العنوان عتبة استهلالية
في معاني العنوان ودلالاته
مجلة الرافد الإماراتية العدد ١٧٥
طارق شفيق حقي
يقول أحد الأدباء إن آفة المذاهب جميعاً هي أنها تتحول على يد التابعين وتابعيهم إلى أصنام مفرغة من الروح، وقوالب صفيقة هجرتها معانيها الأصلية ومقاصدها الأولى، وسكنتها عناكب الجمود وأفاعي التعصب، بحيث لو عاد مؤسسوها إلى الحياة لجهِلهُم السدنة الجدد وما عرفوهم. ورأوهم ناشزين منشقين، وأعادوهم ثانية إلى الموت.
جاء في المعجم الوسيط (عَنْوَنَ) الكتاب عنونة، وعِنواناً: كتب عنوانه.
العُنْوانُ: ما يستدل به على غيره ومنه: عنوان الكتاب(1).
Title: اسم (كتاب أو قصيدة)، عنوان فصل،... يسمي، يعنون(2).
يقول د. جميل حمداوي «يُعدُّ العنوان نظاماً سيميائياً ذا أبعاد دلالية وأخرى رمزية، تغري الباحث بتتبع دلالاته، ومحاولة فك شيفرته الرامزة. ومن هنا فقد أولى البحث السيميائي جلّ عنايته لدراسة العنوانات في النص الأدبي. وقد ظهرت بحوث ودراسات لسانية سيميائية وتداولية، وآية ذلك أن العنوان هو أول عتبة يمكن أن يطأها الباحث السيميائي قصد استنطاقها واستقرائها بصرياً ولسنياً، وأفقياً وعمودياً»(3)، وهذه العتبة الأولى نعتبرها أول تجلٍّ للاستهلال.
ولنعرف العنوان كما ورد في المعجم الشامل للدكتور الحفني:
«عنوان: هو ديباجة الكتاب؛ وعنوان الأمر هو أن يأخذ المتكلم في غرض فيأتي لقصد تكميله وتأكيده بأمثلة تكون عنواناً لأخبار متقدمة، ومن ذلك قوله تعالى:
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) (الأعراف: 175) فإنه عمران بلعام.
وعنوان العلوم هو أن تُذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم، ومداخل لها، من ذلك قوله تعالى: (انطلقوا إلى ظلٍ ذي ثلاث شعب) (المرسلات:30). ففي ذلك عنوان علم الهندسة، فإن الشكل المثلث أول الأشكال، وإذا نصِب في الشمس على أي ضلع من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رؤوس زواياه، فأمر الله تعالى أهل جهنم بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكماً بهم. وكذلك في قول الله تعالى: (وكذلك نُرِي إبراهيم ملكوت السموات والأرض) (الأنعام: 75)، عنوان علم الكلام وعلم الجدل، وعلم الهندسة، وهذا من إعجاز القرآن، فهو إن شبه العلوم فإنما يشبه بالصحيح غير الملتبس حتى ليكون القرآن كتاباً معجزاً في العلوم. وعنوان الموضوع عند المنطقـــيين هو مفهوم الموضوع، ويسمى وصف الموضوع»(4).
وهذا التعريف للعنوان مع أمثلته من القرآن الكريم يعرف لنا العنوان خير تعريف، فالعنوان هو الأمثلة المذكورة التي تحمل تضميناً لحدث ما، وتعمل في بيئة الغرض وقد تتعدد العنوانات في الغرض الواحد (بتعدد الأمثلة)، وعنوان العمل هو بحد ذاته تضمين للعمل ومثال عليه.
مع العنوان هناك رابط مع الموضوع والموضوعية لنعرفهما كذلك:
«الموضوع: الشيء الذي عيّن للدلالة على المعنى، والشيء المشار إليه إشارة حسية؛ وقيل هو الأمر الموجود في الذهن. وموضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، كبدن الإنسان لعلم الطب، وكالكلمات لعلم النحو . والموضوع يقابله الذات.
والموضوع الطبيعي هو مجموع العلاقات الخارجية للشيء؛ والموضوع الظاهري هو علاقاته الداخلية أو الباطنية»(5)، فالموضوع هو غرض القصّة والعنوان هو الذي يشير إليها، كعنوان قصّة مثلاً «قصّة حب»، فالعنوان يشير إلى موضوع القصّة.
لم يعرف قديماً في الشعر أن وضع شاعر لقصيدته اسماً فكانت القصيدة تسمى بأشهر بيت فيها، أو تسمى برويها فيقال ميمية الشنفرى ودالية أبي الطيب، وهكذا. وقد عرفت أسماء سور القرآن كذلك بأشهر شيء فيها، فكان اسم البقرة لقصّة البقرة الشهيرة فيها، وسورة النمل لحديث النملة، وهكذا. ورغم أن هناك من يقول بأن أسماء السور وقفية من الله تعالى، لكن تسمية الصحابة للسور وافق مراد الله سبحانه وتعالى، وقد دلت عليه الآية (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر: 95)، وفي النثر نرى كمثال صحيفة بشر بن المعتمر التي وردت في كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، عنونت بهذا الاسم، وهي لم يسبق أن كان لها اسم، وقد كتب المحقق في الهامش عن العنوان «هذا العنوان من صنع المحقق، وذلك للتنبيه على أهمية هذه الصحيفة، وإبراز شأنها»(6).
وحتماً هي كانت تعرف باسم مشابه لما فعله المحقق وهو الدكتور عبدالحميد هنداوي، ولعل اسم العمدة كذلك، كان يقول القيرواني: فجمعت أحسن ما قاله النقاد ليكون الكتاب هو العمدة في محاسن الشعر، يقول القيرواني «مع ما للشعر من عظم المزية، وشرف الأبية، وعز الأنفة، وسلطان القدرة، وجدت الناس مختلفين فيه، متخلفين عن كثير منه، يقدمون ويؤخرون، ويقلون ويكثرون، وقد بوّبوه أبواباً مبهمة، ولقّبوه ألقاباً متهمة، وكل واحد منهم قد ضرب في جهة، وانتحل مذهباً هو فيه إمام نفسه وشاهد دعواه، فجمعت أحسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه، ليكون العمدة في محاسن الشعر وآدابه، إن شاء الله تعالى، وعوّلت في أكثره على قريحة نفسي ونتيجة خاطري»(7). يعقب الدكتور عبدالحميد هنداوي على ذلك فيقول: «وهو بهذا يكشف عن السبب الذي دعاه لتصنيف هذا الكتاب، وهو اختلاف الناس قبله في فنون الشعر ومحاسنه، وعدم استحسانه لما صنفوه فيه، حيث لم يحسنوا تبويبه ولا تسمية أنواعه فبوّبوه أبواباً مبهمة ولقّبوه ألقاباً متهمة»(8).
- وفي كتاب «فنون الأدب» للنويري عن العنوان ورد:
«وأما العنوان: فهو أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو هجاء أو غير ذلك، ثم يأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنواناً لأخبار متقدمة، وقصص سالفة؛ كقول أبي نواس:
يا هاشم بن حديج ليس فخركمو
بقتل صهر رسول الله بالسدد
أدرجتمو في إهاب العير جثته
لبئس ما قدمت أيديكمو لغد
إن تقتلوا ابن أبي بكر فقد قتلت
حجراً بدارة ملحوب بنو أسد
ويوم قلتم لعمرو وهو يقتلكم
قتل الكلاب لقد أبرحت من ولد
ورب كندية قالت لجارتها
والدمع ينهل من مثنى ومن وحد
ألهى امرأ القيس تشبيبٌ بغانية
عن ثأره وصفات النؤى والوتد
فقد أتى أبو نواس في هذه الأبيات بعدة عنوانات: منها قصّة قتل محمد بن أبي بكر، وقتل حجر أبي امرئ القيس، وقتل عمرو بن هندٍ كندة في ضمن هجو من أراد هجوه، وعير المهجو بما أشار إليه من الأخبار الدالة على هجاء قبيلته»(9). يقول الدكتور بسام قطوس في كتابه «سيمياء العنوان»:
«ولما كان الشعر العربي القديم في جلّه شعر أغراض ومناسبات، فيلاحظ أن المناسبة أو الموضوع الذي كانت تقال فيه القصيدة ربما كان يشكل إطاراً لعنوان لم يسمَّ، وكان المطلع يسدُّ مسد العنوان. ومن هنا فقد كان النقاد العرب القدامى يطالبون الشعراء بتحسين مطالعهم لمتابعة القصيدة»(10).
لكننا كما بيّنا أنّ العنوانات ليست هي أغراض القصيدة، بل هي بشكل أدق أمثلة وإشارات مضمنة لأخبار أو قصص مرّت وعرفت، فهذا العنوان إشارة دلالية توضع مضمنة في البيت الشعري، تحمل شكلاً من أشكال التضمين، كما كانت عنوانات أبي تمام وعنوانات أبي نواس، والمطلع كما حدده ابن رشيق هو مطالع الأبيات، فلكل بيت مطلع ومقطع، وقد يقال بشكل غير دقيق عن استهلال القصيدة مطلع، لكن القصيدة العربية بشكل عام لم تعرف ما نسميه بالعنوان، لأن العنوان كان يعني شيئاً آخر كما حددنا. ولعل القصائد لم تحمل العنوانات التي نعني، لا لشيء لأن الشعر قائم على التخييل، يقول جان كوهين عن العنونة بأنها واقعة قلما اهتمت بها الشعرية حسب علمي، ويرى كوهين «أن النثر – علمياً كان أم أدبياً- يتوفر دائماً على العنوان، أي إن العنونة من سمات النص النثري، لأن النثر قائم على الأصول والقواعد المنطقية، بينما الشعر يمكن أن يستغني عن العنوان، مادام يستند إلى اللاانسجام، ويفتقر إلى الفكرة التركيبية التي توحد شتات النص المبعثر، وبالتالي قد يكون مطلع القصيدة عنواناً لها»(11)، إذاً العنوان هو عتبة من عتبات الاستهلال، كما هو تسمية الشخوص عتبة تسبق ظهور الشخصية، كما هو وصفها.
وفي موضوع آخر يقول د. قطوس: «وسيميائية العنوان تنبع من كونه يجسد أعلى اقتصاد لغوي ممكن ليفرض أعلى فعالية تلقٍ ممكنة، مما يدفع إلى استثمار منجزات التأويل.كما يشكل العنوان أول اتصال نوعي بين المرسل والمتلقي، ومن هنا فإن على المتلقي أن يقرأ العنوان من مستويين:
المستوى الأول، مستوى ينظر فيه إلى العنوان بوصفه بنية مستقلة لها اشتغالها الدلائلي الخاص.
المستوى الثاني، مستوى تتخطى فيه الإنتاجية الدلالة بهذه البنية حدودها متجهة إلى العمل، ومشتبكة مع دلائليته دافعة ومحفزة إنتاجيتها الخاصة بها.
والعنوان عدا عن كونه يشكل حمولة دلالية، فهو قبل ذلك علامة أو إشارة تواصلية له وجود فيزيقي/ مادي، وهو أول لقاء مادي محسوس يتم بين المرسل (النَّاص) والمتلقي أو مستقبل النّص. ومن هنا يغدو العنوان إشارة مختزلة ذات بعد إشاري سيميائي. وهو بما هو إشارة سيميائية، يؤسس لفضاء نصي واسع، قد يفجر ما كان هاجعاً أو ساكناً في وعي المتلقي أو لاوعيه من حمولة ثقافية أو فكرية يبدأ المتلقي معها فوراً عملية التأويل»(12).
فالعنوان مفتاح للتأويل في قول الدكتور قطوس، لكن ذلك مخالف لآلية الفهم:
و«الفهم عملية إحالية (إشارية) REFERENTIAL بالأساس. فنحن نفهم الشيء بمقارنته بشيء آخر لدينا به معرفة. وما نفهمه يشكّل نفسه في وحدات منظمة أو دوائر مكونة من أجزاء.. نحن نفهم معنى الكلمة المفردة داخل الجملة بإحالتها إلى الجملة الكلية، والجملة بدورها يعتمد معناها الكلي على معنى كلماتها المفردة. وتمتد هذه العلاقة التبادلية لتشمل المفاهيم الذهنية»(13). و«إذا تعين علينا أن نفهم الكل لكي نفهم الأجزاء، فلن يتأتى لنا أن نفهم أي شيء.
غير أننا قلنا إن الجزء يستمد معناه من الكل. ومن المؤكد من الجهة الأخرى أننا لا يمكن أن نبدأ من الكل غير المتميز إلى أجزاء!»(14). فعملية الفهم عملية معقدة تقوم باستمداد أجزائها بآلية متناوبة من الجزء للكل ومن الكل للجزء، فهي تحيل الجزء غير المفهوم إلى السياق، ولتفهم السياق العام تعود إلى أجزائه وهكذا.
ويعود الدكتور بسام قطوس ليعترف بصعوبة عنونة القصائد، ويشترط لنجاحها شروطاً ستُفقدُ العنوان خاصيته الدلالية: «إن القراءة الفاحصة للعنوان بوصفه بنية مختزلة، والاستقراء الداخلي للوظائف التي يؤديها في الشعر، ربما لا تمكننا بسهولة من فهم دلالة العنوان، وحسم مغزاه، بل لا بد أحياناً من العودة إلى قراءة النص الأكبر ومحاولة مفاوضته، أو مناقشته، أو الحوار معه، للاقتراب من فكّ شيفرته، والعودة إلى العنوان من ثمَّ لمساءلته هو الآخر، ومفاوضته في ضوء ما تحصل لنا من معرفة النص، والسبب في ذلك واضح، وهو أن العنوان مكثف ويفتقر إلى السياق، وهذا الافتقار إلى السياق يمنحه دلائل كثيرة، ويجعله يمتلك فضاءً واسعاً من الدلالات التي يصعب، إن لم نقل يستحيل حصرها، وإذا كان المنطق يمتاز بمستوى معرفي وبمقولات قالبية، فإن للشعر أطره الفنية التي تتجاوز القوالب، وتعصى النمذجة، ومن هنا فإن العنوان في الشعر ربما بدا أكثر تعقيداً، وأقل انصياعاً لما يسمى بالتعريف الجامع المانع في حد المناطقة»(15).
وهذه العودة لمفاوضة العنوان، ومن ثم النص حتى فك شيفرته، تفقد العنوان كما قلنا خاصيته الدلالية المستقلة، وتجعله عقبة كؤوداً أمام المتلقي، وكان ذلك لأننا نفصل العنوان عن النص، فالعنوان يظهر جلياً بنصاعته بعد قراءة النص، ويكتسب دلالته في سياق العمل، ولن تعطي كلمةٌ واحدةٌ دلالةً على نصٍ بأكمله، إنما قد يكون لها جزء من هذه الدلالة، ونحن نقول هنا إن العنوان هو اسم العمل، يعمل كعتبة من عتبات الاستهلال، والاستهلال أقدر على أن يتحمل كل هذه الطاقات الدلالية والعلامات المختزلة والمعاني الموحية، وكما بينا أن لكل فقرة في العمل استهلالها، كما أن للشخصية استهلالاً يسبق ظهورها، إن كان بوصفها أو وصف مكانها أو حتى اسمها.
وعملية التأويل بحاجة دائماً إلى الحس المشترك في التأويل بين المبدع والمتلقي، وهذا الحس المشترك يعني الأفكار الممكنة والدلالات الممكنة، لا كما الشعر دلالات لا متناهية، «يؤكد كلادينيوس على أن الحس المشترك له دوره الحيوي في عملية الفهم. فالمرء يفهم القول المنطوق، أو المكتوب فهماً تاماً إذا ما أخذ بالاعتبار جميع الأفكار التي يمكن أن توقظها الكلمات فينا وفقاً لأحكام القلب والعقل، ولا نعني هنا كل فكرة ممكنة، بل الأفكار التي تتفق مع الحس المشترك، بالنظر إلى معرفتنا بالأحوال السائدة»(16)، العنوان بذلك عتبة من عتبات الاستهلال ومطلعه وأحد تجلياته، يختاره القاص وفق أعجب ما في القصّة، أو أشهر ما فيها، فيوحي لما سيأتي ويشوق، وما تعرضنا إليه من محاولات لجعل هلال يعمل معها بتناغم وعضوية ولا يغني عنها البتة.
مجلة الرافد العدد 175
في معاني العنوان ودلالاته
مجلة الرافد الإماراتية العدد ١٧٥
طارق شفيق حقي
يقول أحد الأدباء إن آفة المذاهب جميعاً هي أنها تتحول على يد التابعين وتابعيهم إلى أصنام مفرغة من الروح، وقوالب صفيقة هجرتها معانيها الأصلية ومقاصدها الأولى، وسكنتها عناكب الجمود وأفاعي التعصب، بحيث لو عاد مؤسسوها إلى الحياة لجهِلهُم السدنة الجدد وما عرفوهم. ورأوهم ناشزين منشقين، وأعادوهم ثانية إلى الموت.
جاء في المعجم الوسيط (عَنْوَنَ) الكتاب عنونة، وعِنواناً: كتب عنوانه.
العُنْوانُ: ما يستدل به على غيره ومنه: عنوان الكتاب(1).
Title: اسم (كتاب أو قصيدة)، عنوان فصل،... يسمي، يعنون(2).
يقول د. جميل حمداوي «يُعدُّ العنوان نظاماً سيميائياً ذا أبعاد دلالية وأخرى رمزية، تغري الباحث بتتبع دلالاته، ومحاولة فك شيفرته الرامزة. ومن هنا فقد أولى البحث السيميائي جلّ عنايته لدراسة العنوانات في النص الأدبي. وقد ظهرت بحوث ودراسات لسانية سيميائية وتداولية، وآية ذلك أن العنوان هو أول عتبة يمكن أن يطأها الباحث السيميائي قصد استنطاقها واستقرائها بصرياً ولسنياً، وأفقياً وعمودياً»(3)، وهذه العتبة الأولى نعتبرها أول تجلٍّ للاستهلال.
ولنعرف العنوان كما ورد في المعجم الشامل للدكتور الحفني:
«عنوان: هو ديباجة الكتاب؛ وعنوان الأمر هو أن يأخذ المتكلم في غرض فيأتي لقصد تكميله وتأكيده بأمثلة تكون عنواناً لأخبار متقدمة، ومن ذلك قوله تعالى:
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) (الأعراف: 175) فإنه عمران بلعام.
وعنوان العلوم هو أن تُذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم، ومداخل لها، من ذلك قوله تعالى: (انطلقوا إلى ظلٍ ذي ثلاث شعب) (المرسلات:30). ففي ذلك عنوان علم الهندسة، فإن الشكل المثلث أول الأشكال، وإذا نصِب في الشمس على أي ضلع من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رؤوس زواياه، فأمر الله تعالى أهل جهنم بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكماً بهم. وكذلك في قول الله تعالى: (وكذلك نُرِي إبراهيم ملكوت السموات والأرض) (الأنعام: 75)، عنوان علم الكلام وعلم الجدل، وعلم الهندسة، وهذا من إعجاز القرآن، فهو إن شبه العلوم فإنما يشبه بالصحيح غير الملتبس حتى ليكون القرآن كتاباً معجزاً في العلوم. وعنوان الموضوع عند المنطقـــيين هو مفهوم الموضوع، ويسمى وصف الموضوع»(4).
وهذا التعريف للعنوان مع أمثلته من القرآن الكريم يعرف لنا العنوان خير تعريف، فالعنوان هو الأمثلة المذكورة التي تحمل تضميناً لحدث ما، وتعمل في بيئة الغرض وقد تتعدد العنوانات في الغرض الواحد (بتعدد الأمثلة)، وعنوان العمل هو بحد ذاته تضمين للعمل ومثال عليه.
مع العنوان هناك رابط مع الموضوع والموضوعية لنعرفهما كذلك:
«الموضوع: الشيء الذي عيّن للدلالة على المعنى، والشيء المشار إليه إشارة حسية؛ وقيل هو الأمر الموجود في الذهن. وموضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، كبدن الإنسان لعلم الطب، وكالكلمات لعلم النحو . والموضوع يقابله الذات.
والموضوع الطبيعي هو مجموع العلاقات الخارجية للشيء؛ والموضوع الظاهري هو علاقاته الداخلية أو الباطنية»(5)، فالموضوع هو غرض القصّة والعنوان هو الذي يشير إليها، كعنوان قصّة مثلاً «قصّة حب»، فالعنوان يشير إلى موضوع القصّة.
لم يعرف قديماً في الشعر أن وضع شاعر لقصيدته اسماً فكانت القصيدة تسمى بأشهر بيت فيها، أو تسمى برويها فيقال ميمية الشنفرى ودالية أبي الطيب، وهكذا. وقد عرفت أسماء سور القرآن كذلك بأشهر شيء فيها، فكان اسم البقرة لقصّة البقرة الشهيرة فيها، وسورة النمل لحديث النملة، وهكذا. ورغم أن هناك من يقول بأن أسماء السور وقفية من الله تعالى، لكن تسمية الصحابة للسور وافق مراد الله سبحانه وتعالى، وقد دلت عليه الآية (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (الحجر: 95)، وفي النثر نرى كمثال صحيفة بشر بن المعتمر التي وردت في كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، عنونت بهذا الاسم، وهي لم يسبق أن كان لها اسم، وقد كتب المحقق في الهامش عن العنوان «هذا العنوان من صنع المحقق، وذلك للتنبيه على أهمية هذه الصحيفة، وإبراز شأنها»(6).
وحتماً هي كانت تعرف باسم مشابه لما فعله المحقق وهو الدكتور عبدالحميد هنداوي، ولعل اسم العمدة كذلك، كان يقول القيرواني: فجمعت أحسن ما قاله النقاد ليكون الكتاب هو العمدة في محاسن الشعر، يقول القيرواني «مع ما للشعر من عظم المزية، وشرف الأبية، وعز الأنفة، وسلطان القدرة، وجدت الناس مختلفين فيه، متخلفين عن كثير منه، يقدمون ويؤخرون، ويقلون ويكثرون، وقد بوّبوه أبواباً مبهمة، ولقّبوه ألقاباً متهمة، وكل واحد منهم قد ضرب في جهة، وانتحل مذهباً هو فيه إمام نفسه وشاهد دعواه، فجمعت أحسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه، ليكون العمدة في محاسن الشعر وآدابه، إن شاء الله تعالى، وعوّلت في أكثره على قريحة نفسي ونتيجة خاطري»(7). يعقب الدكتور عبدالحميد هنداوي على ذلك فيقول: «وهو بهذا يكشف عن السبب الذي دعاه لتصنيف هذا الكتاب، وهو اختلاف الناس قبله في فنون الشعر ومحاسنه، وعدم استحسانه لما صنفوه فيه، حيث لم يحسنوا تبويبه ولا تسمية أنواعه فبوّبوه أبواباً مبهمة ولقّبوه ألقاباً متهمة»(8).
- وفي كتاب «فنون الأدب» للنويري عن العنوان ورد:
«وأما العنوان: فهو أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو هجاء أو غير ذلك، ثم يأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنواناً لأخبار متقدمة، وقصص سالفة؛ كقول أبي نواس:
يا هاشم بن حديج ليس فخركمو
بقتل صهر رسول الله بالسدد
أدرجتمو في إهاب العير جثته
لبئس ما قدمت أيديكمو لغد
إن تقتلوا ابن أبي بكر فقد قتلت
حجراً بدارة ملحوب بنو أسد
ويوم قلتم لعمرو وهو يقتلكم
قتل الكلاب لقد أبرحت من ولد
ورب كندية قالت لجارتها
والدمع ينهل من مثنى ومن وحد
ألهى امرأ القيس تشبيبٌ بغانية
عن ثأره وصفات النؤى والوتد
فقد أتى أبو نواس في هذه الأبيات بعدة عنوانات: منها قصّة قتل محمد بن أبي بكر، وقتل حجر أبي امرئ القيس، وقتل عمرو بن هندٍ كندة في ضمن هجو من أراد هجوه، وعير المهجو بما أشار إليه من الأخبار الدالة على هجاء قبيلته»(9). يقول الدكتور بسام قطوس في كتابه «سيمياء العنوان»:
«ولما كان الشعر العربي القديم في جلّه شعر أغراض ومناسبات، فيلاحظ أن المناسبة أو الموضوع الذي كانت تقال فيه القصيدة ربما كان يشكل إطاراً لعنوان لم يسمَّ، وكان المطلع يسدُّ مسد العنوان. ومن هنا فقد كان النقاد العرب القدامى يطالبون الشعراء بتحسين مطالعهم لمتابعة القصيدة»(10).
لكننا كما بيّنا أنّ العنوانات ليست هي أغراض القصيدة، بل هي بشكل أدق أمثلة وإشارات مضمنة لأخبار أو قصص مرّت وعرفت، فهذا العنوان إشارة دلالية توضع مضمنة في البيت الشعري، تحمل شكلاً من أشكال التضمين، كما كانت عنوانات أبي تمام وعنوانات أبي نواس، والمطلع كما حدده ابن رشيق هو مطالع الأبيات، فلكل بيت مطلع ومقطع، وقد يقال بشكل غير دقيق عن استهلال القصيدة مطلع، لكن القصيدة العربية بشكل عام لم تعرف ما نسميه بالعنوان، لأن العنوان كان يعني شيئاً آخر كما حددنا. ولعل القصائد لم تحمل العنوانات التي نعني، لا لشيء لأن الشعر قائم على التخييل، يقول جان كوهين عن العنونة بأنها واقعة قلما اهتمت بها الشعرية حسب علمي، ويرى كوهين «أن النثر – علمياً كان أم أدبياً- يتوفر دائماً على العنوان، أي إن العنونة من سمات النص النثري، لأن النثر قائم على الأصول والقواعد المنطقية، بينما الشعر يمكن أن يستغني عن العنوان، مادام يستند إلى اللاانسجام، ويفتقر إلى الفكرة التركيبية التي توحد شتات النص المبعثر، وبالتالي قد يكون مطلع القصيدة عنواناً لها»(11)، إذاً العنوان هو عتبة من عتبات الاستهلال، كما هو تسمية الشخوص عتبة تسبق ظهور الشخصية، كما هو وصفها.
وفي موضوع آخر يقول د. قطوس: «وسيميائية العنوان تنبع من كونه يجسد أعلى اقتصاد لغوي ممكن ليفرض أعلى فعالية تلقٍ ممكنة، مما يدفع إلى استثمار منجزات التأويل.كما يشكل العنوان أول اتصال نوعي بين المرسل والمتلقي، ومن هنا فإن على المتلقي أن يقرأ العنوان من مستويين:
المستوى الأول، مستوى ينظر فيه إلى العنوان بوصفه بنية مستقلة لها اشتغالها الدلائلي الخاص.
المستوى الثاني، مستوى تتخطى فيه الإنتاجية الدلالة بهذه البنية حدودها متجهة إلى العمل، ومشتبكة مع دلائليته دافعة ومحفزة إنتاجيتها الخاصة بها.
والعنوان عدا عن كونه يشكل حمولة دلالية، فهو قبل ذلك علامة أو إشارة تواصلية له وجود فيزيقي/ مادي، وهو أول لقاء مادي محسوس يتم بين المرسل (النَّاص) والمتلقي أو مستقبل النّص. ومن هنا يغدو العنوان إشارة مختزلة ذات بعد إشاري سيميائي. وهو بما هو إشارة سيميائية، يؤسس لفضاء نصي واسع، قد يفجر ما كان هاجعاً أو ساكناً في وعي المتلقي أو لاوعيه من حمولة ثقافية أو فكرية يبدأ المتلقي معها فوراً عملية التأويل»(12).
فالعنوان مفتاح للتأويل في قول الدكتور قطوس، لكن ذلك مخالف لآلية الفهم:
و«الفهم عملية إحالية (إشارية) REFERENTIAL بالأساس. فنحن نفهم الشيء بمقارنته بشيء آخر لدينا به معرفة. وما نفهمه يشكّل نفسه في وحدات منظمة أو دوائر مكونة من أجزاء.. نحن نفهم معنى الكلمة المفردة داخل الجملة بإحالتها إلى الجملة الكلية، والجملة بدورها يعتمد معناها الكلي على معنى كلماتها المفردة. وتمتد هذه العلاقة التبادلية لتشمل المفاهيم الذهنية»(13). و«إذا تعين علينا أن نفهم الكل لكي نفهم الأجزاء، فلن يتأتى لنا أن نفهم أي شيء.
غير أننا قلنا إن الجزء يستمد معناه من الكل. ومن المؤكد من الجهة الأخرى أننا لا يمكن أن نبدأ من الكل غير المتميز إلى أجزاء!»(14). فعملية الفهم عملية معقدة تقوم باستمداد أجزائها بآلية متناوبة من الجزء للكل ومن الكل للجزء، فهي تحيل الجزء غير المفهوم إلى السياق، ولتفهم السياق العام تعود إلى أجزائه وهكذا.
ويعود الدكتور بسام قطوس ليعترف بصعوبة عنونة القصائد، ويشترط لنجاحها شروطاً ستُفقدُ العنوان خاصيته الدلالية: «إن القراءة الفاحصة للعنوان بوصفه بنية مختزلة، والاستقراء الداخلي للوظائف التي يؤديها في الشعر، ربما لا تمكننا بسهولة من فهم دلالة العنوان، وحسم مغزاه، بل لا بد أحياناً من العودة إلى قراءة النص الأكبر ومحاولة مفاوضته، أو مناقشته، أو الحوار معه، للاقتراب من فكّ شيفرته، والعودة إلى العنوان من ثمَّ لمساءلته هو الآخر، ومفاوضته في ضوء ما تحصل لنا من معرفة النص، والسبب في ذلك واضح، وهو أن العنوان مكثف ويفتقر إلى السياق، وهذا الافتقار إلى السياق يمنحه دلائل كثيرة، ويجعله يمتلك فضاءً واسعاً من الدلالات التي يصعب، إن لم نقل يستحيل حصرها، وإذا كان المنطق يمتاز بمستوى معرفي وبمقولات قالبية، فإن للشعر أطره الفنية التي تتجاوز القوالب، وتعصى النمذجة، ومن هنا فإن العنوان في الشعر ربما بدا أكثر تعقيداً، وأقل انصياعاً لما يسمى بالتعريف الجامع المانع في حد المناطقة»(15).
وهذه العودة لمفاوضة العنوان، ومن ثم النص حتى فك شيفرته، تفقد العنوان كما قلنا خاصيته الدلالية المستقلة، وتجعله عقبة كؤوداً أمام المتلقي، وكان ذلك لأننا نفصل العنوان عن النص، فالعنوان يظهر جلياً بنصاعته بعد قراءة النص، ويكتسب دلالته في سياق العمل، ولن تعطي كلمةٌ واحدةٌ دلالةً على نصٍ بأكمله، إنما قد يكون لها جزء من هذه الدلالة، ونحن نقول هنا إن العنوان هو اسم العمل، يعمل كعتبة من عتبات الاستهلال، والاستهلال أقدر على أن يتحمل كل هذه الطاقات الدلالية والعلامات المختزلة والمعاني الموحية، وكما بينا أن لكل فقرة في العمل استهلالها، كما أن للشخصية استهلالاً يسبق ظهورها، إن كان بوصفها أو وصف مكانها أو حتى اسمها.
وعملية التأويل بحاجة دائماً إلى الحس المشترك في التأويل بين المبدع والمتلقي، وهذا الحس المشترك يعني الأفكار الممكنة والدلالات الممكنة، لا كما الشعر دلالات لا متناهية، «يؤكد كلادينيوس على أن الحس المشترك له دوره الحيوي في عملية الفهم. فالمرء يفهم القول المنطوق، أو المكتوب فهماً تاماً إذا ما أخذ بالاعتبار جميع الأفكار التي يمكن أن توقظها الكلمات فينا وفقاً لأحكام القلب والعقل، ولا نعني هنا كل فكرة ممكنة، بل الأفكار التي تتفق مع الحس المشترك، بالنظر إلى معرفتنا بالأحوال السائدة»(16)، العنوان بذلك عتبة من عتبات الاستهلال ومطلعه وأحد تجلياته، يختاره القاص وفق أعجب ما في القصّة، أو أشهر ما فيها، فيوحي لما سيأتي ويشوق، وما تعرضنا إليه من محاولات لجعل هلال يعمل معها بتناغم وعضوية ولا يغني عنها البتة.
مجلة الرافد العدد 175