الصراع الاجتماعي
مرت التجربة الإنسانية بمراحل معروفة من التطور من البداوة والترحل إلى الريف والزراعة فالمدينة والتجارة ثم مرحلة الدولة القديمة وصولاً للدولة الحديثة وعصر الصناعة وما بعد الصناعة.
إن مصطلح دولة حديثة هو مصطلح ملتبس ، فالأمور نسبية ، أن نقول دولة حديثة نسبة إلى أي زمن ؟ فكل دولة كانت في ولادتها دولة حديثة بتطورها عن الشكل السابق ، كما إن تطور حياة الإنسان من شكل لآخر ليس نهاية التاريخ.
فكل الدول في العالم لازالت تعيش أنساق اجتماعية مختلفة ريفية أم بدوية أم مدنية بشكل من الأشكال.
وكما إن مصطلح الحداثة قد يكون ملتبساً فمصطلح المدنية قد يكون كذلك ملتبساً، وربما قد وقر في أذهان الجميع أن تعميق حياة المدينة هو الحداثة والتطور الذي يجب أن تركز عليه أي دولة حديثة بكل مكوناتها الرسمية والشعبية.
ولننظر إلى أين ستقودنا حمى الحداثة والتمدن بمعناه السلبي لا الإيجابي ، لقد سحق التمدن الحداثي الإنسان كإنسان ، وسحقت المدينة إنسانية الإنسان وربما تأملت ملياً في تلك القرى التي مرقت عبرها في الريف السوري وكانت منازلهم من الطين ولازالوا يخبزون على التنور ويشربون الحليب الطازج ويأكلون البيض البلدي ويزرعون القمح والخضروات، إن هذه الأنساق الاجتماعية التي نسمها بالتخلف كأفراد قد تكون هي سفينة نوح الناجية من طوفان الحداثة .
ربما يكون هذا الوصف أشبه بالتنظير للرجعية والعودة بالقهقرى عن التطور البشري ، لكن عملياً هناك مصطلح اسمه العودة عن الحداثة لم نعد نقرأ عنه فحسب بل أصبح واقعاً ، وإن العالم سيبدأ نقلات مختلفة للعودة عن أساليب حياة ظن أنها مدنية وحضارية وليس بالضرورة أن يعود مراحل للخلف كأن يعود لرعي الأغنام ، لكنه سيسمح للأنساق الاجتماعية الأخرى أن تتنفس مرة أخرى وسيبدأ بالاستفادة منها.
إن أي إنسان فقد أجزاءً من إنسانيته وبمجرد أن يتجاوز التفكير النمطي الذي كرسته المدينة عن الريف ، سيرى عبر الاحتكاك الحقيقي مع أبناء الريف شكلاً من ذاته الضائعة وإنسانيته المفقودة ، لا يعني كلامنا هنا أن الريف مكان معقم طاهر ، لكنه طاهر بقدر مقارنته بالمدينة الحديثة ،لكنه اليوم ما عاد كذلك بعد أن استطاعت المدينة فرض ثقافتها وإعلامها على الريف عبر الفضائيات العربية ولاحقاً عبر الانترنت ،ربما مرحلة التلفاز والقنوات الأرضية كانت متسامحة مع الريف بل مع البداوة في فترة من الفترات.
فإذا كان الإنسان المتمدن ( كمصطلح لا كحقيقة) يصارع ابن الريف والبادية، فكيف ستكون علاقته مع الأنساق الإنسانية في التاريخ وتراثه ؟
كيف ينظر هذا الكائن الذي تراكمت في عقله قشور العلوم دون أن تفك شيفرة بلادته الأخلاقية وتعاليه على بني جلدته في حاضره قبل ماضيه؟
إننا نزعم هنا أن مشكلة عدم فهم الحدث التاريخي ضمن سياقه من قبل العقل المعاصر المتعالي لا تكمن في نقص معلومات وعلوم ، بل في نقص أخلاقي كامن .
فإذا فكّكنا القضية وعالجناها بكم من المعلومات يفك الالتباس وبقي التمترس المتعالي الرافض للفهم ، فهنا علينا أن نبدأ بمعالجة المشكلة الأخطر وهي المشكلة الأخلاقية والمعالجة الأخلاقية هي آخر اهتمامات المدنية .
إن حداثة المدينة اليوم تكرس أنماط التمييز الاجتماعي في الملبس والمأكل والمسكن وفي السيارة والمسلسلات ،ومع الانهيار العالمي للأخلاقي والنماذج الاقتصادية المتوحشة فإننا سندخل عصر الاحتراب الاجتماعي الداخلي المتوحش مع الحاضر والماضي بغض النظر عن تدخل الآخر.
الغريب في الموضوع أنه مع تدخل الآخر بالفعل ضمن هذا الصراع الاجتماعي والمثال هنا ما حدث في سورية فإن الريف سقط بشكل سريع وانطلق العدو عبره لتفكيك سورية ، والغريب أن من دافع عن سورية هم أولاد الفقراء من الريف ، وهاجر ابن المدينة أو هجّر أولاده ، وتغيرت بهذه المعادلة خرائط التاريخ والجغرافيا، فزحف الريف إلى المدينة هرباً من ويلات الحرب وطلباً للرزق ، فنشأت لدينا اليوم المدينة الريفية.
وبعيداً عن هذا التشوه ومخاطره فإن ابن الريف اليوم أصبح هو الوريث الحقيقي للمدينة وهو المؤهل مع أولاده الذين لم يهاجروا بسبب الفقر واختلاف الهوية مع الغرب ، لاستلام المبادرة وخوض تجربة صراع جديدة، فالمدينة سهلت عبر ثقافتها واندماجها بالثقافة الغربية، سهلت سفر أبنائها وسهلت لهم اندماجهم في حضارة الآخر فهم المنسلخين عن تاريخهم وهويتهم والمتعالين عن أبناء جلدتهم ، المتواضعين أمام الرجل الأبيض ،والمجيدين لأكثر من لغة أجنبية والقادرين على الانخراط الفوري في أي ثقافة استهلاكية اقتصادية كانت أم فكرية وربما الجاهزين للعودة يوماً ما ولو على ظهر دبابة للانتقام من مدينتهم .
لقد أتقنت المدينة صناعات كثيرة لكنها اليوم تجيد فناً جديداً إنه فن صناعة الأعداء، فلقد اخترعت المدينة كل الأدوات الكفيلة بتطورها وتقدمها لكنها أبدعت باختراع عامل فنائها .

طارق حقي