د. مصطفى عبد الوارث
بتحقيق د.سليمان دنيا الأستاذ المساعد بكلية أصول الدين ج الأزهر صدرت عن هيئة قصور الثقافة (سلسلة الذخائر) طبعة جديدة من كتابىْ "تهافت الفلاسفة" لأبى حامد الغزالى (ت-505هـ) و"تهافت التهافت"، فى جزءين، لابن رشد (ت -595هـ) يفند فيه آراء الغزالى.فى بداية التهافت تناول المحقق الحياة الفكرية لأبى حامد، مبينا أنه ليصل إلى الحقيقة طرح من ميزانه كل ما سوى العقل والحواس، فلم ينته إلى يقين، وأنه طلب الحقيقة عند الفلاسفة فوجدهم مختلفين، ولا إتقان لمذهبهم عندهم؛ يحكمون بظن وتخمين، من غير تحقيق ولا يقين؛ فألف فى نقدهم وهدم مذاهبهم. ثم أدركته رحمة الله فاهتدى إلى أن العقل هو وحده سبيل العلم اليقينى.
يقول الغزالى فى سبب تأليفه "تهافت الفلاسفة" إنه رأى هذه الطائفة "يعتقدون فى أنفسهم التميز بمزيد الفطنة والذكاء، رفضوا وظائف الإسلام،.. ولم يقفوا عند توقيفاته وقيوده...فلما رأيت هذا...انتدبت لتحرير هذا الكتاب".
جاء التهافت فى أربع مقدمات، وعشرين مسألة فى الإلهيات والطبيعيات، وخاتمة قضى فيها بوضوح بتكفيرهم ومن يعتقد اعتقادهم.
فى المقدمة الأولى استدل الغزالى بمخالفة أرسطو أستاذه أفلاطون على بطلان مذهبهم، وأن كلام المترجمين عنهم لم ينج من تحريف وتبديل. وفى الثانية ذهب إلى أن الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمة والباطنية والمتصوفة ثلاثة أقسام. وفى الثالثة بين أن هدفه من كتابه هدم مزاعم الفلاسفة لا غير. وفى الرابعة فند ادعاءهم أن معرفة الرياضيات ضرورة لمعرفة العلوم الإلهية (الغامضة الخفية) التى تستعصى على الأفهام الذكية.
ومن المسائل العشرين: إبطال دعوييهم أزلية وأبدية العالم، ودعواهم أن الأول (الله تعالى) لا يعلم الجزئيات، وقولهم إن النفس جوهر قائم بنفسه ليس بجسم ولا عرض، وقولهم باستحالة الفناء على النفس البشرية، وإبطال إنكارهم بعث الأجساد.
وفى "تهافت التهافت" يرد ابن رشد اتهامات الغزالى مبينا قصور أكثر أقاويله عن رتبة اليقين والإقناع، فيتناول المسائل العشرين بالتفنيد، ونكتفى بأمثلة: فى مسألة "قدم العالم" رد على اعتراض الغزالى على أدلة الفلاسفة أربعة ردود،. وفى مسألة "أبدية العالم" يرى أن كتاب الغزالى كان ينبغى أن يسمى "تهافت أبى حامد".
وفى المسألة الثالثة أشار إلى أن مقصوده ذكر شيء مما حكاه أبو حامد عن الفلاسفة وتبين مرتبته من الحق، ففى رأى الغزالى فى نظريتهم فى نشأة العقول والنفوس عن المبدأ الأول أنها "تحكمات، وهو على التحقيق ظلمات فوق ظلمات، لو..أورد جنسه فى الفقهيات...لقيل إنها ترهات لا تفيد غلبة الظنون" قال ابن رشد إنه "لا يبعد أن يعرض مثل هذا للجهال مع العلماء، وللجمهور مع الخواص"، وإن "أمثال هذه الأقوال لاينبغى أن تتلقى بها آراء العلماء وأهل النظر"، وإنه "كان الواجب...أن يذكر الآراء التى حركتهم إلى هذه الأشياء حتى يقايس السامع بينها وبين الأقاويل التى يروم هو إبطالها".
وفى مسألة عجز الفلاسفة عن الاستدلال على وجود صانع العالم لأن مذهبهم بوضعه متناقض؛ رد ابن رشد شارحا "أن مذهب الفلاسفة فى إثبات وجود الله أقرب إلى العقل من مذهب أهل السنة ومذهب الدهرية"، ولكنه يوافق الغزالى رأيه فى عجزهم عن إقامة الدليل على أن الله واحد، وأنه لا يجوز فرض اثنين واجبى الوجود ، كل واحد منهما لا علة له؛ يقول موافقا : "هذا المسلك فى التوحيد..انفرد به ابن سينا، وليس مسلكا لأحد من قدماء الفلاسفة".
وفى قولهم إن وجود الأول بسيط، ولا ماهية ولا حقيقة يضاف الوجود إليه، رد ابن رشد على قول الغزالى متسائلا: "بم عرفتم ذلك..أبضرورة العقل أم بنظره؟" بأنه :"إن دل الوجود على معنى زائد على الذات فعلى معنى ذهنى ليس له خارج النفس وجود"، ثم ينتقد ابن سينا ههنا انتقادا مرا فى تقسيمه الواجب إلى واجب بالذات وواجب بالغير.
وفى الطبيعيات يرد ابن رشد على مخالفة الغزالى رأى الفلاسفة فى نظرية السببية بأن إنكار وجود الأسباب الفاعلة التى تشاهد فى المحسوسات قول سفسطائى، وأن المتكلم بذلك إما جاحد بلسانه لما فى جَنانه، وإما منقاد لشبهة...ومن ينفى ذلك لا يعترف أن كل فعل لابد له من فاعل.
وفى اعتراضه على دعواهم معرفة كون النفس الإنسانية جوهرا قائما بنفسه ببراهين العقل، وإنكاره دعواهم دلالة مجرد العقل عليه، والاستغناء عن الشرع فيه، يدفع ابن رشد بما نختار منه قوله: "وأما أبو حامد فلما أخذ النوع الواحد من نوعى الانقسام ونفاه عن المعقولات كلية،عاند بالقسم الثانى الموجود فى قوة البصر، وقوة التخيل، فاستعمل فى ذلك قولا سفسطائيا. وعلم النفس أغمض وأشرف من أن يدرك بصناعة الجدل.ومع هذا فإنه لم يأت برهان ابن سينان على وجهه". وفى زعمه أنهم ينكرون حشر الأجساد يرد عليه ابن رشد أنه لم يقل بذلك أحد ممن تقدم (من الفلاسفة).
فى بداية " تهافت التهافت " عرف المحقق بابن رشد تعريفا وافيا...وبين أنه أراد بكتابه بيان تناقض أفكار الغزالى، ففى تعليقه على نقده لرأى الفلاسفة فى كيفية علم الله يقول :الكلام فى علم البارى سبحانه بذاته وبغيره مما يحرم على طريق الجدال فى حال المناظرة فضلا عن أن يثبت فى كتاب.
كما حرص فى صدر الكتاب أيضا على بيان التقارب الفكرى بين الغزالى وابن رشد رغم الخلاف الظاهر فى عنوانى كتابيهما، وهى نقطة تستحق التوقف والتأمل.
وأخيرا يبقى واجبا التنويه بالجهد الذى بذله المحقق لإخراج الكتابين على هذا النحو من الوضوح والبيان، قاصدا فى الأول التعريف الصحيح بالغزالى، والمساعدة على فهم اتجاهاته الفكرية التى ظلت مجهولة عنه - برأيه - طوال حقب سحيقة، والتعريف بكتابه. وحسبه أن أشير هنا إلى قوله عنه فى هامش ص311: "هذا هو الغزالى فى كتابه التهافت متزمت متشدد، وهذا هو الغزالى فى كتاب "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" سمح سهل
عن الاهرام