شكل فكر علماء المسلمين الأرضية الحقيقة للوعي السياسي الذي تشكل عند فلاسفة الغرب
.
مرت الدولة العربية الحديثة الولادة بتجارب دموية من الصراع على الحكم
تداخلت فيه الأطروحات المثالية بالأطروحات الواقعية
وبين التنظير والواقع فجوة كبيرة
ويمكن تلمس بدايات الوعي السياسي
في مقولات اعتبرها البعض دينية مرت بشكل عابر في كتب العلماء
وكمثال أقر الغزالي بأنه ما كان ليتعرض لباب الإمامة في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لولا استيفاء الأبواب كلها.
يقول أبو حامد الغزالي :
نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع.
وبين تسيس الإسلام والسياسة في الإسلام فارق كبير لكن بحدود دقيقة.
يعرض كثير من علماء الإسلام عن الدخول في هذا الباب خشية عداء الحاكم من جهة أو خشية الانزلاق في محاباة الحاكم.
وبين هذه وتلك كذلك حدود دقيقة.
وكثير من الناس تضع العلماء المتكلمين في هذا الباب في خانة علماء السلطان.
ولو تركنا علماء الدين
فإنه يمكن بسهولة توجيه هذه التهمة لفلاسفة أوربا في القرن السادس عشر حتى التاسع عشر
ذلك أن الخوض في مواضيع خطيرة كهذه أشبه بالمشي على منحدر جليدي
فأي زلة توصلك إلى القاع
وكثير من الفلاسفة الذين وصلوا للقاع وصلوا عبر اجتهادات خاطئة وأقر بعضهم بذلك بل وتمنى أنه لو ظل يسقي نباتات الزينة في حديقته فالديمقراطية التي اجتهد لنشرها قادت لديكتاتورية لاحقاً.
يمكننا ضرب الكثير من الأمثلة حول صياغة القوانين والدساتير التي اعتمدت جهود الفلاسفة ويمكننا الاستشهاد بانزلاق بعضهم بعيداً عن التنظير العام ليصبح أداة سياسية بيد الحاكم.
القضية حتماً تتجاوز المفكرين للمثقفين وصولاً للعامة وهي رهن بوعي المجتمع بكل أطرافه وفي لحظات تاريخية يصبح وصول الأطراف لصيغة ممكنة جامعة أمر ممكن وربما تصبح فرصة مهدورة.
فالوصول لبر الأمان رهن بوعي وإرادة الحاكم والمجتمع والعلماء معاً.
ليس مطلوباً من العالم أن يستغل علمه
وليس مطلوباً من الحاكم أن يستغل العالم أو المفكر أو الفيلسوف إذ شعر بقدرته على اقناع الجماهير
كما ليس مطلوباً من العامة الخلط بين الدين والسياسة بل إدراك حاجة الإنسان لكليهما مع معرفة الحدود الدقيقة الفاصلة بينهما.
هناك خطورة كبيرة هنا
والحل يحتاج لعبقرية
ولقد تجلت العبقرية بأبهى صورها في علم الإمام الغزالي فالحل لديه كان بالاقتصاد فيما نعتقد
فأنت قبل أن تدرك الحدود الفاصلة بين الأشياء
عليك أن تدرك حدود ما تعتقد
بل وتبحث عن حدود معتقدك
ولأن كان الدين يوما ماً بحاجة لدولة تحميه في لحظات ولادته الأولى
فإنه كلما تعمق وامتد نحو أهدافه الحضارية يغدو وكأنه لا يهتم بالشرط الأول لتكوينه ، والله أعلم.
طارق حقي
الفكر العربي
تقليص
X
تقليص