الدولارـ وربطه بالذهب في اتفاقية بريتون وودز. ـ السلاح ـ القنبلة الذرية ـ وترويع العالم بها.
يتبع ...............