تضارب ما في لحظات عصيبة
في الحراك الاجتماعي قد يميل شخص ما للإلحاد مثلاً ، لكن بمجرد أن تدعوه لتطبيقه تراه يتراجع.مثلاً شاب يرتكب المعاصي ويظن بأن الذهاب بعكس التيار قد يحرره أكثر ، وهو من أشد المدافعين عن الغرب وحريته المزعومة، وبمجرد أن تقول له تزوج على طريقة الزواج المدني بدون عقد شرعي عند الشيخ ، أو سندفنك بعد موتك بدون غسل ولا صلاة تراه يحتار ويطلب التفكير.
وكأن الشاب يقول لو كفرت جماعتي سأكفر مثلهم ولو لم تكفر سأكفر لوحدي ولن أتخلى عن جماعتي.
لذلك فربما نصادف عبر الحوارات شاب سني يقول لك أنا ملحد أو شيعي أو علوي لا ديني
لو قال لك الشاب أنا عربي ملحد مثلاً فيمكن تقبل ذلك أما أن يقول أنا سني
فذلك صعب التقبل لكنه واقعي.
بالأصل هذه التسميات هي تسميات دينية فكيف يتداخل الكفر بالإيمان لهذه الدرجة ؟
لأن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي فهو يرتبط بالجماعة شاء أم أبى ولذلك
فكثير من الشبان يدرك بفطرته أن مصيره مرتبط بمصير جماعته على حد قول الشاعر :
أمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى ******* فلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلا ضُحَى الغَدِ
فلمَّا عَصَوْني كنْتُ منهُمْ وقد أرَى ******* غِوَايَتَهُمْ وأنَّني غيرُ مُهتَدِ
ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ ******* غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ
وهذا هو الإيمان الجماعي الشكلي ، وكثير من المسلمين ملتزمين بحكم إسلام شاعر غزية.
لذلك وبعد هذا التاريخ الطويل المؤسس للهويات المتداخلة فإن أي عملية فصل للإيمان عن الفرد أو جماعة الفرد ستؤدي إن نجحت لذهاب الإيمان وبقاء الشكل ، الذي قلنا أنه الإيمان الشكلي.
والإسلام في حقيقته ليس شكلاً بل هو جوهر وشكل ، لكن الإنسان عبر التاريخ عاش ضمن جماعة ، وتداخل إيمانه بجماعته وتكوينهم التاريخي والسياسي والاجتماعي ، وهذا ما يفسر الجملة المتناقضة ( سني أو شيعي ملحد )
لذلك حين يشعر الفرد بالخطر لوقوفه تحت المطر بدون مظلة ،فإنه سيعود لممارسة طقوس وعادات جماعته إن كان بقناعة أو بدون قناعة.
ما يهم ويفيد في التنظير القومي السياسي في تناول القضايا الوطنية
أن يؤمن الفرد بما شاء لكن أن لا يفارق الجماعة.
ولذلك جاء في حديث الردة :
لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّب الزَّانِي، والنَّفْس بِالنَّفْسِ، والتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ."
وطالما أن مظلة الجماعة تؤمن الاستقرار النفسي والعاطفي والوجودي للفرد خاصة في ظل الحروب والفتن ، فمن المهم أن يحترم الفرد الآداب العامة للجماعة أو القوم وهذا ما يمكن تسميته الآداب القومية التي يجب أن تؤسس لها الدول المدنية لتعزز أمنها القومي فتتجاوز أهواء الفرد وتلزمه بآدب القومية.
ومع الدولة الحديثة ووجود أديان مختلفة ، لا يعد مفارقة الجماعة خاصاً بالمسلم ، بل يتعداه للأديان الأخرى وحتى الكفار .
فلو كان في مجتمع مدني رجل كافر آباً عن جد فلا يحق له مفارقة قومه لاختلاف المعتقد
فولي الأمر المسلم يتدخل بحرية الكافر هنا حين تتقاطع مع مصالح العدو ولا تعتبر حريتة مسألة شخصية بل مسألة أمن قومي.
بل ومن صلب عمل السياسي ولو كان مسلماً التدخل بشؤون حرية الأديان الأخرى فمثلاً أن تقوم أمريكا بدعم وبناء كنائس لمصالح سياسية في مصر مثلاً ، فأن يتقاعس السياسي ويقول هذه حرية دينية ولا يجب أن أتدخل في شؤون وخصوصيات الأديان الأخرى فهذا سيؤدي لفتن تطال الجميع.
والأمثلة واضحة اليوم لتكرار التداخلات السياسية باسم الدين والمذهب في غير دولة عربية ، كما إنه معروف في الحروب الأهلية في أوربا واستغلال المذهب والدين للتدخل بشؤون الدول ولذلك كان من أحد مفاهيم العلمانية فصل دين الاخر عن الدولة أو فصل المذهبية عن الدولة وهذا يحتاج لخوض مفصل في الأخطاء الدينية التي أدت لاستغلال الساسة لهذه الثغرات، مع محاولة الغرب اليوم تأصيلها وتكوينها في مجتمعنا لتحويل المذاهب لأديان مفارقة.
- لقد جاء الإسلام ليرسخ المفاهيم والآداب والعدل والمساواة ونصرة الضعيف ، وإن أهم مقومات الدولة المدنية إقامة العدل وبالعدل تستقيم وتدوم وإن أي دولة مدنية لو لم تعثر على قيم عليا لها فأقامت حق نصر الضعيف والمساواة بين الناس لكفاها ذلك ولاستقرت اجتماعياً وسياسياً ولساد ملوكها .
الإسلام لم ينزل على الفرد بل نزل على الفرد الذي يعيش في جماعة وأسميها القوم ونؤصل فكرة القومية التاريخية بعيداً عن تنظيرات الغرب حول القومية.
لقد كان الفرد في قومه ينصر جماعته على الحق والباطل
فجاء الإسلام بنص صريح : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً "
ولأن المسلمين تشربوا الإسلام أدركوا الفرق بين قيمه وقيم الجاهلية فسألوا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً ؟
قال : بالأخذ على يده.
ورغم تداولنا لقوله صلى الله عليه وسلم : " دعوها فإنها منتنة" فبعض الأحاديث تؤكد أنه قصد " الكسع " وهي عادة جاهلية والكسع في اللغة أن تضرب دبر الإنسان بيدك أو بصدر قدمك
اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر أو المهاجرون: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مَا هَذَا؟ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟»، قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن غلامين اقتتلا، فكسع أحدهما الآخر، قال: «فَلَا بَأْسَ، وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا: إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ، فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ». رواه مسلم
وما يدعم ذلك ما جاء في مسند الإمام أحمد
عن عمرو بن دينار، حدثني جابر بن عبد الله، قال: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا لَلأنصار، وقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ دَعُوا الْكَسْعَةَ؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ».
بذلك نفهم بأن الإسلام لم يكن ضد القومية ، لكنه ضد القومية البغيضة التي يتعصب بها الفرد لجماعته على الحق والباطل.
وإلا كيف نفهم مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم لواقعة ذي قار
" هذا أول يوم انتصف العرب فيه من العجم"
انتصف من الإنصاف أي أخذوا حقهم كقوم وجماعة
ولم يقصد النبي محمد صلى الله عليه وسلم التعصب للعرب وهو قد أرسل للعالمين.
لكن قصد نصرة المظلوم ضد الظالم بغض النظر عن معتقده.
فأين المسلمون اليوم من هذا الفهم ، والذين يطبلون لحاكم مسلم هنا او هناك يقتل ويظلم جماعة غير مسلمة ، إنها إذن جاهلية تتلبس لبوس الدين.
انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً
رغم أنه قول ديني لكنه تشريع مدني وبند سياسي ضمن الأسس التي تقوم عليها الدولة القومية الحديثة.
بين الإسلام السياسي والسياسة في الإسلام بون شاسع
حين تستغل وتحول الأحزاب السياسية الدين للوصول للسلطة على حساب الآخر ، وحين تتبنى الجماعة هذا الطرح وتتمسك بالهوية الدينية دون القيم الإيمانية والعدل الذي جاء به الله.
أو حين تقوم جماعة علمانية أو غربية بمحاولة نزع الإيمان عن الجماعة فإنه سيبقى بحكم السياق التاريخي بشكله المادي الشكلي وسيتحول الإسلام وقيمه لقبيلة أو عشيرة جاهلية او يزيد إنما باسم ديني.
في محاضرة للدكتور محمد الشحرور الذي وظفه الغرب بدقة لوظيفة نزع الإيمان وزعزعة شكله التقليدي وطاف يلقي محاضراته من بلد عربي لآخر حتى استقر ف الإمارات التي وهبته جائزة مالية مغرية وقبلها مدح السعودية في حربها ضد اليمن .
ربما اقتنعت بعض النظم السياسية بأطروحة الغرب على لسان الشحرور والتي قالها في محاضرة له في السوربون حين كان يتكلم عن الحجاب وانتشاره في المجتمع وخطره من وجهة نظره .
فقال إن كل مجتمع متدين لديه منعكس سياسي
وبالتالي ظهور رمزية الحجاب سيتحول وفق رأيه لمنعكس سياسي
في الحقيقة لو قمنا بالتفكير بجدية بأطروحة من يقف خلف الشحرور
وأن تفريغ المجتمع من الإيمان وتحول الإسلام لشكلانية ليس للمسلم فيها إلا الاسم بينما السلوك سلوك الغرب في المساكنة أو الربا أو الشذوذ أو الاجهاض ولبس المايوه كما يقول الشحرور وما إلى ذلك، فلن يتخلى الفرد المسلم عن جماعته ومكاسبها السياسية والاجتماعية ، بل وسيقوم بدعم مكاسبها ظالماً ومظلوماً إنما وفق الأطروحة الجاهلية.
وإن كانت هذه الأطروحة لن تضر من يقف بالخارج، لأنها ستؤدي لمجتمع جاهلي يدخل حرب داحس والغبراء أو حرب البسوس مرة أخرى، لكن هذا الطرح للنظم السياسية العربية مهلك لأنها ستدخل كلاعب ضمن آتون حروب الجاهلية من حيث لم تحتسب.
ربما دغدغت أطروحة الشحرور المعقدة والدقيقة والتي هي بالأصل مشروع سياسي لا ديني كما يظن البعض ، ربما دغدغت مشاعر السياسي لكنه اكتوى بنارها أينما اشتعلت.
إذن لا بديل عن التاريخ
وإن نزع الإيمان سيؤدي لجاهلية تحمل اسم الدين
وتحويل المذاهب والطوائف لقبائل وعشائر
وإنه ليصح أن تسأل الرجل ما هي قبيلتك فيجيبك باسم طائفته أو مذهبه أو حتى دينه.
لكن العدل وإن كان حاجة من حاجات الدول والأفراد يظهر تارة ويغيب تارة، لكنه سيبقى ظاهراً لأنه اسم من أسماء الله الحسنى .
طارق شفيق حقي