عرف العرب قصّة الخبر، وقد حوت كتب التراث كماً هائلاً من الأخبار وهذه الأخبار حوت في صياغتها فنيات تختص بها القصّة العربية وهي البساطة التي نهجتها أغلب أنواع القصّة ، و شروط القصّة العربية هي " البساطة ، والواقعية ، والحيوية ، كانت ألزم صفات الأقاصيص العربية ، توشك ألا تجد راوية أو أعرابياً يقص على الناس دون أن تكون هذه الظواهر أبرز معالم حديثه ، سواء أكان يحدث الناس بأيام العرب ومشاهد الأبطال أم بمصارع العشاق وفتكات اللصوص. والأمثلة على هذا مستفيضة في بطون الكتب ." ([1])
ولنعرض الخبر التالي الذي حمل العنوان التالي :
أبو حنيفة يرعى الجوار
" كان لأبي حنيفة جار بالكوفة يغني في غرفته ، ويسمع أبو حنيفة غناءه ، فيعجبه ، وكان كثيراً ما يغني :
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
فلقيه العسس ليلة فأخذوه ، وحبس ، ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة ، فسأل عنه من غد فأخبر ، فدعا بسواده وطويلته(عمامته) فلبسهما ، وركب إلى عيسى بن موسى، فقال له: إن لي جاراً أخذه عسسك البارحة فحبس ، وما علمت منه إلا خيراً.
فقال عيسى : سلموا إلى أبي حنيفة كل من أخذه العسس البارحة.
فأطلِقوا جميعاً ، فلما خرج الفتى دعا به أبو حنيفة ، وقال له سراً : ألست كنت تغني يا فتى كل ليلة:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
فهل أضعناك ؟
قال : لا والله ، ولكني أحسنت وتكرمت ، أحسن الله جزاءك .
قال : فعد إلى ما كنت تغني ، فإني كنت آنس به ، ولم أر به بأساً.
قال : أفعل ." ([2])
وهذا الخبر على بساطته يعرض فنية الاستهلال عبر البيت الشعري " أضاعوني وأي .." كما أنه ينهيها به بقول أبي حنيفة : هل أضعناك.
وقالب القصّة الفني يقتضي انتهاء القصّة بقول الرجل : لا والله لكنك أحسنت وتكرمت، ولعل هذه الإضافة الأخيرة وهي " قال : فعد إلى ما كنت تغني ، فإني كنت آنس به ، ولم أر به بأساً." هي من إضافة ناقل الخبر ، ومتن الخبر واستهلاله يشرح أن تعاطف الإمام كان تحريكاً من تذكره لكلمة " أضاعوني" فهي الاستهلال الدال المحرك ، وليست من أنس الإمام وما يوضح ذلك سوء المقطع - على حد قول العتابي في العمدة باب المطالع والمقاطع ؛البلاغة :كل كلام أفهمك صاحبه حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة - ، ومقطع الخبر لم يكن بليغاً وفيه من الاستعانة ما يفسد البناء الفني ، بقوله ( قال : فعد إلى ما كنت تغني ، فإني كنت آنس به ، ولم أر به بأساً)
فهذه الاستعانة من ناقل الخبر لإفهامنا أن الغناء لا بأس به ، أظهرت زيادته للخبر، خاصة لو علمنا أن هذا الخبر له صياغة أخرى فقد وردت لدى ابن خلكان في وفيات الأعيان،وهي لا تحوي مقطع هذا الخبر.
جاء في وفيات الأعيان :
"وقال عبد الله بن رجاء كان لأبي حنيفة جار بالكوفة إسكاف يعمل نهاره أجمع حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحماً فطبخه أو سمكة فيشويها ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غرد بصوت وهو يقول ( أضاعوني وأي فتى أضاعوا * ليوم كريهة وسداد ثغر ) فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم وكان أبو حنيفة يسمع جلبته كل ليلة وأبو حنيفة كان يصلي الليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه فقيل أخذه العسس منذ ليال وهو محبوس فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد وركب بغلته واستأذن على الأمير فقال الأمير ايذنوا له وأقبلوا به راكباً ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط ببغلته ففعل ولم يزل الأمير يوسع له في مجلسه وقال ما حاجتك فقال لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ليال يأمر الأمير بتخليته، فقال نعم وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا فأمر بتخليتهم أجمعين فركب أبو حنيفة والإسكاف يمشي وراءه فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه وقال يا فتى أضعناك؟ فقال لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيراً عن حرمة الجوار ورعاية الحق. وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان عليه ." ([3])
هذه هي القصّة كاملة كما رواها ابن خلكان توضح ما ذهبنا إليه ، فقد ساهمت علاقات البلاغة الفنية في كشف إضافات الراوي للخبر ، كيف لا وقد عرفنا أن الخبر الأول الذي ورد في كتاب د. طه وادي (القصّة ديوان العرب ) وقد استقاه من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني ، والأغاني وصاحبه فيهما ما فيهما ونضيف على ذلك أمراً من خلال المقارنة بين سند الخبرين أن أبا فرج الأصفهاني قد أضاف كلمة لاستهلال الخبر وهي " ويسمع أبو حنيفة غناءه ، فيعجبه" وهي لم ترد في الخبر الثاني، كذلك أضاف اسم الأمير وهو "عيسى بن موسى" وهذا إيهام بواقعية القصّة ، والذي لم تهتم به القصّة الثانية لأنها جاءت عفوية في سردها، ناهيك عن وحدة الأثر فأحد شروط القصّة الأساسية كما طرحنا، هو وحدة الأثر، فالخبر الثاني له أثر واحد وينتهي بقفلة رائعة وهي توبة الرجل الذي تأثر من صنيع الإمام أبي حنيفة رغم أنه كان يؤذيه ، لكن أخلاق الفرسان تأبى إلا أن تظهر في تصرف الإمام حيث يعد وجدانه هو القانون الحاكم في المجتمع ، ويأبى حين انتصر له قانون الأمير إلا أن يحفظ حق الجوار حتى ولو أساء له جاره ، وكانت الكلمة المفتاح في الخبر هي كلمة " أضاعوني" -وهي تعد مصغرة-، التي قضت مضجع شريعة أبي حنيفة فاستنصر بقانونه على قانون الأمير فكانت قفلة القصّة استنصاراً فنياً لشهامته وأثراً بليغاً في كل صدر سمع هذه القصّة إلى يومنا هذا، أما خبر الأصفهاني فواضح الارتباك الفني ذلك أنه ذكر إعجاب أبي حنيفة بغناء الرجل في الاستهلال، ثم عاد وكرر ذلك في الختام ، و ذلك يعد " استعانة" فاستنصار أبي حنيفة في قصّة الأصفهاني كان ناقص الفنية، وقد غيب الأصفهاني المفارقة الحقيقة ، وإيذاء الرجل لأبي حنيفة بقوله فكان يأنس لصوته، فضعف حبكة القصّة لغرض في نفس يعقوب ، وهذه النتيجة تدفعنا إلى مسرب آخر لدراسة فنية توضح تدخل الأصفهاني في صياغة أخبار الأغاني ، ولم نكن نقصد الوصول إلى هنا ، لكنه الاستهلال قد أوصلنا ،وهذا دليل أن الاستهلال يتعلق أيما تعلق بالخاتمة أو المقطع ، وحين نلمح اختلافاً في البناء نعرف خللاً في الفنية وهذا ما كان.
([1]) فن القصّة والمقامة : جميل سلطان ، ص 18.
([2])القصة ديوان العرب : ص 42 .
([3]) وفيات الأعيان، ج 7 ،ص 128.
----------
من كتاب الاستهلال في القصة