الدول القومية وعصر التبدلات العميقة
ما لا يعرفه الناس أن الدول القومية تتفكك واحدة تلو الأخرى
وأننا في طور التحول نحو منظومة جديدة لتشكيل الدول
وجود أمثلة لدول قومية لم تتفكك بعد لا يعني نجاح منظومتها، فهي لم تتعرض بعض للصدمات وربما لما يأتي دورها في التفكيك
منذ بداية تشكل الدول القومية على غرار الدول الأوربية وفق نظرية رينان ، قامت العلمانية الغربية باستبدال الهوية الدينية بالهوية القومية على أساس اللغة والجغرافيا وتم استبعاد الدين
لكن أوربا لم تتنصل كلياً من الدين بل أخذت من الدين وفق هواها، وبقيت قضية الأخلاق لمن تمسك بها تستمد من الدين المسيحي
بعيد العولمة شعرت أوربا بالخطر واستشعرت ضعف هويتها ، وهناك من بشر بأسلمة أوربا أو أفرقتها خلال عقود من الزمن إذا بقيت نسب الهجرة كما هي وبقيت أوربا تتمسك بهويتها القومية، ولذلك نشهد عودة للدين في أوربا قد لا يكون حباً في الدين إنما حباً في هوية متماسكة أمام عاصفة العولمة
الحروب المتوالية شكلت ردة دينية في المنطقة بغض النظر عن تبني أو رفض الأنظمة الرسمية للهوية الدينية
مع تحقيق المقاومة العراقية والفلسطينية واللبنانية انتصارات ملموسة ضد أمريكا وضد الإسرائيل
فإن الشعوب تلمست بصيص نور ورفع معنويات ونهضة إسلامية على الصعيد الشعبي
ربما تخلفت الأنظمة الرسمية عن إدراك هذا التحول العميق
لكن أمريكا أدركته تماماً
فتراكم الانتصارات شكل بداية لزلزال يهدد النظمة القومية التي ورثناها بعيد الاستعمار القديم والتي تشكلت وفق هوى أوربا
فكان الربيع العربي حالة طبيعية لواقع هش
لكن هذه الثورات كان يجب أن تقاد من قبل الأنظمة الحاكمة التي قصرت في فهم طبيعة الأشياء وعمق التحولات في المنطقة
فاستثمر العقل الغربي بخبثه وأدواته هذ التحول ليحوله لصدام وفوضى عمت المنطقة
حتى هذه الفوضى لم يكن لها حل إلا بالعودة للهوية الدينية والدولة الجديدة
لكن ما حدث وما يخشى منه هو العودة للهوية الطائفية للدول بدل العودة للهوية الإسلامية الجامعة لكل المكونات والطوائف
فالنخب العلمانية حين حوصرت رفعت فجأة شعارات طائفية
فإذا كان الآخر غير علماني وتمذهب، فلماذا تمذهبت النخب العلمانية ؟؟
التمذهب كان حاجة وجودية حين اكتشفت هذه النخب حقيقة وهن بيت العلمانية وهم لا يزالون بعد يعاندون الهوية الدينية الإسلامية ظناً من كل طائفة أنها ستتنازل للطائفة الأخرة من جهة ، وظناً من النخب الليبرالية الشبابية خاصة أنها ستخسر حريات فردية تعدها فترة ذهبية ولا ترى بديلا عنها.
هذا الاتفاق والمنجز السياسي حتمية لا بد منها بين الطوائف من جهة والنظم السياسية من جهة أخرى، عقلية الربح للجميع يجب أن تسود في المنطقة لنحقق الدولة الجديدة القادمة.
ولكون العقل الغربي يدرك أهمية استبدال الهوية الطائفية بالهوية الإسلامية ، فكان لا بد من تهجير مسيحي الشرق لتكتمل هذه اللعبة للتحضير لحروب مذهبية بين دول مذهبية وربما قضية الدولة اليهودية هي قضية ثانوية أمام الحروب التي تحضر والتي نراها شكلاً منها أمام حرب السعودية ضد اليمن
فالحرب أخذت بعداً طائفيا واضحاً
فالقنوات السعودية ومن خلفها المخابرات البريطانية تحول الصراع لحرب مذهبية بين السنة والشيعة
وهو ما يثير غرائزية العوام لندخل عصر الحروب الطائفية التي لا تبقي ولا تذر
وهو استنساخ من قبل العقل الغربي لماضيه في الحروب الأهلية، فحرب الثلاثين عاماً في فرنسا كانت بين الكاثوليك وبين البروستانت
ورغم أنها كانت حرب سياسية وغايتها الحكم والدليل أن الملك هنري قلب مذهبه للكاثوليكية حين أدرك أن بهذه الطريقة يمكنه حكم فرنسا لكن التوظيف كان دينياً طائفياً
العودة للهوية الدينية لا يعني دولاً وأنظمة دينية، الهوية الدينية يعني توجيه العصبية ضد الخارج وهذا ما يريده الغرب ، لذلك يحول الهوية لمذهبية ليتحول الصراعي لشكل بيني. وقد يحوله لاحقاً قومي في مناطق أخرى بحسب الحاجة .
الهوية الدينية للبلاد العربية شىء والنظام السياسي شيء آخر
الفصل بين الاختصاصات الدينية والسياسية حاجة ملحة
والفصل بين المذهبية والدولة حاجة ملحة كذلك
وهذا بحاجة لتنظير وفهم عميق للتغيرات القادمة وكلما أسعر الساسة بفهم التغيرات الحقيقية للمنطقة قصر عمر الفوضى.
طارق شفيق حقي
الدول القومية وعصر التبدلات العميقة
تقليص
X
تقليص