الوهم - لبنى حقي

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • طارق شفيق حقي
    المدير العام
    • Dec 2003
    • 13242

    الوهم - لبنى حقي

    الوهم - لبنى حقي
    استيقظت هذا الصباح على حلم مزعج كدّرني ..لم يكن حلماً في الحقيقة بل كان كابوساً..
    أزحت عنّي الغطاء الثقيل ونهضت متثاقلة الخطا ..واجمة الملامح..
    اتجهت نحو المطبخ وأعددت لنفسي كوباً ثقيلاً من القهوة السوداء علنّي أمنح نفسي فرصة العودة إلى الوعي..لكنّني مع آخر رشفة منها اكتشفت أنني مازلت في نقطة الصفر..وأنّ خصمي مفتول العضلات مازال هو الأقوى..
    ومع مرور الوقت بطيئاً غزا القلق تفكيري وسيطرت تفاصيل الكابوس المزعج على مشاعري..
    فارتديت ملابسي على عجل ..والتقطت معطفي الأسود لأكمل به استعدادي لمواجهة برودة الطقس في الخارج..
    سرت وحدي أحثّ خطاي نحو الحديقة القريبة ..الأثيرة لديّ..
    كانت السماء ملبّدة بغيوم قاتمة فتداعت في نفسي الأمنيات بمطر يغسل بعض ما أعانيه..
    جلست وحدي على مقعد خشبيّ اعتدت الجلوس عليه ..
    كان هناك ثمّة قطة بيضاء اللون يتراكض خلفها ثلاث من القطط الصغيرة بجذل وشقاوة ..شاغلت نفسي بالنظر إليهم بضع دقائق ..وبينما كنت أراقبهم عن كثب اخترق الصمت من حولي صوت عنيف لإطلاق رصاص من قرب..
    طاشت نظراتي الخائفة بين مشهد القطة الأمّ التي أصابتها الرصاصة على مايبدو حيث سقطت صريعة على الفور وبين صغارها الذين دفنوا رؤوسهم في وبرها الأبيض في مشهد مأساوي لن أنساه ما حييت..
    وبين مشهد تجمّع الناس حول سيارة قريبة هي التي أطلق العيار الناريّ منها ..
    لم أجرؤ على الاقتراب من طرفي الجريمة النكراء فخرجت من باب الحديقة على عجل وأنا أنوي العودة إلى منزلي مجددا..
    مشيت بضعة أمتار أخرى وأنا أقاطع في عقلي الباطن بين تفاصيل كابوسي المزعج وبين مشهد القتل المروّع الذي حصل أمامي للتوّ..
    أحسست وأنا في دوامة أفكاري بقدمين صغيرتين تركضان خلفي وماهي إلا لحظات حتى رأيت طفلا يستوقفني وهو يمدّ يديه الصغيرتين إليّ بشئ ما..نظرت في وجهه الباهت وعينيه الذابلتين ولمحت فيهما أثرا عميقا للتشرد والبؤس..عاد الطفل ليمدّ يده الصغيرة إليّ أكثر فنظرت داخلها فإذا فيها أصبع من حبّات النعناع الحارّ ..ورغم دهشتي كيف يمكن له أن يعرف أنّ هذه الأصابع هي المفضّلة لديّ إلّا أنني لم أقل له شيئا ..
    اكتفيت بابتسامة باهتة كلون وجهه المتعب مع ورقة نقدية قيمتها أكبر بكثير من ثمن أصبع النعناع ..وضعتها في يده الرقيقة وأغلقتها وأنا أدفعها نحوه ..
    نظر الصغير في كفّه وعندما تأكّد من قيمة مافيها سيطرت عليه فرحة تغشاها دهشة لم أستطع تفسيرها لكنّني اكتفيت بابتسامته الواهنة وهو ينظر إلى مودّعا قبل أن يطلق قدميه للريح ربما نحو أمّه الأرملة وإخوته الجياع..
    لم أطل الوقوف في مكاني فبعد أن غاب الصغير عنّي داخلا في الزقاق المجاور تابعت سيري نحو منزلي القريب..
    راح البرق يخطف نظري الزائغ.. وبدأت أصوات الرعد تتعالى فعادت أمنياتي بمطر يغسل بعض أحزاني تتداعى في نفسي من جديد..
    وتقصدت سلوك طريق أطول ..لكنّني في النهاية وجدت نفسي أمام باب منزلي دون أن ألوذ بحمى قطرات المطر..رغم أنّ الرعد والبرق استمرّا دون توقّف ..
    ارتقيت الدرج منهكة بعد رحلة المآسي هذه ..وشعرت بقطرات غزيرة من العرق تغسل وجهي فأدركت أنّها الحمى..
    كنت ساعتها قد دلفت باب منزلي الكئيب وهممت بخلع معطفي الذي بات أثقل ممّا هو عادة لكنّ الرنّة الخاصة بالرسائل والإشعارات من جهازي النقّال أوقفتني ..
    وبيدٍ باردة برودة الثلج التقطت الجهاز لأجد رسالة من طبيبي الخاصّ يعلمني فيها بالنتائج الايجابية لجميع التحاليل التي أجريتها البارحة وباستبعاده الكليّ على أساسها مرضا خطيرا كان يتوقعه ويخشاه..
    مع قراءتي لآخر حرف في نصّ الرسالة بدأ وعيي الغائب يعود إليّ مجددا وشعرت لحظتها فقط أنّي مبللة تماما بالمطر !!
    وأنّ معطفي كان ثقيلا لهذا السبب..وأنّ وجهي كان يسبح بقطراته لا بقطرات العرق كما كنت أتوهم..
    تدافعت أمام عينيّ في لحظة واحدة كلّ المشاهد التي كنت قد رأيتها في الخارج في رحلتي القصيرة..
    وكنت كمن يستفيق من تخدير عميق..
    وأدركت فجأة أنّ الصوت المدوّي الذي سمعته أثناء وجودي في الحديقة لم يكن صوت إطلاق رصاص بل كان صوت انفجار عجلة سيارة في أوّل الطريق وتذكرت كيف تجمهر الناس حول السيارة في محاولة لمساعدة سائقها..واكتمل الجزء الناقص من مشهد القطّة الأمّ وصغارها في مخيلتي فهي لم تسقط صريعة وإنما استلقت لترضع صغارها الذين دفنوا رؤوسهم في وبرها الأبيض..
    أغمضت عينيّ وأنا أتذكر الطفل الذي لحق بي ففاجأني وجه مفعم بالحيوية والنضارة ..وجه أعرفه تماما ..بعينيه المتألقتين وابتسامته الودودة ..
    إنّه ورد ابن جارتي وصديقتي الذي اعتدت أن ألاعبه واشتري له الحلوى والألعاب وأصابع النعناع التي كنت أحصل في النهاية على الحصّة الأكبر منها كونها المفضّلة لديّ وكونها حارّة بالنسبة إليه..
    وكأنّني أعود للحياة من جديد ..لأطرد عن وعيي استقواء كابوس مزعج أرهقني لساعات طويلة رغم أنّني لم أذق طعم النوم ليلة البارحة..
    لبنى حقي ٨/ ١/ ٢٠١٩
يعمل...