أصل كلمة العلمانية ومرجعيتها في العصور الوسطى عن قصة الحضارة لول ديورنت
كان الناس في حديثهم العادي في العصور الوسطى يقسمون الخلق طبقتين : طبقة رجال الدين وطبقة "رجال الدنيا" وكان الراهب من رجال الدين وكانت الراهبة من نسائه، ومن الرهبان من كانوا أيضاً قسيسين وهؤلاء يكونون "رجال الدين النظاميين" أي رجال الدين الذين يتبعون قانون الأديرة (regula)، أما غيرهم من رجال الدين فكانوا يسمون "دنيويين" أي يعيشون في الدنيا (saeculum)، وكانت طبقات رجال الدين جميعها تمتاز من غيرها بحلق قمة الرأس وبأن يلبس أفرادها مئزراً طويلاً ذا لون واحد أي كان. ما عدا اللونين الأحمر والأخضر، تضمه أزرار بطوله كله من الرأس إلى القدمين. ولم يكن لفظ رجال الدين يطلق على من كان منهم في "الدرجات الصغرى" فحسب ـ أي بوابي الكنائس، وقارئي الصلوات،، وقارئي الرقى، والسدنة- بل كان يطلق كذلك على جميع طلبة الدين ومدرسيه في الجامعات، وعلى كل من حلقوا قمة رؤوسهم- أي دخلوا في زمرة رجال الدين - وهم طلاب ثم أصبحوا فيما بعد أطباء أو محامين، أو فنانين، أو مؤلفين، أو اشتغلوا محاسبين أو مساعدين لرجال الأدب. وهذا هو السبب الذي من أجله ضاق معنى لفظي Clerical، Clerk فصارا "كتابياً" و "كاتباً". وكان يسمح لرجال الدين من غير الطبقات العليا أن يتزوجوا وأن يشتغلوا بأية مهنة محترمة، ولم يكونوا يلزمون بأن يظلوا مستمسكين بعادة حلق قمم رؤوسهم. منها، وقد أغلق أمام أفرادها بوجه عام باب الزواج بعد القرن الحادي عشر، ولكن لدينا شواهد تدل على أن بعض القساوسة اللاتين بعد أيام جريجوري السابع كانوا يتخذون لهم أزواجاً أو خليلات(110)، غير أن هذه الحالات أخذت تقل شيئاً فشيئاً حتى كانت من الحالات الشاذة النادرة ، وكان على قس الأسقفية أن يقنع بالمتع الروحية. وإذا كانت حدود الأسقفية تتفق في العادة مع حدود الضيعة أو القرية، فإن مالك الضيعة كان في أغلب الأحوال هو الذي يعين القس(111) بالاشتراك مع الأسقف. وقلما كان هذا القس ممن نالوا قسطاً موفوراً من التعليم، وسبب ذلك أن التعليم الجامعي كان وقتئذ كبير النفقة، وأن الكتب كانت نادرة، ولهذا كان يكفيه أن يعرف كيف يقرأ الصلوات والقداس، ويقوم بتقديم العشاء الرباني وتنظيم شؤون العبادة والصدقات في الأسقفية. ولم يكن في كثير من الحالات أكثر من مساعد أو نائب يستأجره قس أكبر منه ليؤدي الخدمات الدينية في الأسقفية نظير ربع دخله من معاشه. وكان في مقدور القس الكبير بهذه الطريقة أن يكون له معاش من أربع أبرشيات أو خمسٍ،أما قس الأبرشية فكان يحيا حياة الفقر والمذلة(112)، يعتصر دله من "رسوم المذبح" أو التعميد أو عقود الزواج، أو الدفن، أو قراءة القداس للموتى. وكان في بعض الأحيان ينحاز إلى جانب الفقراء في حرب الطبقات، كما فعل جون بول John Ball(113)، ولم يكن مستواه الخلقي يضارع مستوى قس هذه الأيام الذي سما إلى ما سما إليه بفضل المنافسة الدينية، ولكنه كان وجه عام يقوم بعمله صابراً حريصاً على إطاعة نداء الضمير وواجب الشفقة والرحمة. فكان يعود المرضى، ويواسي المحرومين، ويعلم الشباب، ويلوك صلواته، ويبث في الأهلين الغلاظ الشداد شيئاً من التحضر والخلق الطيب. ويقول أقسى ناقدي هذه الطائفة إن كثيرين من قساوسة الأبرشيات "كانوا ممن لا غنى عنهم في هذا العالم"(114)، وقال عنهم لكي Lecky المتحرر من قيود الدين : "ليس ثمة طائفة غيرهم أظهرت ما أظهروه هم من غيرة جامعة مجردة من الانهماك في متاع الدنيا، لا يثنيها عن هدفها مصالحها الشخصية، يضحي أفرادها في سبيل الواجب المفروض عليهم أعز ما في العالم من متاع، ويواجهون جميع الصعاب أياً كان نوعها وألوان العذاب والموت ببسالة لا تتزعزع ولا تلين"(115).
وكان للقساوسة والأساقفة يؤلفون فيما بينهم طبقة رجال الكهنوت. فأما الأسقف فكان قساً اختير ليؤلف من عدة أبرشيات وعدد من القساوسة أسقفية واحدة وكان الذين يختارونه لهذا المنصب من الوجهة النظرية وفي بداية الأمر هم القساوسة والشعب، ولكن الذي يرشحه لمنصبه عادة قبل أيام جريجوري السابع هو البارون أو الملك، وكان يختاره بعد عام 1215 كهنة الكنيسة الكبرى بالاشتراك مع البابا نفسه. وكان يعهد إليه بكثير من الشؤون الدنيوية والكنيسة، كما كانت محكمته الأسقفية تنظر في بعض القضايا المدنية وفي جميع القضايا التي تمس رجال الدين على اختلاف طبقاتهم. وكان من حقه
صفحة رقم : 5643
أن يعين القساوسة ويفصلهم، ولكن سلطته على الأديرة ورؤسائها في أسقفيته نقصت في الوقت الذي نتحدث عنه لان البابوات أخضعوا طبقات الرهبان لسلطانهم المباشر لخوفهم من سلطان الأساقفة. وكان إيراد الأسقف يأتي بعضه من الأبرشيات التابعة له، ولكن معظمه كان يأتيه من الضياع التابعة لكرسيه، وكان في بعض الأحيان يعطي إحدى الأبرشيات من المال أكثر مما يأخذ منها. وكان المتقدمون لشغل مناصب الأساقفة يتعهدون عادة بأن يؤدوا - للملك أولاً ثم للبابا فيما بعد- قدراً من المال نظير ترشيحهم، وكانوا بوصفهم حكاماً دنيويين يطرأ عليهم ما يطرأ على غيرهم من ميل لتعيين أقاربهم في المناصب ذات الإيراد المجزي- وكان مما يشكو منه البابا إسكندر الثالث أنه "لما حرم الله الأساقفة من الأبناء وهبهم الشيطان أبناء الإخوة والأخوات"(116). وكان كثيرون من الأساقفة يحيون الحياة المترفة، التي تليق بالسادة الإقطاعيين. ولكن كثيرين منهم كانوا يهبون أنفسهم لواجباتهم الروحية والإدارية. ولقد كان أساقفة أوروبا، بعد أن اصلح ليو التاسع نظام الأسقفيات، خير الطوائف كلها في العصور الوسطى من الناحيتين العقلية والخلقية.
وكان يرأس أساقفة كل إقليم كبير الأساقفة أو المطران، وكان له هو وحدة حق دعوة مجلس الكنيسة الإقليمي ورياسته. وكان بعض كبار الأساقفة، بما أوتوا من قوة في الخلق أو سعة في الثراء، يسيطرون على حياة أقاليمهم من نواحيها كلها تقريباً وكان كبار أساقفة مدن همبرج، وبرمن، وكولوني، وتريير، ومينز، ومجد برج، وسلزبرج الألمانية من السادة الإقطاعيين الأقوياء، يختارهم الأباطرة في كثير من الأحيان لتصريف شؤون الإمبراطورية أو ليكونوا لهم سفراء أو مستشارين. وكذلك أضطلع كبار أساقفة ريمس، ورون، وكنتربري، يمثل هذا الواجب الخطير في فرنسا، وتورمندية، وإنجلترا. ومن كبار الأساقفة- في
صفحة رقم : 5644طليطلة، وليوان، ونربوته، وريمس، وكولوني، وكنتربري - من أصبحوا "رؤساء" كباراً ذوي سلطان غير منازع على جميع رجال الدين في أقاليمهم، وكان كبار الأساقفة يجتمعون في مجلس تتألف منه من حين إلى حين حكومة نيابية للكنيسة. وكانت هذه المجالس في العهود المتأخرة تدعى لنفسها سلطات تعلو على سلطات البابا، أما في العصر الذي نتحدث عنه، عصر أعظم البابوات، فلم يكن أحد في أوروبا الغربية ينازع سلطان أسقف روما سلطاته العليا الدينية والروحية. وكانت فضائل ليو التاسع وهلد براند قد كفرت عن فضائح القرن العاشر، كما أخذ سلطان البابوية ينمو بين صروف القرن الثاني عشر المتقلبة وكفاحه نمواً مكن إنوسنت الثالث من أن يدعي أن هذا السلطان يمتد إلى جميع بقاع الأرض. فقد كان الملوك والأباطرة يمسكون بركاب خادم خدم الله، ذي الثياب البيض، ويقبلون قدميه. وأضحى منصب البابوية في ذلك الوقت أسمى ما يطمع فيه إنسان على ظهر الأرض، فكانت أذكى العقول وقتئذ تتهيأ في أشد مدارس اللاهوت والقانون صرامة لتشغل فيما بعد مكاناً بين رجال الكنيسة. وكان الذين يرقون منهم إلى الذروة رجالاً من ذوي العقول الجبارة والقلوب الباسلة لا يخشون أن يحكموا قارة بأجمعها، وقلما كان موت الواحد منهم يثني غيره عن مواصلة السياسة التي وضعها هؤلاء الرجال هم ومجالسهم، فلقد أتم إنوسنت الثالث ما لم يتمه جريجوري السابع، وفاز إنوسنت الرابع والإسكندر الرابع بالنصر في الكفاح الذي قام به إنوسنت الثالث وجريجوري التاسع ضد الأباطرة الذين أرادوا تضييق سلطان البابوية.
وكان سلطان البابا يؤول إليه من الوجهة النظرية من الحقوق التي منحها المسيح الحواريين. وكانت حكومة الكنيسة بهذا المعنى حكومة دينية - أي حكومة الشعب، عن طريق الدين، على أيدي خلفاء الله في الأرض. لكن الكنيسة كانت بمعنى آخر حكومة ديمقراطية : فقد كان في وسع أي إنسان في
صفحة رقم : 5645


العالم المسيحي، عدا المصابين في عقولهم أو أجسامهم، والمحكوم عليهم في جرائم ارتكبوها، والمطرودين من حظيرة الدين ؛ والأرقاء - كان في وسع أي إنسان عدا هؤلاء أن يختار قساً أو بابا. وكان الأغنياء في هذا المجال، كالأغنياء في كل مجال سواه، تتاح لهم فرص أكثر من غيرهم لأن يعدوا أنفسهم لتسلم درجات هذا السلم الديني الكثيرة، غير أن الباب كان مفتوحاً لجميع الناس على السواء، وكانت المواهب العقلية، لا الآباء والجدود، هي التي يعتمد عليها النجاح في أكثر الأحيان. وقد خرج مئات من الأساقفة وعدد كبير من البابوات من بين صفوف الطبقة الفقيرة(117) وكان سريان هذا الدم الجديد من جميع الطبقات في طوائف رجال الدين بمثابة غذاء مستمر لعقولهم، وقد "ظل عصوراً طوالاً الاعتراف العملي الوحيد بمساواة الناس بعضهم بعضاً" .
ولقد مر بنا أن حق اختيار البابا قد اقتصر على "الأساقفة الكرادلة" المقيمين في روما، ثم زيد عدد هؤلاء الكرادلة السبعة تدريجاً بمن ضمهم البابوات إليهم من أمم مختلفة، حتى أضحوا كلية مقدسة مؤلفة من سبعين عضواً يمتازون من غيرهم بقلانسهم الحمراء ومآزرهم الأرجوانية، وأضحوا طبقة جديدة في سلم الدرجات الدينية لا يعلو عليهم إلا البابا نفسه.
صفحة رقم : 5646



وكان البابا يحكم دولة روحية بلغت في القرن الثالث عشر ذروة مجدها ويساعده في حكمها أولئك الرجال وطائفة كبيرة من رجال الكنيسة وغيرهم من الموظفين يؤلفون جميعاً "الكوريا" Curia أو المحكمة التنفيذية والقضائية. وكان من حقه وحده أن يدعو للانعقاد مجلساً عاماً من الأساقفة، ولم يكن لما يصدرونه من الشرائع أية قوة إلا إذا صدق عليه البابا بمرسوم من قبله وكان له الحرية المطلقة في تفسير قانون الكنيسة ؛ وإعادة النظر فيه، وتوسيعه، وإعفاء من يرى إعفاءه من قواعده. وكان هو المحكمة العليا التي تستأنف إليها أحكام محاكم الأسقفيات، وكان هو وحده الذي يستطيع أن يغفر بعض الذنوب الخطيرة أو يصدر صكوك الغفران الكبرى، أو يسلك شخصاً في زمرة القديسين. وكان على جميع القساوسة بعد عام 1059 أن يقسموا يمين الطاعة له، وأن يقبلوا رقابة مندوبي البابا على شؤونهم. وكانت جزائر مثل سردينيا وصقلية، وأمم كالإنجليز، والمجر، وأسبان تعترف بأنه سيدها الإقطاعي وترسل إليه الجزية، وكان في وسعه أن يرقب بعينية ويحرك بيديه كل جزء من أجزاء مملكته عن طريق الأساقفة، والقساوسة، والرهبان، المنبثين في كل مكان، فقد كان هؤلاء يكونون هيئة للمخابرات والإدارة لا نظير لها في أية دولة من الدول. وهكذا عاد إلى روما شيئاً فشيئاً، بدهاء بابواتها، ما كان لها من سلطان على أوروبا معتمدة على ما كان لكلمة الدين من قوة عجيبة.