لزوم ما لا يلزم
هذا الشبل من ذاك الأسد
أن تلزم نفسك بما لا يلزمها ليست قضية ترف ،إنها رتبة لا يصلها إلا أهلها.
استطاع الإمام البوطي رحمه الله شهيد المحراب أن يتقدم على جل العلماء بأخذ الموقف فلماذا ألزم البوطي نفسه ما لم يلزم عالم آخر نفسه به ؟
ونحن هنا لن نتكلم على العلماء والدعاة الذين كانوا مساندين لأعداء الشام، بل نتكلم عمن تقاعس وظن أن اشتغاله الديني يمنعه عن أخذ موقف سياسي.
ومهمة العلم ومهمة العلماء والعقلاء الاستفادة من الماضي لا عقد المحاكمات والاستفادة من الدروس.
والسؤال المطروح وسيبقى محط درس عميق وبحث مرجعية البوطي العقلية وفي العلماء والكتب والمنهج الذي أثر في العالم البوطي ليستحق هذه المرتبة .
كما لا بد من دراسة العوامل التي ساهمت في تقاعس غيره وأخذهم الحياد.
لا شك يمكننا ذكر الكثير من العوامل كتجربة الجزائر وموقف العلامة البوطي منها وأحداث الثمانيات ومواقف بعض علماء الشام.
لكن أقف هنا عند أهم نقاط التأثير في الإمام البوطي وهو الإمام أبو حامد الغزالي.
مما لا شك فيه أن مهمة العلماء مهمة روحية اصلاحية تقوم على اصلاح مادة الإنسان وتأهيلها لتجارب الحياة وليس الدخول في تفاصيل الحياة كما يفعل السياسي.
لكن الغزالي رحمه الله ألزم نفسه لزوم ما لا يلزم
ورغم أن الإسلام صريح في قضية الخروج على الحاكم في حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو حديث متواتر، والمتواتر أعلى دراجات الحديث .
في النهي عن الخروج على الحاكم إلا لو ظهر من الكفر البواح.
لكن شهد التاريخ الإسلامي أي تاريخ المسلمين مختلف انواع الفتن السياسية والتي لا زالت ليومنا وستبقى إلى يوم القيامة .
يقول الإمام الغزالي عن أهمية علاقة الدين بالحاكم وأهمية الأمن وعلاقة الدين بالدنيا ، وهذا الكلام لعالم مجتهد يدفع عالم الدين لتبيان أهمية الدنيا وأمورها ومنها الولاية ليقوم الدين ويستقيم يقول الإمام الغزالي في الإمامة ،وهذا المنهج وهذا الطرح بنى عليه فلاسفة الغرب فلسفاتهم العلمانية وأهمية الدين للدولة وأهمية الدولة للدين وما فصل الاختصاصات وحرية المعتقد التي هي جوهر العلمانية في الغرب إلا منتج عربي إسلامي بامتياز وهذا بعضه ، و من تابع ما كتبناه عن مصطلح العلمانية الشائك يدرك رأينا فيه ، فنحن مع تفكيكه وأخذ الجوهر الصالح لهويتنا وبلادنا وهو جوهر يتفق مع الدين الإسلامي وتعاليمه بل ما نذهب إليه أن لولا اجتهادات العلماء العرب لما وصل الغرب لما هو عليه .
يقول الإمام الغزالي عن الإمامة متوسلاً بأدوات عقلية منطقية :

عند ذلك لا ينكر وجوب نصب الإمام لما فيه من الفوائد ودفع المضار في الدنيا، ولكنا نقيم البرهان القطعي الشرعي على وجوبه ولسنا نكتفي بما فيه من إجماع الأمة، بل ننبه على مستند الإجماع ونقول:
نظام أمر الدين مقصود لصاحب الشرع عليه السلام قطعاً، وهذه مقدمة قطعية لا يتصور النزاع فيها، ونضيف إليها مقدمة أخرى وهو أنه لا يحصل نظام الدين إلا بإمام مطاع فيحصل من المقدمتين صحة الدعوى وهو وجوب نصب الإمام.

فإن قيل: المقدمة الأخيرة غير مسلمة وهو أن نظام الدين لا يحصل إلا بإمام مطاع، فدلوا عليها.
فنقول: البرهان عيه أن:
================
((((نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع))))
================
، فهاتان مقدمتان ففي أيهما النزاع ؟
فإن قيل لم قلتم إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، بل لا يحصل إلا بخراب الدنيا، فإن الدين والدنيا ضدان والاشتغال بعمارة أحدهما خراب الآخر، قلنا:

(((( هذا كلام من لا يفهم ما نريده بالدنيا الآن، فإنه لفظ مشترك قد يطلق على فضول التنعم والتلذذ والزيادة على الحاجة والضرورة، وقد يطلق على جميع ما هو محتاج إليه قبل الموت)))).

((((وأحدهما ضد الدين والآخر شرطه)))، وهكذا يغلط من لا يميز بين معاني الألفاظ المشتركة. فنقول:
نظام الدين بالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات، والأمن هو آخر الآفات، ولعمري من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وليس يأمن الإنسان على روحه وبدنه وماله ومسكنه وقوته في جميع الأحوال بل في بعضها،
((((فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية))))
، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة، فإذن بان ((((نظام الدنيا، أعني مقادير الحاجة شرط لنظام الدين)))).

وأما المقدمة الثانية وهو أن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وإن ذلك لو دام ولم يتدارك بنصب سلطان آخر مطاع دام الهرج وعم السيف وشمل القحط وهلكت المواشي وبطلت الصناعات، وكان كل غلب سلب ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حياً، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف، ولهذا قيل:
((((الدين والسلطان توأمان، ولهذا قيل: الدين أس والسلطان حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع)))).

وعلى الجملة لا يتمارى العاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم وما هم عليه من تشتت الأهواء وتباين الآراء لو خلوا وراءهم ولم يكن رأي مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا من عند آخرهم، وهذا داء لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع يجمع شتات الآراء، فبان أن ((((السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة وهو مقصود الأنبياء قطعاً، فكان وجوب نصب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه فاعلم ذلك)))).

انتهى كلام الغزالي وعلينا أن ننتبه أن هذا الكلام ذكر في عام 1100 م تقريباً أي قبل ألف سنة من اليوم
ففي ذات الوقت وإلى ما بعده بسبعمائة عام كان رجال الدين في أوربا يدعون الناس للزهد في الدنيا وهناك شروحات مطولة عن ذلك في قصة الحضارة لول ديورنت بينما كانوا ينعمون هم بحياة رغيدة وقد أغدقت عليهم كل أنواع المتع الدنيوية حيث امتلكت الكنيسة ثلث الأراضي في أوربا وتجمعت في يدها أموال طائلة .
وكانت الكنيسة تشن حروباً مقدسة داخل أوربا لمنع مذاهب مسيحية أو أفكار تتهم بالهرطقة والكلام يطول حول هذا.
كما إن الكنيسة كانت تعنى بتعيين ومباركة الملوك والأمراء ، وتصطف مع فريق منهم في الحروب الأهلية باسم حماية الدين ومحاربة الكفر والهرطقة.
حتى القرن السادس عشر وبداية استعانة الملوك بالعقلاء والفلاسفة وبداية انتشار الأفكار المشرقية وكثرة المترجمات والفتوحات العلمية المعروفة التي ساهمت باصلاح الأرضية العقلية الغربية ليستكمل الفلاسفة طريقهم، ولا نقول بأنهم كانوا على مذهب واحد بل اختلفت مذاهبهم بين الإيمان والكفر ، وبين الوقوف مع الملك والوقوف مع الوطن لكن كان كل ذلك معترك فكري وطريق طويل مضى للدولة الحديثة .
وكما أحرقت كتب الغزالي أحرقت كتب البوطي
طارق حقي